التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

سورة النّساء

مدنية ، وآياتها ١٧٦ ، نزلت بعد الممتحنة ، ونقل صاحب مجمع البيان قولا ان فيها آيتين نزلتا بمكة ، وهما : الآية ان الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات الخ. والآية : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ). وسميت سورة النساء ، لأنها افتتحت بذكرهن ، وفيها أحكام كثيرة تتعلق بهن.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

خلقكم من نفس واحدة الآة ١ :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١))

اللغة :

الزوج يطلق على كل واحد معه آخر من جنسه ، فالمرأة المتزوجة زوج ، والرجل المتزوج زوج ، وهما زوجان والبث النشر ، ومنه قولهم : كالفراش المبثوث.

٢٤١

الإعراب :

الأرحام منصوب عطفا على لفظ الجلالة ، أي اتقوا الله ، وقطع الأرحام.

المعنى :

في هذه الآية أمور نبينها فيما يلي :

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ). قيل : يا أيها الناس خطاب لأهل مكة. والصحيح انه عام لجميع المكلفين ، لأن ظاهر اللفظ يشمل الكل ، ولا دليل على التخصيص ، بل الأمر بالتقوى يؤكد الشمول والعموم ، لأن وجوب اتقاء المعاصي لا يختص بفئة دون فئة.

٢ ـ (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ). نقل صاحب تفسير المنار عن استاذه الشيخ محمد عبده ان الله تعالى «قد أبهم أمر النفس التي خلق الناس منها ، وجاء بها نكرة ، فندعها نحن على إبهامها .. وما ورد في آيات أخرى من مخاطبة الناس بقوله : (يا بَنِي آدَمَ) لا ينافي هذا ـ أي لا يرفع الإبهام ـ ولا يعد نصا قاطعا في كون جميع البشر من أبناء آدم ، إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجّه اليهم الخطاب في زمن التنزيل هم من أولاد آدم ، وقد تقدم في تفسير قصة آدم في أوائل سورة البقرة انه كان في الأرض قبله نوع من هذا الجنس فسدوا فيها ، وسفكوا الدماء».

ويتلخص ما أراده الشيخ عبده ان القرآن لا يثبت ولا ينفي ان آدم أب لجميع البشر ، بل من الجائز أن يكون للبشر العديد من الآباء ، وآدم واحد منهم ، أما قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ) فإنه ان دل على شيء فإنما يدل على ان الذين خوطبوا بذلك في عهد محمد (ص) كانوا أولادا لآدم ، ولا يدل على ان كل من كان ويكون من البشر هو من نسل آدم ، بل يجوز أن يكون له أب غير آدم. هذا ملخص ما أراده الشيخ.

ونجيبه أولا بأن الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة لا تختص بمن وجد حال الخطاب ، بل تشمل كل من وجد ويوجد إلى آخر يوم ، لأنها من القضايا

٢٤٢

التشريعية التي تعم الحاضرين والغائبين من وجد منهم ومن يوجد من غير تفاوت ، تماما مثل من بلغ عشرين عاما فعليه كذا ، ومن هذا الباب قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) ـ ٦٠ يس». فإنه موجه لجميع الناس دون استثناء ، سواء أكانوا في زمن الخطاب ، أم لم يكونوا.

ثانيا : ان الأوامر والنواهي في الكتاب والسنة التي خوطب بها بنو آدم ، لو كانت موجهة لخصوص من كانوا في عهد الرسول (ص) لما كنا نحن مكلفين بها ، ولما صح لنا الاستدلال بشيء منها على حكم من أحكام الله ، مع ان جميع المسلمين ، ومنهم الشيخ عبده يحتجون بالقرآن وسنة الرسول (ص) ، بل هما المصدر الأول للعقيدة والشريعة الإسلامية بضرورة الدين.

وإذا كان التكليف الموجه لبني آدم شاملا لجميع البشر فالجميع يكونون ، والحال هذه ، نسلا لآدم دون استثناء ، وعليه تكون الآية ٦٠ من يس ، والآية ٢٧ من الأعراف : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ). والآية ١٧١ من الأعراف : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ). والآية ٧٠ من الاسراء : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ، تكون هذه الآيات بيانا وتفسيرا للنفس الواحدة في قوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وان المراد منها هو أبونا آدم دون لبس واشتباه بغيره.

أما قول الشيخ محمد عبده : كان قبل آدم نوع من هذا الجنس فأجبنيّ عما نحن فيه ، لأن الكلام في الجنس الباقي ، لا في الجنس البائد.

هذا ، إلى ان الله سبحانه خاطبنا بقوله : (يا بَنِي آدَمَ) وأيضا خاطبنا بقوله : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) ـ ٥ الحج). وأيضا قال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) فإذا عطفنا هذه الآيات بعضها على بعض تكون النتيجة : «كلكم لآدم ، وآدم من تراب» كما جاء في الحديث الشريف.

ثالثا : لقد ثبت عن رسول الله (ص) انه قال : أنا سيد ولد آدم. فهل لمسلم ـ السؤال موجه للشيخ عبده ـ أن يظن أو يحتمل ان الرسول (ص) أراد نوعا خاصا من البشر ، لا كل البشر؟.

٢٤٣

٣ ـ (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها). قيل : ان من في (منها) للتبعيض ، وان المراد بزوجها حواء ، وان الله تعالى خلقها من ضلع آدم ، وقيل : بل خلقها من فضل طينته كما في بعض الروايات.

ويلاحظ بأنه لا دليل على ان من في (منها) للتبعيض ، بل يجوز أن تكون للبيان ، مثل قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) ـ ٢٠ الروم» ، وعليه يكون المعنى ان كلا من النفس الواحدة وزوجها خلق من أصل واحد ، وهذا الأصل هو التراب ، لقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) ـ ١٩ الروم».

أما قول من قال : ان المراد بزوجها حواء فلا دليل عليه من القرآن ، حيث لم يرد لها ذكر فيه على الإطلاق.

٤ ـ (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً). أي ونساء كثيرا ، فحذف الوصف من الثاني لدلالة الأول عليه ، ومن الطريف قول الرازي : ان وصف الرجال بالكثير ، دون النساء للتنبيه على ان اللائق بحال الرجال الاشتهار والبروز ، واللائق بحال النساء الخفاء والخمول ..

وان دل هذا التعليل على شيء فإنما يدل على ان الرازي حكم على طبيعة المرأة بما تستدعيه تقاليد المجتمع الذي تعيش فيه .. وبديهة ان هذه التقاليد تتغير وتتحول بحسب مقتضيات الزمن ، فمن الخطأ أن نأخذ منها مقياسا عاما ، وقاعدة مطردة.

ومهما يكن ، فإن المعنى واضح ، وهو ان البشر متوالد من زوجين ذكر وأنثى ، ومنهما انتشرت الملايين جيلا بعد جيل ، ويقال : ان في العالم الآن ما يزيد على ثلاثة آلاف من الملايين.

٥ ـ (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ). هذا اشارة ما يقوله بعضنا إلى بعض : سألتك بالله أن تفعل كذا. أو سألتك بالرحم أن تفعل كذا. أي سألتك بحق الله العظيم عليك ، وحق الرحم العزيز عليك ، والغرض من الأمر بتقوى الله والرحم أن نؤدي ما لهما علينا من حق ، فالآية أشبه بقوله تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) ـ ١٤ لقمان».

٢٤٤

والخلاصة ان الله سبحانه أمرنا في هذه الآية أن نتقي غضبه وعذابه ، وان نحسن إلى الأرحام ، وان لا يعلو بعضنا على بعض ، ولا يظلم أحد أحدا ، لأن الجميع من أصل واحد ، وختم ذلك بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً). وهو تهديد ووعيد لمن عصى وتمرد.

أموال اليتامى الآة ٢ :

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢))

اللغة :

المراد بالخبيث هنا الحرام ، وبالطيب الحلال. والحوب الذنب والإثم.

الإعراب :

الباء في (بالطيب) للبدلية ، وتدخل على المبدل منه ، وهو خير من البدل في مقام النهي ، كما في هذه الآية ، وفي قوله تعالى : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ). وقوله : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ). أما في غير النهي مثل بدّلت هذا بهذا فليس بشرط أن يكون المبدل منه أفضل ـ على ما نرى ـ والضمير في (انه) يعود إلى الأكل ، وهو مصدر متصيد من لا تأكلوا.

٢٤٥

المعنى :

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ). لا بد لليتيم من عاقل أمين يرعاه في تربيته ، ويدبر أمواله لمصلحته إلى أن يصبح أهلا للاستقلال في نفسه ، ومعرفة ما يصلحها ويفسدها ، وهذه الآية تتعلق بأموال الأيتام ، فتأمر أوصياءهم أن يحافظوا عليها ، ولا يتعرضوا لها بسوء ، وأن يوصلوها اليهم بالإنفاق عليهم ما داموا صغارا ، ويسلموها لهم عند البلوغ والاستقلال.

(وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ). المراد بالخبيث هنا المال الحرام ، وبالطيب المال الحلال ، والمعنى لا تأكلوا وتتمتعوا بأموال اليتيم ، وتحتفظوا بأموالكم ، وإذا فعلتم ذلك فقد استبدلتم الخبيث الذي حرمه عليكم من أموال اليتامى بالطيب الذي أحله الله لكم من أموالكم .. فهو نظير قوله تعالى : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) ـ ٦١ البقرة).

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً). المراد بلا تأكلوا هنا لا تتصرفوا ، والمعنى لا تتسلطوا على أموال اليتامى بالأكل والانتفاع ، كما تفعلون في أموالكم ، لأن مهمتكم تنحصر في حدود صيانتها ، واستثمارها لصالح الأيتام ، فإذا تجاوزتم هذه الحدود كنتم آثمين مجرمين.

وان خفتم الا تعدوا فواحدة الآة ٣ ـ ٤ :

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))

٢٤٦

اللغة :

القسط فعله قسط ، ومعناه الجور ، ومنه قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً). والاقساط فعله أقسط ومعناه العدل ، وهو المراد هنا. وان لا تعولوا تأتي بمعنى لا تميلوا ، يقال : عال الميزان إذا مال ، وعال الحاكم إذا جار ، وتأتي بمعنى أعال الرجل إذا كثر عياله. والنحلة لغة العطية ، ولكن المراد بها هنا الفريضة بالنظر إلى انه تعالى أوجبها على الزوج. وهنأ الطعام ومرأ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه.

الإعراب :

ما في قوله تعالى (ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) اسم موصول ، والمراد بها النساء بالذات ، كما هو صريح الآية ، وقد حار المفسرون في معناها ، فمنهم من فسرها بجنس النسوة ، ومنهم بوصفهن ، ومنهم بالشيء ، والسر لحيرتهم قول النحاة : ان ما للذي لا يعقل ، ومن للذي يعقل ، وبديهة ان القرآن حجة على النحاة ، وليسوا هم حجة على القرآن ، وأطلق القرآن لفظة ما على من يعقل في كثير من الآيات ، من ذلك : (وَالسَّماءِ وَما بَناها). (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ). (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). كما أطلق من على الذي لا يعقل : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ).

أجل ، الأغلب أن تطلق ما على الذي لا يعقل ، ومن على الذي يعقل. ولكن الأغلب شيء ، وعدم الجواز إطلاقا شيء آخر. ومثنى وثلاث ورباع حال من فاعل طاب ، وهذه الألفاظ معدولة عن أعداد مكررة ، وهي اثنين اثنين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ، ولم يسمع فيما زاد على هذه الأعداد مثل خماس ومخمس. والمعنى المراد بلحاظ العطف بالواو لا بأو هو ان لكل واحد ان يختار أي عدد شاء من هذه الأعداد المذكورة ، ولو كان العطف بأو لكان المعنى ان للبعض ان يختار اثنتين لا أكثر ، وللآخر أن يختار ثلاثا فقط ، ولثالث أن يختار أربعا. وواحدة بالنصب مفعول لفعل محذوف ، أي فاختاروا واحدة.

٢٤٧

ونحلة منصوب على المصدر ، ويجوز أن تكون حالا من الصدقات ، أي حال كونها نحلة. والضمير في منه يعود إلى الصدقات بالنظر إلى المعنى ، لأن معناها المهر. ونفسا تمييز. وهنيئا مريئا صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي أكلا هنيئا مريئا.

المعنى :

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ). ان مبدأ تعدد الزوجات الى أربع مبدأ مقرر في الشريعة بحكم الكتاب والسنة ، والإجماع قولا وعملا ، بل هذا المبدأ معلوم بضرورة الدين ، ولكنه غير مباح اباحة مطلقة ، بل مقيد بشرط يبرره بضرورة الدين أيضا.

وهنا سؤال يفرض نفسه ، وهو إن المعنى الظاهر من هذه الآية ان من خاف منكم ان لا يعدل في اليتامى فليتزوج اثنتين وثلاثا وأربعا ، ومتى فعل ذلك لا يبقى ظلم ولا جور .. وليس من شك ان هذا المعنى لو كان مرادا لكان أشبه بالهذيان ، إذ لا ربط بين فعل الشرط وجوابه .. حاشا القرآن الكريم الذي فصلت آياته من لدن عليم حكيم؟!.

والجواب عن هذا السؤال واضح وبسيط ، ولكن اختلاف أجوبة المفسرين وتضاربها ترك القارئ في حيرة لا يهتدي الى شيء .. ويتلخص الجواب بأن الكلام منذ بدايته موجه الى أوصياء اليتامى ، وهم المقصودون بالخطاب في قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ). (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ). (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ). وبعد هذه الخطابات المتعلقة بأموال اليتامى خاطب الله سبحانه الأوصياء بخطاب آخر يتعلق بنكاح اليتيمات ، وهو (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) الخ أي في نكاح اليتامى ، فحذف لفظ نكاح لدلالة فانكحوا عليه ، من باب حذف الأول لدلالة الثاني ، على حد تعبير النحاة ، ويكون تقدير الكلام هكذا : هذا فيما يعود إلى أموال اليتامى ، أما فيما يعود إلى نكاح الإناث منهم فعليكم أيها الأوصياء ان تزوجتم بهن ان لا تقصروا في حقوقهن ، وان خفتم التقصير وعدم العدل في معاملتهن بالنظر الى انهن وحيدات لا أحد يدافع عنهن فاتركوهن ،

٢٤٨

وتزوجوا من غيرهن فقد جعل الله لكم مندوحة عن اليتيمات بما أباحه لكم من التزويج بغيرهن واحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا .. ولكن أيضا على أساس العدل ، فإن خفتم أن لا تعدلوا مع التعدد فاقتصروا على الواحدة ، وبهذا يتم الربط بين فعل الشرط وجوابه ، تماما كما تقول لجليسك : إذا كنت لا تأكل من هذا الصنف لأنك تكثر منه ، وتخاف من داء التخمة فكل من الأصناف الأخر ، ولكن على أساس عدم الإكثار منها ، والا وقعت في المحذور نفسه. وكل كلمة قدرناها لهذا المعنى الذي ذكرناه فإن السياق يدل عليها ، والمألوف من طريقة القرآن انه يوجز الكلام الى أقصى حد ، ويحذف منه كل ما يمكن أن يستحضره السامع والقارئ من الاشارة والإيماء ، وان دلت حيرة المفسرين على شيء فإنما تدل على ان هذه الآية هي أبلغ آية في الإيجاز.

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً). المراد بالعدل التسوية في الملبس والمسكن ونحو ذلك مما يدخل تحت طاقة الإنسان ، أما ما لا يدخل في وسعه من ميل القلب الى واحدة دون أخرى فلا يكلف الإنسان بالعدل فيه ، وبهذا نجد الفرق بين قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) وبين قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) ـ ١٢٨ النساء). فالمراد بالعدل الأول التسوية في الإنفاق ، وبالعدل الثاني ميل القلب.

وتسأل : ان الله سبحانه قد أوجب الاقتصار على الواحدة مع خوف الرجل من الجور إذا عدد .. وبديهة ان الخوف حالة نفسية ذاتية تخطئ أكثر مما تصيب ، وقد شاهدنا الكثير من الرجال تطغى عليهم شهواتهم ورغبتهم في تعدد الزوجات ، فتعميهم عن تقدير ظروفهم ، وتدبر قدرتهم ، وعلى هذا لا يكون للشرط مقياس صحيح ، وضابط مطرد؟.

الجواب : ان هذا الاشكال لا مفر منه ، إذا أردنا من الخوف الحالة النفسية ، أما إذا أردنا منه ظروف الرجل المادية والصحية ، وانها تتحمل أكثر من زوجة واحدة ، أما إذا أردنا هذا فالسؤال غير وارد من الأساس ، لأن الأشياء المحسوسة يمكن ضبطها بسهولة .. ولا شيء في الشريعة الإسلامية يمنع أن يعهد بتقدير ظروف الرجل الذي يريد التعدد الى هيئة خاصة ، كما هي الحال الآن في بعض الأقطار الإسلامية.

٢٤٩

(ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا). أي ان الاقتصار على الواحدة اقرب الى العدل ، وأبعد عن الجور والظلم ، وفي هذا إيماء الى ان على الرجل أن يكتفي بواحدة ، لأن في التعدد مفاسد .. وجاء في تفسير البيضاوي ان البعض فسر لا (تَعُولُوا) بكثرة العيال من عال الرجل إذا كثر عياله ، وعلى هذا يكون معنى الآية ان الأفضل ان لا يعدد الرجل زوجاته ، كيلا يتحمل من أجلهن وأجل أولادهن المشاق والمتاعب ، وقال صاحب المنار : «هذا هو الأرجح» .. وقال الإمام علي (ع) : قلة العيال احدى اليسارين.

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً). الصدقات المهور ، والمراد بالنحلة هنا العطية التي فرضها الله على الزوج ، والمعنى اعطوا النساء مهورهن ، لأن الله سبحانه قد فرضها عليكم أيها الأزواج عطية منه للزوجات ، لا عوضا عن الاستمتاع ، لأنه مشترك بين الزوجين.

(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً). تملك الزوجة المهر ، وتتسلط عليه تسلط المالك على أملاكه ، ولا يجوز معارضتها فيه ، زوجا كان أو أجنبيا. (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً). إلا إذا أذنت ورخصت ، تماما كغيرها من الملاك.

تعدد الزوجات :

شرع الإسلام تعدد الزوجات ، على شرط ، ما في ذلك ريب .. وليس هذا المبدأ من حيث هو محلا للنظر والاجتهاد ، ولكن باب النظر والاجتهاد مفتوح في تفسير الشرط المبرر للتعدد ، فللمجتهد أن يقول : ان المراد من الخوف مجرد توقع الرجل أن يجور ولا يعدل بين الزوجات ، وعليه ينسد باب التعدد إلا فيما ندر ، لأن هذا التوقع قائم بالنسبة إلى الأكثرية الغالبة .. ويؤكده ما نراه من الفساد في أكثر البيوتات التي فيها أكثر من زوجة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أي الاقتصار على الواحدة أقرب إلى العدل ، وأبعد عن الجور ، إذن ، فتعليق جواز

٢٥٠

التعدد على الأمن من الجور والفساد أشبه بالتعليق على المحال بالنسبة إلى الأعم الأغلب.

والغريب ان الذين يتوقع منهم العدل بين الزوجات ، وتساعدهم الظروف المادية والصحية ـ يحجمون عن التعدد ، ويهابونه على الرغم من رغبتهم فيه ، وميلهم اليه ، أما الذين لا يتوقع العدل منهم بحال ، ويفسدون المجتمع بنسلهم وتعدد زوجاتهم ، أما هؤلاء فيقدمون على تعدد الزوجات بكل جرأة .. ومن المؤسف ان علماء الدين وقادته يجرون عقود الزواج لهؤلاء ، بلا توقف ، ودون سؤال وجواب ، حتى كأن التعدد مباح اباحة مطلقة دون قيد أو شرط.

وبعد ، فإن تعدد الزوجات ليس من الواجبات ولا المستحبات في الشريعة الإسلامية ، وإنما شرعه الإسلام ضمن نطاق خاص ، ولمصلحة خاصة ، ولكن أعداء الدين اتخذوا من عمل الذواقين الذين لم يراعوا الشرط المبرر ، اتخذوا منه وسيلة للطعن والتشهير برسالة الإسلام وصاحبها ، كما هو شأنهم وديدنهم في الاحتجاج بعمل الأفراد على الدين والعقيدة ، ولو أنصفوا لعكسوا ، واحتجوا بالدين على الأفراد والأتباع.

وإذ اشترط الإسلام على الرجل أن لا يتزوج باثنتين إلا مع أمنه من الفساد والجوار فإن بعض النساء في بلاد أوروبا وأمريكا تتصل أحيانا ـ وربما على علم من زوجها ـ بمن تشاء من الرجال ـ دون قيد أو شرط .. ان صح أخذ القيد والشرط في مثل ذلك .. وفوق هذا أقر مجلس العموم البريطاني في العام الماضي شرعية اللواط ، ووافقت عليه بعض المراجع الدينية ، وعمت البلاد الفرحة لهذه البادرة «الطيبة» والسبق في ميدان الحضارة والانسانية والتشريع الحديث.

ومن غرائب نظم الزواج ان في جنوب الهند ، وعلى حدوده الشمالية يباح للمرأة أن تتزوج بأكثر من رجل ، ولا يزال هذا النظام متبعا حتى اليوم.

٢٥١

ولا تؤتو السفها أموالكم الآة ٥ ـ ٦ :

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))

اللغة :

السفهاء جمع سفيه ، وهو المبذر الذي ينفق المال في غير وجهه. والمراد بالقيام هنا قوام الشيء وعماده. والابتلاء الاختبار. والإيناس الأبصار ، مأخوذ من انسان العين ، أي حدقتها التي تبصر بها ، ومنه قوله تعالى : (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) والمراد بالرشد هنا التصرف في المال فيما ينبغي على العكس من معنى السفه. والإسراف مجاوزة الحد في التصرف في المال ، والسرف الخطأ ، قال الشاعر : «ما في عطائهم من ولا سرف». أي يصيبون في عطائهم من هو أهل له. والبدار المبادرة والمسارعة. والحسيب الرقيب.

الإعراب :

التي عطف بيان من الأموال ، لفظها مفرد ، ومعناها الجمع ، وعن الفراء

٢٥٢

أن العرب يقولون : في النساء اللاتي أكثر من التي ، وفي الأموال التي أكثر من اللاتي ، وكلاهما في كلتيهما جائز. وقياما مفعول جعل. وإسرافا وبدارا نصب على انهما حال ، أي مسرفين ومبادرين ، أو مفعول من أجله. والمصدر المنسبك من أن يكبروا مفعول بدارا. وبالمعروف متعلق بيأكل ، وقيل بمحذوف حال. وبالله الباء مزيدة. ولفظ الجلالة فاعل ، وحسيبا حال أو تمييز.

المعنى :

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ). قيل : هذا خطاب موجه لكل من في يده مال ، وانه مأمور ان لا يمكّن منه من يصرفه في غير وجهه ، ويضعه في غير محله ، سواء أكان المبذر ولدا أو زوجة لمن في يده المال ، أو داخلا في وصايته ، أو أجنبيا عنه. وقيل : بل الخطاب موجه للآباء فقط ، وان الله سبحانه نهاهم ان يعمدوا الى ما خوّله لهم من مال ، فيملكونه أولادهم العاقين ، وعند الشيخوخة ينظرون اليها بحسرة وندامة لحاجتهم اليها ، وعقوق أولادهم السفهاء.

والصحيح ان الخطاب موجه لخصوص الأولياء ، والمعنى يا أيها الأولياء لا تسلطوا السفهاء الذين تحت ولايتكم على أموالهم .. ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) فإنه خطاب لخصوص الأولياء .. هذا ، الى أن الآيات السابقة خطاب لهم خاصة ، فيحسن تعلق هذه بتلك.

والسفيه هو المبذر الذي يسيء التصرف في المال ، فيمنع من التصرف فيه الا إذا اذن له الولي ، وله تمام الحرية في التصرفات التي لا تتصل بالمال من قريب أو بعيد. وتكلمنا عن أحكام السفيه مفصلا في الجزء الخامس من فقه الإمام جعفر الصادق : باب الحجر.

ونقول : لو كان الخطاب موجها لخصوص الأولياء الناظرين في أموال السفهاء لوجب ان يقول أموالهم ، لا أموالكم؟.

٢٥٣

الجواب : ان الله سبحانه أضاف أموال السفهاء إلى الأولياء بالنظر إلى انها تحت ولايتهم ، ومعلوم ان الاضافة تصح لأدنى مناسبة.

الايمان بالله ومشكلة العيش :

(أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً). قال الرازي : «معناه انه لا يحصل قيامكم ومعاشكم إلا بالمال ، فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه الله بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب» يريد بالسبب المال ، وبالمسبب المعاش.

ومن تتبع الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية يجد ان الإسلام قد أولى المال وتوجيهه لتحسين المعاش عناية كبرى ، بل ساوى بينه وبين النفس في العديد من الآيات ، منها قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ـ ١١١ التوبة» .. فالله سبحانه يبيع جنته بالمال الذي ينفق في سبيله ، تماما كالتاجر يبيع سلعته بالمال الذي ينفق لمصلحته. ومنها قوله جل وعلا : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ـ ٩٤ النساء». وفي الحديث : «ان دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم». ومن هنا قال الفقهاء : الأصل في كل شيء الحل إلا في الدماء والفروج والأموال ، فإن الأصل فيها التحريم.

وأطلق القرآن لفظ الخير على المال في كثير من الآيات ، منها : «وانه لحب الخير لشديد» بل قال بعض المفسرين : ان لفظ الخير لم يطلق في القرآن إلا على المال .. ونحن لا نوافق على هذا الرأي ، ولكنا نعلم بأن أكثر الآيات التي أمرت بالعمل الصالح ، والتعاون على الخير ، وإعداد العدة لأعداء الدين والوطن ـ لا يمكن امتثالها والعمل بها إلا بالمال.

وقد نهى الإسلام عن كنز المال ، وهدد الذين يكنزونه بالعذاب الأليم ، كما نهى عن الإسراف والتبذير ، واعتبر المبذرين اخوان الشياطين ، لأن كلا من التجميد والتبذير يعوق الحياة عن النمو والانتاج الذي ينفع الناس ، وأمر بالاقتصاد ، والرفق في صرف المال وإنفاقه. قال الرسول الأعظم (ص) : إذا أراد

٢٥٤

الله لأهل بيت خيرا رزقهم الرفق في المعيشة ، وحسن الخلق. وقال الإمام علي (ع) : لا يذوق المرء حقيقة الايمان ، حتى يكون فيه ثلاث خصال : الفقه في الدين ، والصبر على المصائب ، وحسن التقدير في المعاش.

لقد ربط الإمام بين حقيقة الايمان ، وحل مشكلة العيش في هذه الأرض ، لأن حسن التقدير في المعاش معناه إتقان العمل ، وصرف الانتاج في وجهه النافع .. وهذا دليل قاطع على ان الدين لا ينفصل عن الحياة ، وانه شرع من أجل حياة لا إشكال فيها ولا تعقيد .. ومن فصل الدين عن الحياة ، ونظر اليه على انه مجرد طقوس وشعارات ، وزهد ومغيبات فهو اما جاهل أخذ الدين ممن يتكسبون به ، واما معاند للحق والبديهة.

وعند تفسير الآية ١٨٢ من سورة آل عمران ، فقرة : «الغني وكيل لا أصيل» ذكرنا ان المال كله لله ، وان الإنسان مأذون بالتصرف فيه ضمن حدود خاصة ، فإذا تجاوزها كان من الغاصبين ، فارجع اليه فإنه يتصل بهذا الموضوع ، وقد نعود اليه مرة أخرى إذا عرضت آية تتعلق به ، ونأتي بما يتمم أو يوضح ما ذكرناه هنا وهناك .. فإن الفكر لا يحيط بالشيء من جميع جهاته ، بخاصة إذا كان مثل موضوع الايمان والعيش ، وإنما يتجه الفكر بكله إلى جهة من الجهات حين تومئ اليها آية أو رواية أو حادثة من الحوادث.

(وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ). الخطاب لأولياء السفهاء ، والمراد به أن ينفق الأولياء على السفهاء كل ما يحتاجون اليه من مأكل وملبس ومسكن وتعليم وزواج ، وما إلى ذلك.

وتسأل : لما ذا قال فيها ، ولم يقل منها؟.

الجواب : لو قال (منها) لكان المعنى ان يأكل السفيه من أصل ماله ، فينقص المال بذلك ، وربما استهلكه كله ان طال المدى ، أما في فإنها ظرف ، ويكون المعنى ان المال يكون محلا للرزق ، وذلك أن يتجر به الولي ، ويستثمره ، وينفق على السفيه من الناتج ، لا من أصل المال.

سؤال ثان : لما ذا خص الكسوة بالذكر ، مع العلم بأن رزقهم يشمل الكسوة؟

٢٥٥

الجواب : خص الكسوة للاهتمام بها .. فربما توهم الولي ان المهم هو المأكل ، أما الملبس فلا بأس بالتساهل فيه ، فدفع الله سبحانه هذا الوهم بذكر الكسوة صراحة.

والولاية على السفيه تكون للأب والجد له إذا بلغ الصبي سفيها ، بحيث يتصل السفه بالصغر ، أما إذا بلغ رشيدا ، ثم عرض له السفه بعد الرشد تكون الولاية للحاكم الشرعي ، دون الأب والجد.

(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً). قد يرى بعض الأولياء ان على المولى عليه أن يسمع له ويطيع ، تماما كما هو شأن الولد مع والده ، فنبه سبحانه بقوله هذا كي يتلطف كل ولي بمن هو في ولايته ، ويعامله معاملة يرضاها ، وتطيب نفسه لها.

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ). دلت هذه الآية على ان المال لا يعطى للصغير ، حتى يحصل له وصفان : البلوغ والرشد ، وقد أجمعت المذاهب الإسلامية على ان الاحتلام يدل على البلوغ ، سواء أحصل من الذكر ، أم الأنثى في أية سن ، وفي أية حال حصل في اليقظة ، أم في المنام ، واستدلوا بهذه الآية (وَابْتَلُوا الْيَتامى) وبقوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) ـ ٥٩ النور» .. وثبت عن الرسول الأعظم (ص) انه قال : «رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ .. وقال : لا يتم بعد احتلام.

أما الرشد فيثبت بإعطاء اليتيم شيئا من ماله ، يتصرف فيه ، فإن أحسن وأصاب كان راشدا ، وسلّم ماله اليه ، والا استمر الحجر عليه ، حتى ولو بلغ المائة عملا بظاهر الآية ، وقال ابو حنيفة : يسلم المال للسفيه بعد بلوغه ٢٥ عاما (وان لم يكن رشيدا) ـ حاشية ابن عابدين ج ٥ باب الحجر.

(وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً). أي لا تتجاوزوا أيها الأولياء في أكلكم من مال القاصر الحد المباح لكم ، لأن الولي يجوز له أن يأكل من مال القاصر ، شريطة أن يكون فقيرا. كما يأتي.

٢٥٦

(وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا). قد يبادر الولي ، ويستعجل ببعض التصرفات في أموال اليتيم مخافة أن يكبر ، وينتزع أمواله من الولي ، فنهى الله سبحانه عن مثل هذا التصرف الذي تعود فائدته على الولي ، لا على القاصر ، ونبه إلى تحريمه وخطره.

(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ). لا يخلو الولي أن يكون واحدا من اثنين : إما غنيا ، وإما فقيرا ، فإن كان غنيا فعليه أن ينتزه عن أكل مال اليتيم ، ويقنع بما آتاه الله من الغنى والرزق ، وان كان فقيرا جاز له أن يتناول منه بقدر حاجته الضرورية على أن لا يتجاوز ما يستحقه من أجر على خدمته ، وفي الحديث ان رجلا سأل النبي (ص) عن يتيم في حجره : هل يأكل من ماله؟ قال له : كل بالمعروف. وقيل : يأكل على سبيل القرض .. وظاهر الحديث يدحض هذا القول.

(فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً). قال الإمامية والحنفية : لا يجب على الولي أن يشهد على تسليم المال للقاصر بعد بلوغه ورشده ، وحملوا الأمر بالإشهاد في هذه الآية على الاستحباب دون الوجوب نفيا للتهمة ، وتجنبا للخصومة.

وقال الشافعية والمالكية : بل الأمر هنا للوجوب ، لا للاستحباب أخذا بالظاهر.

الرجال نصيب الآة ٧ ـ ١٠ :

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً

٢٥٧

خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))

الإعراب :

للرجال متعلق بمحذوف خبر ، ونصيب مبتدأ ، أي حاصل للرجال نصيب ، ومما ترك متعلق بنصيب. ومما قلّ أو كثر بدل مما ترك بإعادة العامل. ونصيبا حال من الضمير في قلّ أو كثر. والضمير في منه يعود إلى المال المتروك ، ومفعول يخشى محذوف ، أي وليخش الله. وظلما مصدر وضع موضع الحال ، أي ظالمين ، وصاحب الحال الواو في يأكلون.

المعنى :

أربع آيات ، كل آية نظرت إلى جهة تتضح من البيان التالي :

١ ـ (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً). الوالدان واضحان ، والأقربون عام لكل ذي رحم بما فيهم الأبناء وان نزلوا ، والآباء وان علوا ، والاخوة والأخوات وأولادهم ، والأعمام والعمات ، والأخوال والخالات وأولادهم ، ذكورا وإناثا ، كبارا وصغارا ، درهما كان المال أو قنطارا .. ومبدأ الإرث للجميع حتم في الشريعة الإسلامية ، لا تجوز مخالفته بحال ، بدليل قوله تعالى : (نَصِيباً مَفْرُوضاً). وهو إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية من حرمان الإناث والذكور الصغار ، لا لشيء إلا لأنهم لا يركبون فرسا ، ولا يردون عاديا .. فأثبت الإسلام حق الإرث للإنسان على أساس طبيعته الإنسانية ، لا على أساس ضربه بالسيف ، وطعنه بالرمح.

٢٥٨

واستدل الشيعة بهذه الآية على بطلان التعصيب الذي أثبته السنة ، ونفاه الشيعة ـ وسنتعرض له قريبا ـ ومؤداه توريث الرجال دون النساء في بعض الحالات ، منها إذا كان للميت بنت وابن أخ ، وبنت أخ فإن السنة يعطون النصف للبنت ، والنصف الآخر لابن الأخ ، ولا شيء لأخته ، مع انها في درجته ومساوية له ، ومنها إذا كان له أخت وعم وعمة فإنهم يوزعون التركة بين البنت والعم ، ويحرمون العمة .. فالقرآن يورث النساء والرجال ، وهم يورثون الرجال ، دون النساء.

أما الشيعة فإنهم يعطون التركة كلها للبنت في الصورة الأولى والثانية ، لأنها أقرب إلى الميت من أخيه وابن أخيه ، وبالأولى من عمه.

٢ ـ (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً). المراد بأولي القربى أقرباء الميت المحجوبون عن ميراثه بمن هو أقرب اليه منهم ، كالأخ مع الابن ، والعم مع الأخ ، والخطاب في (ارزقوهم) موجه إلى الورثة أو من ينوب عنهم ، وبديهة ان الورثة يتصدقون على هؤلاء إذا كانوا فقراء. أما المراد باليتامى والمساكين فغير أولي القربى. والأمر هنا بإعطائهم للندب ، لا للوجوب ، مثل تصدقوا ولو بشق تمرة ، ولكنه ندب مؤكد.

٣ ـ (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً). الأمر في (ليخش) موجه إلى ولي اليتيم ، والمعنى ان على ولي اليتيم أن يفعل بماله ما يحب الولي أن يفعل بأموال أيتامه الولي الذي يقوم على شئونهم من بعده ، تماما مثل عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به. وكما تدين تدان. وعن الإمام موسى بن جعفر (ع) ان الله أعد لمن يسيء التصرف في مال اليتيم عقوبتين : الأولى في الدنيا ، وهي اساءة التصرف في مال أيتامه. والثانية في الآخرة ، وهي نار الحريق. قال الإمام علي (ع) : أحسنوا في عقب غيركم تحسن الناس في عقبكم.

٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً

٢٥٩

وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً). المراد بأكل النار أكل ما يوجب العذاب في النار ، فهو من باب اطلاق المسبب ، وهو النار ، على السبب ، وهو أكل الحرام. وفي الحديث أشد الناس عذابا حاكم جائر ، وآكل مال اليتيم ، وشاهد زور.

فذكر مثل حظ الاثنيين الآة ١١ ـ ١٢ :

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي

٢٦٠