التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

ينطبق على مثل فعلهم ، وعلى قول الأنصاري لهم ، ولكن الآية لم تذكر اسم الفاعلين ، ولا اسم القائل.

ومهما يكن ، فان المنافقين قد أجابوا هذا القائل المؤمن و (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ). أي ان الأمر بين المسلمين والمشركين لا يتعدى المناورات وعرض العضلات ، ولن يصل الى الحرب والقتال ، ولو تأكدنا ـ ما زال القول للمنافقين ـ من ان الحرب واقعة لا محالة لحاربنا معكم .. وقيل : ان المنافقين أرادوا بجوابهم هذا ان مجابهة المسلمين للمشركين ليس من نوع القتال والحرب في شيء ، وانما هي عملية انتحار ، لتفوق عدو المسلمين عدة وعددا. ولفظ الآية يتحمل المعنيين ، ولكن المعنى الأول أقرب الى دلالة لفظها.

(هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ). أي ان المنافقين أرادوا من قولهم : لا نعلم ان هناك قتالا ، أرادوا أن يخفوا نفاقهم ، ويبتعدوا عن التهم .. ولكن قولهم هذا أدل على نفاقهم ، وأقرب لنصرة المشركين ، لأنه يتفق مع مصلحتهم لما فيه من تثبيط العزائم عن الحرب مع الرسول (ص).

(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) : لو نعلم قتالا لاتبعناكم. (ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ). بل فيها الكذب والنفاق. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) من الكفر به وبرسوله. قال الإمام (علي) : ان لسان المؤمن من وراء قلبه ، وان قلب المنافق من وراء لسانه ، أي ان قول المؤمن انعكاس لما في قلبه ، لأنه لا يقول إلا ما يعتقد ، أما المنافق فان لسانه في معزل عن قلبه ، وانما يتبع لسانه مصالحه الشخصية ، ويتلون كلامه بحسبها.

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا). أي قال المنافقون : لو أطاعنا الذين قتلوا يوم أحد مع النبي (ص) ولم يخرجوا معه ما قتل أحد منهم ، كما انّا نحن لم نقتل لأنّا لم نخرج .. وسبق الكلام في ذلك عند تفسير الآية ١٥٦ من هذه السورة.

(قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). كلا ، لا ينجو من من الموت من فر منه ، ولم يعط البقاء من طلبه. قال الإمام علي (ع) : ان الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم ، ولا يعجزه الهارب. ان أكرم الموت القتل.

٢٠١

والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على فراش.

أحياء عند ربهم يرزقون الآة ١٦٩ ـ ١٧١ :

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١))

الإعراب :

احياء خبر مبتدأ محذوف ، أي هم أحياء ، وجملة يرزقون صفة لأحياء. وفرحين حال من واو يرزقون. ويستبشرون معطوف على فرحين ، وجاز عطف الفعل على الاسم ، لأنه بمعنى الاسم المعطوف عليه ، أي فرحين ومستبشرين. وان لا خوف عليهم (ان) مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ضمير الشأن ، وخبرها جملة لا خوف عليهم. والمصدر المنسبك منها ومن مدخولها في محل جر على انه بدل اشتمال من الذين لم يلحقوا بهم ، ويجوز نصبه مفعولا لأجله ليستبشرون.

المعنى :

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). المخاطب في لا تحسبن كل عاقل ، والمقصود بالذين قتلوا في سبيل الله كل قتيل

٢٠٢

من أجل الله ، سواء استشهد بين يدي الرسول (ص) أم من قبل ومن بعد. وظاهر الآية ان الشهداء أحياء في الحال ، لا أن الله سوف يحييهم مع غيرهم يوم البعث والنشر ، وانهم أحياء حقيقة ، لا مجازا كالذكر الطيب وما اليه .. هذا هو ظاهر الآية ، ويجب الاعتماد عليه ، إذ لا موجب للعدول عنه من نقل أو عقل ، ما دامت الحياة بيده تعالى يهبها لمن يشاء متى يشاء.

والآية رد صريح على المنافقين الذين قالوا : ان أصحاب محمد (ص) يقتلون أنفسهم ، ولا يصلون الى خير.

ولسنا نعرف دينا أو أمة رفعت من شأن الشهداء في سبيل الحق والعدل كما رفعه الإسلام. قال رسول الله (ص) : «الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها». وقال : «الجنة تحت ظلال الأسنة» التي تقضي على الظلم والجور ، والشر والباطل ، أما المستشهدون في سبيل الحق فهم والحق سواء في نظر الإسلام ، لأن من يستهين بحياته من أجل الحق يكون تقديسه تقديسا للحق بالذات.

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). وفرحهم بهذا الفضل من وجهين : الأول انهم يتمتعون به. الوجه الثاني انه يدل على رضى الله الذي ضحوا بحياتهم من أجله ، تماما كهدية الحبيب التي تدل على حبه.

(وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). كل مؤمن يحب لأخيه في الايمان ما يحبه لنفسه ، ولكن قد تخون الظروف ولا تتهيأ الأسباب لبلوغ المراد .. والذين استشهدوا في سبيل الله لهم اخوان في الله يعرفونهم بأسمائهم وأشخاصهم ، ولا ينقصون عنهم ايمانا وإخلاصا ، وقد تركوهم أحياء بعدهم .. وحين رأى الشهداء فضل الله عليهم فرحوا بما نالوه ، وأيضا استبشروا لإخوانهم الذين تركوهم على نهجهم في الايمان والإخلاص والجهاد .. استبشر الشهداء لأن إخوانهم الأحياء سيلحقون بهم ، وينالون ما نالوه من الفضل والكرامة.

وفي هذه الآية دلالة صريحة على ان الشهداء أحياء قبل يوم القيامة ، لأن استبشارهم بمصير إخوانهم الأحياء انما حصل في الحال ، لا أنه سوف يحصل في غد.

٢٠٣

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ). وتسأل : لما ذا أعاد لفظ يستبشرون ، ولفظ فضل؟.

الجواب : ان للشهداء ثلاث فرحات : الفرحة الأولى بما نالوه لأنفسهم ، واليها الاشارة بقوله : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). الفرحة الثانية كانت لأجل إخوانهم الذين يعرفونهم ولم يلحقوا بهم بعد ، واليها الاشارة بقوله : (يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ). الفرحة الثالثة كانت لكل مؤمن عرفوه أو لم يعرفوه ، شهيدا كان أو غير شهيد ، واليها الاشارة بقوله : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ ..) والذي يؤيد ان هذه الفرحة كانت من أجل المؤمنين جميعا قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).

سؤال تان : ان الله سبحانه عطف الفضل على النعمة ، والعطف يستدعي وجود الفرق بين المعطوف والمعطوف عليه ، فما هو هذا الفرق؟.

وقد أجاب الرازي بأن النعمة هي الثواب والأجر الذي يستحقه العامل جزاء عمله ، والفضل هو التفضل الزائد الذي يمنحه الله كرما لا استحقاقا.

ولا يبتني جواب الرازي هذا على شيء سوى الرغبة في الجواب على أساس التسليم بوجود الفرق .. ونحن لا نرى أي فرق بين قول القائل : أنعم عليّ فلان ، وبين قوله : تفضل عليّ .. والصحيح ان المترادفات يعطف بعضها على بعض ، ومجرد الاختلاف في اللفظ كاف في الصحة ، ويسمى هذا عطف التفسير.

الذين استجابوا لله والرسول الآة ١٧٢ ـ ١٧٥ :

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا

٢٠٤

رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥))

اللغة :

القرح بفتح القاف الجرح ، وبالضم ألمه على ما قيل.

الإعراب :

الذين استجابوا ، الذين في محل رفع علي الابتداء. وللذين من قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) متعلق بمحذوف خبر مقدم. وأجر مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر الذين استجابوا. ومن في (منهم) للتبيين ، وليس للتبعيض ، لأن الذين استجابوا لله ولرسوله كلهم محسنون. والذين قال لهم الناس (الذين) بدل من (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا). وذلكم مبتدأ. والشيطان عطف بيان. وجملة يخوف أولياءه خبر. وتخافون أي تخافوني ، وحذفت الياء تخفيفا.

المعنى :

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ). جاء في كتب السير والتفاسير ان المشركين بعد أن انتهت معركة أحد اتجهوا الى مكة ، وفي أثناء الطريق عادوا الى التفكير فيما حدث ، فندموا وتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لم نستأصل من بقي من المسلمين ، وسيجمعون لنا ، ويعيدون الكرة علينا ، وهموا بالرجوع الى حرب محمد (ص) وأصحابه .. ولما بلغ ذلك رسول الله (ص) أعاد تنظيم رجاله على عجل ، ونادى مناديه لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس ، فاجتمع اليه

٢٠٥

جماعة من المسلمين ، على ما بهم من القراح والجراح ، وساروا حتى عسكروا بحمراء الأسد في انتظار رجوع أبي سفيان ومن معه من المشركين .. وتبعد حمراء الأسد عن المدينة ثمانية أميال .. ونجحت هذه المظاهرة ، لأن المشركين لما علموا بتجمع المسلمين من جديد خافوا وأسرعوا الى مكة .. وعاد المسلمون الى المدينة أعز جانبا.

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). المراد بلفظ الناس الأول المثبطون عن الحرب مع النبي (ص) ، وهؤلاء هم الذين قالوا للمؤمنين حين أهاب بهم الرسول (ص) أن يقفوا للمشركين ثانية ، قالوا لهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ). والمراد بلفظ الناس الثاني المشركون الذين حاولوا اعادة الكرة على المسلمين.

والمعنى ان المؤمنين على جراحهم الثقيلة الدامية قد لبوا نداء الرسول (ص) لمجابهة أبي سفيان وجيشه ، ولم يلتفتوا الى من خوفهم ، وقال لهم ، لا تخرجوا مع محمد ، لأن الأعداء أقوى منكم ، بل زادهم هذا القول ايمانا بالله وثقة بوعده ، ومضوا على طاعة الرسول (ص) ، والتصميم على محاربة المشركين ، مهما تكن النتائج ، معبرين عن هذه الطاعة ، وهذا التصميم بقولهم : حسبنا الله ونعم الوكيل.

وهكذا ينسجم المؤمن ، ويلتحم مع إيمانه ، ولا يخشى فيه القتل والأسر ، والتنكيل والتعذيب .. قال رجل من بني عبد الأشهل : شهدت وأخي أحدا مع رسول الله (ص) ، وجرحنا ، ولما اذن مؤذن الرسول (ص) بالخروج في طلب العدو خرجنا مع الرسول ، وكنت أيسر جرحا من أخي ، فكان إذا تأخر حملته.

(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ). خرج المؤمنون مع النبي الى حمراء الأسد ، كما أمرهم ، ولم يلقوا من العدو كيدا ولا همّا. وهذا معنى (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ). لأن العدو بعد أن علم بتجمعهم خاف وعاد الى أهله .. وبعد انصراف العدو عاد المسلمون إلى أهلهم بنعم كثيرة من الله ، منها السلامة ، ومنها طاعة الله ورسوله ، ومنها إرهاب العدو ، ومنها الذكر الطيب .. وأية نعمة تعدل تنويه الله بهم ، وتسجيل

٢٠٦

هذه المنقبة لهم في اللوح المحفوظ ، وفي كتابه الذي يتلو آياته أهل الأرض إلى يوم يبعثون.

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). كل من أطاع الله فهو من أوليائه ، وكل من استجاب الى الشيطان فهو من أوليائه ، والله يأمر أولياءه بالخير ، ويرغبهم فيه ، وينهاهم عن الشر ، ويحذرهم منه ، أما الشيطان فانه على العكس ، يأمر أولياءه بالشر ويغريهم به ، وينهاهم عن الخير ، ويخوفهم منه. وقال الحافظ المفسر محمد بن أحمد الكلبي ، في تفسير التسهيل : المراد بالشيطان هنا أبو سفيان أو الذي أرسله أبو سفيان أو إبليس.

وقول من قال للمؤمنين : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) هو من وحي الشيطان وتخويفه فلا يصغي اليه الا أولياؤه الذين يطيعونه ، أما أولياء الرحمن فلا يزيدهم هذا القول الا ايمانا بالجهاد والفداء من أجل الإسلام ونبي الإسلام. وعلى ما قدمنا يكون معنى : (الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) انهم يطيعونه إذا خوفهم ، أما أولياء الله فلا يخافون الشيطان إذا خوّفهم ، ومعنى (فَلا تَخافُوهُمْ) لا تخافوا المشركين فإنهم أولياء الشيطان ، وهو يحاول أن يجعلهم مصدر الخوف والرعب ، ويضيف عليهم سمة القوة والرهبة ليخلو لهم الجو ، ويعثوا فسادا في الأرض .. والمؤمن لا يخاف الا الله وحده.

للشيطان شحاذ ومهندس :

للشيطان أسماء كثيرة ، منها اللعين والرجيم ، والغاوي والغرور ، ويمكن تسميته بالشحاذ المتسول ، لأنه يقف على باب القلب يستعطف ، ويقرعه برفق ولين طالبا الاذن بالدخول .. فإذا أبطأت عليه تضرع وتملق بكلمات معسولة .. ويكتفي منك ان توارب الباب ، ولو قليلا .. فإذا فعلت دخل ، وأخرج من محفظته الغواية والخداع ، والوهم والإغراء ، وشرع بتمويه الحقائق وتشويهها ، وتزيين القبائح وتحسينها ، وصوّر عمل الخير شرا ، وجهاد المبطلين كفرا ، وسلم المحقين حربا ، والمنكر معروفا ، والمعروف منكرا ، وألبس الخائن ثوب المصلح ، والمخلص ثوب المفسد ، الى غير ذلك من حيله وأضاليله.

٢٠٧

وأجدى وسيلة يتوصل بها الى مآربه تجسيم الخوف من قوة أوليائه الذين يقضون لباناته ، ويحققون غاياته .. ان الشيطان مهندس ومشرّع ، أما قوته المنفذة فهم شيعته الذين ينشرون في الأرض الفساد والضلال.

ومن أجل هذا يضخم من شأنهم ، ويمهد لهم سبيل السيطرة والنفوذ ، ويلبسهم لباس العزة والقدرة ، كي لا يرتفع في وجوههم صوت ، أو يفكر في الانتقاض عليهم أحد .. فيضعف سلطانه بضعفهم ، وينقطع رجاؤه من الشر والفساد بانقطاع آثارهم.

والخلاصة ان من خاف اهل الفساد والضلال ، وهادن واحدا منهم فقد هادن الفساد والضلال بالذات ، ووقّع معاهدة الحب والإخاء بينه وبين الشيطان .. وهذا مقياس لا يخطئ أبدا في الفصل والتمييز بين من يدعي الايمان بالله والخوف منه ، وبين من يوالي الشيطان ، ويؤثر طاعته على طاعة الله. ولا شيء أدل على هذه الحقيقة من قوله سبحانه : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). فإن معناه من ترك جهاد أهل الفساد والضلال خوفا منهم فهو من أولياء الشيطان ، وليس من الله في شيء .. وقريب من هذه الآية قول الرسول الأعظم (ص) : الساكت عن الحق شيطان أخرس.

الذين يسارعون في الكفر الآة ١٧٦ ـ ١٧٨ :

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨))

٢٠٨

اللغة :

المراد بالإملاء هنا الامهال واطالة المدة.

الإعراب :

شيئا مفعول مطلق ، أي شيئا من الضرر ، ولا يحسبن الذين كفروا (الذين) فاعل يحسبن. انما الأولى بفتح الهمزة (ان) تنصب الاسم وترفع الخبر. وما موصولة اسم ان. وخير خبرها. والمصدر المنسبك ساد مسد المفعولين ليحسبن ، تماما كما تقول : علمت ان زيدا قائم. وانما الثانية بكسر الهمزة مكفوفة عن العمل ، ومعناها الحصر. واللام في ليزدادوا لام الصيرورة والعاقبة ، أي فكانت عاقبة الاملاء ان ازدادوا اثما ، مثل فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا.

المعنى :

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً). سبق ان المشركين جمعوا الجموع ، وجهزوا الجيوش لمحاربة الرسول (ص) ، وان المنافقين كانوا يؤازرونهم ، ويدسون الدسائس على المسلمين. وفي هذه الآية وصف الله سبحانه كلا من المنافقين والمشركين بالعتو والحرص على معاندة الحق وحربه ، وكان النبي (ص) يحزن ويتألم من صنيعهم هذا ، فقال له الجليل : لا تحزن .. انهم لن ينالوا منك ولا من المسلمين ولا من دين الله كثيرا ولا قليلا ، وان أمرهم سيضمحل ، وتزول شوكتهم ، أما دينك فسيعظم شأنه ، وتعلو كلمته .. وهكذا كان ، فلم تمض الأيام ، حتى مكن الله للإسلام في شرق الأرض وغربها ، ومحق الذين كانوا بالأمس يسارعون في عدائه وحربه.

(يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). هذا مصير كل من تمادى في الغي ، ولم يرتدع عنه ، حتى مات عليه.

٢٠٩

وتسأل : ان ظاهر الآية يشعر بأن الشر من الله ، لأن عذاب جهنم شر ، وقد أراده الله لهم؟

الجواب : أجل ، ان الله أراد لهم العذاب ، ولكن بعد ان استحقوه ، لأنه تعالى أمرهم بالإيمان ، ونهاهم عن الكفر ، وترك لهم الخيار ، فاختاروا الكفر على الإيمان ، ومعنى هذا ان المشركين والمنافقين هم الذين أوجدوا سبب العذاب ، وبعد أن أوجدوه مختارين أراد الله لهم العذاب ، تماما كالقاضي يريد السجن للمجرم بعد أن يرتكب الجريمة.

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). ولفظ اشتروا يشعر بالاختيار ، لأن المشتري يختار السلعة ، ويرضى بها بديلا عن الثمن ، والكافر رضي بالكفر بديلا عن الايمان ، فاستحق العذاب الأليم.

وتسأل : لقد كرر سبحانه (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) في آيتين لا فاصل بينهما ، فما هو السر؟.

الجواب : المراد بالآية الأولى كفار قريش الذين جهزوا الجيوش لحرب الرسول (ص) ومن كان يؤازرهم من المنافقين ، والمراد بالآية الثانية كل من كفر من الأولين والآخرين محاربا كان أو غير محارب ، وعليه يكون ذكر الآية الثانية من باب ذكر العام بعد ذكر الخاص ، وهو كثير في كلام العرب ، يقولون : فلان قامر بأمواله ، فأهلك نفسه. وكل من يفعل فعله فهو من الهالكين.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ). ان عمر الإنسان كثروته ، ان أحسن التصرف بها ، وأنفقها على نفسه وأهله والمعوزين من عباد الله وعياله عادت عليه بالخيرات والحسنات ، وكلما زادت ثروته تضاعف إنفاقه في الطاعة ، وتضاعفت بذلك حسناته ، وان أساء التصرف بها ، وأنفقها في المعصية عادت عليه بالسيئات ، وكلما نمت وربت ثروته ازداد عتوا وفسادا.

وهكذا العمر ، يبلغ الإنسان به السعادة ان أحسن العمل .. ويكون سببا لشقائه ان أساء .. وهذه سنة إلهية واجتماعية في آن واحد .. وكل السنن المألوفة المعروفة طبيعية كانت أو اجتماعية فهي سنة الله في خلقه.

٢١٠

والله سبحانه قد جرى مع الكافرين على سنته في الناس أجمعين ، أمهل من أمهل باطالة العمر ، ليصيب من هذه الحياة ما يختاره لنفسه من خير أو شر ، ولكن الكافر اغتر بالامهال ، واسترسل في البغي ، فكانت النتيجة من إمهاله شقاءه وعذابه ، على العكس من المؤمن إذا انسأ الله في أجله ، حيث تزداد خيراته ، وتكثر حسناته ، بل من أحسن فيما بقي من عمره لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه ، كما جاء في الحديث الشريف .. ومن هذا يتبين ان اللام في قوله تعالى : (لِيَزْدادُوا) هي للعاقبة لا للتعليل.

الكافر وعمل الخير :

وتسأل : ان بعض الكفار يعملون الخير لوجه الخير ، وكلما طالت أعمارهم ازدادوا نفعا للانسانية بعلومهم وجهودهم الخالصة من كل شائبة .. وهذا يتنافى مع ظاهر قوله تعالى: (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً)؟

الجواب : ان سياق الآية يحدد المراد من الإثم فيها ، وانه خصوص الكفر ، وانهم من هذه الحيثية يزدادون كفرا ، لا من جميع الجهات ، إذ قد يكونون محسنين في بعض أعمالهم.

سؤال ثان : هل يثاب الكافر إذا أحسن ونفع الناس ، أم ان عمله هذا وعدمه سواء؟.

الجواب : ان الإنسان بالنظر الى الايمان والعمل الصالح لا يخلو أن يكون واحدا من أربعة :

١ ـ ان يؤمن ويعمل صالحا ، وينطبق على هذا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ـ ٣٠ فصلت».

٢ ـ ان لا يؤمن ولا يعمل صالحا .. وهذا من الذين : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) ـ ١٩ المجادلة».

٢١١

٣ ـ ان يؤمن ، ولكنه لم يعمل صالحا مدة حياته .. وهذا من حزب الشيطان ، تماما كالثاني .. ولو كان مؤمنا حقا لظهرت عليه علامة من علامات الايمان ، قال رسول الله (ص) : لا ينجي الا العمل ، ولو عصيت لوهيت. أما إذا خلط عملا صالحا ، وآخر سيئا ، واعترف بذنبه فتشمله الآية ١٠٣ من التوبة : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

٤ ـ ان يعمل صالحا ، ولا يؤمن ، كالكافر يطعم جائعا أو يكسو عاريا أو يشق طريقا أو يبني ميتما أو مصحا لوجه الخير والانسانية .. وقيل ان عمله هذا وعدمه سواء ، لقوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ـ ٣٠ المائدة». والكافر ليس من المتقين ، إذ ليس بعد الكفر ذنب.

ونجيب أولا : ليس المراد من قوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ان الإنسان إذا عصى الله في شيء لا يقبل منه إذا أطاعه في شيء آخر .. والا لزم ان لا يتقبل الا من المعصوم .. وهذا يتنافى مع عدله وحكمته ، وانما المراد من الآية ان الله سبحانه لا يقبل الا العمل الخالص من كل شائبة دنيوية ، وان من عمل لغير الله والخير يكله الى من عمل له .. وليس من شك ان من عمل الخير لوجه الخير والانسانية فقد عمل لله ، سواء أراد ذلك ، أم لم يرد ، ومن عمل لله فأجره على الله.

أما المراد من (ليس بعد الكفر ذنب) فهو ان الكفر أكبر الكبائر على الإطلاق ، وان الذنب مهما عظم فانه دون الكفر بمراتب .. وهذا شيء ، وجزاء من أحسن شيء آخر.

ثانيا : ان الله سبحانه عادل ، ومن عدله أن لا يكون المحسن والمسيء لديه سواء ، بل للمسيء جزاؤه ، وللمحسن جزاؤه ، وليس من الضروري ان يكون جزاء المحسن غير المؤمن في الآخرة .. فقد يكون في الدنيا بكشف الضر والبلوى ، قال رسول الله (ص) : «صنائع المعروف تقي مصارع السوء» .. وأيضا لا ينحصر جزاء الآخرة بالجنة ، فقد يكون بتخفيف العذاب ، أو لا عذاب ولا ثواب ، كما هي حال أهل الاعراف.

واختصارا ان الإنسان مجزي بأعماله ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشر ،

٢١٢

والكافر يستحق العقاب على كفره ، وقد فعل الخير لوجه الخير ، فيستحق عليه الثواب ، ولكل عمل حساب .. أجل ، نحن لا ندرك كنه الثواب الذي يثاب به المحسن غير المؤمن ، ولا متى وأين؟ أفي الدنيا أو في الآخرة؟ ان هذا موكول الى علم الله وحكمته ، وتحديده بشيء معين مشاركة لله في علمه ، فليتق الله من يؤمن به.

وبهذه المناسبة نذكر كلمة للسيد كاظم صاحب العروة الوثقى ، قالها في ملحقات العروة ، باب الوقف ، مسألة اشتراط نية القربة ، وهذه هي بالحرف : «يمكن أن يقال بترتب الثواب على الأفعال الحسنة ، وان لم يقصد بها وجه الله ، فان الفاعل لها يستحق المدح عند العقلاء ، وان لم يقصد بفعله التقرب الى الله ، فلا يبعد ان يستحق من الله تعالى التفضل عليه».

فهذا العالم الجليل يقول بكل وضوح : انه من الجائز أن يثيب الله على الأفعال الحسنة وان لم يقصد بها وجه الله .. اذن ، فبالأولى أن يثيب الله فاعلها إذا قصد وجه الخير والانسانية ، وسبقت الاشارة أكثر من مرة الى أن العقل لا يأبى ان يمن الله بفضله وثوابه على المذنب وانما الذي يأباه العقل أن يعاقب الله من لا يستحق العقاب.

تمييز الخبيث من الطيب الآة ١٧٩ :

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩))

٢١٣

الإعراب :

ما كان الله اللام في ليذر تسمى لام الجحود ، لأنها تؤكد النفي ، وان مضمرة بعدها ، والمصدر المنسبك مجرور باللام متعلق بمحذوف خبر لكان ، والتقدير ما كان الله مريدا لترك المؤمنين. ومثلها وما كان الله ليطلعكم ، أي ما كان مريدا لاطلاعكم. وحتى هنا بمعنى كي. ويميز فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى.

المعنى :

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) كان أعداء الرسول (ص) فئتين : الأولى المشركون ، وهم الذين رفضوا الإيمان به باطنا وظاهرا ، وأعلنوا الحرب عليه منذ البداية ، وانتهت بهم الحال الى أن جمعوا له الجموع ، وأعدوا له ما استطاعوا من قوة ، فجمع لهم كما جمعوا ، وأعد كما أعدوا .. فكانوا أعداء معروفين متميزين عن غيرهم من المسلمين.

الفئة الثانية : المنافقون ، وهم الذين أضمروا الكفر والعداء للنبي وصحبه ، وأظهروا لهم الحب والولاء .. وكانت مهمتهم العمل ضد النبي (ص) داخل صفوف المسلمين .. فتارة يروجون الاشاعات الكاذبة ، وأخرى يغرون المسلمين بمعصية الله والرسول (ص) ، وحينا يثبطون عزائمهم ، ويخوفونهم من المشركين .. وفي بعض الغزوات انضموا الى جيش المسلمين ، ثم تركوهم في منتصف الطريق ، وقد لاقى منهم النبي والخلص من أصحابه أكثر مما لاقوه من المشركين ، لأن هؤلاء يحاربون في العلنية ، والمنافقون يكيدون في الخفاء ، ويدبّون الضراء .. وهذا شأنهم مع كل داع الى الخير في كل زمان ومكان ، يندسون في صفوف الطيبين للفساد والتخريب ، وقد ذكرهم الله سبحانه في العديد من الآيات ، منها الآية ١٧٣ ـ ١٧٩ وهي التي نحن بصددها ، ومنها الآية ١١٢ من سورة الانعام : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً).

٢١٤

وقد فرض على النبي (ص) ان يعامل هؤلاء ، وكل من نطق بكلمة الإسلام معاملة المسلمين ، فيحقن دماءهم ، ويحترم أموالهم ، ويندبهم الى الحرب معه ، ويشركهم في الغنائم ، لأن الإسلام ما زال في دور الإنشاء والتكوين ، فلو قتلهم الرسول ، أو طردهم لقال البسطاء : ان محمدا لا يرضيه أحد آمن به أو كفر ، ولاتخذ المشركون من ذلك وسيلة للدعاية ضد الإسلام ونبيه .. ومن أجل هذا حار النبي (ص) في أمر المنافقين ، وضاق بهم ذرعا .. ان قبلهم أفسدوا ، وزهدوا المسلمين في الجهاد ، وان رفضهم خاف على دعوته من قلة الأنصار والأتباع ، فأنزل الله سبحانه قوله : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ). أي ليس من حكمته تعالى ان يدع الحال كذلك ، يتوارى المنافقون وراء دعوى الإسلام ، بل انه سبحانه يسلط عليهم الأضواء ، ليعرفوا ويفتضحوا أمام الملأ ، ولا يبقى لهم منفذ للكيد والفساد .. والمحك الذي يفضح المنافقين ليس أمرا بالكلام كالتلفظ بالشهادتين ، ولا بالركوع والسجود ، وما اليه مما لا عسر فيه ولا حرج ، وانما هو الأمر بالجهاد وبذل النفس الذي يكشف الغطاء عن المنافقين ، ولا يبقي لهم مجالا للرياء والخداع ، والكيد ونفث السموم.

بهذا الامتحان العسير ، والأمر بالصبر والثبات في وقعة أحد تعرفون يا معشر المؤمنين نعمة الله عليكم ، وانه لم يدعكم على الحال التي كنتم عليها من التباس الصادقين منكم بالأعداء الأدعياء الذين تقنعوا من قبل باسم الإسلام .. والمراد بالطيب المؤمنون ، وبالخبيث المنافقون ، وأفرد اللفظ ، لأنه اسم جنس.

(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ). أي ليس من حكمته تعالى ، ولا من سننه أن يطلعكم على علمه بالناس ، ويقول لكم : هذا طيب ، وذاك خبيث ، بل عليكم أن تعرفوا ذلك بالتجربة عند المحن والشدائد ، كما حدث في وقعة أحد ، وعند ما دعا النبي (ص) الصحابة على ما بهم من ألم الجراح أن يخرجوا معه ثانية لطلب العدو ، ومقابلته في حمراء الأسد .. وبكلمة ان الله لا يخبر أحدا بما في قلوب الناس من ايمان ونفاق ، وانما يأمر بالتضحية بالنفس والمال ، وعند التنفيذ والعمل يعرف الأصيل من الدخيل.

أجل ، ان الله يطلع بعض رسله على نفاق هذا ، أو ايمان ذاك لحكمة هو بها أعلم ، وهذا معنى قوله سبحانه : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ).

٢١٥

ومثله الآية ٢٦ من سورة الجن : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ).

ولله ميراث السموات والأرض الآة ١٨٠ ـ ١٨٢ :

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢))

الإعراب :

يحسبن فعل مضارع ، والذين يبخلون فاعل. والمفعول الأول ليحسبن محذوف ، والتقدير البخل خيرا ، مثل من كذب كان شرا له ، أي كان الكذب شرا له. وخيرا مفعول ثان. و (هو) ضمير فصل لا محل له من الاعراب .. وما بخلوا (ما) منصوبة بنزع الخافض ، أي سيطوقون بما بخلوا به طوقا في أعناقهم. وقتلهم الأنبياء منصوب ، لأنه معطوف على ما قالوا ، أي وسنكتب قتلهم الأنبياء. وذلك مبتدأ. وبما قدمت (بما) متعلق بمحذوف خبر. وان الله بفتح الهمزة ، على تقدير الباء ، أي وبأن الله ليس بظلام للعبيد ، والمصدر المنسبك مجرور بالباء ، متعلق بالخبر المحذوف.

٢١٦

المعنى :

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ). بعد ان حرض سبحانه فيما تقدم على بذل النفس عقبه بالتحريض على بذل المال .. والمقصود بالآية الذين يمتنعون عن إعطاء الزكاة والخمس الواجبين ، لا عن بذل الصدقة المستحبة ، لأن الوعيد الشديد الذي دلت عليه الآية انما يحسن على ترك الواجب دون المستحب.

وقيل : المراد بالآية من كتم اسم محمد (ص) وصفاته الواردة في التوراة والإنجيل ، وقيل : بل كلّ من بخل بعلمه عمن يحتاج اليه .. ولكن المتبادر من الآية البخل بالمال ، لا بالعلم ، ويومئ اليه قوله تعالى.

(سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ). هذا تفسير لقوله (هُوَ شَرٌّ لَهُمْ). والتطويق هنا كناية عن شدة العذاب نظير قوله تعالى : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) ـ ٣٦ التوبة».

الغني وكيل لا أصيل :

لقد حث الله سبحانه على البذل والإنفاق في العديد من آياته ، وفي الكثير منها إيماء الى أن جميع الأموال ليست ملكا لمن هي في يده ، وانما هي ملك لله وحده ، والإنسان أمين عليها ، ومأذون بالتصرف فيها ضمن حدود معينة لا يجوز أن يتعداها ، تماما كالوكيل على الشيء يتبع ارادة الأصيل في جميع التصرفات (١) ومن تلك الآيات هذه الآية : (يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) .. والآية ٧٧ من القصص : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ..) والآية ٤٧ من سورة يس : (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) .. الى كثير غيرها .. وفي الحديث القدسي : المال مالي ، والأغنياء وكلائي ، والفقراء عيالي ، فمن بخل بمالي على عيالي أدخلته النار ، ولا أبالي. وأصرح الآيات دلالة الآية ٧ من سورة الحديد :

__________________

(١) بعد أن تنتهي من قراءة هذا الفصل اقرأ فصل «الايمان بالله ومشكلة العيش» في تفسير الآية ٥ من سورة النساء ، فانه مرتبط بهذا الفصل.

٢١٧

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ). ومعنى جعله خليفة أقامه مقامه.

فالآيات والأحاديث تفيد ان الإسلام لا يقر ملكية الإنسان للمال بشتى معانيها ، سواء أكانت الملكية فردية مطلقة ، كما هي في المذهب الرأسمالي ، أو ملكية مقيدة ، كما هي في المذهب الاشتراكي ، او ملكية جماعية ، كما هي في المذهب الشيوعي .. كل هذه الأنواع للملكية ينفيها الإسلام ، ويحصر الملك الحقيقي بالله وحده ، ولكنه سبحانه قد أباح للإنسان أن يتصرف في هذا المال ، وينفقه على نفسه وأهله بالمعروف ، وفي سبيل الخير ، على شريطة أن يصل اليه عن طريق ما أحله الله ، لا عن طريق ما حرم ونهى ، كالغش والخداع ، والنهب والسلب ، والرشوة والربا والاحتكار والاتجار بالمسكرات والمحرمات ، فالاذن بالاستيلاء على المال محدود بحدود ، والاذن بالتصرف فيه أيضا محدود ضمن نطاق خاص.

وتسأل : ان بعض الآيات تدل على ان المال ملك للإنسان ، مثل : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ .. وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ). وفي الحديث : «ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام .. الناس مسلطون على أموالهم» أما البيع والإرث فهما من ضرورات الدين ، والشريعة الاسلامية .. اذن ، لا مسوغ للقول بأن الإسلام يلغي الملكية بشتى أنواعها؟

الجواب : ان الاضافة تصح لأدنى مناسبة ، تقول للضيف : هذا اناؤك ، وللضال : هذا طريقك ، مع العلم بأن الإناء ليس ملكا للضيف ، ولا الطريق ملكا للضال ، وانما القصد ان يسلك الضال الطريق المشار اليه ، ويأكل الضيف الطعام الذي في الإناء .. ومثله تماما اضافة المال للإنسان ، يقصد منها أن يتصرف فيه على سبيل الاباحة والاذن بالتصرف ، لا على سبيل الملك ، ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) ـ ٧٤ النحل». وقول الرسول (ص) : «أنت ومالك لأبيك» .. وبديهة ان الزوجة ليست ملكا طلقا للزوج ، ولا الولد ملكا حقيقيا للوالد.

أما البيع والإرث فيكفي لجوازهما حق الامتياز والاختصاص ، أي ان الإسلام قد جعل لصاحب اليد امتيازا على غيره في التصرف بالمال ، وفي الوقت نفسه

٢١٨

أباح له أن ينقل الامتياز الى الوارث والمشتري .. والفرق بعيد بين الملك الحقيقي والامتياز.

والخلاصة ان الإسلام أباح للإنسان حيازة المال بشروط خاصة ، وإنفاقه ضمن نطاق معين ، وشدد على مراعاة تلك الشروط ، وهذا النطاق ، وحرم التجاوز عنهما ، وهذا وحده كاف وصريح في الدلالة على ان الإنسان وكيل على المال ، لا أصيل ، والا جاز له التصرف بلا قيد ولا شرط. وخير ما نختم به هذا الفصل قول الإمام جعفر الصادق (ع) : المال مال الله وهو ودائع عند عباده ، وجوز لهم أن يأكلوا قصدا ـ أي مقتصدين ـ ويلبسوا قصدا ، وينكحوا قصدا ، ويركبوا قصدا ، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين ، ويلموا به شعثهم ، فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا ويشرب حلالا ، ويركب وينكح حلالا ، وما عدا ذلك كان عليه حراما.

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ). لم تذكر الآية أسماء الذين نطقوا بهذا الكفر ، ولكن المفسرين نقلوا ان الله حين أنزل على نبيه قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قال يهود المدينة الذين كانوا في عهد الرسول (ص) : «انما يستقرض الفقير من الأغنياء .. اذن ، الله فقير ، ونحن أغنياء» .. وليس هذا بمستبعد على اليهود ، بخاصة الاثرياء منهم ، فان مبادئهم وأعمالهم تدل دلالة واضحة على هذه الروح الشريرة ، واللامبالاة بالقيم والانسانية .. ومن تتبع تاريخهم يجد ان ما من بقعة من بقاع الأرض إلا وتركوا فيها أثرا من مفاسدهم ومقاصدهم الطاغية الباغية .. ولا شيء أصدق وأبلغ في تصوير حقيقة اليهود من قوله تعالى : (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ، لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ، وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) ـ ٦١ المائدة.

ولست أشك إطلاقا في ان كل من يعترض على حكمة الله ، ويقول بلسان المقال أو الحال : ما كان ينبغي لله أن يفعل كذا ، وكان عليه أن يفعل كيت ، لست أشك في ان هذا يلتقي من حيث يريد أو لا يريد ، مع الذين قالوا : يد الله مغلولة.

٢١٩

(سَنَكْتُبُ ما قالُوا). هذا تهديد ووعيد للذين قالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) لأن كتابة الذنب تستدعي العقوبة عليه. (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ). ونكتب قتل أسلافهم للأنبياء ، ونسب اليهم القتل مع ان القاتل أسلافهم ، لأن الخلف راض بما فعل السلف .. وسبق الشرح عند تفسير الآية ٢١ من هذه السورة.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). وكيف يظلم وقد نهى عن الظلم ، واعتبره أكبر الكبائر ، وعبر عنه بالكفر في أكثر من آية؟. هذا ، الى ان الظالم انما يظلم لأنه مفتقر الى الظلم ، والله غني عن كل شيء .. وبهذا الأصل ، وهو غنى الله وعدم افتقاره الى شيء نثبت عدله سبحانه ، وأيضا نثبت انه ليس بجسم ، لأن الجسم يفتقر الى حيز.

وبهذا يتبين معنا بطلان مذهب القائلين بأن الشر من الله ، وانه يخلق المعصية في العبد ، ثم يعاقبه عليها .. اللهم الا ان يبرروا مذهبهم بأنه جل وعز قال : ان الله ليس بظلّام ، ولم يقل ليس بظالم ، ومعلوم ان ظلّام من أمثلة الكثرة والمبالغة .. وعليه فإن الله سبحانه نفى عنه كثرة الظلم والمبالغة فيه ، لا أصل الظلم .. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

القربان والنار الآة ١٨٣ ـ ١٨٤ :

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ)

٢٢٠