التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

وخالفوا أمره ، فاغتم الرسول (ص) لذلك ، فجزاهم الله بدل غم الرسول غما بالهزيمة ، فالغم الأول ما حصل للصحابة المنهزمين. والغم الثاني ما حصل للرسول (ص) .. وقيل : ان الغمين حصلا للصحابة ، وانه قد كثرت عليهم الغموم غما بعد غم ، منها قتل إخوانهم ، ومنها انتصار المشركين عليهم ، ومنها ندمهم على المعصية.

(لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من المنفعة والغنيمة. (وَلا ما أَصابَكُمْ) من القرح والهزيمة ، والمعنى ان الله أذاقكم مرارة القتل والهزيمة كي تتمرنوا بعدها على تحمل المشاق والشدائد ، وتصبروا على طاعة الله ورسوله مهما تكن النتائج ، ولا تحزنوا على ما يفوتكم من الغنائم ، ولا ما يصيبكم من المضار .. وسبقت الاشارة الى ان الرماة تركوا أماكنهم طمعا بانتهاب الغنائم ، وانه قد ترتب على ذلك انهزام المسلمين .. فنبههم الله سبحانه بأن عليهم أن يستفيدوا من هذه الهزيمة ، ويأخذوا منها درسا نافعا ، ولا يخالفوا الرسول بعدها أبدا. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). المعنى واضح ، والقصد الحث على الطاعة ، والزجر عن المعصية.

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً). الذين كانوا مع رسول الله (ص) يوم أحد ينقسمون الى طائفتين : الأولى كانوا مؤمنين حقا جازمين بأن الإسلام سينتصر ، ويظهره الله على جميع الأديان ، لأن الرسول قد أخبرهم بذلك ، أما الانهزام في واقعة أو أكثر فلا يؤدي الى استئصال الإسلام ، واتباعه ، والذين كانوا يعتقدون هذا هم المخاطبون بقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً). والنوم عند المحنة نعمة كبرى ، تخفف الكثير من وقع المصاب. (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ). هي نفس الطائفة التي تكلمنا عنها ، والتي كان أفرادها على بصيرة في ايمانهم.

الطائفة الثانية من الذين فروا يوم أحد هم المنافقون ، وقد وصفهم الله بقوله : ١ ـ (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ). هذه الطائفة لم يغشها النعاس لسيطرة الهلع والجزع على نفوس أفرادها ، وقال المفسرون : هم عبد الله بن أبيّ ، ومتعب بن قشير وأتباعهما ، وتشعر هذه الآية ان الإيمان الكامل يستدعي الاهتمام

١٨١

بأمور الناس ، وان من لا يهتم إلا بنفسه وذويه فهو ناقص الإيمان. وقد جاء في الحديث : من لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم.

٢ ـ (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ). كل من قنط من رحمة الله ، أو ظن انه تعالى قد فعل ما لا ينبغي فعله فقد ظن به ظن الجاهلية .. ومن هؤلاء الذين قالوا يوم أحد : لو كان محمد نبيا لما سلط عليه المشركون جاهلين أو متجاهلين ان الحرب سجال ، وان الأمور بخواتيمها.

٣ ـ (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ). أي ليس لنا من الأمر شيء .. وقد أمر الله نبيه الأكرم أن يجيبهم بأنه لا أمر لكم ولا لغيركم ، وانما هو لله وحده : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ). وما علينا نحن الا السمع والطاعة ، فهو نظير قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ). وقد مر تفسيره في الآية ١٢٨ من هذه السورة : (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) من التكذيب والنفاق (ما لا يُبْدُونَ لَكَ). من ذلك انهم (يَقُولُونَ) ـ أي في أنفسهم ـ (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا). أي لو كان الأمر لنا ما خرجنا الى القتال ، ولو خرجنا لأدرنا المعركة ادارة حكيمة ، ولم يقتل أحد هاهنا ، أي في أحد .. فقول المنافقين أولا : (هل كان لنا من الأمر شيء). ثم قولهم : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أشبه بقول القائل : ليس معي دراهم ، ولو كان معي دراهم لفعلت وفعلت.

(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ). هذا رد على من قال : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا. ووجه الرد ان الحذر لا يدفع القدر ، وان التدبير لا يقاوم التقدير ، سواء أكان أمر القتال لكم أو لم يكن .. وتقدم التفصيل في تفسير الآية ١٤٥ من هذه السورة ، فقرة «الأجل محتوم».

(لِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). فالحكمة من المحنة يوم أحد انها المحك الذي يميز المؤمن من المنافق ، ويظهر كلا على حقيقته للناس ، لا لله ، لأن الله عليم بذات الصدور .. فالمؤمن يزداد بالابتلاء ايمانا وتسليما ، وأجرا وثوابا ، ويظهر المنافق على ما هو جليا واضحا.

١٨٢

سر الفشل :

هذا ، ولو عاش الإنسان طول حياته معافى من النكبات والصدمات لكان حقيقة غريبة عن أذهان الناس .. ان المصاعب تطهير النفوس ، وتهذبها من المضار ، وان الصبر على تحمل الشدائد يبلغ بالإنسان الى غاياته وأهدافه ، فلقد دلتنا التجارب ان ما من محارب أو سياسي أو تاجر أو عالم أو أديب أو عامل أو فلاح نال شيئا مما يبتغيه الا بالثبات والصبر على المصاعب.

ولو بحثنا عن سر الفشل في هذه الحياة لألفيناه الضعف والخوف من طول الطريق ، وعدم الصبر على تحمل أتعابه وأوصابه .. أقول هذا ، وقد جربته من نفسي ، وبلغت بالصبر ما لم أكن لأحلم ببعضه .. الحمد لله .. جربت فأيقنت ان الصبر يصنع المعجزات ، وان الذكاء لا يجدي شيئا الا مع الصبر.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). قال أكثر من واحد : ان المراد من هذه الآية خصوص الرماة الذين أمرهم رسول الله (ص) أن يثبتوا في أماكنهم ليدفعوا المشركين عن ظهور المؤمنين ، ثم تركوا مواقعهم بعد أن ظنوا ان المشركين انهزموا الى غير رجعة.

ولكن الآية لم تخص الرماة بالذكر ، وعليه فهي عامة تشمل الرماة وغيرهم من المنهزمين يوم أحد ..

أجل ، ان عمومها خاص بالمنهزمين المؤمنين بالله والرسول ، ولا تشمل المنافقين بدليل قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ). لأن الله لا يعفو عن المنافق المصر على النفاق الذي هو أعظم من الشرك العلني .. والخلاصة ان من انهزم يوم أحد غير شاك بالله ورسوله ، وانما فر لعارض من الطمع أو عدم الصبر والتماسك ، وما الى ذلك مما لا ينزه عنه الا المعصوم ، ولا يمت الى النفاق والشك بصلة ، ان هذا قد عفا الله عنه وان كان من أثر زلته الذي كان.

١٨٣

وقيل في تفسير قوله تعالى (اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) : ان الشيطان انما قدر عليهم لذنوب كانوا قد اقترفوها قبل أحد.

وهذا مجرد تخمين ، والأقرب ان الكسب هنا اشارة الى جزعهم وعدم صبرهم ، ولما رأى الشيطان منهم هذا الجزع استغله ، وأغراهم بالهزيمة مموها عليهم بأن فيها أمانهم وسلامتهم.

واتفق جميع المفسرين وأهل السير والتاريخ على ان الإمام علي بن أبي طالب (ع) كان مع الثابتين ..

لا تكونوا كالذين كفروا الآة ١٥٦ ـ ١٥٨ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨))

اللغة :

الضرب في الأرض السير فيها. وغزى جمع ، واحده غاز.

الاعراب :

الذي ينبغي بيانه في هذه الفقرة هو ما احتوت عليه الآيات الثلاث من اللامات ،

١٨٤

وهي ست : ١ ـ اللام في لإخوانهم من قوله تعالى : (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) وهذه اللام للتعليل لا للتبليغ ، أي ليست مثل ما قلت لك ، بل هي تعليل للقول مثل اني قلت ما قلت لأجلك ، والمعنى ان الذين قالوا لأجل موت إخوانهم ـ وهم مسافرون أو في الحرب ـ لو كانوا معنا ما ماتوا وما قتلوا ، فاللام للتعليل تماما كاللام في قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) ـ ١١ الأحقاف» ، أي قالوا لأجل ايمان من آمن : لو كان الإيمان خيرا .. بحيث لو لم يحصل الإيمان ممن آمن فلا يقول الكافرون هذا القول ٢ ـ اللام في قوله : (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) وهي لام كي ، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها ، والمصدر مجرور باللام متعلق ب (لا تَكُونُوا) والمعنى يا معشر المسلمين لا تكونوا مثل الكافرين في قول أو فعل ، لأن عدم مشابهتكم لهم في شيء تحدث حسرة في نفوسهم. ٣ ـ اللام في (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) وهي لام القسم ، وان شرطية. ٤ ـ اللام في لمغفرة ، وهي في جواب القسم ، أما جواب ان الشرطية فمحذوف ، وقد سد مسده جواب القسم لكونه دالا عليه. ٥ ـ اللام في (وَلَئِنْ مُتُّمْ) وهي مثل سابقتها. ٦ ـ اللام في (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) وهي مثل اللام في (لمغفرة).

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا). لفظ الذين كفروا عام يشمل كل كافر ، سواء أكان منافقا يبطن الكفر ، ويظهر الإيمان ، أو كان كافرا ظاهرا وباطنا .. ولكن كثيرا من المفسرين قالوا : المراد خصوص المنافقين لأن هذه الآيات من أولها الى آخرها مختصة بشرح أحوالهم ، ولأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد مادة للدس والفتنة .. وليس هذا القول ببعيد.

(وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ). أي قالوا ما قالوه لأجل موت إخوانهم ، فاللام للتعليل ، لا لتبليغ المخاطب ، لأن الميت لا يخاطب ، ولأن المنافقين قالوا : لو كانوا ـ الواو يعود لإخوانهم ـ عندنا ما ماتوا وما قتلوا .. ولم يقولوا : لو كنتم عندنا ما متم وما قتلتم.

١٨٥

(إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا). كان المنافقون يسندون موت المسافر في السفر ، وقتل الغازي الى نفس الحرب والسفر ، لا إلى الأجل المرسوم عند الله .. وقد نهى سبحانه المؤمنين عن مثل هذا القول ، لأن فيه استجابة لدسائس المنافقين وتلبية لأهوائهم ، أما إذا لم يقولوا ذلك ، وأسندوا موت من مات ، وقتل من قتل في الحل والترحان ، والسلم والحرب ، أسندوا ذلك إلى الله وحده فإنهم يردون كيد المنافقين الكائدين في نحورهم ، ويثيرون الحسرة واللوعة في قلوبهم.

والمراد بالاخوة هنا مطلق العلاقة نسبا كانت أو صداقة أو مشابهة في العقيدة والأخلاق.

(لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي ان الله نهى المؤمنين عن التشبه بالمنافقين قولا وفعلا ، لأن هذا التشبه يسرهم ، ويحقق مقاصدهم ، وعدمه يزعجهم ويغيظهم. (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ). فالآجال كلها بيده ، ولا تأثير للحرب ، ولا للسفر .. فقد يسلم المسافر والمحارب ، ويميت المقيم والقاعد ، وهذا رد على قول المنافقين : ان كلا من السفر والحرب سبب للموت. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). هذا ترغيب في طاعة الله ، وتهديد لمن يقتدي بأهل الكفر والنفاق في قول أو فعل.

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) كل من دافع عن الحق أو عن نفسه بسيفه أو قلمه أو لسانه وقتل فقد قتل في سبيل الله ، وكل من كافح وناضل من أجل العيش أو العلم أو ما ينفع الناس بجهة من الجهات ومات فقد مات في سبيل الله ، وكل من قتل أو مات في سبيل الله فقد استوجب الصفح عن الذنوب وعلو الدرجات في الدنيا والآخرة. وقوله : (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) معناه ان الأجدر بالمؤمن أن يؤثر الآجلة الدائمة ، وهي مغفرة الله ورحمته على العاجلة الفانية ، وهي ما يجمعه الذين يحرصون على التمتع بالشهوات والملذات.

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ). هذا هو مصير الإنسان ، سواء أفارق الحياة بالقتل أو بأي سبب من الأسباب .. وهو مجزي بما أسلف ، ان خيرا

١٨٦

فخير ، وان شرا فشر .. والعاقل يستعد لهذا اليوم ، ولا يلهو بالباطل ، وقول : لو كان .. ولو لا يكون.

ولو كنت فظاً الآية ١٥٩ ـ ١٦٠ :

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠))

اللغة :

اللين في المعاملة الرفق. والفظ الخشن الشرس ، وأصله فظظ. والقلب الغليظ القاسي الذي لا يتأثر بشيء. وانفض القوم تفرقوا.

الإعراب :

قال صاحب مجمع البيان : أجمع المفسرون على ان (ما) زائدة في قوله (فبما رحمة) أي فبرحمة ، ومثله قوله (عَمَّا قَلِيلٍ) أي عن قليل. ومن بعده ، أي من بعد خذلانه ، فحذف المضاف لدلالة (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) عليه.

١٨٧

المعنى :

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ). خاطب الله سبحانه صحابة النبي (ص) فيما سبق من الآيات ، ثم اتجه بهذه الآية الى نبيه الكريم (ص). وسبق البيان ان المسلمين خالفوا أمر الرسول (ص) يوم أحد ، وكان من نتيجة مخالفتهم وعصيانهم لنبيهم ان انقلبوا على أعقابهم منهزمين ، وتركوا النبي (ص) عند الشدة ، حيث كانت الحرب قائمة على قدم وساق ، حتى أثخنه الأعداء بالجراح ، فكسرت رباعيته ، وشج وجهه ، ونزفت جراحه ، وهو صامد مع نفر قليل ، يدعو الفارين ، ولا يستجيبون له.

وبعد ان انتهت المعركة رجع المسلمون الى النبي (ص) فلم يعنفهم ، ويخاطبهم بالملامة ، وهم مستحقون لأكثر منها .. بل تجاهل كل شيء ، ورحب بهم ، وكلمهم برفق ولين ، وما هذا الرفق واللين الا رحمة من الله بنبيه وعون له على رباطة الجأش وضبط الأعصاب.

وإذا مدح الله نبيه بكظم الغيظ والرفق بأصحابه على إساءتهم له فبالأولى أن يعفو الله ويصفح عن عباده المسيئين .. قال الإمام علي (ع) في وصف الباري جل وعز : «لا يشغله غضب عن رحمته». وفي الدعاء المأثور : يا من سبقت رحمته غضبه.

ثم بيّن سبحانه الحكمة من لين جانب نبيه الكريم (ص) ، بخطابه له : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ). وشمت العدو بك ، وطمع فيك ، ولم يتم أمرك وتنتشر رسالتك .. ان المقصود من بعثة الرسول هداية الخلق الى الحق ، وهم لا يستمعون إلا لمن تميل قلوبهم اليه ، وتسكن نفوسهم لديه ، والنفوس لا تسكن ولا تركن إلا الى قلب رحيم كبير ، كقلب محمد (ص) الذي وسع الناس ، كل الناس ، وما ضاق بجهل جاهل ، أو ضعف ضعيف ، بل كان يأمر بالرحمة بالحيوان ويقول : إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ، ليحد أحدكم شفرته ، ليريح ذبيحته. وقال : لكل كبد أجر. ان الله غفر لمومس لأنها أنقذت كلبا من الموت عطشا.

(فَاعْفُ عَنْهُمْ). فيما يتعلق بحقك الخاص ، حيث تركوه في ساعة الشدة ،

١٨٨

حتى أثخن بالجراح. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ). فيما يختص بحقوق الله تعالى ، حيث عصوه بالهزيمة وترك القتال .. وقوله تعالى لنبيه : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يدل بالفحوى على ان الله سبحانه قد عفا عنهم ، وغفر لهم ، وإلا لم يأمر نبيه بذلك.

(وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ). قال الرازي : ذهب كثير من العلماء الى ان الألف واللام في لفظ الأمر ليسا للاستغراق ، بل للعهد ، والمعهود في هذه الآية الحرب ولقاء العدو ، فيكون قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) مختصا بالحرب فقط .. وقال آخرون : انه يشمل جميع الأمور الدنيوية دون غيرها .. ثم نقل الرازي عن الشافعي ان شاورهم هنا للندب لا للوجوب .. والحكمة في المشورة أن تطيب قلوبهم ، وترتاح نفوسهم .. وهذا القول أقرب الى الاعتبار ، لأن المعصوم لا يسترشد برأي غير المعصوم.

ومهما يكن ، فان الدين بعقيدته وشريعته هو من وحي السماء ، وليس لأحد فيه رأي ، حتى الرسول (ص) فانه مبلغ لا مشرّع ، وقد خاطبه الله بقوله : ليس لك من الأمر شيء .. انما أنت منذر.

(فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ). أي إذا عقدت الرأي على فعل شيء بسبب المشورة أو غيرها فامض في التنفيذ ، على أن تأخذ الاهبة ، وتستكمل العدة معتمدا على إعانة الله وحده في النجاح والظفر.

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ). ونصره تعالى انما يكون مع مراعاة الأسباب التي جعلها الله موصلة الى النصر ، وهي بالاضافة الى التوكل على الله استكمال العدة التي أشار اليها بقوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ـ ٦٠ الأنفال».

(وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ). ان الله يخذل المتخاذلين الذين لا تجتمع كلمتهم على خير ، قال تعالى ، (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) ـ ٤٦ الأنفال».

والخلاصة ان استكمال العدة من غير الإخلاص لا يجدي شيئا ، كما جرى للمسلمين يوم حنين : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) ـ ٢٦ التوبة». كما ان

١٨٩

الإخلاص من غير عدة ليس بشيء .. «اعقلها وتوكل». ومن استوفى الأمرين معا فلا غالب له ، لأن الله معه.

محمد وسر عظمته :

خرج أبوه عبد الله في تجارة الى الشام ، وأمه حامل به ، وفي عودة أبيه من الشام مر بأخواله بني النجار في المدينة ، فمرض هناك ، ومات فقيرا لم يترك لولده شيئا سوى خمسة من الإبل ، وقطيع من الغنم ، وجارية هي بركة الحبشية ، تكنى أم أيمن ، كانت دايته ، ومن جملة حواضنه.

ولد الرسول (ص) بمكة عام الفيل في شهر ربيع الأول الموافق شهر آب سنة ٥٧٠ ميلادية كما قيل.

مرضعته وكافله :

أرضعته أياما ثوبية مولاة عمه أبي لهب ، ثم أرضعته حليمة السعدية .. وعاش ٦٣ عاما ، منها ٥٣ قضاها بمكة ، و ١٠ بالمدينة ، ماتت امه وهو ابن ٦ ، ومات جده وهو ابن ٨ ، فكفله عمه أبو طالب ، ودافع عنه ، حتى النفس الأخير ، وعاش معه ٤٢ سنة.

أوصافه :

ليس بالطويل ولا بالقصير ، كبير الرأس ، بوجهه استدارة ، عريض الجبين ، يوشك حاجباه أن يلتقيا ، بينهما عرق إذا غضب انتفخ واحمر ، أسود العينين ، طويل رموش العين ، في أنفه تقوس ، حسن الثغر ، كبير الفم ، عظيم اللحية ، متموج شعر الرأس ، طويل العنق ، عريض الصدر ، طويل الذراعين ، دقيق الساقين ، أبيض اللون ، مشرب بحمرة ، مشدود العضلات ، ليس في جسده استرخاء ولا ترهل.

١٩٠

كان إذا غضب احمر وجهه ، وإذا حزن أكثر من لمس لحيته ، وإذا تكلم أشار بكفه كلها ، وإذا تعجب قلبها ، وإذا استغرق في الحديث ضرب راحة يده اليمنى ببطن إبهامه اليسرى ، وإذا رأى ما يكره أشاح بوجهه ، وإذا عطس غطى وجهه ، وكان يضحك ، حتى تبدو نواجذه ، وكان أكثر الناس تبسما.

وكان في طعامه لا يرد موجودا ، ولا يتكلف مفقودا ، وإذا لم يجد الطعام صبر ، حتى انه ليربط الحجر على بطنه من الجوع ، وكان يمر عليه الشهر لا يجد ما يخبزه ، وبعث يشتري من يهودي على ان يؤجل الدفع ، فرفض ، وقال : ما لمحمد زرع ولا ضرع ، فمن يسدد؟.

ولم يملك قميصين معا ، ولا رداءين ، ولا إزارين ، ولا نعلين .. وكانت له حصير ينام عليها في الليل ، ويبسطها في النهار ، فيجلس عليها ، ونام عليها ، حتى أثرت في جنبه ، وله مخدة من جلد ، حشوها ليف ، وكان إذا نام يضع يده تحت خده ، وينام على جنبه الأيمن ، وكان يخصف النعل ، ويرقع القميص ، ويركب الحمار ، هذا وثروة الجزيرة العربية طوع أوامره .. ولكنه كان يعطي كل ما يصل منها اليه عطاء من لا يخشى الفقر ، كما وصفه اعرابي.

النبي والفقر :

وليس معنى هذا انه كان يحب الفقر ، ويرضى به .. كلا ، بل كان يستعيذ منه ، ويقول : اللهم اني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة .. وأعوذ بك من العجز والكسل .. وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم .. لم يكن النبي يحب الفقر ، ويرضى به .. ولكن ما دام يعيش في مجتمع فيه فقراء فخير الأنظمة ، والحال هذه ، هو النظام الذي يجعل الحاكم في جانب الفقراء ، ويساوي بينه وبينهم في المأكل والملبس والمسكن .. ولا شيء أعظم ظلما وجريمة من أن يشبع الحاكم ، وفي رعيته جائع واحد .. قال أمير المؤمنين علي : ان الله فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقر فقره ، أي لا يهيج به

١٩١

ألم الفقر فيهلكه. وقال : أاقنع من نفسي بأن يقال : أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكاره الدهر.

مراتب دعوته :

أنذر النبي أول من أنذر عشيرته الأقربين ، وذلك حين نزلت الآية ٢١٥ من سورة الشعراء : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فأولم لهم ودعاهم ، وقال لهم فيما قال : «فأيكم يوازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم». فأحجموا جميعا إلا علي بن أبي طالب قال : أنا يا نبي الله. فأخذ برقبته ، وقال : هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (١).

ثم دعا النبي (ص) قومه العرب ، ثم كل من بلغه الدعوة من الأولين والآخرين : «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ـ ٢٨ سبأ». أما غيره من الأنبياء فقد أرسل الى قومه ، أو أهل زمانه .. ومن ثم كان نوح وابراهيم وهود وصالح وموسى وغيرهم يخاطبون الذين يدعونهم الى الايمان ب (يا قوم). أما محمد (ص) فقد خاطب جميع الناس على اختلاف أنواعهم ولغاتهم في كل مصر وعصر : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) ـ ١٥٨ الاعراف». ولقد كتب الرسول الأعظم (ص) الى ملوك الأرض ، وفي طليعتهم كسرى وقيصر ، وأرسل اليهم رسله يدعوهم الى الإيمان برسالته.

سر عظمته :

كان محمد (ص) بشرا ، ومن وصفه بشيء من صفات الخالق الرازق فقد كفر بالله وبه ، ولكن البشر ، كل البشر من آدم الى آخر أبنائه ليسوا كمحمد ..

__________________

(١) رواه الطبري في تاريخه وتفسيره ، كما في الطبعة القديمة ، وأيضا رواه الثعلبي في تفسيره ، والنسائي في الخصائص ، وذكره محمد حسين هيكل في الطبعة الأولى لكتاب حياة محمد ، ثم حذفه في الطبعة الثانية .. (أعيان الشيعة ، ص ٩٨ ، طبعة ١٩٥٠).

١٩٢

والعظيم منهم من اعترف له محمد بالعظمة والفضيلة .. اعترف له بالنص وتعيين الاسم بالذات ، أو بالوصف العام الشامل ، كقوله : «خير الناس أنفع الناس للناس».

أما السر لعظمة محمد (ص) فيكمن في أنه كان يحمل هموم الناس جميعا ، ولا يكلف قريبا أو بعيدا بشيء من همومه .. كان يمشي مع الأرملة والمسكين ، فيقضي حاجتهما ، ولا يحول دون مقابلته حاجب ، وما من أحد صديقا كان أو عدوا إلا ويجد عنده الاهتمام به ، والعطف عليه ، والرعاية له.

وليس قولي هذا من وحي العاطفة ، ولا من وحي البيئة والتربية .. كلا ، انه من وحي الله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ـ ١٠٧ الأنبياء». ومعنى هذا ان عطفه واهتمامه ليس وقفا على عشيرته الأقربين ، ولا أتباعه الموالين .. بل هي مشاع للناس أجمعين أعداء وأولياء .. انها تماما كالماء والهواء .. كسر قومه رباعيته ، وشجوا وجهه ، فقال : اللهم اهد قومي انهم لا يعلمون .. فلم يكتف ان سأل الله لهم الهداية ، حتى اعتذر عنهم بالجهل وعدم العلم.

ولا غرابة إذا لم بغضب محمد (ص) لنفسه ، ولم يحتجز لها شيئا من أعراض الدنيا ، وانما الغريب أن يغضب لها ويحتجز .. ان هذا الخلق هو حتم وفرض لمن بعث ليتمم مكارم الأخلاق ، ودعا الناس ، كل الناس ، لتصديقه والإيمان برسالته ، ولا معنى لتصديقه إلا تصديق العدل والإحسان ، ولا للإيمان به إلا الإيمان بالحق والانسانية ، لا بشخصه وذاته.

ناداه رجل : يا سيدنا وابن سيدنا ، وخيرنا وابن خيرنا .. فقال : لا يستهوينكم الشيطان .. أنا محمد عبد الله ورسوله .. والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي .. وكان أصحابه إذا رأوه قادما لم يقوموا له ، وو هو أحب الناس اليهم ، لأنهم يعرفون كراهيته لقيامهم .. وكان يكره أن يمشي أصحابه وراءه ، ويأخذ بيد من يفعل ذلك ، فيدفعه إلى السير بجانبه.

هذه هي أخلاق محمد (ص) .. وليس كل الناس كمحمد .. ما في ذلك ريب .. ولكن أخلاقه تعبير وانعكاس عن حقيقة الإسلام .. فأي داع الى الإسلام لم يقتد بسيرة نبيه ، ويتجاوب مع سنته فهو مخادع محتال ، سواء أشعر ذلك من نفسه ، أم ظن هو وظن الناس معه انه قدس الأقداس.

١٩٣

وما كان لنبي أن يغل الآة ١٦١ ـ ١٦٤ :

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤))

اللغة :

غلّ الرجل بفتح الغين خان ، ويسمى الغلول ، والمقصود في الآية السرقة من غنيمة الحرب قبل القسمة. والغل بالضم الطوق ، والعطش ، والغل بالكسر الغش والحقد. وباء رجع ، وبوّأ له مكانا هيأه له ، لأنه يرجع اليه. ويزكيهم يطهرهم.

الإعراب :

ما كان لنبي أن يغل قيل : أصله ما كان نبي لأن يغل ، ثم نقلت اللام من ان يغل الى النبي .. ونحن لا نرى ضرورة لهذا النقل ، ونعرب المصدر من أن يغل اسما لكان ، ولنبي متعلق بمحذوف خبرها ، والتقدير ما كان الغل حاصلا أو صفة لنبي ، تماما مثل ما كان لنا أن نكذب ، أي ما كان الكذب حاصلا

١٩٤

لنا أو صفة لنا. وان كانوا (ان) مخففة من الثقيلة ، وهي مهملة ، لأن الأكثر عدم عملها ، ولام (لفي) فارقة بين ان المخففة ، وان النافية.

المعنى :

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ). قرئ يغل مبنيا للفاعل ، أي ان النبي لا يخون في الغنيمة ولا في غيرها ، كما يظن الجاهلون ، وقرئ مبنيا للمفعول ، أي لا يجوز لأحد أن يخون النبي في الغنيمة.

وفي كثير من التفاسير ان الدافع الذي حمل الرماة ان يتركوا مكانهم ، ويخلوا ظهر المسلمين هو خوفهم ان لا يقسم لهم رسول الله ، ويقول : من أخذ شيئا فهو له. فقال لهم النبي (ص) : أظننتم أنّا نغل ، أي نخونكم ، فنزلت الآية. واللفظ لا يأبى هذا المعنى ، كما ان السياق أيضا لا يرفضه ، لأنه ما زال في وقعة أحد.

ومهما يكن ، فان الذي نستفيده من الآية بوجه عام ، وبصرف النظر عن سبب النزول ان الأنبياء معصومون لا يمكن أن تقع منهم الخيانة ، لأن الصادق بما هو صادق لا يمكن أن يقع منه الكذب ، والا لم يكن صادقا ، والحلو بما هو حلو لا يمكن أن يكون مرا .. اللهم إذا سميت الأشياء بأضدادها .. وعندها تبطل المقاييس.

(وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). أي من خان وسرق شيئا يأتي غدا بإثم الشيء الذي سرقه ، وينال ما كسب مستوفيا لا ينقص منه شيء ، ويفتضح أمام الخلائق أجمعين .. وقيل : بل يأتي ، ومعه المسروق بالذات ـ مثلا ـ من سرق بعيرا يجيء يوم القيامة حاملا البعير على رقبته .. قيل هذا استنادا الى حديث طويل عن رسول الله (ص) .. وان صح الحديث فهو كناية عن حمل آثام المعصية ، لا حمل أسبابها بالذات ، فهذه الآية نظير الآية ١٢٣ من سورة النساء : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

١٩٥

الإسلام يفعل الأعاجيب :

من تتبع تاريخ المسلمين يرى ان تعاليم الكتاب والسنة قد عملت عملها ، وأثرت أثرها في نفوس الكثير من المسلمين ، حتى أنشأت مجموعة تتمثل فيها مكارم الأخلاق التي بعث الرسول الأعظم لاتمامها .. فلقد كان الجندي البسيط في جيش المسلمين يقع في يده من أسلاب العدو الثمين الغالي ، فيأتي به لأميره يضيفه الى بيت المال ، ولا تحدثه نفسه بشيء منه.

قال ابن الأثير في تاريخه : لما فتح المسلمون المدائن كان قائد الجيش سعد بن أبي وقاص ، فعيّن سعد عمر بن مقرن ليقبض من الجنود الأسلاب والغنائم ، وكان يسمى هذا الموظف صاحب الأقباض ، وقد أتاه فيمن أتاه من الجنود رجل ، وسلمه تمثالين ليضمهما الى الغنائم ، وكان أحد التمثالين فرسا من ذهب مرصعا بالزمرد والياقوت ، وعليه فارس مكلل بالجوهر .. والتمثال الثاني ناقة من فضة مرصعة بالياقوت ، ولها لجام من ذهب مكلل بالجوهر .. وكان كسرى يضع التمثالين على تاجه.

ولما رأى صاحب الأقباض التمثالين أخذته الدهشة ، وقال : ما رأينا مثلهما .. ان كل ما عندنا لا يعادلهما ، بل لا يقاربهما .. ثم قال للرجل : من أنت؟. فقال له : لا أخبرك ، ولا أخبر أحدا ، ليحمدني ، ولكني أحمد الله وحده ، وأرضى بثوابه ، ولا أبتغي شيئا سواه .. ثم مضى لسبيله .. فأتبعه صاحب الأقباض رجلا ، حتى انتهى الى أصحابه ، فسأل عنه ، فإذا هو عامر بن عبد قيس.

ان هذه الحكاية أشبه بالأساطير .. ولكن الإسلام إذا وجد قلبا طيبا أتى بالعجب العجاب ، تماما كالبذر الصالح الطيب في الأرض الصالحة الطيبة .. أما الأرض الخبيثة فلا تأتي بخير ، وان طاب البذر ، وكثر السقي : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) ـ ٥٧ الاعراف».

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). هذه الآية نظير الآية ٢٨ من سورة ص : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) .. قال الإمام أمير المؤمنين

١٩٦

علي : شتان بين عملين : عمل تذهب لذته ، وتبقى تبعته ، وعمل تذهب مئونته ، ويبقى أجره .. وقال : ان الحق ثقيل مريء ، وان الباطل خفيف وبيء. من الوباء. أي ان الحق مر المذاق ، ولكنه حميد العاقبة ، والباطل حلو المذاق ، ولكنه وخيم العاقبة .. وأي عاقبة ومصير أسوأ من غضب الجبار وعذاب النار.

(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ). ضمير (هم) يعود على من اتبع رضوان الله ومن باء بسخطه معا. والمعنى ان المطيعين يتفاوتون في الطاعات من المجاهدين في سبيل الله بأنفسهم الى القاعدين غير أولي الضرر .. وكذا العاصون يتفاوتون في المعاصي من الجناية الى الجنحة .. فوجب ، والحال هذه ، أن يتفاوت هؤلاء في العقاب ، وأولئك في الثواب.

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ). مر نظيرها في سورة البقرة الآية ١٢٩. وعلى أية حال ، فقد تضمنت هذه الآية الأمور التالية :

١ ـ ان الرسول احسان من الله الى الخلق ، لأن الرسول ينقلهم من الجهل الى العلم ، ومن المذلة الى الكرامة ، ومن معصية الله وعقابه الى طاعته وثوابه.

٢ ـ ان هذا الإحسان قد تضاعف على العرب بالخصوص لأن محمدا (ص) منهم ، يباهون به جميع الأمم.

٣ ـ انه يتلو عليهم آيات الله الدالة على وحدانيته ، وقدرته وعلمه وحكمته.

٤ ـ انه يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية ، ومن الأساطير والخرافات ، والتقاليد الضارة ، والعادات القبيحة.

٥ ـ يعلمهم الكتاب أي القرآن الذي جمع كلمتهم ، وحفظ لغتهم ، وحثهم على العلم ومكارم الأخلاق ، ويعلمهم الرسول أيضا الحكمة ، وهي وضع الأشياء في مواضعها ، وقيل : ان المراد بها هنا الفقه .. وخير تفسير لهذه الآية ما قاله جعفر بن أبي طالب لنجاشي الحبشة :

«أيها الملك. كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ..

١٩٧

فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا الى الله وحده لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا ان نعبد الله ، ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام».

وبالاختصار ان محمدا (ص) هو الذي منح العرب وجودهم الانساني والدولي والحضاري ، ولولاه لم يكن لهم تاريخ يذكر ، ولا أثر يشكر.

اصابتكم مصيبة الآية ١٦٥ ـ ١٦٨ :

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨))

١٩٨

الإعراب :

أو لما الهمزة للاستفهام على سبيل الإنكار. والواو للعطف ، والمعطوف عليه محذوف ، والتقدير أفعلتم ما فعلتم ولما أصابتكم الخ. ولما قيل : هي هنا ظرف بمعنى حين أو بمعنى إذ ، ومحلها النصب بقلتم. وجملة أصابتكم مجرورة باضافة لما. وأنّى هنا بمعنى كيف ، ومحلها الرفع خبر مقدم ، وهذا مبتدأ مؤخر ، والجملة مفعول قلتم. وما أصابكم (ما) مبتدأ أول. وفبإذن الله متعلق بمحذوف لمبتدأ ثان ، تقديره هو كائن بإذن الله ، والجملة من المبتدإ الثاني وخبره خبر المبتدإ الأول. وليعلم منصوب بأن مضمرة ، والمصدر مجرور باللام متعلق بالمحذوف الذي تعلق به بإذن الله. وجملة تعالوا نائب فاعل لقيل. وجملة قاتلوا بدل اشتمال من جملة تعالوا. والذين قالوا لإخوانهم (الذين) محل رفع بدل من واو يكتمون. وقعدوا الجملة حال من واو قالوا.

المعنى :

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) ـ يوم أحد ـ (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) ـ يوم بدر ـ (قُلْتُمْ أَنَّى هذا). أي كيف أصابنا هذا ، ونحن نقاتل في سبيل الله .. وتوضيح الآية ان وقعة بدر كانت في السنة الثانية من الهجرة. ووقعة احد في السنة الثالثة منها ، وكان النصر في بدر للمسلمين ، فلقد قتلوا من المشركين سبعين ، وأسروا سبعين ، وأيضا انتصر المسلمون يوم أحد في الجولة الأولى ، وخسروا في الثانية ، لأن الرماة خالفوا أمر الرسول (ص) ، وسبقت الاشارة الى ذلك أكثر من مرة ، وكان المشركون قد قتلوا يوم أحد من المسلمين سبعين رجلا.

وإذا قارنّا بين انتصار المسلمين في بدر ، وانتصار المشركين في أحد يكون الرجحان في جانب المسلمين ، لأن سبعين قتيلا بسبعين قتيلا ، يبقى مع المسلمين سبعون أسيرا من المشركين .. اذن ، علام هذه الدهشة من المنافقين وبعض المسلمين ، وتساؤلهم : كيف انتصر المشركون يوم أحد ، مع انهم أعداء الله؟ ولما ذا تجاهل المنافقون انتصار المسلمين يوم بدر ، مع انه كان ضعف انتصار المشركين يوم أحد؟

١٩٩

(قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ). هذا جواب قولهم : (أَنَّى هذا) ومعناه أنتم السبب فيما أصابكم ، فلقد رأى رسول الله (ص) البقاء في المدينة وعدم الخروج الى أحد ، فأبيتم إلا الخروج ، ولما خرج معكم إلى أحد أمركم أن تلتزموا المراكز التي عينها للرماة ، فتركتموها طمعا في الغنيمة .. والخلاصة ان قوله تعالى : (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) تماما كقوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ). المراد باليوم يوم أحد ، وبالجمعين المسلمون والمشركون ، والمراد بإذن الله علمه تعالى ، تماما كقوله : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ) أي فاعلموا ، ولا يجوز ان يراد بالاذن هنا الاباحة ، لأنه تعالى لا يبيح للكافر قتل المسلم.

(وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا). أي ان لما أصاب المسلمين يوم أحد فوائد ، منها ان يظهر الله علمه للناس بإيمان المؤمنين ، ونفاق المنافقين ، فالمنافقون قبل وقعة أحد لم يكونوا مكشوفين عند الناس ، ومتميزين عن المؤمنين وفي هذه الوقعة تكشفوا عن واقعهم ، وعليه يكون المراد بعلم الله هنا اظهار علمه بالمعلوم وتميزه عن غيره ، لا انه تعالى قد تجدد له العلم بعد وقعة أحد ، لأنه سبحانه يعلم الأشياء قبل وقوعها .. وسبقت الاشارة الى ذلك في الآية ١٤١ من هذه السورة.

(وَقِيلَ لَهُمْ) ـ أي للمنافقين ـ (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا). لم يبين الله من هو الذي قال ذلك للمنافقين ، لأنه أورد القول بصيغة المجهول ، كما انه تعالى أشار للمنافقين بضمير الغيب لا بأسمائهم ، ولكن كثيرا من المفسرين قالوا : ان عبد الله بن أبي خرج مع النبي (ص) يوم أحد في ثلاثمائة مقاتل ، وفي أثناء الطريق رجع هو ومن معه ، ورفضوا أن يقاتلوا ، فعلوا ذلك بقصد التخذيل وتثبيط الهمم عن الحرب مع الرسول (ص) .. فقال لهم عبد الله أبو جابر الانصاري : لما ذا ترجعون؟ فان كان لكم دين ، فقاتلوا عن دينكم ، وهذا هو معنى فقاتلوا في سبيل الله. وان لم يكن لكم دين فدافعوا عن أنفسكم وأهلكم وأموالكم ، وهذا هو معنى أو دافعوا .. وذكر أصحاب التواريخ هذه المثلبة لابن أبيّ وأصحابه ، وقول عبد الله أبي جابر الأنصاري لهم .. ولفظ الآية

٢٠٠