التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢))

اللغة :

الكلالة الاحاطة ، مأخوذة من الإكليل ، ويراد بها في باب الإرث قرابة الإنسان غير والديه وأولاده ، كالاخوة والأعمام ، لأن الوالدين والأولاد كالعمودين. وقد يوصف بالكلالة الميت المورّث على معنى انه قد ورّث غير أولاده ووالديه ، وقد يوصف بالكلالة الحي الوارث على معنى ان الوارث هو من غير صنف الآباء والأبناء. وقد جاءت لفظة الكلالة في آيتين من القرآن ، الآية الأولى هذه ، والمراد بها اخوة الميت من أمه فقط ، والآية الثانية هي (يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) ـ ١٧٦ سورة النساء). والمراد بها في الآية الأخيرة اخوة الميت لأبيه وأمه ، أو لأبيه فقط ، ويأتي التفصيل.

الإعراب :

للذكر متعلق بمحذوف خبر ، ومثل مبتدأ ، والجملة تفسير (يُوصِيكُمُ اللهُ) أي يقول لكم الله : للذكر مثل حظ الأنثيين. والضمير في (كن) يعود على أولادكم. وفوق صفة نساء ، بمعنى زائدات على اثنتين ، ولكن المراد بها هنا اثنتان فما فوق بالاتفاق. ولأبويه متعلق بمحذوف خبر. ولكل واحد منهما بدل من أبويه مع تكرار العامل. والسدس مبتدأ. ومن بعد وصية متعلق بمحذوف خبر مبتدأ محذوف ، أي هذه الأسهم كائنة من بعد وصية. و (او) هنا للاباحة ، مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ، أي جالس أيهما شئت منفردا أو منضما ، ولا يجب تقديم المعطوف عليه بأو ، وتأخير المعطوف من حيث الفعل ، بل يجوز العكس كما يجوز الجمع بينهما ، فإذا قلت : كل لحما أو بطاطس ،

٢٦١

جاز لمن خاطبته أن يأكل البطاطس أولا ، ثم اللحم ، وان يأكل أحدهما فقط ، أو هما معا. وفريضة منصوب على المصدرية ، أي فرض الله ذلك فريضة. (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) قال ابن هشام في كتاب مغني اللبيب ، الباب الخامس : يجوز أن نعرب كان ناقصة ، وجملة يورث خبر ، وكلالة حال من الضمير في يورث ، وأيضا يجوز أن نعرب كلالة خبر كان وجملة يورث صفة لرجل .. ويجوز ان تكون كان تامة بمعنى وجد رجل وجملة يورث صفة له ، وحينئذ يتعين أن تكون كلالة حالا من الضمير في يورث. وغير مضار حال من فاعل يوصي. ووصية منصوب على المصدرية ، أي يوصيكم الله وصية لا يجوز تغييرها.

المعنى :

كانت أسباب الإرث في الجاهلية ثلاثة : الأول النسب في حدود الرجال الذين يحملون السلاح ، ويستطيعون القتال ، أما الإناث والضعفاء من الذكور فلا ارث لهم .. وقد عمم الإسلام الإرث للجميع. السبب الثاني التبني ، وهو ان يتبنى الرجل ولد غيره ، ويكون له حكم الابن الشرعي في الإرث وغيره ، وألغى الإسلام ذلك بقوله : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) ـ ٤ الأحزاب». السبب الثالث العهد ، وهو أن يقول الرجل لآخر : دمي دمك ، وترثني وأرثك ، وأقره الإسلام على وجه يأتي بيانه عند الاقتضاء.

وكان من هاجر مع الرسول (ص) من مكة إلى المدينة يرث من مهاجر مثله إذا كان بينهما مخالطة وود ، ولا يرث من المهاجر غير المهاجر ، وان كان قريبا. وأيضا بعد ان آخى النبي (ص) بين كل اثنين من أصحابه كان المتآخيان يتوارثان ، ثم نسخ الإسلام هذين السببين ، الهجرة والتآخي ، نسخهما بقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) ـ ٧٥ الأنفال و ٦ من سورة الأحزاب».

واستقر موجب الإرث في الإسلام على أمرين : نسب وسبب ، والسبب أمران : زوجية وولاء ، ويأتي البيان حسب ترتيب الآيات ، وفيما يلي نشير إلى

٢٦٢

مداليل ألفاظ الآيتين اللتين نحن بصددهما : وهما وما بعدهما من الآيات المتعلقة بالإرث تفصيل لما أجمله تعالى في قوله السابق : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء الخ:

١ ـ (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). إذا اجتمع أبناء الميت وبناته معا اقتسموا للذكر مثل حظ الأنثيين ، وإذا انضم اليهم غيرهم في الميراث كالزوج أو الزوجة ، أو الأب أو الأم أو هما معا أخذ كل نصيبه حسب التفصيل الآتي ، والباقي يقتسمه البنون والبنات ، للبنت نصف ما يأخذه الابن باتفاق المذاهب الاسلامية ، دون استثناء.

وأيضا اتفقت المذاهب على ان الميت إذا ترك ابنا ، وأولاد أولاد فالابن يحجب عن الإرث أولاد الأولاد ، سواء أكانوا ذكورا ، أم أناثا .. واختلف فقهاء المذاهب فيما إذا ترك بنتا واحدة ، أو بنتين فأكثر ، ولم يترك ابنا .. قال فقهاء المذاهب الأربعة : تأخذ البنت الواحدة النصف فقط ، والبنتان فأكثر الثلثين فقط ، والباقي يعطى لغيرهن. وقال الشيعة الامامية : التركة كلها للبنت أو البنات ، ولا شيء لغيرها. والتفصيل في كتابنا الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة.

٢ ـ (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ). قال صاحب مجمع البيان : «ظاهر قوله تعالى : (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) ان البنتين لا تستحقان الثلثين لكن الأمة أجمعت على ان حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات». هذا هو الصحيح ، وكل ما قيل من التعليل والتأويل حول (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) فهو من نسج الخيال.

وليس هذا بالشيء المهم ، وانما المهم بيان ما اختلفت فيه المذاهب الاسلامية من ميراث البنت والبنات إذا لم يكن للميت ولد ذكر .. وقد اتفق الفقهاء قولا واحدا على ان الميت إذا ترك بنتا واحدة أخذت النصف بالفرض ، وان ترك بنتين فأكثر أخذن الثلثين ، واختلفوا في النصف الباقي بعد فرض البنت ، وفي الثلث الباقي بعد فرض البنتين ، لمن يعطى؟.

قال السنة : يعطى الباقي لأخي الميت ، مستندين إلى رواية عن طاوس عن

٢٦٣

ابن عباس عن النبي (ص) انه قال : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي لاولي عصبة ذكر.

وأنكر الشيعة حديث طاوس لأنه كذاب (١) وقالوا : يرد النصف على البنت ، فتنفرد بالتركة كلها ، تأخذ النصف بالفرض ، والنصف الثاني بالرد. وأيضا يرد الثلث الباقي على البنتين فأكثر ، فينفردن بجميع التركة الثلثين بالفرض ، والثلث الباقي بالرد ، واستدلوا بأن القرآن الكريم فرض الثلثين للبنتين فأكثر ، وفرض النصف للبنت الواحدة ، ولا بد من وجود شخص ما يرد عليه الباقي بعد الفرض ، والقرآن لم يعيّن هذا الشخص بالذات ، وإلا لم يقع الخلاف ، فلم يبق لتعيين من يرد عليه الباقي إلا الآية ٧٥ من سورة الأنفال ، و ٦ من سورة الأحزاب : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ). حيث دلت على ان الأقرب أولى ممن هو دونه في القرابة ، وليس من شك ان البنت أقرب من الأخ.

هذا ، إلى أن الشيعة لم ينفردوا بالقول : ان التركة بكاملها للبنت أو للبنات ، فلقد ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الميت إذا ترك بنتا أو بناتا ، ولم يوجد واحد من أصحاب الفروض والعصبات فالمال كله للبنت ، النصف بالفرض ، والباقي بالرد ، وكذلك البنتان تأخذان جميع التركة ، الثلثين فرضا ، والثلث الباقي ردا ، مع العلم بأن الآية قالت : (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ). فإذا كانت هذه الآية لا تمنع ان تأخذ البنت أو البنات جميع التركة في الصورة التي ذكرها الحنفية والحنابلة فكذلك أيضا لا تمنع أن تأخذ البنت أو البنات التركة كلها في صورة أخرى ، والفرق تحكم ، لأن دلالة الآية واحدة لا يمكن تجزؤها بحال.

وأيضا قال الحنفية والحنابلة : إذا ترك الميت أما ، وليس معها واحد من أصحاب الفروض والعصبات تأخذ التركة كلها الثلث بالفرض ، والثلثين بالرد ،

__________________

(١) قال السيد محسن الأمين في نقض الوشيعة فصل التعصيب : حتى طاوس أنكر أن يكون راويا لهذا الحديث ، وقال ـ أي طاوس ـ : ان الشيطان ألقاه على لسان من نسب إلي هذا القول. وأسند السيد الأمين ذلك إلى رواة السنة.

٢٦٤

مع العلم بأن الله يقول : (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) فإذا جاز للام أن تأخذ التركة كلها مع قوله تعالى : (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) جاز أيضا للبنت أن تأخذ التركة كلها ، وكذلك البنات. مع قوله: (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) على النحو الذي قدمناه. وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة ، والجزء السادس من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق. وأصدر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر كتابا ضخما باسم «دعوة التقريب» ، أدرج فيه بحثنا هذا بكامله .. وتجدر الاشارة إلى أن ما نقلناه عن الحنفية والحنابلة كان مصدره كتاب المغني لابن قدامة ، وميزان الشعراني ، باب الفرائض.

٣ ـ (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ). يطلق الولد على الذكر والأنثى ، لأن لفظه مشتق من الولادة الشاملة للابن والبنت ، وقد استعمل القرآن لفظ الأولاد في الذكور والإناث ، قال تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). وقال : «ما كان لله أن يتخذ ولدا».

والمراد بأبويه هنا خصوص الأب والأم ، ولا يدخل فيهما الجد والجدة .. فإذا ترك الميت أبوين وأولادا ينظر : فإن كان في الأولاد ذكر أخذ كل من الأبوين السدس ، والباقي للأولاد ، حتى ولو لم يكن إلا ذكر واحد ، وان لم يكن ذكر ، وكان الأولاد بنتين فأكثر أخذ الأبوان الثلث ، والثلثان للبنات باتفاق المسلمين جميعا. وان كان مع الأبوين بنت واحدة فلكل منهما السدس ، وللبنت النصف بالفرض ، يبقى سدس ، يرد على الأب فقط عند السنة ، وعلى الأب والأم والبنت عند الشيعة ، إذا لم تحجب الأم بالاخوة ، ويقتسمون التركة أخماسا ، واحدا منها للأب ، وواحدا للأم ، وثلاثة للبنت ، وان حجبت الام بالاخوة يرد على الأب والبنت فقط أرباعا ، أي ان الزائد يقسّم أربعة أسهم ، واحد منها للأب ، وثلاثة للبنت.

٤ ـ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ). إذا لم يكن للميت ولد ، ولا ولد ولد ، وانحصر ميراثه بأمه وأبيه أخذت الأم الثلث ان لم يكن للميت أخوة يحجبونها عما زاد عن السدس ، فإن كان له أخوة أخذت السدس فقط ، والباقي في الحالين للأب ، واختلفت المذاهب في عدد الاخوة الذين يحجبون الأم .. قال المالكية : أقل ما يحجبها اثنان من

٢٦٥

الاخوة ، دون الأخوات. وقال الحنفية والشافعية والحنابلة : اثنان من الاخوة أو الأخوات. وقال الامامية : اخوان أو أخ واختان ، أو أربع أخوات ، على شريطة أن يكونوا أخوة أو أخوات للميت من أبيه وأمه ، أو من أبيه فقط ، وان يكونوا منفصلين عند موت المورّث لا حملا ، وان يكون الأب حيا. وهؤلاء الاخوة يحجبون عن الميراث ، ولا يرثون.

٥ ـ (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ). إذا ترك الميت مالا فيبدأ قبل كل شيء بما يحتاج اليه من كفنه وجهازه الى قبره ، ثم بوفاء ديونه المالية ، حتى الحج والزكاة ، والخمس والنذورات ، ثم بتنفيذ وصيته من ثلث ما يفضل عن تجهيزه ودينه ، ثم بالميراث ، لأنه أشبه بإعطاء ما زاد عن الحاجة.

وتسأل : إذا كان الدين مقدما على الوصية ، فلما ذا قدمها في الذكر واللفظ؟ الجواب : ان التقديم في الذكر واللفظ لا يقتضي التقديم في الحكم والتنفيذ ، لأن العطف ب (أو) لا يفيد الترتيب ، كما ذكرنا في فقرة الاعراب ، وانما يفيد المساواة في أصل الحكم بين المعطوف والمعطوف عليه ، فكأنه قال : من بعدهما .. أما التقديم عملا فيستفاد من دليل آخر ، وقد ثبت عن الرسول الأعظم (ص) ، وقام الإجماع على أنه لا وصية ولا ميراث إلا بعد وفاء الدين ، بالاضافة الى أحاديث كثيرة ان الميت مرتهن بديونه.

٦ ـ (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً). هذه جملة معترضة ، تشير إلى أن تقدير المواريث وأسرارها لا تصاب بالعقول ، وانما يدركها خالق الإنسان ، وهو وحده يعلم ما يضره وينفعه .. وهذه الآية تصلح للاستدلال على ان الأحكام الإلهية شرّعت لمصلحة الإنسان وسعادته وهنائه ، ومن هنا نستدل على ايمان الإنسان بصالح أعماله ، وعلى فسقه وإلحاده بضرره وفساده. (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) الحق ، لا من الإنسان الذي تتحكم به الميول والأهواء ، وقد رأينا أكثر الهيئات التشريعية والمجالس البرلمانية تضع القوانين لصالح الأقوياء ، واستغلالهم الضعفاء.

٧ ـ (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ). اتفق المسلمون على

٢٦٦

ان كلا من الزوج والزوجة يشارك في الميراث جميع الورثة ، دون استثناء ، وعلى ان للزوج النصف من تركة الزوجة إذا لم يكن لها ولد منه ولا من غيره ، والربع إذا كان لها ولد منه أو من غيره. وسبق في رقم ٥ انه لا ميراث إلا بعد الدين والوصية.

٨ ـ (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ). للزوجة الربع من تركة زوجها إذا لم يكن له ولد منها ولا من غيرها ، والثمن إذا كان له ولد منها أو من غيرها.

واتفقت المذاهب الأربعة على ان المراد بالولد هنا ولد الميت للصلب ، وولد الابن فقط ، ذكرا كان ، أو أنثى .. أما ولد البنت فإنه لا يمنع أحد الزوجين من نصيبه الأعلى ، بل قال الشافعية والمالكية : ان ولد البنت لا يرث ولا يحجب ، لأنه من فئة ذوي الأرحام.

وقال الإمامية : المراد بالولد في الآية مطلق الولد ، وولد الولد ، ذكرا كان أو أنثى ، فبنت البنت تماما كالابن تحجب أحد الزوجين عن نصيبه الأعلى إلى الأدنى.

وإذا تعدد الزوجات فهن شريكات في الربع أو الثمن ، يقتسمنه بالسوية.

وقالت المذاهب الأربعة : إذا لم يكن للميت وارث إلا الزوج ، أو الزوجة فلا يرد الباقي لا على الزوج ولا على الزوجة (مغنى ابن قدامة).

واختلف الإمامية فيما بينهم على ثلاثة أقوال : الأول يرد الباقي على الزوج ، دون الزوجة ، وهذا هو المعروف بين الفقهاء اليوم ، وعليه عملهم. الثاني الرد على الزوج والزوجة إطلاقا وفي جميع الحالات. الثالث الرد عليهما في غيبة الإمام العادل ، دون حضوره ، ونحن على هذا الرأي ، واليه ذهب الشيخ الصدوق ، ونجيب الدين بن سعيد ، والعلامة الحلي ، والشهيد الأول ، وذكرنا الدليل على اختيارنا في الجزء السادس من فقه الإمام جعفر الصادق (ع).

٩ ـ (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ). جاء لفظ

٢٦٧

الكلالة مرتين في القرآن الكريم : في هذه الآية ، وفي آخر آية من سورة النساء ، والمراد بها القرابة غير الوالدين والأولاد .. ويوصف بها الميت الموروث على معنى انه أخ أو أخت للورثة الأحياء ، كما يوصف بها الحي الوارث على معنى ان الوارث أخ أو أخت للميت ، والمعنيان ـ كما ترى ـ متلازمان ويتواردان على شيء واحد ، فبأيهما أخذت صح المعنى.

واتفق المفسرون على ان المقصود بالأخ والأخت في الآية التي نفسرها خصوص الأخ والأخت من الأم فقط ، بل قرأ البعض : وله أخ أو أخت من الأم ، أما ميراث الأخ والأخت من الأبوين ، أو من الأب فقط فيأتي حكمه في الآية الأخيرة من هذه السورة.

واتفقت المذاهب على ان للواحد من ولد الأم السدس بالفرض ذكرا كان أو أنثى ، وللأكثر الثلث ذكورا كانوا أو إناثا أو هما معا ، ويقتسمون فيما بينهم بالسوية للأنثى مثل الذكر.

١٠ ـ (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ). سبق انه لا ميراث إلا بعد وفاء الدين ، وتنفيذ الوصية. وقد نهى سبحانه عن الضرار في الدّين والوصية ، والضرار في الدين أن يقر أو يوصي بدين ليس عليه بقصد الإضرار بالورثة ، والإضرار بالوصية أن يتجاوز حد الثلث مما يملك ، وإذا فعل يقف تنفيذ الزائد على اجازة الورثة .. وفي الحديث : انك ان تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ). وكل ما أوصى الله به يجب الإذعان له ، والعمل بموجبه.

تلك حدود الله الآة ١٣ ـ ١٤ :

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ

٢٦٨

وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤))

المعنى :

المعنى واضح ، ويتلخص بأن الله سبحانه بعد أن بيّن سهام المواريث وفق علمه وحكمته وعد المطيع بالثواب ، وتوعد العاصي بالعقاب ، ترغيبا في الطاعة ، وترهيبا عن المعصية. وقال عن أهل الجنة خالدين بالجمع ، وعن أهل النار خالدا بالأفراد ، لأن أهل الجنة يتمتعون بالاجتماع ، أما أهل النار فكل في شغل بنفسه عن غيره.

وتجدر الاشارة الى بعض الأحاديث الواردة في علم الفرائض ـ أي المواريث ـ وفضله ، لأنه يراعي مصلحة الأسرة والمجتمع ، ويضع كل فرد في مرتبته من الميت ، ولا يحرم امرأة ولا صغيرا ، ويفتت الثروات ، ولا يدع مجالا لتضخمها وتكدسها في أيدي قلة ، كما هو الشأن في بعض الأنظمة الغربية التي حصرت الميراث بالابن الأكبر.

قال رسول الله (ص) : «تعلموا الفرائض ، وعلموها للناس ، فاني امرؤ مقبوض ، وان العلم ـ أي علم الشريعة الاسلامية ـ سيقبض ، وتظهر الفتن ، حتى يختلف الاثنان في الفريضة ، فلا يجدان من يفصل بينهما .. تعلموا الفرائض فإنها من دينكم ، وان علمه نصف العلم ، وانه أول ما ينتزع من أمتي». وقوله : أول ما ينتزع من أمتي اشارة الى هذه القوانين الوضعية التي حلت محل الشريعة الاسلامية.

يأتيم الفاحشة الآة ١٥ ـ ١٦ :

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ

٢٦٩

فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦))

اللغة :

تطلق الفاحشة على الزنا واللواط. والتوفي الاستيفاء ، وهو القبض ، تقول : توفيت مالي واستوفيته إذا قبضته ، وعليه فمعنى يتوفاهن يقبضهن الموت.

الإعراب :

اللاتي مبتدأ ، وخبره جملة فاستشهدوا ، وجاز دخول الفاء على الخبر ، لأن اسم الموصول يجري مجرى الشرط. ويتوفاهن فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة.

المعنى :

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ). لا يثبت الزنا إلا بإقرار فاعله على نفسه أربع مرات ، سواء أكان رجلا أم امرأة ، أم بشهادة أربعة عدول من المسلمين ، دون غيرهم ، كما دلت عليه لفظة (منكم) ولا بد أن يشهد كل واحد من الأربعة شهادة صريحة في ولوج الذكر في الفرج تماما كالميل في المكحلة ، فإن نقص الشهود عن الأربعة ، أو اختلفت شهادتهم ، ولم تتوارد على شيء واحد جلد كل واحد منهم ثمانين جلدة ، وكل من يرمي امرأة أو رجلا بالزنا ، ولم يأت بأربعة عدول يشهدون على النحو المتقدم ـ يجلد

٢٧٠

ثمانين جلدة .. وان دل هذا على شيء فإنما يدل ان الأولى بالإنسان ان لا ينقب عن عيوب الناس ، ويكشف أسرارهم ، لأن كشف العيوب يؤدي الى فساد المجتمع ، ويعرض الأسرة الى الضياع والشتات.

(فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ). أي إذا ثبت الزنا على المرأة حبست في بيتها ، حتى الموت عقوبة لها (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً). يشير الى أن الله سبحانه لم يجعل هذه العقوبة حكما دائما ، بل جعلها لفترة معينة ، ثم يحدث التشريع النهائي ، وهكذا كان ، حيث نسخت هذه الآية ، وجعل الرجم عقوبة الزنا ان حصل من متزوج أو متزوجة ، ومائة جلدة ان حصل من أعزب أو عزبة ، ويأتي التفصيل في سورة النور ان شاء الله.

(وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما). اختلف المفسرون في المراد من (اللذان). والأكثر على أنهما الزاني والزانية ، ويلاحظ على هذا القول انه خلاف الظاهر ، لأن (اللذان) للمثنى المذكر ، ولأن الزانية تقدم حكمها ، ولا موجب للتكرار من غير فاصل ، والصحيح ان المراد بهما الرجلان : الفاعل والمفعول ، لظاهر لفظ (اللذان) ولفظ منكم ، أي من رجالكم كما في قوله تعالى (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ). وعقوبة اللواط الإيذاء ، ومنه التأنيب والتوبيخ ، ونسخت هذه العقوبة ، كما نسخت عقوبة الزانية التي هي السجن المؤبد ، وأصبحت عقوبة كل من الفاعل والمفعول الضرب بالسيف حتى الموت ، أو الإحراق بالنار ، أو الإلقاء من شاهق بعد تكتيف اليدين والرجلين ، أو هدم جدار عليه ، لأنه لا جريمة أسوأ أثرا من الفعل الشنيع الذي يسلب الإنسان انسانيته ، ويقلب حقيقته رأسا على عقب ، وقديما قيل : لو نكح الأسد في دبره لذل.

(فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما). أي لا تكفوا عن إيذاء هذا المجرم بمجرد قوله: تبت واستغفر الله ما لم تثبت توبته النصوحة بعمله وحسن سلوكه.

يعملون السوء الآة ١٧ ـ ١٨ :

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ

٢٧١

فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨))

اللغة :

الجهل والجهالة ضد العلم ، وكل من الكلمتين يصح استعمالها بالسفه والحمق ، ومنه قوله تعالى : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ). وقوله : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ). واتفق المفسرون على ان المراد بالجهالة هنا السفاهة ، لأن معنى الآية لا يستقيم إلا على هذا الأساس. واعتدنا من العتاد ، وهو العدة.

الإعراب :

انما التوبة : الأصل انما قبول التوبة ، لأن على الإنسان التوبة ، وعلى الله القبول ، ثم حذف وأقيم المضاف اليه مقامه ، وهو مبتدأ وما بعده خبر. وبجهالة في موضع الحال ، أي جاهلين. ولا الذين يموتون في محل جر عطفا على قوله : للذين يعملون السوء.

المعنى :

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ). السوء العمل القبيح ، والجهالة السفاهة بترك الهدى إلى الضلال ، والمراد بالتوبة

٢٧٢

عن قريب أن يتوب المذنب قبل أن يساق إلى الموت ، لأن الموت آت لا ريب فيه ، وكل آت قريب ، أما قوله : انما التوبة على الله فهو على حذف مضاف كما بينا في فقرة الإعراب ، أي قبول التوبة عليه جل وعلا ، والمعنى المحصل ان من أساء ، ثم ندم وأناب يقبل الله انابته ، ويصفح عنه ، حتى كأنه لا ذنب له ، بل ان الله سبحانه يثيبه ثوابا حسنا.

وتسأل : ان ظاهر الآية يدل على انه يجب على الله أن يقبل التوبة من النادمين ، مع العلم بأن الله يوجب على غيره ما يشاء ، ولا يوجب أحد عليه شيئا ، إذ ليس كمثله شيء.

الجواب : ليس المراد ان الغير يوجب على الله أن يقبل التوبة .. تعالى الله .. وانما المراد ان فضله وكرمه يستوجب هذا القبول ، تماما كما تقول للكريم : ان كرمك يفرض عليك البذل والعطاء ، ومن ذلك قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).

(فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ). ما داموا راغبين رغبة حقيقية في العودة إلى صفوف المؤمنين الأخيار. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) عليم بالتوبة النصوحة والزائفة ، حكيم بقبول الأولى من التائب ..

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ). ان الله يقبل من تاب اليه ، على شريطة أن يتوب قبل أن تظهر له أمارات الموت ، أما من تاب ، وهو يساق إلى القبر فلا تقبل توبته ، لأنها توبة العاجز عما يئس من نواله.

وتسأل : وما ذا أنت صانع بما روي عن رسول الله (ص) : «من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه ، وان الساعة لكثير ، من تاب ، وقد بلغت الروح هذه ـ مشيرا الى حلقه ـ تاب الله عليه؟.

الجواب : في هذه الرواية نظر ، لأمور :

الأول : انها تخالف كتاب الله ، وقد ثبت عن رسول الله (ص) انه قال : «قد كثرت عليّ الكذابة في حياتي ، وستكثر بعد وفاتي ، فمن كذب عليّ

٢٧٣

فليتبوأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فلا تأخذوا به». ومن أجل هذا لا نأخذ بحديث قبول التوبة إذا بلغت الروح الحلقوم .. وغير بعيد ان حكام الجور في عهد الأمويين والعباسيين قد أوعزوا الى بعض أذنابهم أن يضع لهم هذا الحديث ، ليحتجوا به أمام المحكومين بأن لهم مندوحة عند الله ، مهما جاروا وأفسدوا .. فلقد كان لكل حاكم منهم حزمة من فقهاء السوء يبررون أعمالهم ، ويكيفون الدين طبقا لأهواء الشياطين.

الأمر الثاني : ان قبول التوبة عند الموت إغراء بارتكاب الذنب والمعصية .. وهذا من عمل الشيطان ، لا من عمل الرحمن.

الأمر الثالث : ان الله سبحانه انما يقبل العمل من العامل إذا صدر منه عن ارادة وحرية كاملة .. وبديهة ان الإنسان انما يكون حرا بالنسبة الى العمل إذا كان قادرا على فعله وتركه معا ، أما إذا قدر على الفعل دون الترك ، أو على الترك دون الفعل فانه يكون مسيرا لا مخيرا ، ومن هذا الباب التوبة عند الموت ، إذ المفروض ان التائب في هذه الحال يعجز عن اقتراف الذنب والمعصية ، تماما كما يعجز عنها من يقول غدا : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) ـ ١٢ الدخان». فان قبل الله التوبة ممن يساق الى القبر فينبغي ان يقبلها ممن يعذب في النار .. والفرق تحكم. ولذا سوّى الله بينهما ، وعطف أحدهما على الآخر ، حيث قال : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) أي ان الله سبحانه لا يقبل التوبة أيضا من الذين يموتون على الكفر ، ولا يندمون إلا حين يرون العذاب يوم القيامة ، بل لا يقبلها منهم ، وهم في طريقهم الى هذا اليوم ، كما دلت الآية ١٠٠ من سورة المؤمنين : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

أجل ، يجوز في نظر العقل أن يعفو جل وعز ويصفح عن المذنبين ، وان لم يتوبوا تفضلا منه وكرما .. ولكن هذا شيء ، وقبول التوبة عند الموت شيء آخر.

٢٧٤

التوبة والفطرة :

التوبة فرع عن وجود الذنب ، لأنها طلب للصفح عنه .. ولا يخلو الإنسان من ذنب ما كبيرا كان أو صغيرا إلا من عصم الله ، وقد نسب الى الرسول الأعظم (ص) قوله :

ان تغفر اللهم تغفر جما

وأي عبد لك ما ألمّا

وقد أوجب سبحانه التوبة على من أذنب ، تماما كما أوجب الصوم والصلاة ، ومن الآيات الدالة على وجوبها هذه الآية : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ). وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) ـ ٩ التحريم». وقوله : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) ـ ٣ هود». وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ـ ١١ الحجرات».

والحقيقة ان وجوب التوبة لا يحتاج الى دليل ، لأنه من القضايا التي تحمل دليلها معها ، فكل انسان يدرك بفطرته ان على المسيء أن يعتذر عن إساءته ، ويطلب الصفح ممن أساء اليه ، وقد جرى على ذلك عرف الدول والشعوب ، حتى ولو حصل التعدي خطأ ، ومن غير قصد ، فإذا اخترقت طائرة دولة أجواء دولة أخرى ، أو تجاوز زورق من زوارقها المياه الاقليمية ، دون اذن سابق وجب أن تعلن اعتذارها ، والا أدانها العرف والقانون .. اذن ، كل آية أو رواية دلت على وجوب التوبة فهي تقرير وتعبير عن حكم الفطرة ، وليست تأسيسا وتشريعا جديدا لوجوب التوبة.

وعلى هذا فمن أذنب ، ولم يثب فقد أساء مرتين : مرة على فعل الذئب ، ومرة على ترك التوبة ، وأسوأ حالا ممن ترك التوبة من فسخها ، وعاد الى الذنب بعد أن عاهد الله على الوفاء بالطاعة والامتثال ، قال تعالى : (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) ـ ٩٥ المائدة». وفي الحديث : «المقيم على الذنب. وهو مستغفر منه كالمستهزء» .. الله يستهزئ بهم ، ويمدهم في طغيانهم يعمهون.

ويتحقق الذنب بترك ما أمر الله به ، أو فعل ما نهى عنه عن قصد وتصميم .. وبديهة ان أحكام العقل هي أحكام الله بالذات ، لأنه جل وعز يبلغ أحكامه

٢٧٥

بوسيلتين : العقل ، ولسان رسله وأنبيائه .. والنتيجة الحتمية لهذا المبدأ انه لا ذنب ولا عقاب بلا بيان ، على حد تعبير الفقهاء المسلمين ، أو بلا نص على حد تعبير أهل القوانين الوضعية.

إذا تمهد هذا تبين معنا ان الإنسان انما يكون مذنبا وعاصيا إذا فعل ما نهى الله عنه ، أو ترك ما أمر الله به عن تعمد وعلم ، فإذا فعل أو ترك ناسيا ، أو مكرها ، أو جاهلا من غير تقصير وإهمال فلا يعد مذنبا ، وينتفي السبب الموجب للتوبة ، قال : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) أي بعد ذنبه ، لأن كل من أقدم على الذنب فقد ظلم نفسه بتعريضها للحساب والعقاب.

أما تحديد التوبة فهي أن يندم المذنب على ما كان منه ، ويطلب من الله العفو والمغفرة ، ولا يعود إلى الذنب ثانية ، فإن عاد بطلت التوبة ، واحتاج إلى استئنافها بعهد أحكم ، وقلب أسلم ، قال الإمام زين العابدين (ع) : «اللهم ان يكن الندم توبة اليك فأنا أول التائبين ، وان يكن الترك لمعصيتك انابة فأنا أول المنيبين ، وان يكن الاستغفار حطة للذنوب فإني لك من المستغفرين».

والمراد بالاستغفار الاستغفار بالفعل ، لا بالقول ، فيبدأ قبل كل شيء بتأدية حقوق الناس ، ورد ظلامتهم ، فإذا كان قد اغتصب درهما من انسان أعاده اليه ، وان كان قد أساء اليه بقول أو فعل طلب منه السماحة .. ثم يقضي ما فاته من الفرائض ، كالحج والصوم والصلاة ، سمع أمير المؤمنين علي (ع) رجلا يقول : أستغفر الله. فقال الإمام : أتدري ما الاستغفار؟ انه درجة العليين ، وهو واقع على ستة معان .. وذكرها الإمام ، منها العزم على ترك العودة إلى الذنب ، وتأدية الحقوق إلى المخلوقين ، وقضاء الفرائض ، ومتى توافرت هذه العناصر للتائب كان من الذين عناهم الله بقوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ـ ٨٢ طه» أي استمر على الهداية ، وهي الإيمان والعمل الصالح ، وفي الحديث : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له». بل يصبح من المحسنين ، قال تعالى : (تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً). وقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ). وقال الرسول الأعظم (ص) : من رأى انه مسيء فهو محسن.

أما السر لاحسان التائب ، وعظيم منزلته عند الله سبحانه فهو معرفته بنفسه ،

٢٧٦

ومحاسبتها على كل عيب ونقص ، وجهادها على الكمال والطاعة ، هذا الجهاد الذي عبّر عنه رسول الله (ص) بالجهاد الأكبر .. وقديما قال الأنبياء والحكماء : اعرف نفسك. ومرادهم ان يعرف الإنسان ما في نفسه من عيوب ، ويعمل على تطهيرها من كل شائبة.

وقد يقول قائل : ان الإنسان نتيجة لعوامل كثيرة : منها أبواه ومدرسته ، ومجتمعه ومناخه ، وما إلى ذلك مما يؤثر في تكوين شخصيته ، ولا حول معه ولا طول ، وعليه فلا يتصف الإنسان بأنه أذنب وأساء ، لأن الذنب ذنب المجتمع والظروف ، ومتى انتفى الذنب انتفى موضوع التوبة من الأساس؟.

الجواب : صحيح ان محيط الإنسان وظروفه تؤثر به .. ولكن صحيح أيضا ان ذات الإنسان وارادته تؤثر في ظروفه وبيئته ، كما يتأثر هو بها ، لأن لكل من الإنسان وظروفه واقعا ملموسا ، وكل شيء له واقع ملموس لا بد أن يكون له أثر كذلك ، وإلا لم يكن شيئا ، وعلى هذا يستطيع الإنسان أن يؤثر في ظروفه ، بل يستطيع أن يقلبها رأسا على عقب ، إذا كان عبقريا .. والشاهد الحس والوجدان.

ان شأن الظروف التي يعيشها الإنسان أن تبعث في نفسه الميل والرغبة في ثمار الظروف ونتاجها ، وعلى الإنسان أن ينظر ويراقب هذه الثمار ، وتلك الرغبة ، فإن كانت متجهة الى الحسن من الثمار اندفع مع رغبته ، وإلا أوقفها وكبح جماحها .. وليس هذا بالأمر العسير .. ولو لم يكن للإنسان مع ظروفه حول وطول لما اتصف بأنه محسن ، وبأنه سيء ، ولبطل العقاب والثواب ، وسقط المدح والذم ، ولما كان لوجود الأديان والأخلاق والشرائع والقوانين وجه ومبرر.

سؤال ثان : قلت : ان التوبة فرع الذنب ، مع العلم بأن الأنبياء والأئمة كانوا يتوبون الى الله ، وهم مبرو أن عن العيوب والذنوب.

الجواب : ان الأنبياء والأئمة مطهرون من الدنس والمعاصي ، ما في ذلك ريب .. ولكنهم كانوا لمعرفتهم بالله ، وشدة خوفهم منه يتصورون أنفسهم مذنبين ، فيتوبون من ذنب وهمي لا وجود له .. وهذا مظهر وأثر من آثار عصمتهم وعلو مكانتهم .. لأن العظيم من لا يرى نفسه عظيما ، بل لا يراها

٢٧٧

شيئا مذكورا في جنب الله ، ويتهمها دائما بالتقصير في طاعته وعباده ، ومن أجل هذا يسأله العفو ، ويستعين به على حسن العاقبة ، على العكس من (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ـ ١٠٥ الكهف».

وخير ما قرأته في هذا الباب قطعة من مناجاة الإمام زين العابدين (ع) ، يطلب فيها من الله أن يسخر له عبدا من عباده الصالحين مستجاب الدعوة لديه تعالى .. كي يرى هذا العبد سوء حال الإمام من شدة خوفه من الله ، فيتأثر ، وتأخذه الرقة على الإمام ، ويتوسل إلى الخالق الجليل ان يرفق بالإمام ، فيسمع الله دعوة هذا العبد الصالح ، وينجو الإمام من غضب الله وسخطه ، ويفوز برضاه ومغفرته ، وهذا ما قاله الإمام بالحرف : «فلعل بعضهم برحمتك يرحمني لسوء موقفي ، وتدركه الرقة عليّ لسوء حالي ، فينالني منه بدعوة هي أسمع لديك من دعائي ، أو شفاعة أوكد عندك من شفاعتي تكون بها نجاتي من غضبك ، وفوزي برضاك».

قال الإمام زين العابدين ، وسيد الساجدين مخاطبا ربه : (لعل بعضهم أوكد عندك من شفاعتي تكون بدعوته نجاتي) قال هذا يوم لا أحد على وجه الأرض يدانيه في فضيلة واحدة من فضائله الجلى .. وهنا يكمن سر الجلال والعظمة والكمال.

وبعد ، فإن التوبة متشعبة الأطراف ، وتتسع لكتاب مستقل ، وقد نعود إلى الكلام عنها في مناسبة ثانية.

وعاشروهن بالمعروف الآة ١٩ ـ ٢١ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ

٢٧٨

خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١))

اللغة :

العضل التضييق والشدة ، ومنه الداء العضال. والمراد بالفاحشة هنا الزنا. والبهتان الكذب الذي يترك المفترى عليه في دهشة وحيرة ، لانقطاع حجته ضد الكاذب المكابر. والإفضاء إلى شيء الوصول اليه بالملامسة ، مأخوذ من الفضاء ، وهو السعة ، فكأنّ الزوج حين يباشر زوجته وسعها ووسعته إلى الحد الذي ليس بعده شيء. والميثاق الغليظ العهد المؤكد.

الاعراب :

المصدر المنسبك من أن ترثوا في موضع رفع فاعلا ليحل ، أي لا يحل لكم ارث النساء. وكرها مصدر في موضع الحال ، أي كارهات. ولا تعضلوهن يجوز أن يكون محله النصب عطفا على ترثوا ، أي لا يحل لكم أن ترثوا ولا ان تعضلوا ، ويجوز أن يكون محله الجزم على النهي. والمصدر المنسبك من أن يأتين في محل نصب على الحال ، أي آتيات بفاحشة. وبهتانا وإثما مصدران في موضع الحال ، أي باهتين آثمين عيانا ، ويجوز أن يكونا مفعولا لأجله.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً). ظاهر الآية

٢٧٩

النهي عن معاملة المرأة معاملة البهائم ، وأخذها على سبيل الميراث ، كما كان عليه أهل الجاهلية .. فلقد كانوا يحسبون زوجة الميت من جملة ما يتركه من ميراث ، فإذا مات جاء وليه ـ على ما يروى ـ وألقى عليها ثوبا ، وحازها بذلك كما يجوز السلب والغنيمة ، فإن شاء تزوجها ، وان شاء زوّجها من غيره ، وقبض المهر ، تماما كما يبيع السلعة ، ويقبض ثمنها ، وان شاء أمسكها في البيت ، وضيّق عليها ، حتى تفتدي نفسها بما يرضيه.

وقيل : ان ظاهر الآية غير مراد ، وان هناك مضافا محذوفا ، تقديره لا يحل لكم أن ترثوا أموال النساء كرها ، ومثال الإرث كرها أن تكون المرأة في ولاية قريب لها ، كالأخ ـ مثلا ـ وهي تملك شيئا من المال ، فيمنعها أخوها من الزواج طمعا في ميراثها ، لأنها ان تزوجت ورثها زوجها وأولادها دونه ، فأمر الإسلام بإعطاء الحرية للمرأة في الزواج ، ونهى عن منعها منه بصيغة النهي عن إرثها كرها ، لأن الإرث هو المقصود والغاية ، والمنع عن الزواج وسيلة له.

ونحن لا نرى حرجا على من يختار التفسير الأول ، أو الثاني ، أو هما معا ، ما دام الإسلام ينهى عن معاملة المرأة معاملة المتروكات ، ويعطي الحرية للمرأة في الزواج واختيار الزوج.

(وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ). كما لا يجوز للزوج أن يملك المرأة كالبهيمة ، أو يمنعها من الزواج ، كذلك لا يحل للزوج أن يسيء الى زوجته بقصد أن تبذل له صداقها ، لتفتدي نفسها منه ، ومن سوء معاملته ، فإذا بذلت ، والحال هذه ، وأخذ منه المال فهو آثم ، إذ لا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفس.

أجل ، إذا تبين انها اقترفت فاحشة الزنا جاز له ، والحال هذه ، أن يضيق عليها ويسيء معاملتها ، حتى تعطيه ما يرضيه ، لقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ). المراد بالفاحشة الزنا ، ومبينة ، أي ثابتة. وقال جماعة : ان الفاحشة تشمل النشوز أيضا ، ونقل صاحب البحر المحيط المالكي عن مالك ان للزوج أن يعضل زوجته الناشز ، ويأخذ منها جميع ما تملكه. وقال الشيخ محمد عبده : الفاحشة تشمل الزنا والنشوز والسرقة وغيرها من المحرمات.

٢٨٠