التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

الإعراب :

ليبين اللام قائمة مقام ان ، يقال : أردت لتذهب ، أي ان تذهب ، ومنه قوله تعالى : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) أي ان يطفئوا. وتسبك ان او اللام التي في معناها مع الفعل بمصدر مفعولا ليريد الله ، أي يريد الله التبيين لكم. ومفعول يبين محذوف ، تقديره هذه التكاليف من حلاله وحرامه. وضعيفا حال من الإنسان.

المعنى :

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ). بعد أن بيّن سبحانه في الآيات السابقة الأصناف المحرمة من النساء نسبا وصهرا ورضاعة ، وبيّن أيضا ما يحل منهن بقوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) بعد هذا قال عز من قائل : شرعنا لكم تلك الأحكام ، وبينّاها لكم ، كي تستغنوا بحلاله عن حرامه ، وبطاعته عن معصيته ، وتتبعوا في اجتناب المحرمات سبيل من سبقكم الى الهداية والايمان ، وأيضا لكي يعرف التائب المنيب ما شرّع الله من الأحكام ، فيتقرب اليه بفعل ما أمر به ، وترك ما نهى عنه ..

وقيل : ان الله سبحانه أراد بقوله : (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) انه تعالى شرّع تلك الأحكام لتعملوا بها تائبين مما سلف منكم في زمن الجاهلية وأول الإسلام من نكاح حلائل الآباء ، والجمع بين الأختين ، وما الى ذلك من المحرمات ، ومهما يكن فان التائب وغير التائب لا يمكنه أن يطيع الله ، ويمتثل أحكامه إلا بعد بيانها والعلم بها ، فبيان أحكامه لعباده فضل منه ونعمة عليهم ، لأنه لا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة ، ولا ينهى إلا عما فيه الشر والمفسدة ، وليس من الضروري أن يبيّن لنا سبحانه وجه الحكمة من أمره ونهيه ، ولسنا نحن مكلفين بمعرفته والبحث عنه ، وما علينا إلا التسليم والطاعة مؤمنين بأن أحكامه تعالى هي لخيرنا دنيا وآخرة.

(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً

٣٠١

عَظِيماً). الذين يتبعون الشهوات هم دعاة التحرر من القيود الدينية والأخلاقية ، والانطلاق مع غريزة الجنس انّى توجهت ، وهؤلاء موجودون في كل عصر من عهد مزدك الى آخر يوم ، وان اختلفوا في شيء فإنما يختلفون في الأسلوب تبعا لعصورهم ، وقد تفننوا في القرن العشرين باسم الحرية والتطور ، وتجاوزوا الحد في اثارة الجنس عن طريق الأفلام والروايات ، والأعضاء العارية والحركات .. وهذا هو الميل والانحراف العظيم الذي أشار اليه سبحانه بقوله : (أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً).

وتسأل : لقد كرر الله سبحانه التوبة في آيتين لا فاصل بينهما ، حيث قال : (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ). فما هو القصد من ذلك؟.

الجواب : جاءت التوبة الأولى تعليلا لبيان الحلال والحرام من النساء بصرف النظر عن أمر الله بالتوبة وإرادته لها .. أما التوبة الثانية فهي تعبير عن أمره تعالى وارادته التوبة بترك المحرمات ، وتقابلها ارادة متبعي الشهوات .. ونظير ذلك ان تقول لولدك ، اشتريت لك هذا الكتاب لتقرأه ، فاقرأه .. فذكرت القراءة أولا لبيان السبب الموجب للقراءة ، وأعدتها ثانية ، لأنك تريدها منه ، وتأمره بها.

(يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ). في تحليل من أحل لكم من النساء ، بل في غيرها أيضا ، قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ـ ١٨٥ البقرة». (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ـ ٧٨ الحج». وفي الحديث الشريف : (جئتكم بالحنيفية السهلة السمحة).

(وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) في مقاومة الدواعي والبواعث الى الطيبات والملذات ، بخاصة لذة الجنس ، ومن أجل هذا أحل الله التمتع بالنساء ضمن الحدود التي سبق بيانها .. وفي الأساطير ان إبليس قال لموسى (ع) : ما خلا رجل بامرأة الا كنت صاحبه ، دون أصحابي.

وما رأيت أحدا صوّر ضعف الإنسان في نفسه وجسمه كالإمام علي (ع) حيث قال : «ان سنح له الرجاء أذله الطمع ، وان هاج به الطمع أهلكه

٣٠٢

الحرص ، وان ملكه اليأس قتله الأسف .. وان ناله الخوف شغله الحذر ، وان أصابته مصيبة فضحه الجزع ، وان عضته الفاقة شغله البلاء» .. وقال : مسكين ابن آدم مكتوم الأجل ، مكنون العلل ، محفوظ العمل ، تؤلمه البقة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة.

وكما صوّر الإمام جهة الضعف في الإنسان فقد صوّر أيضا جهة القوة والعظمة فيه ، من ذلك قوله : (الإنسان يشارك السبع الشداد) أي ان موهبته لا تقف عند حد الظروف التي تحيط به ، بل يتعداها الى القمر والزهرة والمريخ ، وسائر ما في الكون يسخره لحاجاته وأغراضه .. لقد أشار الإمام إلى ضعف الإنسان كي لا يركن إلى قوته ويغتر بها ، فيطغى ، وأشار إلى قوته كي لا يستسلم للضعف ان أصابه ، فينصرف عن الجهاد والعمل .. والعاقل من يناضل ، وهو على حذر من المخبآت والمفاجئات.

لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الآة ٢٩ ـ ٣٠ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

الاعراب :

المصدر المنسبك من أن تكون في محل نصب على الاستثناء المنقطع ، لأن التجارة عن تراض ليست من جنس أكل المال بالباطل ، والتقدير كون التجارة عن

٣٠٣

تراض غير منهي عنها. وقرئ تجارة بالرفع فاعلا لتكون على انها تامة ، وقرئ بالنصب خبرا لتكون على انها ناقصة ، واسمها ضمير مستتر يعود على الأموال ، أي إلا أن تكون الأموال تجارة. وعن تراض متعلق بمحذوف صفة لتجارة. وعدوانا وظلما مفعول من أجله ، ويجوز أن يكونا موضع الحال ، أي معتدين وظالمين.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ). سبقت هذه الجملة بحروفها مع تفسيرها في الآية ١٨٨ من سورة البقرة .. ونعطف على ما سبق ما روي عن الإمام جعفر الصادق (ع) : ان من كان عليه دين ، وعنده مال ، فأنفقه في حاجته ، ولم يف به الدّين فقد أكل المال بالباطل ، بل عليه أن يفي به دينه ، حتى ولو احتاج إلى الصدقة .. أجل ، يجوز له أن يستثني منه مئونة يوم وليلة.

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ). ولفظة (منكم) اشارة إلى انه لا بد من رضى الطرفين .. ويدل هذا الاستثناء على ان التجارة لا يشترط فيها أن يكون العوضان متساويين ، بحيث يكون كل منهما على قدر الآخر بالقسطاس المستقيم ، لأن ذلك يكاد يكون مستحيلا ، ومن ثم اذن الله سبحانه لكل من المبتاعين أن يأكل الزائد عن ماله ، ما دام الطرف الآخر أوقع الصفقة برضاه واختياره ، على شريطة عدم الغش والكذب.

وتسأل : إذا أبدى التاجر براعة في الدعاية لسلعته وتزيينها وترويجها ، فهل يكون هذا من باب الغش ، وأكل المال بالباطل؟.

الجواب : كلا ، ولكن إذا وقع البيع على السلعة بشرط أن تكون على وصف خاص ، ثم تبين العكس كان للمشتري الخيار في أن يفسخ البيع ، ويرجع السلعة لصاحبها ، ويسترد الثمن.

(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). أي لا يقتل بعضكم بعضا ، وفيه اشعار بوحدة

٣٠٤

الانسانية وتكافلها. وفي الحديث الشريف : «المؤمنون كنفس واحدة». وقيل معنى (لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) لا تلقوا بأيديكم الى التهلكة بفعل ما نهاكم الله عنه .. وهذا المعنى صحيح في نفسه ، ولكنه خلاف ظاهر الآية.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً). ذلك اشارة الى قتل النفس ، وأكل المال بالباطل ، والعدوان والتعدّي على الحق ، ومثله الظلم ، وجاز العطف مع اتحاد المعنى لاختلاف اللفظ ، كقول الشاعر : «وألفى قولها كذبا ومينا». ويمكن التفريق بين العدوان والظلم بأن الظلم يكون للنفس وللغير ، أما العدوان فلا يكون إلا على الغير ..

وعلى أية حال ، فان الناسي والخاطئ والمكره لا يتصف فعلهم بظلم ولا عدوان إلا فعل المكره على القتل فانه يتصف بالظلم والعدوان ـ مثلا ـ إذا قال ظالم قادر لزيد : اقتل هذا ، وإلا قتلتك. فلا يجوز لزيد أن يقتل المظلوم ، حتى ولو تيقن ان الظالم سينفذ وعيده فيه ، إذ لا يجوز للإنسان أن يدفع عن نفسه ضرر القتل بإدخاله على الغير ، وإذا نفّذ زيد ارادة الظالم ، وقتل المظلوم قتل زيد به قصاصا ، وسجن الظالم الآمر بالقتل ، حتى الموت.

الكبائر الآية ٣١ :

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١))

اللغة :

الكبائر واحدتها كبيرة ، وهي المعصية العظيمة. ومدخل بضم الميم من أدخل ، وبفتحها من دخل ، وفي الحالين هو اسم مكان : والمراد به الجنة.

٣٠٥

الإعراب :

مدخلا مفعول فيه لندخلكم ، لأن المراد به المكان ، وهو الجنة.

المعنى :

قسم القرآن الكريم الذنوب الى قسمين : كبائر وصغائر ، وقد جاء هذا التقسيم في العديد من الآيات ، منها هذه الآية ، لأن المراد من (سيئاتكم) في قوله تعالى : (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) ، المراد منها ما عدا الكبائر باتفاق المفسرين ، والمعنى : من اجتنب كبائر الذنوب محونا عنه صغائرها.

ومنها قوله تعالى في الآية ٣٢ النجم : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) واللمم هي الصغائر.

ومنها قوله سبحانه في الآية ٥٠ الكهف : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها).

ومنها الآية ٧ الحجرات : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ). وهي صريحة في ان المنهيات أقسام ثلاثة : الكفر ، وهو الجحود والإنكار. والفسوق ، وهو اقتراف الكبائر. والعصيان ، وهو الصغائر.

وبهذا يتبين معنا ان قول من قال : كل الذنوب كبائر ، ولا صغائر فيها ، لأن معصية الله في شيء كبيرة ، مهما كان ذلك الشيء ، ان هذا القول مخالف لظاهر القرآن. بالإضافة الى ان الشرائع الوضعية تقسم الجريمة الى جنحة وجناية. أجل يمكن نفي الصغائر بوجه سنشير اليه.

ومهما يكن ، فإن الكتاب العزيز لم يضع حدا فاصلا بين الكبيرة والصغيرة ، ولذا اختلف الفقهاء في معنى الكبيرة ، فذهب جماعة الى أن كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة ، وما عداه صغيرة .. وخير الأقوال قول من قال : ان الذنوب جميعا في نفسها كبائر ، كما قال من نفى الصغائر من الأساس ، وانما تقسم الذنوب الى كبائر وصغائر بمقارنة بعضها الى بعض.

مثلا : النظر الى الأجنبية بريبة ذنب كبير في نفسه ، صغير بالنسبة الى القبلة ،

٣٠٦

والقبلة صغيرة بالنسبة الى الجنس. وكذا الأكل على مائدة عليها خمر كبير في نفسه ، صغير بالقياس الى شرب الخمر.

وتجدر الإشارة الى ان لذات الفاعل وسوابقه وظروفه ودوافعه تأثيرا بالغا في جعل الذنب كبيرا أو صغيرا على حد تعبير الفقهاء ، وجناية أو جنحة على حد تعبير المشرعين الجدد .. فعلينا قبل أن نضفي على الذنب صفة الشدة أو الضعف أن ننظر الى الفاعل ، هل فعل ما فعل لعدم فطنته وضعف ارادته ، كما لو لبّس عليه غاو أثيم ، أو فعله لحاجة ماسة ، أو لأنه مولع بالإساءة الى الناس ، كما هو شأن الكثيرين .. وقد تواتر عن الرسول (ص) انه قال : «انما الأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى .. لا صغيرة مع إصرار ، ولا كبيرة مع استغفار».

وعن الإمام الصادق (ع) : «انما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن يعصوا الله أبدا لو خلدوا فيها ، وانما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم أن يطيعوا الله أبدا ، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء». وبسطنا القول في تأثير النية عند تفسير الآية ١٤٤ من سورة آل عمران ، فقرة لكل امرئ ما نوى .. ومن المفيد أن نذكر خبرا عن الإمام جعفر الصادق (ع) يعدد فيه أنواع الكبائر .. روي ان عمرو بن عبيد دخل على الإمام ، وسأله عن الكبائر في كتاب الله؟ فقال :

«ان أكبر الكبائر الشرك بالله ، لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ). وقال : (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ).

وبعده اليأس من روح الله ، لأن الله يقول : (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

ثم الامن من مكر الله ، لأن الله يقول : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ).

ومنها عقوق الوالدين ، لأن الله تعالى جعل العاق جبارا شقيا في قوله : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا).

ومنها قتل النفس التي حرّم الله الا بالحق ، لأنه تعالى يقول : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها).

٣٠٧

وقذف المحصنات ، لأن الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

وأكل مال اليتيم ، لقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).

والفرار من الزحف ، لأن الله يقول : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

وأكل الربا ، لقوله سبحانه : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ). ولقوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ).

والسحر ، لأن الله يقول : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ).

والزنا ، لأن الله يقول : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً).

واليمين الغموس (١) ، لأن الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ).

والغلول (٢) ، قال تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

ومنع الزكاة ، لقوله جل وعز : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ).

وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، لأن الله يقول : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).

وشرب الخمر ، لأن الله عدل بها عبادة الأوثان.

وترك الصلاة متعمدا ، أو شيئا مما فرض الله ، لأن رسول الله (ص) يقول : «من ترك الصلاة متعمدا فقد برئ من ذمة الله ، وذمة رسوله ، ونقض العهد».

وقطيعة الرحم ، لأن الله يقول : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).

__________________

(١) اليمين الغموس هي الكاذبة التي تغمس صاحبها في النار.

(٢) الغلول ذو الحقد والغش.

٣٠٨

فخرج عمرو بن عبيد ، وله صراخ من بكائه ، وهو يقول : هلك من قال برأيه ، ونازعكم في الفضل والعلم يا أهل البيت.

وأسألو الله من فضله الآية ٣٢ ـ ٣٣ :

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣))

اللغة :

موالي جمع مولى ، ولفظه مشترك بين معان كثيرة ، منها السيد الذي أعتق عبده ، ومنها العبد الذي اعتقه مولاه ، ومنها الوارث ، وهذا المعنى هو المراد في الآية. وأيمانكم بفتح الهمزة جمع يمين ، بمعنى القسم ، أو بمعنى اليد ، لأنها تعطى عادة عند العهد والعقد ، حيث تكون المصافحة باليدين عند التعاقد والتعاهد.

الإعراب :

للرجال نصيب مبتدأ وخبر. ومما اكتسبوا (مما) متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف ، كأنّ سائلا يسأل : ما هو هذا النصيب فقيل : هو مما اكتسبوا ،

٣٠٩

على أن تكون من في (مما) للبيان لا للتبعيض ، ان هذا النصيب هو كل ما اكتسبوه لا بعضه. وموالي مفعول أول لجعلنا. ولكل متعلق بمحذوف مفعولا ثانيا ، والتقدير جعلنا موالي وارثين لكل مال (١) تركه الوالدان والأقربون ، وعلى هذا تكون من في (مما) للبيان ، لا للتبعيض ، كأنّ قائلا يقول : ما هو المال الذي ترثه الموالي ، فقيل : هو كل ما تركه الوالدان والأقربون. والذين عقدت ايمانكم (الذين) مبتدأ ، وخبره فآتوهم نصيبهم ، وجاز دخول الفاء على الخبر لأن اسم الموصول فيه رائحة الشرط.

المعنى :

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ). ظاهر النهي ان الإنسان لا يجوز له أن يتمنى لنفسه ما يستحسنه عند غيره من النعمة والفضل ، سواء أتمنى مع ذلك زوال النعمة عن الغير ، وهو الحسد المذموم ، أم لم يفكر في ذلك إطلاقا ، بل تمنى أن يكون له مثل ما لغيره ، وهذه هي الغبطة.

ولكن ظاهر الآية على إطلاقه غير مراد ، لأن الغبطة لا بأس بها ، ولا ضرر منها ، أما الحسد فمحرم إذا بغى صاحبه على المحسود ، أو تضمن الاعتراض على الله وحكمته ، قال الرسول الأعظم (ص) : «إذا حسدت فلا تبغ» أي إذا شعرت من نفسك الرغبة في زوال النعمة عن غيرك فتمالك واكبت هذا الشعور ، وجاهده كي لا يظهر له أثر الى الخارج في قول أو فعل .. فان تمالكت فأنت غير مسؤول أمام الله ، وان اندفعت وراء شعورك تدس وتفتري على صاحب النعمة فإنك معتد أثيم.

وعلى هذه الحال وحدها يحمل النهي في الآية ، لأن قول الرسول (ص) : «إذا حسدت فلا تبغ» بيان وتفسير لها ، وإذا جاز للإنسان أن يتمنى لنفسه مثل ما لغيره من دون بغي فبالأولى أن يجوز له أن يتمنى ما يشاء من الخير ،

__________________

(١) لو قدرنا لكل انسان كما فعل غيرنا لكانت الموالي من جملة متروكات الإنسان ، ولا يستقيم المعنى إلا بتقدير محذوف ، أما إذا قدرنا لكل مال كما فعلنا نحن فيستقيم المعنى من غير حذف.

٣١٠

دون أن ينظر الى ما فضل الله به غيره عليه .. قال تعالى في معرض المدح : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) ـ ٢٠١ البقرة».

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ). في تفسير مجمع البيان:«جاءت وافدة النساء الى رسول الله (ص) فقالت : يا رسول الله أليس الله رب الرجال والنساء وأنت رسول الله اليهم جميعا؟ فما بالنا يذكر الله الرجال ، ولا يذكرنا؟ نخشى أن لا يكون فينا خير ، ولا لله فينا حاجة. فنزلت هذه الآية.»

والمعنى الظاهر منها ان لكل انسان نتيجة عمله ، فلا ينبغي له ان يشغل نفسه بالحسد المذموم ، لأنه يعود على صاحبه بالوبال دنيا وآخرة ، قال الإمام علي (ع) : لا تحاسدوا ، فان الحسد يأكل الإيمان ، كما تأكل النار الحطب» وقال : «صحة الجسد من قلة الحسد». وذكر الله سبحانه النساء للتنبيه على ان الرجل والمرأة سواء في ان لكل منهما ما سعى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ـ ١٩٥ آل عمران.

يدعو الله ويعمى عن سبيله :

(وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ). فإن خزائنه لا تنفد ، ونعمه لا تحصى ، قال الإمام زين العابدين (ع) في بعض مناجاته : «علمت ـ يا إلهي ـ ان كثير ما أسألك يسير في وجدك ، وان خطير ما أستوهبك حقير في وسعك ، وان كرمك لا يضيق عن سؤال أحد ، وان يدك في عطاياك أعلى من كل يد». وفي الحديث : «سلوا الله من فضله ، فالله يحب أن يسأل».

وتقول : ان الأمر بالسؤال يستدعي الاجابة ، مع العلم بأن كل الناس ، أو جلهم يسألون ويلحون في السؤال والدعاء ، ولا يستجيب الله لهم؟

الجواب : ان الله سبحانه كما أمر بالدعاء فقد أمر أيضا بالسعي والجد ، وقال : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ـ ٤٠ النجم». ومعنى هذا ان الله سبحانه ضمن اجابة الداعي عن طريق السعي والعمل ، ولم يضمن الإجابة عن

٣١١

كل ما يمر بخاطر الإنسان بمجرد ان يطلب ويسأل .. كيف؟ ولو فعل لخرب الكون .. ثم هل الله جل وعز آمر ، أو مأمور؟ وما ذا يفعل إذا تلقى دعوتين متناقضتين في آن واحد؟ وما قولك بمن يدعو الله ، ويعمى عن سبيله؟.

وبالتالي ، ان أمره تعالى بالسؤال من فضله تعبير ثان عن أمره بالجد والعمل ، وان على الإنسان ان يتجه الى كسبه متوكلا على الله وحده ، ولا ينظر الى كسب الغير ، وما آتاه الله من فضله .. وما من أحد شغل نفسه بغيره الا تنغص عيشه ، وتاه عقله ، وارتبك في جميع أموره .. وقد عرفت ، وأنا طالب في النجف الأشرف زملاء لا ينقصهم الاستعداد والذكاء ، وأمضوا في النجف سنوات طوالا ، ومع ذلك كانوا من الفاشلين ، لا لشيء الا لأنهم اشتغلوا بالناس عن أنفسهم ودروسهم .. ولله من قال : «من راقب الناس مات غما». وتكلمنا مفصلا عن الدعاء والاجابة في تفسير الآية ١٨٦ من سورة البقرة.

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ). المراد بالموالي هنا الورثة ، وقد ذكر الله منهم في هذه الآية ثلاثة أصناف : الأول الوالدان ، ويشملان الأجداد والجدات. الثاني الأقربون ، ويشملون الأولاد والأخوة والأعمام والأخوال. الثالث الذي جرى بينهم وبين المورّث عقد خاص أو عام يترتب عليه الإرث ، والعقد الخاص ، كعقد الزواج وعقد الملك ، وعقد ضمان الجريرة ، والعقد العام هو الإسلام ، وكل هؤلاء يدخلون في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ).

وعقد الزواج معروف ، أما عقد الملك فهو أن يملك الحر عبدا ، ثم يعتقه تقربا الى الله ، لا لقاء شيء ، أو كفارة عن شيء ، فإذا مات هذا العبد المعتق ، ولا وارث له ورثه الذي كان قد أعتقه. أما عقد ضمان الجريرة ، أي الجناية فهو أن يتفق اثنان على أن يضمن كل منهما جناية الآخر ، أو يضمن أحدهما ما يجنيه الآخر ، دون العكس ، فإذا تم الاتفاق بينهما حسب الشروط المقررة في كتب الفقه كان على الضامن بدل الجناية ، وله لقاء ذلك ميراث المضمون إذا لم يكن له من وارث الا الضامن ، أما عقد الإسلام فالمراد به العهد العام بين النبي (ص) ومن آمن به ، فإذا مات المسلم ، ولا وارث له إطلاقا

٣١٢

فميراثه للنبي (ص) أو لمن يقوم مقامه ، فقد روي عن رسول الله انه قال : «أنا وارث من لا وارث له». وفي رواية ثانية : «أنا ولي من لا ولي له». وفي ثالثة : «أنا مولى من لا مولى له ، أرث ماله ، وأفك عنه» .. وكفى دليلا على ذلك قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ـ ٦ الأحزاب».

وفي كتاب وسائل الشيعة العديد من الروايات ان عليا أمير المؤمنين (ع) كان يقول : «إذا مات الرجل ، وترك مالا ، ولا وارث له اعطوا المال أهل بلده». ولا يتنافى هذا مع قول الرسول (ص) ، لأن الرسول قد وهب حقه في هذا الميراث للفقراء من أهل بلد الميت.

وتقدمت الإشارة الى نصيب الأبوين والأخوة والزوجين في الآية ١٢ وما بعدها من هذه السورة ، وتفصيل أنصبة جميع الورثة في كتب الفقه.

الرجال قوامون على النساء الآية ٣٤ ـ ٣٥ :

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥))

اللغة :

قوامون جمع قوام على وزن فعّال مبالغة قيام ، ومعناه القيام بالأمر ، والمراد

٣١٣

به هنا الذي يقوم بشئون المرأة ، وهو الزوج ، وقانتات جمع قانتة ، والمراد بها المطيعة ، وحافظات للغيب جمع حافظة ، وهي المرأة التي تحفظ زوجها لدى غيابه فيما يجب حفظه من النفس والمال. والنشوز الارتفاع ونشوز أحد الزوجين ترفعه عن القيام بالحقوق الزوجية. والشقاق الخلاف الذي يجعل كلا من المختلفين في شق. والحكم هو الذي يفصل بين المتخاصمين.

الاعراب :

بما فضل الله الباء للسبب. وما مصدرية ، أي بتفضيل الله ، والمجرور متعلق بقوامين ، وبما أنفقوا معطوف على بما فضل الله. وفالصالحات مبتدأ ، وقانتات خبر ، وحافظات خبر ثان. وبما حفظ الله (ما) مصدرية ، والتقدير بحفظ الله ، والمعنى ان المرأة الصالحة تحفظ غيبة زوجها بأمر الله أو كما أمر الله. وبين أصلها ظرف مكان ، ثم استعملت اسما للوصال والفراق ، مثل : هذا فراق بيني وبينك. وأضيف الشقاق هنا الى بين تجوّزا ، لأن الشقاق يضاف حقيقة الى الزوجين ، لا الى بينهما ، وأصل الكلام هكذا : وان خفتم شقاقا بينهما ، مثل مكر الليل ، أصله مكر في الليل.

المعنى :

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ). الرجل والمرأة ركنا الحياة ، ومحال أن تستقيم بأحدهما دون الآخر ، ومعنى هذا ان بين الرجل والمرأة نوعا من التفاوت .. ولو تساويا من جميع الجهات لأمكن الاكتفاء بأحد النوعين ، وكان وجود الآخر وعدمه سواء .. فالدعوة ـ اذن ـ الى المساواة بينهما في كل شيء تخالف منطق الحياة.

ورب قائل : ان المرأة وأنصارها يريدون لها المساواة في الحقوق والواجبات ، ولا يريدون لها المساواة مع الرجل في كل شيء ، حتى الحمل والرضاعة ـ مثلا ـ.

ونجيب ان التفاوت في التكوين العضوي يستدعي حتما التفاوت في بعض الحقوق

٣١٤

والواجبات ، بل وفي بعض الغرائز النفسية أيضا ، وعليه فمن يطلب التساوي في جميع الحقوق والواجبات بينهما فقد ابعد ، تماما كمن يطلب التفاوت في الجميع ، والصواب انهما يشتركان في أكثر الحقوق ، أو الكثير منها ، وأهمها المساواة أمام الله والقانون ، وحرية التصرف في المال ، واختيار شريك الحياة. ويفترقان في بعض الحقوق .. وعند تفسير الآية ٢٢٨ من سورة البقرة ذكرنا ١٤ فرقا بين الرجل والمرأة في الشريعة الإسلامية. أما الآية التي نفسرها فإنها تفيد :

١ ـ ان الرجال قوامون على النساء ، والمراد بالرجال هنا خصوص الأزواج ، وبالنساء خصوص الزوجات ، وليس المراد بالقيام على المرأة السلطة المطلقة ، بحيث يكون الزوج رئيسا دكتاتوريا ، والزوجة مرءوسة له ، لا ارادة لها معه ولا اختيار ، بل المراد ان له عليها نحوا من الولاية ، وقد حدد الفقهاء هذه الولاية بجعل الطلاق في يد الزوج ، وان تطيعه في الفراش ، ولا تخرج من بيته الا بإذنه ، وهما فيما عدا ذلك سواء : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

٢ ـ ان الله سبحانه ذكر سببين لهذا النحو من ولاية الزوج على الزوجة ، وأشار الى السبب الأول بقوله : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ). والى السبب الثاني بقوله : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ). ونبدأ بالسبب الأول .. فالضمير في (بعضهم) يعود على النساء والرجال معا ، وذكّر الضمير من باب التغليب ، والمراد ببعض الأولى الرجال ، وببعض الثانية النساء.

وتسأل : لما ذا قال تعالى : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) ولم يقل بما فضلهم عليهن ، مع انه أخصر وأظهر؟.

الجواب : لو قال : فضلهم عليهن لفهم منه تفضيل جميع أفراد الرجال على جميع أفراد النساء ، وهذا غير مقصود ، لأنه بعيد عن الواقع ، فكم من امرأة هي أفضل من ألف رجل ، فجاء لفظ بعض للاشارة الى أن هذا التفضيل انما هو للجنس على الجنس من حيث هو بصرف النظر عن الأفراد.

وقد أبهم سبحانه ، ولم يبين وجه الأفضلية ، حيث قال : (بِما فَضَّلَ اللهُ) وكفى .. وقال المفسرون وغيرهم : ان الرجل أقوى من المرأة في تكوينه العضوي والعقلي ، وأطالوا الكلام والاستدلال ، ومنهم من ألّف كتبا خاصة في هذا الموضوع.

٣١٥

والذي نشاهده ان الأعمال الجليلة في ميدان العلم والدين والفن والفلسفة والسياسة كلها من الرجال ، لا من النساء ، وإذا وجدت امرأة ، لها دور في ذلك فهي من الطرائف والنوادر .. وبديهة ان الشاذ النادر يؤكد القاعدة ، ولا ينفيها .. وفوق هذا شاهدنا المرأة تهتم قبل كل شيء بالتفصيلات والأزياء التي تجسم أنوثتها ، وتبرزها عريانة ، وتلونها بكل ما يجذب الرجل ، ويلهب شعوره نحو الجنس اللطيف .. ومن هنا كانت بيوت الأزياء ومبتكرات التفصيل للنساء ، دون الرجال ، ولا تفسير لاهتمام المرأة بانوثتها ، وانصراف الرجل الى جليل الأعمال في ميادين الحياة الا التباين في الغرائز والتكوين النفسي بين الاثنين.

أما السبب الثاني لأفضلية الرجل فقد بينه سبحانه بقوله : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) كما أشرنا ، وهو واضح لا إبهام فيه كالسبب الأول ، لأن الذي يتحمل مسؤولية الإنفاق على غيره لا بد أن يكون أفضل من الذي لا يطلب منه شيء ، حتى الإنفاق على نفسه .. ان هذا حامل ، وذاك محمول.

وتجدر الاشارة الى ان قوله تعالى : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) يشعر بأن الزوج إذا لم ينفق على زوجته لم يكن قواما عليها ، وكان لها ، والحال هذه ، ان تطلب من الحاكم الشرعي الطلاق ، وعلى الحاكم أن ينذر الزوج ، فان امتنع عن الإنفاق لعجز أو عنادا أمره بالطلاق ، فان امتنع طلّقها عنه ، لأن الحاكم ولي الممتنع ، وعلى هذا مالك والشافعي ، وجماعة من علماء الشيعة الامامية ، منهم السيد صاحب العروة الوثقى وملحقاتها ، والسيد محسن الحكيم ، ونحن على هذا الرأي .. وعقدنا لهذه المسألة الهامة فصلا مستقلا في الجزء السادس من كتاب «فقه الإمام جعفر الصادق» بعنوان : طلاق الحاكم لعدم الإنفاق ، عرضنا فيه الأقوال والأدلة بنحو من التفصيل.

(فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ). الزوجة الصالحة هي الموافقة لزوجها ، الحافظة لنفسها حسبما أمر الله وأراد ، فلا تعصيه في شيء أباحه الله له ، ولا تعطيه في شيء حرمه الله عليه وعليها ، قال رسول الله (ص) : «خير النساء التي إذا نظرت اليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك».

٣١٦

والحديث عن الزواج لا ينتهي الى حد ، ولا أحد يعرف السر الكامن في قول من قال : لا أتزوج ولو شنقوني ، إلا المتزوجون .. ان بعض الزوجات سرطان يقضي على الأرواح ببطء .. وإذا كان الإنسان مخيرا ، لا مسيرا فان هذا الإنسان هو الأعزب ، أما المتزوج فلا ارادة له ، ولا اختيار الا من شذ .. وفي بعض الديانات ان الله غدا لا يعاقب بالنار ، ولا يثيب بالجنة ، بل يزوج العاصي عجوزا فانية تؤلمه في خلقها وخلقها ، ويزوج المطيع شابة جميلة تسره خلقا وخلقا.

(وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ). والمراد بالنشوز في الآية الامتناع عن القيام بحقوق الزوجية .. وقد يكون النشوز من الزوجة فقط ، أو من الزوج ، أو منهما معا .. وبعد أن أشار سبحانه الى الزوجة الصالحة أشار الى الزوجة الناشزة ، وأباح للزوج إذا تمردت عليه زوجته من غير حق ان يعظها ، فإن هي قبلت ، والا هجرها في الفراش فان هي قبلت وإلا ضربها ضربا خفيفا للزجر والتأديب ، لا للتشفي والانتقام .. هذا الى ان الأمر بالوعظ ، ثم بالهجر ، ثم بالضرب هو أمر للاباحة والترخيص ، لا للوجوب والإلزام ، فقد اتفق الفقهاء جميعا على ان ترك الضرب أولى ، وان الذي يصبر على أذى الزوجة ولا يضربها خير وأفضل عند الله ممن يضربها ، كما اتفقوا على انه كلما حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به ، وحرم الأشد. قال رسول الله (ص) : «لا يضرب أحدكم امرأته كما يضرب البعير أول النهار ثم يضاجعها آخر النهار .. خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهله».

ومن الطريف ان الطبري الذي وصفوه بشيخ المفسرين قال في تفسير قوله تعالى : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ). انه أمر من الله للزوج إذا عصته زوجته ان يربطها بالحبل ـ كما يربط البعير ـ في البيت الذي يضاجعها فيه .. والذي حمله على هذا التفسير ان العرب تسمي الحبل الذي يربطون به البعير هجارا ، فإذا كان كذلك يكون معنى اهجروهن اربطوهن بالهجار .. وأبلغ رد لهذا التفسير قول الزمخشري : «وهذا من تفسير الثقلاء».

(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً). من السبل الثلاث ، لأن الوعظ والهجر والضرب وسيلة الى الطاعة ، فإذا حصلت الغاية ذهبت الوسيلة. ويشير قوله تعالى : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) الى ان الزوج لا يجوز له

٣١٧

ان يلتمس الأعذار الكاذبة لإيذاء الزوجة ، حتى ولو كانت كارهة له ، ما دامت قائمة بحقوقه المشروعة .. فان الحب والبغض لا يدخلان في استطاعة الإنسان ، والله سبحانه لا يحاسب ولا يعاقب إلا على ما يظهر من قول أو فعل.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً). قال الرازي ما يتلخص بأن المقصود من قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) أمور ، الأول : تهديد الأزواج على ظلم النساء. الثاني : ان الله لا يكلف إلا بالحق. الثالث : انه سبحانه لا يكلف إلا ما يطاق ، فعلى الأزواج ان لا يكلفوا النساء ما لا يقدرن عليه. الرابع : انه لا يكلف العاصي إذا تاب ، فإذا تابت المرأة عن نشوزها فدعوا معاقبتها. الخامس : انه لم يهتك السرائر ، فأنتم أولى أن تكتفوا بظاهر حال المرأة ، ولا تفتشوا عما في قلبها من البغض.

والرازي من الأشاعرة القائلين بأن لله ان يكلف الإنسان ما لا يطيق ، ودافع عن هذا المذهب بحرارة في كثير من الموارد في تفسيره الكبير ، بخاصة عند تفسير قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ـ ٢٨٦ البقرة» .. وقد ذهل هنا عن مذهبه التقليدي ، ورجع الى الفطرة الصافية التي فطر الله الناس عليها ، وقال ما نصه بالحرف : «ان الله لا يكلفكم إلا ما تطيقون ، فكذلك لا تكلفوهن محبتكم ، لأنهن لا يقدرن على ذلك».

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها). تعرضت الآية السابقة لنشوز الزوجة ، وتعرضت هذه لنشوز الزوجين ، وامتناع كل منهما عن القيام بحقوق الآخر ، وقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) أراد به الخوف من استمرار الشقاق الحاصل بالفعل. والخطاب في خفتم وابعثوا خاص بالحكام الشرعيين ، لأنه بهم أليق وأنسب ، والأمر ببعث الحكمين للاستحباب ، لا للوجوب ، والغرض منه إصلاح ذات البين ، والمحافظة على الاسرة ، والخوف من ضياع الأطفال والصغار.

ويشترط في الحكم ان يكون أهلا للإصلاح ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، ويجوز أن يكون من غير الأهل والأرحام ، لأن القرابة ليست شرطا في الحكم ، ولا في الوكيل ، وذكر الأهل في الآية للأفضلية ، لا للإلزام ، لأنهم أعرف ببواطن الحال ، وأشفق من الغير ، وأكتم للأسرار ، ومهمة الحكمين ان يسعيا

٣١٨

في الصلح ، فإن تعذر رفعا تقريرا للحاكم الشرعي بواقع الحال ، وما يريانه من مصلحة الطرفين ، ولا حق لهما بالتفريق الا بإذن الزوج ، ولا بالبذل عن الزوجة الا بإرادتها.

(إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما). اختلف المفسرون في ضمير يريدا ، وضمير بينهما على من يعودان؟ قيل : ان ضمير يريدا يعود الى الحكمين ، وضمير بينهما الى الزوجين ، ويكون المعنى ان أراد الحكمان إصلاحا بين الزوجين يوفق الله بين الزوجين ، وهذا بعيد عن الصواب أولا : لأن المفروض بالحكمين انهما يريدان الإصلاح ، والا لم يكونا حكمين. ثانيا : قد يريد الحكمان الإصلاح ، ومع ذلك لا يحصل التوفيق ، مع ان الله قال : ان يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ، وعليه يجب حصول التوفيق بمجرد وجود ارادة الإصلاح من الحكمين .. والواقع هو العكس.

والصحيح ان الضميرين يعودان الى الزوجين ، ويكون المعنى ان الزوجين إذا صلحت نيتهما ، وكانا قاصدين استمرار الزواج والمحافظة على بقاء الأسرة ، فإن مهمة الحكمين تنجح ، ويوفق الله بين الزوجين لا محالة ، لأنه متى صلحت النية صلحت الحال ، واستقامت الأفعال ، وإذا ساءت نية الزوجين فإن مآل وظيفة الحكمين الى الفشل ، حتى ولو قصدا الإصلاح ، وبذلا كل الجهود وأقصاها.

وتجدر الاشارة الى أن الله سبحانه ذكر نشوز الزوجة ثم نشوز الزوجين معا ، ولم يذكر نشوز الزوج فقط .. ولكن الفقهاء تعرضوا له ، وقالوا : إذا تعدى الزوج ، ومنع الزوجة بعض حقوقها الواجبة وعظته ، فإن قبل ، والا فليس لها هجره ، ولا ضربه كما له هجرها وضربها إذا نشزت ، ليس لها ذلك ، حتى ولو علمت ان هجره وضربه يجديانها نفعا ، لأن الهجر والضرب يحتاجان الى الاذن من الشرع ، ولا اذن منه لها بهما .. أجل ، لها أن ترفع أمرها الى الحاكم الشرعي ، وعلى الحاكم أن يتثبت ويتبين ، فإن ثبت لديه تعدي الزوج نهاه ، فإن عاد عزّره بما يرى من الشتم أو الضرب أو السجن .. وان امتنع عن الإنفاق عليها ، مع قدرته عليه جاز للحاكم أن يأخذ من مال الزوج ، وينفق عليها ، ولو ببيع شيء من أملاكه ، وان لم يملك شيئا كان له ـ على رأي ـ ان يطلقها قهرا عنه ، ان طلبت هي الطلاق .. وسبقت الاشارة الى ذلك عند تفسير قوله تعالى : (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ).

٣١٩

وبالوالدين أحساناً الآية ٣٦ :

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦))

اللغة :

ذو القربى صاحب القرابة ، كالأخ والعم ، ومن اليهما. والجار ذو القربى هو الذي قرب جواره. والجار الجنب الذي بعد جواره. والصاحب بالجنب من كان رفيقا في السفر ، أو جليسا في الحضر ، أو شريكا في الدرس ، أو في حرفة ، وما إلى ذلك. وابن السبيل المسافر المنقطع عن أهله وماله. وملك اليمين الرق ، لا وجود له اليوم.

الإعراب :

شيئا مفعول مطلق ، لأن المراد به هنا شيء من الشرك. وإحسانا مفعول مطلق لفعل محذوف ، أي أحسنوا بالوالدين إحسانا. وبذي القربى وما بعده معطوفان على الوالدين.

المعنى :

(وَاعْبُدُوا اللهَ). وما عبد الله بشيء أفضل من الجهاد والاستشهاد من أجل الحق والحرية والانسانية ، أما طلب العلم والعمل من أجل الحياة ، والتعاون

٣٢٠