التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

اللغة :

القربان مصدر على وزن عدوان ، ويطلق على الشيء الذي يتقرب به العبد الى ربه ، وهذا المعنى هو المراد من لفظ قربان في الآية. والزبر بفتح الزاي الزجر ، وبضمها جمع لزبور ، وهو الكتاب ، يقال : زبرت الكتاب ، أي كتبته ، ومزبور أي مكتوب.

الإعراب :

الذين قالوا ان الله عهد إلينا (الذين) عطف بيان من الذين قالوا : ان الله فقير ، ونحن أغنياء ، لأن مصدر القولين واحد.

المعنى :

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ). كل مبطل يزعم انه محق ، ويبرر أباطيله بالمفتريات والاتهامات ، حتى الذين يتاجرون بالحروب ، ويوقدون نيرانها هنا وهناك لتشغيل مصانعهم ، حتى هؤلاء يزعمون انهم يقتلون الأبرياء والأطفال والنساء ليستتب الأمن والسلم .. هذا هو منطق كل من عاند الحق والعدل خوفا منه على مكاسبه ومنافعه.

اذن ، فلا بدع أن يفتري اليهود على الله الكذب ، ويقولوا لمحمد (ص) : لا نؤمن لك ، لأن الله كان قد أمرنا ان لا نصدق مدعي النبوة الا إذا ظهرت على يده معجزة خاصة ، وهي أن نقدم صدقاتنا ، فتلتهمها نار تنزل من السماء .. واليهود الذين قالوا لمحمد (ص) هذا القول هم بالذات الذين نطقوا بكلمة الكفر ، وقالوا : ان الله فقير ، ونحن أغنياء.

(قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). أمر الله سبحانه نبيه الأكرم بأن يكذبهم ، ويجابههم بواقعهم التاريخي ، ويقول لهم : ان أسلافكم قد طلبوا من الأنبياء السابقين هذه المعجزة بالذات ؛

٢٢١

أي نزول النار من السماء ، وأظهرها الله على أيديهم ، ومع ذلك لم يؤمنوا بهم ، وقتلوهم ، وأنتم راضون بفعل أسلافكم ، وشأنكم شأنهم في العناد والعتو .. ولو كنتم طلاب حق لآمنتم بمحمد (ص) بعد ان قامت الحجة على نبوته.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ). هذا خطاب للرسول الأعظم (ص) ، والغرض منه التسلية بالتأسي بمن سبق من الأنبياء ، فلقد كانت سيرتهم أن يتلقوا التكذيب والعناد من أهل الفساد كبني إسرائيل ، والذين على شاكلتهم ، مع انهم أقاموا الحجة على كل مكذب لنبوتهم ، ومعاند لدعوتهم .. والمراد بالبينات المعجزات الواضحة الدالة على صدقهم. وبالزبر مواعظ الأنبياء وحكمهم ، تماما ككتب الحديث. وبالكتاب المنير التوراة ، لأن اليهود أحدثوا فيها التحريف ، بخاصة فيما يعود الى محمد وصفاته ، ولأن الآيات واردة لبيان شأنهم .. فهم الذين قولوا : ان الله فقير ، وانه عهد اليهم أن لا يؤمنوا لرسول ، حتى يأتيهم بقربان تأكله النار.

كل نفس ذائقة الموت الآة ١٨٥ ـ ١٨٦ :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦))

اللغة :

التوفية عطاء كامل غير منقوص. والزحزحة التنحية والابعاد. والعزم إمضاء للأمر ، والمراد به هنا ما ينبغي للعاقل أن يعزم عليه.

٢٢٢

الإعراب :

لتبلون ولتسمعن اللام للقسم ، والنون موكدة. وأذى مفعول لتسمعن.

المعنى :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ). كأس تدور على كل انسان نبيا كان أو شقيا ، ملكا كان أو صعلوكا .. أبدا لا وسيلة للفرار من الموت ، وكل ما فكر فيه الأطباء أن يطيلوا حياة الإنسان ، لا أن يدفعوا عنه الموت ، وآخر محاولة قاموا بها لإطالة الحياة سنة ١٩٦٧ عملية زراعة القلب ، وهي أن ينزعوا هذا العضو من انسان أشرف على الموت ، ثم ينزعوا قلب المريض ، ويضعوا القلب الجديد مكانه ، وكل من القلبين لا يزال ينبض.

ولكن هذه التجربة آلت الى الفشل الذريع رغم تكرارها .. وقامت ضجة من أطباء كبار حول هذه التجربة ، وقالوا : انها جريمة لا تغتفر ، إذ لا يمكن التأكد ان الذي ينزع قلبه سيموت بعد قليل ، لأن الموت يحدث على درجات ، منها الإغماء الطويل الذي يفقد الإنسان معه جميع الحركات ، حتى الأنفاس ، ولا وسيلة في هذه الحال للتمييز بين موته وحياته. وسبق للأطباء مرارا أنهم قرروا موت أشخاص عادوا الى الحياة بعد قرار الأطباء ..

وبالأمس قرأت في الصحف ان عجوزا مصرية أصابها إغماء ، فاستدعى أولادها الأطباء فجزموا من غير تردد بموتها ، وبعد إعلان الوفاة وتوزيع أوراق النعي وحفر القبر وحضور الناس للتشييع فتحت عينيها ، وقالت للمجتمعين : اذهبوا إلى أعمالكم مأجورين .. وإذا عجز الطب أن يطيل في عمر الإنسان ، بل ان يميز في أحيان كثيرة حياته من موته ، فبالأولى أن يعجز عن دفع الموت عنه.

(وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ). لا جزاء في الحياة الدنيا من الله سبحانه ، وانما يجزيه على ما عمل جزاء كاملا وافيا يوم القيامة .. وقال كثير من المفسرين : ان الله سبحانه يعطي الإنسان قسطا من الجزاء على عمله بعد الموت ، وقبل يوم القيامة ، ثم يعطيه القسط الأخير يوم القيامة ، وبه يتم الوفاء ويكمل ، وادعوا

٢٢٣

ان لفظ (توفون) يدل على ذلك.

أما نحن فلا نفهم من لفظ (توفون) الا ما نفهم من قوله تعالى : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) ـ ١١٠ هود». وهو لا يشعر بالتقسيط من قريب أو بعيد .. أجل ، في الحديث : «ان القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار». ولكن هذا شيء ، ودلالة توفون على التوزيع شيء آخر.

(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ). بل من زحزح عن النار ، ولم يدخل الجنة فهو من الفائزين .. وقد حدد كثير من الفلاسفة اللذة بدرء الألم ، والسعادة بعدم الشقاء.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ). وصف سبحانه الدنيا بمتاع الغرور ، لأن الإنسان يغتر بها وينخدع ، أو لأنه إذا ملك شيئا من حطامها أحدثت الغرور بنفسه .. قال الإمام علي (ع) : الدنيا تضر وتغر وتمر ، ان الله تعالى لم يرضها ثوابا لأوليائه ، ولا عقابا لأعدائه ، وان أهل الدنيا كركب بيناهم حلوا إذا صاح صائح فارتحلوا.

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً). هذا هو ثمن الحق والجنة .. صراع مرير مع المبطلين ، وصبر على تهمهم وافتراءاتهم ، وتضحية بالنفس والمال ، وكلما كان الإنسان قويا في دينه اشتد بلاؤه وعظم .. ذلك ان مهمة أهل الحق تحتم عليهم كراهية الباطل وأهله ، إذ لا صلح ولا هدنة بين الحق والباطل ، وقد كان المبطلون ولا زالوا أكثر عددا وأقوى شوكة .. ومحال ان يسكتوا عن أعدائهم في العقيدة والمبدأ .. ومن الذي يعلم انه مكروه وبغيض لديك ، ثم يتقبل ذلك منك ، ويسكت عنك؟ الا من عصم ربك .. ومن هنا كان تاريخ الأنبياء والمصلحين تاريخ حرب وجهاد مع المشركين والمفسدين ، أما البلوى في النفس والمال وغيرهما فهي نتيجة حتمية لكل حرب.

والمراد بالذين أوتوا الكتاب من قبلكم اليهود والنصارى ، لأن التوراة والإنجيل نزلا قبل القرآن ، والمراد بالذين أشركوا العرب الذين تظاهروا على حرب الرسول (ص).

٢٢٤

(وَإِنْ تَصْبِرُوا) على جهاد المبطلين ، وما يحل بكم من البلاء (وتتقوا) الله فيما يجب اتقاؤه (فَإِنَّ ذلِكَ) الصبر على البلاء واتقاءكم المحرمات (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

وظيفة علماء الدين الآة ١٨٧ :

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧))

الإعراب :

إذ ظرف متعلق بمحذوف ، أي أذكر إذ أخذ الله. واللام في لتبيننه للقسم ، لأن أخذ الميثاق قائم مقام القسم. والهاء تعود إلى الكتاب. وكذلك هاء لا تكتمونه. و (لا) في (لا تكتمونه) للنفي وليست للنهي ، تماما كقولك : والله لا تقوم ، ومن أجل هذا لم يؤكد الفعل بالنون. والهاء في نبذوه تعود إلى الميثاق ، وفي (به) إلى الكتاب. وما في (بئس ما) محل نصب على التمييز المفسر للفاعل المستتر في بئس ، أي بئس شيئا اشتروا به. ويجوز أن تكون (ما) محل رفع فاعل لبئس.

المعنى :

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ). تنشئ الدولة مراكز للموظفين ، وتحدد لكل موظف مهمته ، وتأخذ عليه عهدا أن

٢٢٥

يؤديها بأمانة واخلاص ، وتشرّع قوانين خاصة لعقوبته إذا تجاوز الحدود المقررة له.

وخلق الله الإنسان ، وأمره بما يعود عليه بالخير والصلاح ، ونهاه عما يفسده ويضرّ به .. واختار الأنبياء لتبليغ أحكامه إلى عباده ، وأمرهم أن يأخذوا عهد الله وميثاقه على كل من بلغته هذه الأحكام أن يبلغها هو بدوره ويبينها للناس .. فالعالم بالأمور الدينية موظف عند الله سبحانه ، لتبيين ما أنزل على رسله ، ومن كتم شيئا منه فهو مسؤول أمام الله جل وعلا ، تماما كموظف الدولة مسؤول أمامها إذا أخل بمهمته.

وجاء في ذلك العديد من الآيات والروايات ، ذكرها العلماء في باب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، منها قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ـ ١٥٩ بقرة» .. وقال الرسول الأعظم (ص) : الساكت عن الحق شيطان أخرس ـ فكيف إذا ناصر الباطل؟ ـ وسئل عن أحب الجهاد الى الله؟ فقال : كلمة حق عند سلطان جائر. وقال الإمام علي (ع) : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا ، حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا.

وهذا مبدأ عام لا يختص بعالم دون عالم ، ولا بأهل دين دون دين ، ولا بأصل أو فرع ، وقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ) الخ ... يرادف بعمومه هذا المبدأ ، لأن الذين أوتوا الكتاب يشمل اليهود والنصارى والمسلمين ، بل القرآن أشرف الكتب إطلاقا ، كما ان وجوب التبيين وتحريم الكتمان يشمل نبوة محمد (ص) وغيرها من أصول الدين وفروعه ، ولكن كثيرا من المفسرين خصصوا الآية بعلماء اليهود الذين كتموا أمر محمد (ص) ، وقال آخرون : انها تشمل اليهود والنصارى دون غيرهم ، لأنهم كتموا ما في التوراة والإنجيل من الأدلة على نبوة محمد (ص) .. والاولى التعميم ، لعدم الدليل على التخصيص.

(فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ). ونبذ الشيء وراء الظهر كناية عن عدم الاكتراث به والاهتمام بشأنه ، كما ان جعله نصب العين كناية عن شدة الاهتمام به.

(وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ). كل من كتم الحق إيثارا للعاجلة على الآجلة فقد باع دينه للشيطان بأبخس الأثمان .. البعض لا يكتفي بكتمان

٢٢٦

الحق ، بل يحرف الكتاب والسنة طبقا لأهواء الوجهاء والأثرياء طمعا بما في أيديهم .. وهؤلاء (يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

ان يحمدوا بما ل يفعلوا الآة ١٨٨ ـ ١٨٩ :

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

اللغة :

الفوز النجاة ، ومفازة اسم مكان الفوز والنجاة.

الإعراب :

الذين مفعول أول لتحسبن. ومفعولها الثاني محذوف ، والتقدير ناجين. وبمفازة متعلق بمحذوف مفعول ثان ل (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ).

المعنى :

الفرح بذاته غير محرم .. ومن لا يفرح إذا أصابه خير ، أو نجا من شر؟ بل الفرح من أجل خير الناس ، يدل على صدق النية ، وطيب السريرة .. وقد فرح رسول الله (ص) بقدوم ابن عمه جعفر بن أبي طالب من الحبشة ،

٢٢٧

وقبله بين عينيه ، وقال : ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟

وانما يكون الفرج مذموما إذا كان بدافع الحقد والشماتة ، والغرور والخيلاء ، أو يفرح الإنسان لأنه سلب ونهب ، وقتل وأفسد ، دون أن يعاقب أو يعاتب ، أو لأنه مكر وخادع ليحمد بما ليس فيه ، وانطلت حيله على البسطاء ، ففرح بتطبيلهم وتزميرهم ، الى غير ذلك من الصور التي نشاهدها هنا وهناك.

بعد هذا التمهيد نشير بايجاز الى الأقوال في هذه الآية :

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قيل : انها نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا اسم محمد وصفاته الموجودة في التوراة ، وفي الوقت نفسه يحبون أن يمدحوا بالصدق ، وانهم على ملة ابراهيم (ع).

وقيل : بل نزلت في المنافقين .. كانوا يتخلفون عن رسول الله (ص) في حروبه وغزواته ، ويتعللون بالأكاذيب ، وكان النبي (ص) يظهر القبول ، ويفرحون هم بذلك ، ويحبون أن يمدحوا بما ليس فيهم من الإيمان.

وأرجح الأقوال ان الله سبحانه بعد ان ذكر في الآية السابقة الذين أخذ الميثاق منهم الّا يكتموا الحق ، فنبذوه واشتروا به ثمنا قليلا ، بعد أن وصفهم الله بهذا الوصف فيما سبق ـ ذكرهم في هذه الآية بأنهم قد فرحوا بصنيعهم ذاك ، وأحبوا ان يمدحوا ويوصفوا بالحق والصدق ، وهم أبعد الناس عنهما.

ومهما تمادوا في الغي فإنهم لا يخرجون عن قبضة الله وقدرته ، ولا ينجون من عذابه وعقابه .. كيف؟ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وبهذا التفسير يدخل في الآية اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمد (ص) والمنافقون من المسلمين الذين أضمروا الكفر ، وأظهروا الايمان.

وتسأل : لما ذا قال تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) بعد قوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ) الخ ، مع العلم بأن فاعل الفعلين واحد ، ومفعولهما واحد؟

الجواب : جاء التكرار لدفع الالتباس بعد طول الكلام ، وقد شاع اليوم هذا الاستعمال في الكتابة والاذاعة.

٢٢٨

سؤال ثان : ان الله سبحانه قال : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ). ثم قال : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). مع ان الجملة الأولى تغني عن الثانية؟

الجواب : فرق بين الجملتين ، لأن الأولى أفادت انهم غير ناجين من العذاب دون أن تبين نوع العذاب : هل هو خفيف أو أليم؟ والثانية بينت انه من النوع الأليم ، تماما كما تقول : أحبك وأحبك كثيرا.

الله وأولو الألباب الآة ١٩٠ ـ ١٩٥ :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥))

٢٢٩

اللغة :

اختلاف الليل والنهار تعاقبهما ، ومجيء كل منهما خلف الآخر. والمراد باللب هنا العقل ، لأن اللب من كل شيء خيره وخالصه ، وخير ما في الإنسان عقله. والخزي الاهانة. والمراد بالميعاد هنا الوعد.

الإعراب :

الذين يذكرون بدل من أولي الألباب. وقياما وقعودا حال. وعلى جنوبهم في محل نصب على الحال أيضا ، أي ومضطجعين. وباطلا حال من هذا ، ويجوز أن يكون صفة لمفعول مطلق محذوف ، أي ما خلقت هذا خلقا باطلا. وان آمنوا (ان) بمعنى أي مفسرة لما قبلها ، مثل كتبت اليه ان افعل كذا ، أي افعل كذا. وتحسن الاشارة إلى انه جاء في القرآن الكريم (انّنا) بالنونات الثلاث ، كما في الآية (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا). وجاء فيه أيضا (انّا) بحذف احدى النونين من أن ، مثل قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ـ ١٠٤ الأنبياء». وعليه يصح ان نقول ونكتب : انّا وانّنا.

المعنى :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ). عرضنا الأدلة العقلية على وجود الله سبحانه عرضا وافيا عند تفسير الآية ٢٢ من سورة البقرة ، فقرة «التوحيد» ثم أشرنا اليها ثانية عند تفسير الآية ١٦٤ من السورة المذكورة ، وهي بمعنى الآية التي نحن بصددها ، ولمكانها هنا نعود إلى الموضوع بايجاز ، وبأسلوب آخر :

ان أفضل الطرق لمعرفة الله سبحانه هو الطريق الذي استدل به جل وعلا على وجوده ، ويتلخص بأن ينظر العاقل الى الكون ، ويتفكر بإمعان في عجائبه وأسرار ما فيه من إتقان وإبداع ، فيرى ان كل ما فيه ينبئ عن قصد وغاية ،

٢٣٠

حيث وضع في المكان اللائق به ، وقام بدور فعال في تنظيم الكون وسير الحياة ، ومن هذين الأساسين معا ، وهما الحس والعقل يتوصل حتما الى معرفة علة أولية ، تتصف بالحياة والعلم والقدرة والحكمة البالغة.

وسمعت أكثر من واحد يقول ـ وكأنه قد أتى بجديد ـ : كل الناس ، حتى الملحدين يعترفون بوجود علة أولى ، سوى أن المؤمنين يسمونها الله ، وغيرهم يسمونها المادة أو الطبيعة ، اذن ، الخلاف في التسمية فقط.

وهذا اشتباه وخطأ محض ، لأن المؤمنين يؤمنون بوجود علة أولى تدرك بالعقل لا بالحس ، وتوصف بالحياة والعلم والقدرة والحكمة والعدل ، أما غيرهم فيقولون : انها ترى بالعين ، وتلمس باليد ، وانها عمياء صماء ، فالفرق بين القولين أبعد مما بين الأرض والسماء.

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ). المراد بالقيام والقعود وعلى جنوبهم انهم في طاعة الله أبدا ودائما ، والمراد بالتفكر في خلق السموات والأرض انهم عارفون بالله سبحانه ، أما تضرعهم اليه عز وجل ان يقيهم عذاب النار فدليل التقوى والإيمان. قال الرازي :

«ان أصناف العبودية ثلاثة أقسام : التصديق بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح ، فقوله تعالى : (يَذْكُرُونَ اللهَ) اشارة الى عبودية اللسان ، وقوله : (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) اشارة الى عبودية الجوارح والأعضاء. وقوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اشارة الى عبودية القلب والفكر والروح والإنسان ليس إلا هذا المجموع ، فإذا استغرق اللسان في الذكر ، والأعضاء في العمل ، والجنان في الفكر كان مستغرقا بجميع أعضائه في العبودية ـ ثم قال ـ فما أحسن هذا الترتيب في جذب الأرواح من الخلق الى الحق».

وليس من شك ان ذكر الله ، والإيمان به ، والتعبد له حسن .. ولكن أحسن من ذكره باللسان ، والقيام له في الليل ، والصيام في النهار هو العمل من أجل الإنسان ، والتضحية في سبيل الصالح العام .. وكل من طلب الكرامة عند الله دون هذه التضحية ، مع القدرة عليها فقد طلب الثمين من غير ثمن. وبمناسبة قوله تعالى : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) نشير الى ان السنة قالوا : لا يجوز تعليل أفعال الله بشيء من الأغراض والعلل الغائية ، لأنه تعالى لا يجب

٢٣١

عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء. (المواقف ج ٨ ص ٢٠٢). وفي كتاب المذاهب الاسلامية للشيخ أبي زهرة (فصل وحدانية التكوين : فقرة تعليل الأفعال) ما نصه بالحرف «قال الاشاعرة ، أي السنة : «ان الله سبحانه وتعالى خلق الأشياء لا لعلة ولا لباعث».

وقال الشيعة : ان جميع أفعاله عز وجل معللة بمصالح تعود على الناس ، أو تتعلق بنظام الكون ، كما هو شأن العليم الحكيم .. ومما استدلوا به على ذلك هذه الآية : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً).

ويمكن الرد على السنة بأقوالهم وأفعالهم ، لا بآية ولا برواية .. ذلك انهم يأخذون بالقياس والاستحسان والمصلحة المرسلة القائمة على رعاية اللطف بالخلق وتحسين أحوالهم في معاشهم ومعادهم ، ويتخذون ـ من القياس والاستحسان والمصلحة المرسلة ـ أصولا ومدارك للأحكام الشرعية الإلهية ، كما انهم ألفوا كتبا خاصة في بيان حكمة الله في أوامره ونواهيه .. ولا معنى لهذا الا انه لا يأمر ولا ينهى الا لغرض صحيح ، وعلة حكيمة.

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ). ونحن نطيعك رغبة في مرضاتك ، وفرارا من هذا الخزي. وهكذا المؤمن الصادق يضع ثواب الله وعقابه نصب عينيه ، فيطيع خوفا من هذا ، وطمعا في ذاك. قال الإمام علي (ع) في وصف المؤمنين : «فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون ، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون». أما من يعبد الله لذات الله ، لا طمعا في جنته ، ولا خوفا من ناره فهو رسول الله وتلميذه الإمام علي.

(وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ). كل من يناصر الباطل في هذه الحياة ، ويتخاذل عن نصرة الحق ، ولا ينصف الناس من نفسه فهو ظالم ، وما له يوم الحق والعدل من نصير .. وأبلغ موعظة في هذا الباب هي خطبة الرسول الأعظم (ص) حين شعر بدنو أجله الشريف ، قال :

«قال : أيها الناس من جلدت له ظهرا فهذا ظهري ، ومن أخذت له مالا فهذا مالي ، ليأخذه مني ولا يخش الشحناء من قبلي ، فإنها ليست من شأني ، الا وان أحبكم إليّ من أخذ مني حقا ان كان له ، أو حللني منه ، فلقيت ربي

٢٣٢

طيب النفس». وتمام القصة عند تفسير الآية ١٦٠ من هذه السورة فقرة : «محمد ومكارم الأخلاق».

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا). هذا هو شأن من طلب الحق لوجه الحق ، يفتح قلبه لدعوته ، ويستجيب اليها بمجرد سماعها ، أيا كان الداعي ، فكيف إذا كان سيد الرسل ، وخاتم النبيين؟.

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى). فالعبرة بالعمل ، لا بنسب العامل وعنصره ، ولا برجولته وأنوثته ، فالكل سواء في الإنسانية عند الإسلام ، وهذا تقرير لحق المرأة وكرامتها. (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ). فالرجل أبو المرأة ، والمرأة أم الرجل ، وكل منهما أخ وزوج للآخر ، والجميع من أصل واحد ، كلكم من آدم ، وآدم من تراب ، وفي الحديث : «النساء شقائق الرجال». وسبق الكلام عن المرأة في الآية ٢٢٨ من سورة البقرة.

(فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ). بعد ان ربط سبحانه الجزاء بالعمل الصالح ، لا بالعنصر ولا (بالجنس الخشن أو اللطيف) بعد هذا بيّن ان الأعمال التي يضاعف الثواب عليها هي :

١ ـ خروج المؤمن مختارا من وطنه الذي لا يمكن اقامة دينه فيه الى بلد يمكن فيه ذلك ، ومن أجل هذه الآية ، والآية ٩٧ من سورة النساء : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً). من أجل هاتين الآيتين أفتى الفقهاء بتحريم المقام على المستضعف في بلد الكفر الذي لا يستطيع فيه أداء الفرائض ، وشعائر الإسلام ، وأوجبوا عليه الهجرة والرحيل الى بلد مسلم يؤدي فيه ما أوجبه الله عليه إلا إذا عجز ، ولم يتمكن من الهجرة.

ومن المؤسف ان بعض الأغنياء من شبابنا المسلم في هذا العصر يشدون الرحال الى أمريكا وأوروبا لا لشيء إلا للفسق والفجور ، والزنا والخمور.

٢٣٣

٢ ـ إخراج المؤمنين قهرا من ديارهم ، كما فعل مشركو قريش بمن آمن بمحمد (ص) ، وكما فعلت إسرائيل ربيبة الاستعمار بأهل فلسطين.

٣ ـ الإيذاء في سبيل الحق .. وما من أحد اتبع الحق إلا أوذي من أجله .. وجاء في الحديث ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فان كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وان كان في دينه رقيقا ابتلي على قدر دينه ، ولا شيء أعظم أجرا عند الله من احتمال الأذى في دين الله والصبر عليه .. اللهم اجعلنا من الصابرين.

٤ ـ التضحية في النفس في سبيل الحق.

كل هؤلاء يمحو الله سيئاتهم ، وفوق ذلك يثيبهم ثوابا يليق بجلاله وعظمته .. وتكرار لفظ الثواب والجلالة (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) إيماء الى ان ثوابه ليس كمثله ثواب ، كما انه جل وعلا ليس كمثله شيء.

الذين كفروا والذين اتقوا الآة ١٩٦ ـ ١٩٨ :

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨))

اللغة :

المتاع ما يتمتع به الإنسان في العاجل ، والمهاد المكان الممهد كالفراش ، والنزل ما يهيئ للنازل.

الإعراب :

متاع خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك التقلب متاع قليل ، وخالدين حال من الضمير في لهم ، ونزلا حال من جنات ، أو مفعول مطلق ، أي أنزلوها نزلا

٢٣٤

المعنى :

ومعنى مفردات الآيات الثلاث واضح ، والمهم بيان المقصود من مجموعها .. وقال كثير من المفسرين في شرحها ما يتلخص بأن الكافر يعيش في هذه الحياة في رخاء ولين ، ولكن مصيره الى وبال وشقاء ، والمؤمن يعيش في شك وضيق وعاقبته السعادة والهناء. وبكلمة ان الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر ، والآخرة بالعكس.

والذي نفهمه نحن من هذه الآيات انها تعرضت للمقارنة بين الذين يؤثرون دنياهم على دينهم ، ولا يعملون إلا بوحي من مصالحهم الشخصية ، كاليهود ومن على شاكلتهم ، وبين الذين يؤثرون الدين على الدنيا مهما تكن النتائج ، وعبر عن الفريق الأول بالذين كفروا ، لأنهم يكفرون بالحق ، ولا يقيمون له وزنا ، وعبر عن الفريق الثاني بالذين اتقوا ربهم ، لأنهم تجنبوا سخطه ومعصيته .. وليس من شك ان من عمل للدنيا ، وجعلها كل همه ، واستباح من أجلها المحرمات يجتمع في يده الكثير من حطامها ، كما نشاهد ذلك بالفعل ، على العكس ممن زهد في الحرام ، وآثر عليه الجوع والحرمان.

والمراد بتقلب الفريق الأول في البلاد تنعمهم فيما انتهبوا من خيراتها ومقدراتها. وقد يتوهم ويظن ان مظاهر النعمة والترف على أهل الباطل خير لهم وكرامة ، وان مظاهر الشظف والحرمان على أهل الحق شر ومهانة ، فدفع الله هذا التوهم بأن العكس هو الصحيح ، فان نعمة المبطلين متاع قليل ، ثم الى جهنم وبئس المصير ، وان بؤس المحقين الى زوال ، ثم الى نعيم دائم ، وراحة أبدية.

المؤمنون من أهل الكتاب الآة ١٩٩ ـ ٢٠٠ :

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

٢٣٥

اللغة :

الخشوع الخضوع. وقيل : الصبر والمصابرة بمعنى واحد ، وقيل : الصبر ضبط النفس على مكروه لا يد فيه للغير ، كالمرض ، والمصابرة تحمل الأذى من الغير .. والرباط الاستعداد لجهاد العدو.

الإعراب :

خاشعين حال من الضمير في يؤمن ، لأنه يعود الى من ، وهي بمعنى الجمع. وجملة لا يشترون حال أيضا. وعند ربهم حال من الضمير في لهم ، ويجوز أن تتعلق عند بأجرهم.

المعنى :

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ). المراد بما انزل إليكم القرآن ، وبما انزل اليهم التوراة والإنجيل.

وتشمل الآية كل من آمن ويؤمن بمحمد (ص) من أهل الكتاب ، وليست خاصة بالنجاشي ، أو بعبد الله بن سلام كما قيل ، لأن اللفظ عام ، ولا دليل على التخصيص ، وإذا كان الله سبحانه يتقبل الإيمان بمحمد (ص) ممن لم يؤمن بالله ولا بكتاب فبالأولى أن يتقبل هذا الإيمان من أهل التوراة والإنجيل ، بخاصة بعد أن تركوا دينهم وأصعب شيء على الإنسان أن يترك ما ألف وورث من دين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ختم الله سبحانه سورة آل عمران بهذه الآية التي جمعت بين الأمر بتقوى الله ، والأمر بجهاد أعدائه. وسبق الكلام في الصبر مفصلا عند تفسير الآية ١٥٥ من سورة البقرة : فقرة «الصبر» ، وفقرة «أنواع أجر الصابرين».

٢٣٦

التقوى :

ونختم هذه السورة الكريمة بكلمة موجزة عن التقوى. سئل الإمام جعفر الصادق (ع) عن التقوى؟ فقال : ان لا يفقدك الله حيث أمرك ، ولا يجدك حيث نهاك .. اذن لا بد في التقوى من العلم بأحكام الله ، والعمل بها لوجه الله ، لأن العلم بلا عمل حجة على صاحبه ، والعمل بلا علم كالسير على غير الطريق ، وعلى هذا الأساس تكون التقوى هي الدين والأخلاق ، وأساس الفضائل .. قال رسول الله (ص) : «لا تقولوا : ان محمدا منا ، فوالله ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلا المتقون». وقوله (ص) : ولا من غيركم يشعر بأن غير المسلم إذا سلم الناس من يده ولسانه أقرب الى محمد (ص) ممن انتسب الى الإسلام ، ولم يكف أذاه عن الناس.

وجاء في القرآن الكريم العديد من الآيات في ان الفوز والنجاة غدا للمتقين وحدهم .. وفي الأساطير حكاية تومئ إلى هذه الحقيقة ، وهي ان رجلا كان في قديم الزمان يكثر من قول : الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين .. فاغتاظ إبليس من ذلك ، وأرسل اليه بعض شياطينه ، فذهب اليه ، وقال له : قل : العاقبة للأغنياء. فقال : الرجل : كلا ، العاقبة للمتقين. ولما كثر بينهما الجدال اتفقا على أن يتحاكما إلى أول من يطلع عليهما ، ومن حكم عليه تقطع يده. فلقيا شخصا ، فأخبراه. فقال : العاقبة للأغنياء ، لا للمتقين. فقطعت يد الرجل ، فرجع ، وهو يكرر القول : الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين. فجاء الشيطان ثانية ، وقال له : ألم تتعظ؟ قال : كلا ، قال الشيطان : أحاكمك على اليد الأخرى. قال : أجل ، فطلع شخص ، وتحاكما اليه ، فحكم ان العاقبة للأغنياء لا للمتقين. فقطعت يده الثانية. وعاد يكرر أكثر من الأول : الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين .. وحينئذ قال له الشيطان : أحاكمك الآن على ضرب العنق. قال الرجل : نعم. وإذا بفارس مقبل ، فتحاكما اليه ، بعد ان قصا عليه القصة. فأخذ السيف ، وقطع عنق الشيطان ، وقال له : هذه عاقبة المفسدين. وأعاد الله للرجل يديه كما كانتا .. وتحقق ما قال من أن العاقبة للمتقين ، ولكن بعد الصبر ، وقطع اليمين واليسار .. ومحال ان يصل الإنسان الى ما يبتغي الا بالصبر وتحمل المشاق.

٢٣٧
٢٣٨

سورة النّساء

٢٣٩
٢٤٠