التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

وفي رأينا ان الزوج لا يحل له ان يعضل زوجته من أجل المال إلا إذا زنت ، ويحرم عليه ذلك فيما عدا الزنا ، مهما كان الذنب وقوفا عند اليقين من المعنى المراد من الآية .. هذا ، الى ان اقتراف الذنوب لا يحلل ولا يبرر أكل أموال المذنبين ، والا اختل النظام ، وعمت الفوضى .. ولمن يحل مال المذنب؟ ألمذنب مثله ، أم لمعصوم عن الذنب؟ والأول ماله حلال ، فكيف يستحل مال الغير؟ والثاني أين هو؟.

وتجدر الاشارة الى أن القاضي لا يجوز له أن يحكم بسقوط مهر الزوجة التي ثبت عليها الزنا ، لأن جواز العضل والأخذ خاص بالزوج بينه وبين ربه .. وبتعبير الفقهاء : للزوج أن يأخذ المهر في مثل هذه الحال ديانة لا قضاء.

من طلب المزيد عوقب بالحرمان :

(فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً). قد يكره الرجل من زوجته بعض صفاتها ، ولا يصبر عليها ، فيطلقها ويتزوج بأخرى ، فإذا هي أسوأ حالا ، وأقبح أعمالا ، فيندم حيث لا ينفع الندم .. قال صاحب الأغاني : طلق الفرزدق النوال ، ثم ندم ، وتزوج بعدها امرأة مطلقة ، وكان يسمعها تئن وتحن الى زوجها الأول ، وتعدد وتردد ، فأنشأ يقول :

على زوجها الماضي تنوح وانني

على زوجتي الأخرى كذلك أنوح

وقد رأيت أكثر من واحد لا يملك قوت يومه ، ويعيش كلا على غيره قد تهيأ له عمل يقيم الأود ، ويسد الحاجة ، ويغني عن الغير ، فرفضه تعاليا عنه ، وطلبا لما هو أعلى وأسمى ، فابتلاه الله بأسوأ مما كان فيه تأديبا له ، وعقابا على ترفعه وتعاليه .. فتقطعت نفسه حسرات على ما ذهب وفات .. ولكن حيث لا ينفع الندم ، ومن الأمثال الشائعة في جبل عامل : (من طلبه كله فاته كله).

كما رأيت الكثير من حملة الشهادات العالية قد رضوا بما تيسر ، وقنعوا بوظيفة

٢٨١

كاتب ، أو دونها ، وانتظروا الفرص متوكلين على الله سبحانه .. وما مضت الأيام ، حتى ارتفعوا شيئا فشيئا إلى أسمى المناصب. وجاء في الحديث : القناعة ملك لا يزول .. وكنز لا يفنى .. والمعنى المقصود ان من يكتفي بما يجد ، ولا يتعالى عليه احتقارا له ، ورغبة فيما لا يجد فإنه في غنى دائم ، تماما كمن يملك كنزا لا يفنى.

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا). المعنى واضح ، ويتلخص بقوله تعالى : (وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) ـ ٤٩ الأحزاب» ، والسراح الجميل الطلاق ، مع تأدية جميع مالها من حق .. وقال بعض المفسرين : اختلف العلماء في تحديد القنطار على عشرة أقوال .. والصحيح انه كناية عن الكثرة .. وقصة المرأة التي اعترضت على عمر بن الخطاب حين أراد أن يحدد المهر ، واعتراضها عليه بهذه الآية ـ أشهر من أن تذكر. (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً). أي تأخذونه باطلا وظلما ، كالظلم بالبهتان.

وتسأل : لما ذا خص الله النهي عن أخذ مال الزوجة في حال استبدالها بأخرى ، مع العلم بأن الأخذ محرّم على كل حال؟

الجواب : ليس من شك ان الأخذ محرم ، سواء استبدل ، أو لم يستبدل ، وقد تكون الحكمة في ذكر الاستبدال بالخصوص ان الزوج ربما توهم ان له أخذ المهر من الأولى ليدفعه للثانية ، لأنها ستقوم مقامها ، فيكون لها كل ما كان لتلك ، ولأن الدفع للاثنتين يثقل كاهله .. فأزال الله سبحانه هذا الوهم بالنص على الاستبدال بالذات.

(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ). قال بعض المفسرين : المراد بالافضاء هنا عملية الجنس فقط. وقال آخرون : بل والخلوة أيضا. وقال ثالث يجيد صناعة الكلام : «المراد بالافضاء العواطف والمشاعر ، والوجدانيات والتصورات ، والأسرار والهموم ، والتجارب والذكريات ، والاختلاجات واللحظات» إلى آخر الصفات المسطورات .. رحمة الله عليه .. وأحسن ما جاء في كتب التفاسير لمعنى الإفضاء ما قاله الشيخ محمد عبده : «هو اشارة إلى أن وجود كل من الزوجين جزء متمم لوجود الآخر ، فكأنّ بعض الحقيقة كان منفصلا عن بعضها الآخر ، فوصل اليه بهذا الإفضاء ، واتحد به».

٢٨٢

والأولى أن نفسر الإفضاء بالفضل ، طبقا لقوله تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) ـ ٢٣٧ البقرة» ، أي احسان كل من الزوجين للآخر .. فقد ذكّر الله بقوله : (أَفْضى بَعْضُكُمْ) ذكّر الزوج بما كان بينه وبين زوجته من قبل ليكون معها عند الطلاق ، كما كان قبل الطلاق.

الزواج مبادلة روح بروح :

(وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً). حدد الله سبحانه عقد الزواج بألفاظ ذكرها في كتابه العزيز ، وأوجب الوقوف عندها ، والتعبد بها تماما كألفاظ العبادة ، وأضفى على عقد الزواج من القداسة ما أبعده عن كل العقود ، كعقد البيع والاجارة ، وما اليهما ، لأن البيع مبادلة مال بمال ، أما الزواج فمبادلة روح بروح ، وعقده عقد رحمة ومودة ، لا عقد تمليك للجسم بدلا عن المال ، قال الفقهاء : ان عقد الزواج أقرب إلى العبادات منه إلى عقود المعاملات والمعاوضات ، ومن أجل هذا يجرونه على اسم الله ، وكتاب الله ، وسنة رسول الله (ص) .. وقال الشيخ محمود شلتوت : «إذا تنبهنا إلى أن كلمة ميثاق لم ترد في القرآن الكريم إلا تعبيرا عما بين الله وعباده من موجبات التوحيد ، والتزام الأحكام ، وعما بين الدولة والدولة من الشؤون العامة الخطيرة علمنا مقدار المكانة التي سما القرآن بعقد الزواج اليها ، وإذا تنبهنا مرة أخرى إلى أن وصف الميثاق «بالغليظ» لم يرد في موضع من مواضعه إلا في عقد الزواج تضاعف لدينا سمو هذه المكانة التي رفع القرآن اليها هذه الرابطة السامية عن كل ما اطلق عليه كلمة ميثاق».

المحرمات في الزواج الآة ٢٢ ـ ٢٣ :

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ

٢٨٣

وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣))

اللغة :

الربائب جمع الربيبة ، وهي بنت زوجة الرجل من غيره. والحلائل جمع الحليلة ، أي المحللة من الحلال ، والمراد بها الزوجة.

الإعراب :

الا ما قد سلف (ما) محل نصب على الاستثناء المنقطع ، ولا يجوز أن يكون متصلا ، لأن الماضي لا يستثنى من المستقبل على سبيل الاتصال ، وضمير انه وكان يعودان على نكاح الآباء ، وساء فعل ماض فاعلها مستتر يعود على ما عاد اليه ضمير (انه) وسبيلا تمييز. وقال صاحب مجمع البيان : المخصوص بالذم محذوف. والصحيح انه لا حذف في الآية إلا إذا قلنا : ان ساء بمعنى بئس ، وانها أخذت حكمها .. ولا موجب لذلك.

وسبق عند تفسير الآية ٣ فقرة الاعراب ان (ما) تستعمل في الذي يعقل ، كما في قوله تعالى : (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ .. فَلَهُ ما سَلَفَ .. فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ .. أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الى غير ذلك كثير ، كما ان (من) تستعمل في الذي

٢٨٤

لا يعقل كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ..) والنحاة محجوجون بالقرآن ، ولا عكس .. وغريب ان أكثر المفسرين يؤلون القرآن بقول النحاة ولا يبطلون قول النحاة بالقرآن.

المعنى :

حرّم الله سبحانه الزواج بأصناف من النساء ، والمحرمات منهن على قسمين : محرمات على التأبيد ، أي ان السبب الموجب للتحريم غير قابل للزوال كالبنوة والاخوة والعمومة والخؤولة. ومحرمات تحريما مؤقتا ، أي ان سبب التحريم قابل للزوال ، مثل كون المرأة زوجة للغير ، أو أختا للزوجة ، والتفصيل فيما يلي :

١ ـ (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ). كان الرجل يتزوج امرأة أبيه بعد موته إذا لم تكن أما له ، بل ان امية جد أبي سفيان طلق امرأته وزوجها من ابنه ، وهو حي ، فنهى الإسلام عن ذلك ، وتشدد فيه ، واعتبره فاحشة ومقتا وساء سبيلا.

واتفق الفقهاء والمفسرون على ان التحريم يشمل زوجات الأجداد للأب والأم ، وان هذا التحريم يتحقق بمجرد العقد ، سواء أحصل الدخول ، أم لم يحصل ، واختلفوا فيما لو زنى الأب بامرأة : هل تحرم على ابنه؟ قال الامامية والحنفية والحنابلة : تحرم عليه. وقال الشافعية : لا تحرم. وعن مالك روايتان.

٢ ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ). أي نكاح أمهاتكم ، ومنهن الجدات للأب والأم.

٣ ـ (وَبَناتُكُمْ). وان نزلن.

٤ ـ (وَأَخَواتُكُمْ). سواء أكنّ للأبوين ، أم لأحدهما. ويحل الزواج بأخت الأخت ، وأخت الأخ إذا لم تكن أختا. ومثال ذلك أن يكون لك ولد اسمه رؤوف ، ولامرأة بنت من غيرك اسمها هند ، فتعقد أنت على أم هند ، ثم تعقد لابنك من غيرها على بنتها هند من غيرك ، فإذا جاءك ولد من أم هند كان هذا الولد أخا للزوجين ، أخا لرؤوف من أبيه ، ولهند من أمها.

٥ ـ (وَعَمَّاتُكُمْ). العمة كل أنثى هي أخت لرجل يرجع نسبك اليه بالولادة مباشرة ، أو بالواسطة ، فعمتك أخت لأبيك الذي ولدت منه بلا واسطة ، وعمة

٢٨٥

أبيك أخت لجدك الذي ولدت منه بواسطة واحدة ، وعمة جدك أخت لأبي جدك الذي ولدك بواسطتين .. وهكذا. وأيضا تحرم عليك عمة أمك ، لأنها أخت لأبي أمك الذي ولدك بواسطة واحدة. وتحل بنت العم والعمة ، لأنها ليست أختا لمن ولدت منه ، بل هي بنت أخيه ، أو بنت أخته.

٦ ـ (وَخالاتُكُمْ). الخالة كل أنثى هي اخت لمن يرجع نسبك اليها بالولادة مباشرة ، أو بالواسطة ، فخالتك أخت لأمك التي ولدت منها مباشرة ، وخالة أمك اخت لجدتك التي ولدت منها بواسطة واحدة. ومثلها خالة أبيك ، والفرق ان هذه اخت للجدة للأب ، وتلك أخت للجدة للأم. وتحل بنت الخال والخالة ، لأنها ليست أختا لمن ولدت منه ، بل بنتا لأخيه أو أخته.

٧ ـ (وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ). وان نزلن.

٨ ـ (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ). اتفقوا قولا واحدا على العمل بهذا الحديث : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». وعليه فكل امرأة حرمت من النسب تحرم مثلها من الرضاع ، أما كانت أو أختا أو بنتا أو عمة أو خالة أو بنت أخ أو بنت أخت.

واختلفوا في عدد الرضعات التي توجب التحريم. قال الامامية هي خمس عشرة رضعة كاملة ، لا يفصل بينها رضعة من امرأة اخرى ، أو يرضع الطفل من المرأة يوما وليلة ، على أن يكون غذاؤه طوال هذه المدة منحصرا بلبن المرأة فقط.

وقال الشافعية والحنابلة : لا بد من خمس رضعات على الأقل.

وقال الحنفية والمالكية : يحصل التحريم بمجرد حصول الرضاع كثيرا كان أو قليلا. وهناك شروط أخرى ذكرناها مفصلا في كتاب الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة.

٩ ـ (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ). اتفقوا على ان ام الزوجة ، وان علت تحرم بمجرد العقد على البنت ، وان لم يحصل الدخول. وشذ من قال : ان العقد لا يحرّم الأم ، حتى يدخل بالبنت ، واستدل بالآية نفسها ، حيث جعل لفظ (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) وصفا لأمهات النساء والربائب .. وأعرض فقهاء المذاهب عن هذا القول ، لأن الوصف يرجع إلى الأقرب ، وللأحاديث الصحيحة عن الرسول الأعظم (ص). وهذه الأصناف كلها تحرم على التأبيد.

٢٨٦

١٠ ـ (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ). اتفقوا على ان بنت الزوجة لا تحرم على العاقد بمجرد وقوع العقد على أمها ، فيجوز له أن يطلق الأم قبل أن يدخل ، ثم يعقد على بنتها. وليس معنى قوله : اللاتي في حجوركم ان الربيبة تحل إذا لم تكن في حجر الرجل ، لأن الربيبة تحرم ، وان لم تكن في حجر زوج الأم ، وانما ذكر الحجور لبيان الفرد الغالب ، لا للاحتراز من التي ليس في الحجر.

وقال الحنفية والمالكية : اللمس والنظر بشهوة يوجبان التحريم ، تماما كالدخول.

وقال الإمامية والشافعية والحنابلة : لا تحرم إلا بالدخول ، ولا أثر للمس ولا للنظر ، وان كانا مع الشهوة.

واتفقوا على ان حكم الوطء بشبهة حكم الزواج الصحيح في ما ذكر ، ومعنى وطء الشبهة أن تحصل المقاربة بين رجل وامرأة باعتقاد انهما زوجان شرعيان ، ثم يتبين انهما أجنبيان.

١١ ـ (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ). اتفقوا على ان زوجة الابن وان نزل تحرم على الأب وان علا بمجرد العقد. وقوله من أصلابكم ليخرج ولد التبني ، أما الولد من الرضاعة فحكمه حكم الولد من النسب ، لحديث يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.

١٢ ـ (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ). اتفقوا على تحريم الجمع بين الأختين ، فإذا فارق الرجل زوجته بموت أو طلاق جاز الزواج بأختها.

وقال الإمامية والشافعية : إذا طلق زوجته رجعيا فلا يجوز له أن يعقد على أختها إلا بعد انقضاء العدة. أما إذا

طلقها بائنا فيجوز أن يتزوج الأخت في أثناء العدة ، لأن الطلاق البائن ينهى الزواج ، ويقطع العصمة.

وقالت سائر المذاهب : ليس له ذلك إلا بعد انقضاء العدة ، من غير فرق بين الطلاق الرجعي والبائن.

٢٨٧
٢٨٨

الجزء الخامس

٢٨٩
٢٩٠

والمحصنات من النساء الآة ٢٤ ـ ٢٥ :

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥))

اللغة :

محصنات جمع محصنة بفتح الصاد ، مأخوذ من الحصن ، ويختلف المراد من الحصن باختلاف متعلقه ، فالإسلام حصن ، والحرية حصن ، والزواج حصن ، والعفة حصن ، والآيتان اللتان نفسرهما تحتويان على هذه المعاني الأربعة ، والتفصيل في فقرة المعنى.

٢٩١

والاستمتاع طلب المتعة ، والمراد بها هنا المتعة بالمرأة على الوجه الشرعي. والطول الغنى. وأخدان جمع خدن ، ومعناه الصديق. ويطلق على المذكر والمؤنث ، والواحد والجمع. والعنت الجهد والشدة.

الإعراب :

والمحصنات عطف على النساء المحرمات المذكورات في الآية السابقة ، أي وحرمت عليكم المتزوجات. وكتاب الله نصب على المصدر ، أي كتب الله عليكم كتابا. وأحل لكم ما وراء ذلكم (ما) نائب فاعل لأحل. والمصدر المنسبك من أن تبتغوا بدل اشتمال من ما وراء ذلكم ، لأن تحليل نكاح المرأة يحتاج إلى مال ، ويجوز أن يكون المصدر مفعولا لأجله لأحل. ومحصنين حال من واو تبتغوا. وغير مسافحين صفة لمحصنين. وفريضة منصوبة على المصدر ، أي فرض الله ذلك فريضة. ومن لم يستطع منكم (منكم) متعلق بمحذوف حال من ضمير لم يستطع. وطولا مفعول لم يستطع. والمصدر من أن ينكح المحصنات مفعول من أجله ، أي من عجز عن نكاح المحصنات لعدم المال فلينكح الإماء. بعضكم من بعض مبتدأ وخبر. ومثله وان تصبروا خير لكم ، أي الصبر خير لكم.

المعنى :

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). سبق في فقرة اللغة ان الإحصان في هاتين الآيتين قد جاء على أربعة معان : الزواج والعفة والحرية والإسلام. والمراد بالمحصنات هنا المتزوجات ، لأن الزواج حصن للزوجة ، يمنعها من الوقوع فيما لا ينبغي ، وحصن للزوج أيضا للعلة نفسها ، فلقد جاء في الحديث : «من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه». والمراد بما ملكت ايمانكم ان تصير المرأة ملكا للرجل ، والمعنى ان المرأة إذا كانت متزوجة حرمت على غير زوجها إلا إذا تملكها مسلم ، فتحل حينئذ لمالكها رغم انها زوجة للغير ، والمسلم يملك المرأة بسبين :

٢٩٢

الأول : ان تصير غنيمة له ، وذلك أن تقع حرب دينية بين المسلمين والمشركين ، فينتصر المسلمون ، فيصبح المشركون بنسائهم وأطفالهم وأموالهم غنائم حرب للمسلمين ، فإذا غنم المسلم امرأة دون زوجها وقعت الفرقة بين الزوجين بإجماع المذاهب ، وان غنم الزوجين معا لم تقع الفرقة بينهما عند الحنفية والحنابلة ، وتقع عند الإمامية والشافعية والمالكية ، فإذا أراد المسلم الذي حاز المشركة أن ينكحها جاز له ذلك بعد أن تضع حملها ان كانت حاملا ، وبعد أن تحيض مرة واحدة ان كانت حائلا ، ومن ذوات الحيض ، وإلا امتنع عنها ٤٥ يوما ، ثم قاربها ان شاء.

وهذه الأحكام طبقت في الفتوح الإسلامية الأولى ، وعللها البعض بأنها للردع والزجر عن الشرك ، والترغيب في اعتناق الإسلام .. أما نحن فنقول : انها أحكام تعبدية لا نعرف وجه الحكمة منها ، وكل ما نعرفه ان لها أشباها ونظائر في الشرائع ، وان بعضها حلل قتل النساء والأطفال ، أما الإسلام فقد أمر بالرفق في الأسرى والعبيد ، مهما كان دينهم ومذهبهم.

السبب الثاني الذي يملك به المسلم المرأة هو شراء الأمة ، وذلك أن يكون للرجل أمة مملوكة ، وكان قد زوّجها من عبد له أو لغيره ، ثم باعها من آخر ، فهذا البيع يفسخ زواج الأمة من العبد ويبطله عند الامامية ، ويحل للمشتري أن يفترش الأمة التي ابتاعها بعد ان تستبرئ بوضع الحمل ، أو بحيضة ، أو بخمسة وأربعين يوما.

وقال السيد رشيد رضا صاحب تفسير المنار : «ان بعض الصحابة كابن مسعود على هذا الرأي الذي ذهب اليه الامامية ـ ثم قال صاحب المنار ـ : ولولا ما اختاره الأستاذ الإمام ـ يريد ان الشيخ محمد عبده اختار غير مذهب الامامية ـ لكان قول الامامية أرجح من مذهب جمهور أهل السنة».

فالسيد رشيد يعترف بأن قول الامامية أرجح من مذهب السنة ، ومع ذلك يرفضه لا لشيء إلا لأن استاذه لم يقل به .. وغريب هذا من أمثال السيد رشيد الذي نعى في تفسيره على التقليد والمقلدين ، حتى أخرجهم من الدين ، لا من العلم فقط (انظر تفسيره للآية ١٦٥ ـ ١٦٧ من سورة البقرة).

والخلاصة ان الإسلام أباح للمسلم أن ينكح المتزوجة إذا كانت أمة ، وملكها

٢٩٣

بالشراء ، أو كانت مشركة ، وغنمها في حرب دينية ، يدافع فيها عن الإسلام ، ويدعو اليه.

وتسأل : ان لفظ المحصنات جمع مؤنث ، ومعناه واضح من غير بيان ، فأية فائدة من قوله تعالى : (مِنَ النِّساءِ)؟.

الجواب : ان القرآن كثيرا ما يأتي بالقيد للتوضيح والتوكيد ، مثل (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ). مع العلم بأن قتل الأنبياء لا يكون ولن يكون إلا بالباطل.

ثانيا : قد يتوهم متوهم ان المراد بالمحصنات خصوص المسلمات ، فجاء قيد (مِنَ النِّساءِ) لبيان العموم ، وان عقد الزواج محترم ، سواء أوقع على المسلمة ، أم غيرها.

(كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ). هذا مجرد توكيد لما سبق من قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) الخ ، أي ان تحريم الأصناف المذكورة هو حتم مفروض من الله .. فمن خالف فإن الله سبحانه هو الذي يحاكمه ويعاقبه.

(وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ). لما انتهى سبحانه من بيان المحرمات أعطى قاعدة كلية ، وهي ان غير الأصناف المذكورة يحل نكاحهن ، على شريطة أن يحصل الزواج بهن حسب الأصول المقررة في الشريعة ، ومنها أن يدفع الراغب في النكاح للمرأة صداقا شرعيا ، لا أجرة على البغاء ، وهذا معنى قوله : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ). فالمراد بالاحصان هنا العفة ، وبالسفاح الزنا ، ولفظ محصنين يغني عن غير مسافحين ، ولكنه جاء للتوكيد ، والاشارة إلى أن لصاحب المال أن ينفق أمواله في الملذات والطيبات غير المحرمة .. لأن الإسلام كما حرم طرائق الكسب غير المشروع ، كالربا والغش والغصب ، فقد حرم انفاق المال في المحرمات ، كالزنا والاعتداء على حرية الآخرين.

واتفق السنة والشيعة على ان قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) يدل على جواز الجمع بين العمة وبنت أخيها ، وبين الخالة وبنت أختها .. لأن المعروف من طريقة المشرعين أن يذكروا المحرمات فقط ، لإمكان حصرها ، أما المباحات التي لا يبلغها الإحصاء فيشيرون اليها بقولهم : (ما عدا ذلك). ولكن السنة قالوا : ثبت عن الرسول (ص) انه قال : «لا تنكح المرأة على عمتها ، ولا على خالتها».

٢٩٤

وقال الخوارج : يجوز الجمع بينهما مطلقا ، رضيت العمة والخالة ، أم أبتا. واختلف الإمامية فيما بينهم ، فمنهم من قال بمقالة السنة. والأكثرية منهم ذهبوا الى انه إذا تزوج أولا بنت الأخ ، أو بنت الأخت فله أن يتزوج العمة أو الخالة مطلقا ، وإذا تزوج العمة أو الخالة أولا فلا يجوز له أن يعقد على بنت الأخ أو بنت الأخت إلا إذا أذنت العمة أو الخالة ، واستدلوا بروايات عن أهل البيت (ع).

زواج المتعة :

(فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً). الضمير في (به) يعود على ما في قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) وجاء بصيغة المفرد باعتبار لفظ (ما) ، والضمير في (منهن) يعود على (ما) أيضا ، وجاء بصيغة الجمع باعتبار معناها ، لأن المراد بما وراء ذلكم النسوة اللواتي يحل الزواج بهن ، أما الأجور فالمراد بها المهور ، والمعنى المحصل باتفاق المفسرين ان من أراد الزواج بامرأة من اللواتي تحل له فعليه أن يؤدي لها المهر حقا مفروضا من الله ، لا صدقة وإحسانا.

وقد كثر الكلام والنقاش حول هذه الآية : هل المراد بها الزواج الدائم فقط ، أو زواج المتعة فقط ، أو هما معا ، وعلى فرض ارادة المتعة ، فهل نسخت هذه الآية ، ونسخ معها زواج المتعة؟.

وفيما يلي يتضح الجواب عن جميع ما أثير أو يثار من التساؤلات حول زواج المتعة.

جاء في كتب الحديث والفقه والتفسير للسنة والشيعة ان المسلمين اتفقوا قولا واحدا على ان الإسلام شرّع متعة النساء ، وان النبي (ص) أمر بها أصحابه. من ذلك ما جاء في الجزء السابع من صحيح البخاري ، كتاب الترغيب في النكاح ان رسول الله (ص) كان في جيش للمسلمين ، فقال لهم : قد أذن الله لكم أن تستمتعوا ، فاستمتعوا .. وفي رواية ثانية للبخاري : أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال ، فإن أحبا أن يتزايدا أو يتتاركا تتاركا.

٢٩٥

وفي صحيح مسلم ج ٢ باب «نكاح المتعة» ص ٦٢٣ طبعة ١٣٤٨ ه‍ عن جابر بن عبد الله الأنصاري انه قال : استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر ، وفي الصفحة نفسها حديث آخر عن جابر ، قال فيه : ثم نهانا عمر .. ومثله عن الجزء الثالث من مسند الإمام أحمد بن حنبل.

وقال الرازي في تفسير آية (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ) : «قال عمران بن الحصين ، وهو من فقهاء الصحابة وفضلائهم : ان الله أنزل في المتعة آية ، وما نسخها بآية أخرى ، وأمرنا رسول الله (ص) بالمتعة ، وما نهانا عنها ، ثم قال رجل برأيه ما شاء .. يريد ان عمر نهى عنها».

وهذه الروايات ونظائرها موجودة في أكثر صحاح السنة وتفاسيرهم وكتبهم الفقهية ، وعليه يكون النزاع في انه : هل المراد بقوله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ) الخ) الزواج الدائم فقط ، أو زواج المتعة فقط ، أو هما معا ، يكون هذا النزاع عقيما لا جدوى منه ، لأن النتيجة هي هي لا تختلف في شيء ، سواء أقلنا : ان آية (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ) عامة للمتعة ، أو قلنا : هي مختصة بالزواج الدائم ، إذ المفروض ان رسول الله (ص) قد أمر بزواج المتعة باتفاق المسلمين ، وان كل ما أمر الرسول به فإن الله يأمر به أيضا ، لقوله تعالى : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ـ ٧ الحشر».

أجل ، بعد ان اتفق السنة والشيعة على ان الإسلام شرّع المتعة اختلفوا في نسخها وتحريمها بعد الجواز والتحليل؟.

قال السنة : حرمت بعد ان كانت حلالا .. وقال الشيعة : كانت حلالا ، ولا تزال الى آخر يوم .. وبديهة ان على السنة أن يثبتوا النسخ والتحريم من الرسول (ص) ، لأنهم يدعون زوال الشيء الثابت بطريق القطع واليقين ، أما الشيعة فلا يكلفون بالاثبات على عدم النسخ ، لأن ما ثبت باليقين لا يزول إلا بيقين مثله ـ مثلا ـ إذا اتفق اثنان على ان فلانا كان حيا في العام الماضي ، ثم اختلفا في موته الآن فالاثبات على من يدعي الموت ، أما من يقول ببقاء الحياة فهو في فسحة ، ولا يطلب منه شيء ، لوجوب الحكم بإبقاء ما كان على ما كان ، حتى يثبت العكس.

٢٩٦

والسنة يعترفون بأن عليهم عبء الإثبات دون الشيعة ، ولذلك استدلوا على ثبوت النسخ بروايات عن النبي (ص) ، ورد الشيعة هذه الروايات ، وناقشوها متنا وسندا ، وأثبتوا بالمنطق السليم انها موضوعة على الرسول الأعظم (ص) بأدلة : «منها» ان السنة أنفسهم يعترفون بأنها مضطربة متناقضة ، قال ابن رشد في الجزء الثاني من البداية ، مسألة نكاح المتعة ما نصه بالحرف : «في بعض الروايات ان النبي (ص) حرم المتعة يوم خيبر ، وفي بعضها يوم الفتح ، وفي بعضها في غزوة تبوك ، وفي بعضها في حجة الوداع ، وفي بعضها في عمرة القضاء ، وفي بعضها عام أوطاس ، وهو اسم مكان في الحجاز ، ومحل غزوة من غزوات الرسول (ص) ـ ثم قال ابن رشد ـ : روي عن ابن عباس انه قال : ما كانت المتعة إلا رحمة من الله ، رحم بها أمة محمد (ص) ولولا نهي عمر عنها ما اضطر الى الزنا إلا شقي».

و «منها» أي من ردود الشيعة على روايات النسخ انها ليست بحجة ، حتى ولو سلمت من التناقض ، لأنها من أخبار الآحاد .. والنسخ انما يثبت بآية قرآنية ، أو بخبر متواتر ، ولا يثبت بالخبر الواحد (١).

و «منها» ما جاء في صحيح مسلم من ان المسلمين تمتعوا على عهد الرسول ، وعهد أبي بكر ، وهذا ينفي نسخها في عهد الرسول ، وإلا كان الخليفة الأول محللا لما حرم الله والرسول .. وأصدق شيء في الدلالة على عدم النسخ في عهده (ص) قول عمر بالذات : «متعتان كانتا على عهد رسول الله انا انهى عنهما ، وأعاقب عليهما». ومهما شككت فلا أشك ولن أشك في ان عمر لو سكت عن هذا النهي لما اختلف اثنان من المسلمين في جواز المتعة وحليتها الى يوم يبعثون.

وتسأل : بعيد جدا أن يقول عمر هذا .. لأنه تحريم لما أحله الله ، ورد على رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى؟.

الجواب : أجل ، هو أبعد من بعيد ، لأنه كما قلت : رد على الله ورسوله ..

__________________

(١) الخبر المتواتر هو أن يرويه جماعة بلغوا من الكثرة حدا يمتنع معه عادة اتفاقهم على الكذب. والخبر الواحد لا ينتهي إلى حد التواتر ، سواء أكان راويه واحدا ، أو أكثر.

٢٩٧

ولكن المسلمين اتفقوا على ان عمر قال ذلك ، وما رأيت واحدا منهم نفى نسبته اليه .. بل في بعض الروايات ان عمر نهى عن ثلاثة أشياء أمر بها النبي لا شيئين ، قال القوشجي في شرح التجريد ـ وهو من علماء السنة ـ قال في آخر مبحث الامامة : «ان عمر صعد المنبر ، وقال : ايها الناس ، ثلاث كن على عهد رسول الله ، انا أنهى عنهن ، واحرمهن ، وأعاقب عليهن : متعة النساء ، ومتعة الحج ، وحي على خير العمل» .. وروى كل من الطبري والرازي ان عليا قال : لولا ان عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي. ومثله عن تفسير الثعلبي والسيوطي.

سؤال ثان : أليس من الأليق بمكانة عمر أن نحمل قوله هذا على انه رواية عن النبي (ص) ، وليس رأيا من عمر ضد النبي (ص)؟.

الجواب : أجل ، ان هذا الحمل أليق وأخلق ، ولكن قوله : «كانتا على عهد رسول الله ، وأنا أنهى عنهما» يأبى هذا الحمل ، حيث نسب التحليل الى الرسول ، والتحريم الى نفسه ، ولو كان قوله رواية ، لا رأيا لنسب النهي الى الرسول ، لأنه أبلغ في الردع والزجر.

وبالاختصار : لا يمكن الجمع بحال بين القول : ان النبي (ص) نهى عن المتعة بعد أن أمر بها ، وبين قول عمر : كانت المتعة على عهد رسول الله ، وانا أنهى عنها .. وقد ثبت ان عمر قال هذا فيلزم من ذلك حتما ان النبي لم ينه عن المتعة .. هذا بعض ما يرد من الطعون بروايات النسخ المنسوبة الى النبي .. ومن أراد التفصيل فليرجع الى تفسير آلاء الرحمن للشيخ محمد جواد البلاغي ، والبيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي ، ونقض الوشيعة للسيد محسن الأمين ، والجزء الثالث من كتاب دلائل الصدق للشيخ محمد حسن المظفر.

وتجدر الاشارة إلى أنه لا فرق بين الزواج الدائم ، وزواج المتعة في ان كلا منهما لا يتم إلا بعقد ومهر ، وفي نشر الحرمة من حيث المصاهرة ، وفي وجوب التوارث والإنفاق وسائر الحقوق المادية والأدبية بين أولاد المتعة وأولاد الزواج الدائم ، وفي وجوب العدة على الممتع بها .. وفي الجزء الخامس من كتابنا فقه الإمام جعفر الصادق (ع) ذكرنا ١٤ وجها يتساوى فيها الزواج الدائم ، والزواج المنقطع ، أي المتعة ، و ١٠ أوجه يفترق فيها كل عن الآخر.

٢٩٨

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ). إذا جرى الزواج على مهر مبين محدد في متن العقد يصبح حقا لازما للزوجة ، تتصرف فيه كيفما تشاء ، ولكن هذا لا يمنع أن يتراضى الزوجان بعد ذلك على ترك المهر كلا أو بعضا ، أو الزيادة عليه ، كما انه لا مانع أن يتراضيا على نوع النفقة ومقدارها ، أو تركها من الأساس ، أو يتراضيا على الطلاق ، أو على الرجوع بعد الطلاق ، أو بعد انقضاء أمد المتعة ، وما إلى ذلك ضمن الحدود الشرعية.

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ). المراد بالطول هنا المال ، وبالمحصنات الحرائر لمقابلتهن بالإماء المشار إليهن بقوله تعالى : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، لأن الامة تدخل في ملك اليمين ، والمعنى من لم يجد من المال ما يمكّنه من الزواج بحرة فليتزوج أمة مؤمنة.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ). المراد بالإيمان الدين ، والمعنى لا ينبغي للمؤمن أن يستنكف عن زواج الامة للونها وعنصرها ، لأن الناس جميعا من آدم ، وآدم من تراب ، والتفاضل عند الله بالتقوى ، لا بالاحساب والأنساب ، وربّ أمة هي أكرم عند الله من حرة ، لأنها أبر وأتقى.

(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ). وأهل الأمة سيدها ومالكها ، والمراد بالأجور المهور (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ). أي عفيفات غير زانيات بصورة علنية ، كالمومس ، (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أي ولا بصورة سرية ، كالتي تختص بصديق في الخفاء.

(فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ). المراد من الإحصان في (أحصن) الزواج ، وفي (المحصنات) الحرائر ، والمعنى ان الأمة إذا زنت فعليها من العقاب نصف ما على الحرة ، وهذا العقاب هو ما بيّنه سبحانه بقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ـ ٢ النور».

(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ). ان الله سبحانه لا يريد أن يشق على عباده ، ولا أن يقعوا في الفتنة ، فمن مالت نفسه إلى المرأة فليتزوج حرة ، فإن لم يجد

٢٩٩

المال تزوج بأمة مؤمنة ، وان استطاع الصبر عن زواجها ، وكان آمنا على دينه وصحته فالصبر خير وأفضل (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

وهذه الآية على طولها تعرضت لحكم زواج الحر بأمة ، ولعقوبتها إذا زنت ، وأوجزنا في التفسير ، لأن الحديث عن الإماء وأحكامهن أصبح بلا جدوى بعد الغاء الرق.

وغريبة الغرائب ان أول دولة سبقت إلى الدعوة لإلغاء الرق تعامل الملونين في بلدها معاملة الحيوانات ، وتناصر الحكومات العنصرية في كل مكان ، وتضع مخططات جهنمية تهدد العالم بأسره ، ومستقبل الانسانية ، وأصدق الدلائل على هذه الحقيقة مشاركتها في خلق إسرائيل ، ومساندتها في الاعتداء على البلاد العربية ، وطرد المواطنين من بلادهم ، لا لشيء إلا لتخضع العرب لنفوذها وسياستها .. أما حشدها الجيوش بمئات الألوف في فييتنام ، وتفننها في التقتيل والتخريب فلا يعرف التاريخ له مثيلا .. وأعتقد انه لا وسيلة للخلاص من شرور هذه الدولة إلا أن يرفض كل انسان في الشرق والغرب كل ما ينتمي اليها ، ويحمل أثرا من آثارها.

يريد الله ليبين لكم الآة ٢٦ ـ ٢٨ :

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨))

اللغة :

السنن المناهج.

٣٠٠