التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

١
٢

٣
٤

الجزء الثالث

سورة آل عمران

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

الاعراب :

مصدقا حال من الكتاب ، وهدى مفعول من أجله لا نزل ، ويجوز أن يكون حالا ، وكيف محل نصب قائم مقام المفعول المطلق ، أي يصوركم تصويرا أيّ تصوير يشاؤه ، مثل أفعل كيف شئت ، والمعنى أيّ فعل شئت ، ويجوز أن تكون حالا.

المعنى :

(الم). مر تفسيرها في أول سورة البقرة. (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ). مر تفسيرها في أول آية الكرسي ٢٥٥ سورة البقرة.

٥

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ). المراد بالكتاب القرآن ، وهو مصدق للكتب المنزلة على الأنبياء السابقين ، وبديهة ان تصديق ما انزل على الأنبياء لا يستلزم تصديق الكتب التي ينسبها اليهم بعض الطوائف .. وها نحن المسلمين نؤمن بقول رسول الله (ص) ، ومع ذلك لا نؤمن بكل ما في كتب الحديث المروية عنه ، أما من يؤمن بالكتب المنزلة على الأنبياء السابقين فعليه أن يؤمن حتما بالقرآن ، وإلا ناقض نفسه بنفسه ، لأن القرآن مصدق لتلك الكتب ، فتكذيبه تكذيب لها بالذات.

(وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ). ووصف التوراة والإنجيل بالهدى يستلزم انهما قد انزلا بالحق ، كما ان وصف القرآن بأنه نزل بالحق يستلزم أن يكون هدى للناس .. إذن ، فكل واحد من الكتب الثلاثة حق وهدى.

والمراد بالهدى هنا بيان الله سبحانه للحلال والحرام على لسان أنبيائه ، وهذا البيان يفيد العلم بأحكام الله ، أما العمل بها فيحتاج إلى هدى من نوع آخر زائدا على البيان ، ولا أجد لفظا أعبّر عنه سوى التوفيق ، وهو المشار اليه بقوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ـ القصص ٥٦».

التوراة والإنجيل :

يطلق القرآن لفظ التوراة على ما أنزله الله تعالى من الوحي على موسى (ع) ، ويطلق لفظ الإنجيل على الوحي الذي أنزله على عيسى (ع). ولكن القرآن قد بيّن وسجّل ان التوراة والإنجيل اللذين يعترف بهما هما غير التوراة والإنجيل الموجودين الآن عند اليهود والنصارى ، قال تعالى في الآية ٤٥ من سورة النساء :(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ). وقال في الآية ١٤ من سورة المائدة : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ). وفي الآية ١٥ من السورة المذكورة : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ).

٦

والمبشرون المسيحيون أعرف الناس بهذه الحقيقة ، ومع ذلك يدلسون ويوهمون العوام بأن القرآن يعترف بالتوراة والإنجيل اللذين لعبت بهما يد التحريف .. ان القرآن بكامله هو كلام واحد ، وجملة واحدة ، لا يجوز الايمان ببعضه ، والكفر ببعضه الآخر.

والتوراة كلمة عبرانية ، ومعناها الشريعة ، وتطلق عند أهل الكتاب على خمسة أسفار: الأول سفر التكوين ، وفيه الكلام عن بدء الخليقة ، وأخبار الأنبياء ، الثاني سفر الخروج ، وفيه تاريخ بني إسرائيل وقصة موسى ، الثالث سفر التثنية ، وفيه أحكام الشريعة اليهودية ، الرابع سفر اللاويين ، واللاويون هم نسل لاوي أحد أبناء يعقوب ، وفيه العبادات والمحرمات من الطيور والحيوانات ، الخامس سفر العدد ، وفيه احصاء لقبائل بني إسرائيل وجيوشهم ، وهذه الأسفار الخمسة هي من مجموعة أسفار تبلغ تسعة وثلاثين سفرا ، ويطلق النصارى عليها اسم العهد القديم.

أما الإنجيل فكلمة يونانية الأصل ، ومعناها البشارة ، والأناجيل عند المسيحيين أربعة : الأول إنجيل متى ، ويرجع تاريخ تأليفه إلى حوالي سنة ٦٠ بعد الميلاد ، وقد ألف باللهجة الآرامية. الثاني إنجيل مرقص ، وألفه باللغة اليونانية حوالي سنة ٦٣ أو ٦٥ ، الثالث إنجيل لوقا ، ألفه باللغة اليونانية بتاريخ إنجيل مرقص ، الرابع إنجيل يوحنا ، ألفه باللغة اليونانية حوالي سنة ٩٠ بعد الميلاد.

وقد استقر رأي المسيحيين في أوائل القرن الخامس الميلادي على اعتماد سبعة وعشرين سفرا من أسفارهم ، وقالوا : انها موحى بها لأصحابها من الرب ، ولكن بمعانيها لا بألفاظها ، وأطلقوا عليها اسم العهد الجديد ، للمقابلة بينها ، وبين ما اعتمد من أسفار اليهود المقدسة التي أطلقوا عليها اسم العهد القديم ، فالقديم يرجع إلى عهد موسى ، والجديد الى عهد عيسى ، ومعنى العهد الميثاق (١). ومر ما يتصل بهذا الموضوع عند تفسير الآية ٣ من سورة البقرة فقرة (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ).

(وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ). الفرقان مصدر فرق ، وهو ما يفرق بين الحق والباطل ،

__________________

(١) تلخيص من كتاب «الاسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام» لعلي عبد الواحد وافي.

٧

وقد اختلفوا في المراد منه : هل هو العقل ، أو الزبور ، أو القرآن ، أو كل دلالة فاصلة بين الحق والباطل ، واختار الشيخ محمد عبده العقل ، وصاحب مجمع البيان القرآن. ولفظ الآية يحتمل المعنيين.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ). قال المفسرون : ان ستين رجلا من نصارى نجران اليمن وفدوا على رسول الله السنة التاسعة للهجرة ، وهي السنة المعروفة بعام الوفود ، حيث توافد فيه الناس على النبي (ص) من شتى بقاع الجزيرة العربية يخطبون وده بعد أن نصره الله على أعداء الإسلام (١) واحتج وفد نجران لعقيدة النصارى بالتثليث وألوهية عيسى ، احتج بأن عيسى ولد من غير أب ، وبما جرى على يديه من المعجزات التي اعترف بها القرآن.

وقال المفسرون أيضا : ان سورة آل عمران من أولها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران ، والرد عليهم ، فبدأ الله سبحانه بذكر التوحيد نفيا للتثليث ، ثم ذكر القرآن والتوراة والإنجيل ، لأن هذه الكتب الثلاثة تنزه الله عن الولد ، والحلول أو الاتحاد ، وتنفي عن عيسى طبيعة الالوهية ، ثم ذكر سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) للرد على قول النصارى بأن عيسى كان يعلم الغيب.

ثم ذكر جل وعلا انه (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). ذكر سبحانه هذا ليبطل به قول النصارى بأن عيسى إله لأنه من غير أب ، ووجه البطلان ان الإله لا يخلق ويوجد في الأرحام ، وإنما الإله هو الخالق المصور للمخلوق في رحم أمه ، فان شاء خلقه وصوره بواسطة الأب ، وان شاء خلقه بغير هذه الواسطة حسبما تستدعيه حكمته القدسية.

وخلاصة القول ان الإخبار ببعض المغيبات ، وإحياء بعض الأموات ، والولادة بلا أب لا يدل شيء منها على ان عيسى إله ، لأن الإله هو الذي يعلم جميع المغيبات ، لا بعضها ، والذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ،

__________________

(١) التفصيل عند تفسير الآية ٦١ المعروفة بآية المباهلة. فإلى هناك.

٨

والذي يحيي جميع الأموات ، دون استثناء ، والذي يقدر على كل شيء ، حتى على الخلق من غير أب ، وإيجاد الشيء من لا شيء .. وبديهة ان عيسى لم يكن يعلم جميع المغيبات ، ولا يقدر على إحياء جميع الأموات ، ولم يخلق أحدا في رحم أمه بواسطة الأب أو بلا أب ، بل العكس هو الصحيح فإنه هو الذي خلق في الرحم.

الحکم والمتشابه الآة ٧ ـ ٩ :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))

اللغة :

أحكم الأمر إذا أتقنه ، والمراد بالمحكم هنا اللفظ الواضح الذي لا يحتاج إلى تفسير ، والمتشابه ما يحتاج إلى التفسير ، والزيغ مطلق الميل ، والمقصود به هنا الميل عن الحق ، والتأويل من آل إلى كذا ، والمراد به هنا التفسير ، والرسوخ الثبوت.

٩

الإعراب :

منه متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وآيات مبتدأ مؤخر ، ومحكمات صفة ، وهن أم الكتاب مبتدأ وخبر ، وآخر صفة لآيات محذوفة ، وابتغاء مفعول من أجله ليتبعون ، وليوم اللام بمعنى في ، وربنا منادى ، أي يا ربنا.

المعنى :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ). تنقسم آيات القرآن بالنظر الى الوضوح والخفاء إلى نوعين : محكم ومتشابه :

والمحكم هو الذي لا يحتاج إلى تفسير ، ويدل على المعنى المقصود منه دلالة واضحة قطعية لا تحتمل تأويلا ولا تخصصا ولا نسخا ، ولا تترك مجالا للذين في قلوبهم مرض أن يضللوا ويفتنوا بالتأويل والتحريف .. ومن أمثلة المحكم قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ..(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ..(لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) ..(إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ..(وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) ، وما إلى ذلك مما يستوي في فهمه العالم والجاهل.

والمتشابه ضد المحكم ، وهو على أنواع :

«منها» : ما يعرف معناه على سبيل الإجمال دون التفصيل ، مثل قوله تعالى : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) .. فان منتهى معرفتنا بالروح انها سر إلهي يحدث للإنسان بسببه الإدراك والشعور ، أما معرفة هذا السر بكنهه وحقيقته فهو من أمر ربي لا يعرفه ، حتى العلماء ، وليس الشرط لصحة الخطاب بالشيء أن يعرفه المخاطب بالتفصيل ، بل تكفي المعرفة الاجمالية.

و «منها» : أن يدل اللفظ على شيء يأباه العقل ، مثل ثم استوى على العرش .. فلفظ العرش يدل على السرير ، والعقل يرفض هذه الدلالة ، لأن الله سبحانه فوق الزمان والمكان ، فيتعين التأويل ، وهو من اختصاص أهل العلم ، إذ لا بد للتأويل من دليل صحيح يصرف اللفظ الى معنى صحيح ، ولا يعرف هذين إلا أهل الاختصاص.

١٠

و «منها» : أن يتردد اللفظ بين معنيين أو أكثر ، مثل قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ، حيث يطلق القرء على الطهر والحيض معا.

و «منها» أن يكون اللفظ عاما يشمل بظاهره جميع المكلفين ، ولكن المراد منه بعض أفراده ، لا جميعها ، مثل قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) .. مع العلم بأن السارق لا يقطع إذا كان أبا لصاحب المال ، ولا في سنة المجاعة ، ولا إذا كان المسروق في غير حرز ، أو كان دون ربع دينار.

و «منها» : الحكم المنسوخ ، كالصلاة الى بيت المقدس ، حيث دل الدليل على ثبوت هذه القبلة واستمرار حكمها في بدء الدعوة ، ثم جاء دليل الناسخ ، وحوّلها إلى الكعبة.

وليس من شرط المتشابه ان لا ترجى معرفته إطلاقا ، حتى للعلماء ، وبشتى أنواعه .. كلا ، فان جميع أنواع المتشابه ـ ما عدا النوع الأول ـ يمكن لعلماء الأصول العارفين بطرق التأويل ، وأحكام الخاص والعام ، والناسخ والمنسوخ ، والترجيح بين المتعارضين ـ ان يستخرجوا الخاص من العام ، ويميزوا بين الناسخ والمنسوخ ، والراجح والمرجوح ، والمعنى المعقول الذي أوّلت به الدلالة اللفظية بعد أن رفضها العقل .. وعلى هذا يكون المتشابه بالنسبة إلى العالم واضحا ، ولكن بعد البحث والاستقصاء ، وعملية الموازنة والمقارنة بين المتشابه ، وبين ما يتصل به من القرائن والدلائل .. أجل ، يبقى المتشابه على أشكاله بالنسبة إلى الجاهل الذي لا يجوز له أن يؤوّل ، أو يأخذ بظاهر يقبل التخصيص أو النسخ.

وخلاصة القول ان العلماء يعلمون معاني القرآن ، وهو بلاغ مبين بالنسبة اليهم ؛ إذ لا يجوز بحال أن ينزل الله كلاما لا معنى له ، أو لا يفهمه أحد ، حتى العلماء .. كيف؟ وقد أمر الله بتدبر القرآن ، ولا يكون التدبر والتعقل إلا للمعقول .. والذي لا يفهم لا يمكن تدبره وتعقله.

وتسأل : ان الله قد وصف كتابه العزيز بأن آياته كلها محكمة ، قال عز من قائل في الآية ١ من سورة هود : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) .. وأيضا وصف كتابه بأن آياته كلها متشابهة ، قال في الآية ٢٣ الزمر : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) .. وأيضا وصف كتابه بأن بعض آياته محكمة ،

١١

وبعضها متشابهة ، قال في الآية التي نحن بصددها : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) .. فما هو طريق الجمع بين هذه الآيات؟.

الجواب : ان المراد بقوله تعالى : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أنها أحكمت في النظم والإتقان ، وانها جميعا فصيحة اللفظ ، صحيحة المعنى ، والمراد بقوله : (كِتاباً مُتَشابِهاً) ان بعضه يشبه بعضا في البلاغة والهداية ، قال أمير المؤمنين : القرآن ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، والمراد بقوله : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) ان بعضها واضح المعنى لا يحتاج إلى تفسير ، وبعضها غامض يحتاج فهمه إلى تفسير ، والتفسير يحتاج إلى المعرفة والعلم بالصناعة ، كما أشرنا .. فلا تهافت بين الآيات الثلاث بعد اختلاف الجهة ، فهي أشبه بقول القائل : أحب السفر ، ولا أحب السفر ، ثم أوضح مراده بقوله : أحب السفر برا ، ولا أحبه بحرا ، قال بعض الصوفية مخاطبا ربه :

يا من أراه ولا يراني

يا من يراني ولا أراه

يريد أرى الله مفضلا عليّ ، ولا يراني مطيعا له ، ويراني عاصيا ، ولا أراه معاقبا.

سؤال ثان : ما هو المراد من الأم في قوله تعالى : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ)؟.

الجواب : بعد أن أوضح سبحانه ان في كتابه آيات متشابهات لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم قال : ولكن الآيات التي وردت في أصول العقيدة ، كالايمان بالله ونفي الشريك عنه ، وكالايمان بنبوة محمد (ص) واليوم الآخر ، ان هذه الآيات واضحة المعنى بيّنة القصد ، لا التباس فيها ولا غموض ، ولا مجال فيها للتأويل ، أو التخصيص ، أو النسخ ، ويستوي في فهمها العالم والجاهل ، وهي في نفس الوقت الأصل والأساس في كتاب الله ، لأنها في العقيدة ، وما عداها يتفرع عنها ، ويرجع اليها.

وعلى هذا فلا وجه ، ولا مبرر لوفد نجران اليمن وغيره أن يطلب الآيات المتشابهة ، مثل الآية التي وصفت عيسى بأنه روح الله ، ويتجاهل تلك الآيات

١٢

الواضحة التي نفت الربوبية عن عيسى ، لا مبرر لمن يتجاهل المحكم ، ويطلب المتشابه إلا مرض القلب ، والقصد الفاسد.

سؤال ثالث : لما ذا قال : هن أم الكتاب ، ولم يقل أمهات الكتاب؟

الجواب : انه أفرد الأم لبيان ان الآيات المحكمات بمجموعها هي ام الكتاب وأصله ، وليست كل آية بمفردها اما ، ومثله قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) ولم يقل آيتين ، لأن كلا منهما جزء متمم للآية ، فهي لا تكون آية إلا به ، وهو لا يكون آية إلا بها.

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ). معنى الزيغ هنا الميل والانحراف عن الحق ، وابتغاء الفتنة اشارة إلى أن أصحاب المقاصد الفاسدة يطلبون المتشابه ويؤلونه تأويلا باطلا ليفسدوا القلوب ، ويفتنوا الناس عن دين الحق ، ويستشهدوا بمثل قوله تعالى : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) على أن المسيح من جنس الله ، لأن كلا منهما روح ، ويتجاهلون الآيات المحكمة الواضحة ، مثل قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) ـ المائدة ١٦. وقوله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) ـ المائدة ٧٤ ، وقوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ـ آل عمران ٥٩ .. بالإضافة إلى أن الله سبحانه نفخ في آدم من روحه ، حيث قال عز من قائل : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ـ الحجر ٢٩». فينبغي أن يكون آدم على زعمهم إلها ، والفرق تحكم.

جاء في مجمع البيان ان أوائل سورة آل عمران الى نيف وثمانين آية نزلت بوفد نجران ، وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله (ص) بالمدينة ، وحين حانت صلاتهم أقبلوا يضربون بالناقوس ، وقاموا فصلوا في مسجد رسول الله ، فقال الأصحاب : يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال : دعوهم ، فصلّوا إلى المشرق .. وبعد أن انتهوا من الصلاة قال النبي (ص) للسيد والعاقب ، وهما رئيسا الوفد : أسلما قالا له : قد اسلمنا قبلك. قال : كذبتما ، يمنعكم من الإسلام الزعم بأن لله ولدا ، وعبادة الصليب ، وأكل لحم الخنزير.

قالا : ان لم يكن عيسى ابن الله فمن أبوه؟ قال : ألا تعلمون ان الولد

١٣

يشبه أباه؟ قالوا : بلى. قال : ألا تعلمون ان الله حي لا يموت ، وان عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا : بلى. قال : ألا تعلمون ان الله قيم على كل شيء؟ قالوا : بلى. قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا : لا. قال : ألا تعلمون ان الله لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث؟ قالوا : بلى. قال : ألا تعلمون ان عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ، ثم أرضعته ، وغذي كما يغذى الصبي ، وانه كان يأكل ويشرب ويحدث؟ قالوا : بلى. قال : فكيف يكون ربا؟ فسكتوا عجزا وإفحاما ، فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.

(وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ). قال بعض الناس ، يجب الوقوف عند لفظ الجلالة. أما الراسخون في العلم فكلام مستأنف ، والمعنى ان الله قد استأثر وحده بعلم المتشابه دون العلماء الراسخين في العلم ..

ويلاحظ على هذا القول بأن الله سبحانه حكيم لا يخاطب الناس بأشياء لا يفهمونها ، ولا يريد أن يفهموها .. كما سبق بيانه .. والصحيح ان الراسخين في العلم معطوف على لفظ الجلالة ، وان المعنى يعلم تأويل المتشابه الله والراسخون في العلم ، قال الإمام أمير المؤمنين (ع) : ذاك القرآن الصامت ، وأنا القرآن الناطق ، وكان ابن عباس يقول : أنا من الراسخين في العلم ، أنا أعلم تأويله .. وتجمل الاشارة إلى أن العالم الحق هو الذي يحجم عن القول من غير علم ، بل من الرسوخ في العلم الاحجام عن القول من غير علم ، وفي الحديث : الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.

وتسأل : لما ذا جعل الله سبحانه بعض آيات القرآن محكمة يفهمها الجميع ، وبعضها متشابهة لا يفهمها إلا الراسخون في العلم ، ولم يجعلها واضحة بكاملها ، يستوي في فهمها العالم والجاهل؟.

وأجيب عن هذا السؤال بأجوبة عديدة ، أرجحها ان دعوة القرآن موجهة إلى العالم والجاهل ، والذكي والبليد ، وان من المعاني ما هو معروف ومألوف للجميع ، ولا تحتاج معرفته إلى علم ودراسة ، فيكشف عنه بعبارة واضحة يفهمها كل مخاطب ، ومنها ما هو عميق ودقيق لا يفهم إلا بعد الدرس والعلم ،

١٤

ولا يمكن فهمه من غير مؤهلات لذلك مهما كان التعبير ، وهذه حقيقة يعرفها كل انسان .. فالواقع ـ إذن ـ هو الذي يحتم أن تكون بعض الآيات ظاهرة المعنى ، دون بعض .. بالاضافة الى أن الحكمة تستدعي أحيانا الإبهام ، كقوله تعالى ، على لسان نبيه في الآية ٢٤ من سورة سبأ : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

(يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا). هذا كلام مستأنف ، والمعنى ان العالم المؤمن حقا يقول : ان كلا من المحكم والمتشابه وحي من الله .. ومن تجاهل المحكم ، وتشبث بالمتشابه ابتغاء الدس والفتنة فهو فاسد القصد ، مريض القلب.

(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الذين يدركون الحكمة من وجود المحكم والمتشابه في القرآن ، ولا يتخذون من المتشابه وسيلة للتمويه والتضليل ، شأن من يحاول الطعن في الإسلام.

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ). دعاء يدعو به كل عالم مخلص خشية أن يقع في الخطأ ، ويقصر في البحث عن الصواب.

لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم الآة ١٠ ـ ١٣

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ

١٥

مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))

اللغة :

الوقود بفتح الواو حطب النار ، والدأب العادة ، والمهاد الفراش ، والآية العلامة ، والعبرة مأخوذة من العبور من جانب الى جانب ، والمراد بها هنا العظة ، لأنها تنتقل بالإنسان من الجهالة إلى التدبر.

الإعراب :

شيئا مفعول مطلق ، لأن المراد به هنا شيء من الإغناء ، وكدأب متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير دأبهم كدأب آل فرعون ، فئة مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف ، أي من الفئتين فئة ، ويجوز الجر على انها بدل بعض من فئتين ؛ والنصب على الحال ، ورأي العين مفعول مطلق ليرونهم.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ). من يتتبع آي الذكر الحكيم ، وحديثه عن الأثرياء وأرباب المال يرى انه قد وصفهم بأقبح الأوصاف والرذائل ، منها الطغيان ، كما جاء في الآية ٦ من سورة العلق : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ومنها الغرور والجحود : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ـ الكهف ٣٦. ومنها الطمع وطلب المزيد : (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) ـ إلى قوله ـ (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) ـ المدثر ١٥.

١٦

ومنها التوهم الباطل بأن الأموال تصونهم من عذاب الله وعقابه : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) ٣٥ سبأ.

ودفع الله سبحانه هذا التوهم بأن الأموال والأولاد لا يغنيان صاحبهما شيئا ، بل ان الأموال تجعل صاحبها غدا وقودا للنار ، تماما كالحطب والخشب ، وقد يظن أهل الباطل ان لهم من أموالهم وأولادهم حماية ووقاية في هذه الحياة ، حتى إذا وقفوا مع أهل الحق وجها لوجه في ساحة القتال والجهاد استبان لهم عجزهم وضعفهم ، لأن الله يؤيد الصادقين بنصره ، ويذل من هو مسرف كذاب.

أرباب المال :

ما عرف التاريخ أسوأ وأفدح وأعظم من اسواء أرباب المال والثروات المكدسة في هذا العصر .. انهم يثيرون الفتن والحروب ويدبرون المكائد والمصائد ضد كل حركة تحررية في أي طرف من أطراف العالم .. فيبثون كتائب العملاء ، ووحدات الأساطيل ، وجواسيس المخابرات في كل بقعة من بقاع الأرض ، ليحوّلوا العالم بكامله إلى شركة مساهمة يملكها أصحاب الملايين .. انهم لا يؤمنون بالله ، ولا بالانسانية ، ولا بشيء إلا بالأسهم ، تدفع الشعوب أرباحها من خبزها ودمائها ومستقبلها ، ويستغلون دولهم لاشاعة الرعب والتخويف والضغط الاقتصادي والسياسي على الضعفاء ، ويعملون بكل سبيل لتجزئة البلد الواحد ، وتفتيت الوحدة الوطنية ، ليخضع الجميع لاستثماراتهم واحتكاراتهم .. ومن أجل هذا حرّم الإسلام الاحتكار ، والثراء غير المشروع ، واستخدام القوة والضغط على الضعفاء ، وهدد الذين يكنزون الأموال ولا ينفقونها في سبيل الله ، ووصفهم بالطغاة العتاة.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ). أي ان كثرة المال والولد ليست سببا للفوز والنجاة ، فكثيرا ما تغلّب الفقراء على الأغنياء ، والقلة على الكثرة ، والتاريخ مملوء بالشواهد على هذه الحقيقة .. فلقد كان لفرعون وقومه الجاه والسلطان ، والمال

١٧

والعدة والعدد ، ومع ذلك خذلهم الله ، ونصر موسى وقومه ، ولا مال لهم ولا عدة ولا عدد ، كما نصر من قبل نوحا على قومه ، وابراهيم على النمرود ، وهودا على عاد ، وصالحا على ثمود .. فالكثرة والثروة ـ اذن ـ ليستا بضمان ولا أمان ، وعليه فالذين كذبوا محمدا (ص) معرّضون لنفس المصير.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ). جاء في مجمع البيان ان الله سبحانه لما نصر نبيّه ببدر قدم المدينة ، وجمع اليهود ، وقال لهم : احذروا من الله أن يصيبكم ما أصاب قريشا ببدر ، وأسلموا .. فقالوا : لا يغرنك انك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، ولو قاتلناك لعرفت أنّا نحن الناس ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وقد صدق الله وعده ، فقتل المسلمون بني قريظة الخائنين ، وأجلوا بني النضير المنافقين ، وفتحوا خيبر ، وضربوا الجزية على من عداهم من اليهود.

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ). وعظ الله بهذه الآية اليهود والنصارى والمسلمين وأولي الأبصار أجمعين ، وعظهم بوقعة بدر ، حيث التقى حزب الرحمن ، وهم محمد وأصحابه ، مع حزب الشيطان ، وهم أبو سفيان وأذنابه ، ومكان العظة في هذه الواقعة ان حزب الشيطان كانوا أكثر من ألف مدججين بالسلاح الكافي الوافي ، وكان حزب الرحمن بمقدار ثلثهم عددا ، لا يملكون من العدة إلا فرسين ، وسبعة أدرع ، وثمانية سيوف ، ومع ذلك كتب الله النصر للفئة القليلة على الفئة الكثيرة ، وأرى الله المشركين ان المسلمين مثليهم مع قلة عددهم ، وهذه الآية نظير الآية ٤٤ من سورة الأنفال : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ). وأمر الله سبحانه هو أن يتخاذل المشركون ، ويهابوا المسلمين ، وينصرهم الله على أعدائه.

وبهذه المناسبة نذكر نصيحة الإمام علي (ع) للخليفة الثاني حين استشاره في غزو الروم بنفسه ، قال الإمام :

«الذي نصر المسلمين ، وهم قليل لا ينتصرون ، ومنعهم ، وهم قليل لا

١٨

يمتنعون حي لا يموت ، انك متى تسر الى هذا العدو بنفسك ، فتلقهم بشخصك فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم ، ليس بعدك مرجع يرجعون اليه ، فابعث اليهم رجلا مجربا ، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة ، فان أظهر الله فذاك ما تحب ، وان تكن الأخرى كنت ردءا للناس ، ومثابة للمسلمين».

حب الشهوات الآية ١٤ :

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤))

المعنى :

زين مبني للمجهول ، وقد اختلف المفسرون في فاعل التزيين من هو؟ فمنهم من قال : انه الله. وقال آخرون : بل هو الشيطان. والصحيح ان الله سبحانه أنشأ الإنسان على طبيعة تميل إلى اللذائذ والرغبات .. والشيطان يوسوس ويحسّن للإنسان الأعمال القبيحة ، ويقبّح له الأعمال الحسنة ، وحب النساء والبنين والمال ليس قبيحا في ذاته ، والله سبحانه لم يحرّم شيئا من هذه الأنواع الستة ، ولم يرد بهذه الآية التنفير منها .. كيف؟ وهو القائل : قل أحل لكم الطيبات .. قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق .. وقال الرسول الأعظم (ص) : أحب من دنياكم ثلاثا : الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة؟!.

والمراد بالشهوات هنا الأشياء المرغوب فيها التي يشتهيها الإنسان ، ويشعر بالغبطة والسعادة إذا حصل عليها ، كما يريد.

١٩

وتسأل : ان الشهوة تتضمن معنى الحب ، كما ان الحب يتضمن معنى الشهوة ، وعليه يكون معنى الآية ان الناس يحبون الحب ، ويشتهون الشهوة .. ومثل هذا ليس بمستقيم ، وكلام الله يجب أن يحمل على أحسن المحامل؟.

الجواب : ان حب الإنسان للشيء على نوعين : الأول أن يحبه ، ولا يحب ان يحبه ، أي انه يود من أعماق نفسه لو انقلب حبه لهذا الشيء كرها وبغضا ، كمن اعتاد على مشروب ضار ، وهذا يوشك أن يرجع عن حبه يوما ..

النوع الثاني : ان يحب الشيء ، وهو راض ، ومغتبط بهذا الحب ، كمن اعتاد على فعل الخير ، قال تعالى حكاية عن سليمان : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) ـ ٣٢ صاد. وهذا أقصى درجات الحب ، وصاحبه لا يكاد يرجع عنه.

والقناطير المقنطرة كناية عن الكثرة ، وفي الحديث : لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا ، ولا يملأ جوفه إلا التراب .. اما الخيل المسومة فقيل : هي الراعية من السوم. وقيل : المعلّمة بالزينات. والأرجح انها المطهمة الحسان. وبديهة ان زمن الخيل قد ولّى ، وجاء زمن السيارة والطيارة .. والمراد بالانعام الإبل والبقر والغنم .. وهذه أيضا قد ذهب التكاثر والتفاخر بها ، وجاء زمن المصانع وناطحات السحاب .. والحرث الزرع على اختلاف أنواعه.

وحب الثلاثة : النساء والبنين والأموال لا يختص بعصر دون عصر ، بل هي شهوة كل النفوس في كل عصر ، أما حب الخيل والانعام والحرث فقد خصها الله بالذكر لأنها كانت مثلا أعلى للرغائب في ذاك العصر.

وقد أطال كثير من المفسرين ، ومنهم الرازي وصاحب المنار ، أطالوا في ذكر ما لكل واحد من الأنواع الستة من اللذة والمتعة .. ولكنهم أتوا بالبديهيات التي يعرفها ويحسها الجميع ، لذا لم نشغل أنفسنا والقارئ بها .. ورأينا من الأفضل ان نتكلم عن السعادة في الفقرة التالية.

السعادة :

يرى بعض المؤلفين ان السعادة تتم للإنسان إذا توافرت له هذه الأركان

٢٠