التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

الحياة تسيّر المجتمع وتتحكم به ، والله سبحانه لا يسقطها ويعطل سيرها ، تماما كما هو شأنه في سنن الطبيعة.

وعليه ، فلا عجب أن تغتال الصهيونية جزءا من أرضنا بمعونة الاستعمار ، ما دمنا في غفلة عنها وعن مقاصد أعوانها منقسمين الى دويلات لا جامع بينها الا لفظ العرب والعربية .. أجل ، قد تكون الجولة الأولى للباطل ، ولكن العاقبة لمن صبر واتقى ، لأن الباطل مهما استعد وتحصن فإنه يفقد القوى والصفات التي تؤهله للبقاء والاستمرار ، فهو دائما عرضة للزوال .. ففي أية لحظة يجد الحق أنصارا يؤمنون به ، ويضحون من أجله لا يلبث الباطل أن يدمغ ويضمحل.

والذي يبعث على التفاؤل ان العرب لم يستسلموا للأمر الواقع ، بل اتخذوا من المحنة والهزيمة دافعا الى مزيد من الصلابة والتصميم .. لقد ظن الاستعمار ان طول الطريق يضعف العرب ، وان احتلال أرضهم يلجئهم الى الخضوع ، ثم ظهر له انه خاطئ في ظنه ، وانه لا شيء في حساب العرب الا الصبر والكفاح طويلا كان الطريق أو قصيرا ، يسيرا كان أو عسيرا.

وتسأل : قلت : ان مشيئة الله تجري على القوانين والسنن المعروفة ، مع انه سبحانه ، قد أهلك قوم نوح بالطوفان ، وقوم هود بريح عاتية ، وأمطر أصحاب الفيل بحجارة من سجيل ، وجعل عالي مدائن لوط سافلها ، لا لشيء الا لمجرد العصيان ومخالفة الحق ، كما جاء في كتابه العزيز.

الجواب : ان الحكمة الإلهية اقتضت استثناء تلك الموارد الجزئية الخاصة على يد من سبق من الأنبياء ، ولم تتكرر وتطرد في جميع الكفار والعصاة ، فالقياس عليها قياس على الفرد النادر.

سؤال ثان : لما ذا لا ينتصر الحق على كل حال ، ما دام الله مريدا له ولأهله ، كارها الباطل وأتباعه؟.

الجواب : أولا لو انتصر الحق على كل حال لاتبعه الناس ، كل الناس رغبة في النصر لأحبابه ، وكرها بالباطل ، ولتعذر التمييز بين الخبيث الذي يتبع الحق بقصد المنفعة والاتجار ، وبين الطيّب الذي يتبع الحق لوجه الحق ، ويتحمل في سبيله المحن والشدائد. هذا ، الى ان الأسباب لا تعرف الا بعد الهزيمة.

ثانيا : لو سلّط الله المحنة على المبطلين أبدا ودائما ، وأبعدها عن المحقين

١٦١

كذلك لبطل التكليف ، والثواب والعقاب ، لأن اتباع الحق ، والحال هذه ، يكون بالقهر والغلبة ، لا بالارادة والاختيار.

والخلاصة ، ان على المسلم ان يتدبر معاني القرآن ، ويتخذ منها ميزانا لعقيدته وتصوره عن النصر والهزيمة ، والقوة والضعف ، وان لكل منهما طريقه الخاص.

ولات تهنوا الآية ١٣٩ ـ ١٤١ :

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١))

اللغة :

الوهن الضعف. والأعلون جمع ، واحده الأعلى ، ومؤنثه العلياء ، وجمعها العليات. والفرق بين اللمس والمس ان اللمس لصوق باحساس ، والمس مجرد اللصوق ، سواء أكان معه إحساس ، أو لم يكن. والقرح بالضم والفتح لغة في معنى واحد ، وهو عض السلاح ونحوه مما يجرح الجسم ، وقيل : هو بالفتح نفس الجرح ، وبالضم ألمه. والمداولة نقل الشيء من واحد الى آخر ، يقال : تداولته الأيدي إذا تناقلته ، ويقال : الدنيا دول ، أي تنتقل من قوم الى غيرهم. والتمحيص التخليص من العيوب. والمحق النقصان ، ومنه أيام المحاق ، للأيام الأخيرة من الشهر الهلالي ، لذهاب ضوء الهلال حالا بعد حال.

١٦٢

الإعراب :

وأنتم الأعلون مبتدأ وخبر ، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب ، وقيل : في موضع نصب على الحال ، وتلك مبتدأ ، والأيام عطف بيان ، وجملة نداولها خبر. وليعلم الله عطف على محذوف ، والتقدير لأن الحكمة اقتضت المداولة ، وليعلم الله ، اللام في ليعلم لام كي.

المعنى :

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا). من أهم ما يحرص عليه القائد الحكيم أن تكون الروح المعنوية في جنده قوية عالية ، وان يدرأ عن أنفسهم الوهن والخوف ، لأن الغلب لا يرجع الى القوة فحسب ، وانما يرجع قبل كل شيء الى الثبات وقوة العزيمة .. ان عدوك يخشى من عزمك وتصميمك على مقاومته أكثر من تسليحك بأفتك الأسلحة ، لأن هذه لا تجدي نفعا ، مع عدم العزم والتصميم على المقاومة ، وقد رأينا صحف الاستعمار واذاعاته وعملاءه يبثون الدعاية له وللصهيونية عن طريق الحرب النفسية ، وتفتيت عزيمة العرب ، والتشكيك في مقدرتهم على المقاومة .. ان احتلال النفوس هو الركيزة الأولى للاستعباد ، واحتلال البلاد .. وقد أرشدنا القرآن الكريم الى هذه الحقيقة بقوله : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا).

أما قوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). فهو اشارة الى أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، فمن تمكن الإسلام من قلبه لا يلين ولا يفزع ، حتى ولو مات في سبيل دينه ، وإعلاء كلمة الحق ، وانما يحسن اللين والتساهل من المسلم في حقه الخاص ، لا فيما يعود الى دينه وعقيدته.

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ). اي ان نال منكم العدو يوم أحد فقد نلتم منه يوم بدر ، ومع ذلك لم يضعف ، بل أعد العدة لكم ، وأعاد الكرة عليكم ، فليكن هذا شأنكم معه.

(وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ). المراد بالأيام هنا القوة ، وانها تارة تكون لهؤلاء ، وتارة لأولئك .. وكانت القوة في العصور المتخلفة تتمثل في المال

١٦٣

والرجال فقط ، أما اليوم فتتمثل بالعلم ، ونمو الصناعة وتطورها ، فالبلد الجاهل ضعيف وان كان أغنى الأغنياء في الذهب الأسود والأصفر ، والبلد العالم قوي ، وان خلت أرضه من جميع المعادن ، والضعيف خاضع وتابع للقوي أراد ذلك ، أو لم يرد .. وقد كان العلم في الشرق عند المسلمين ، ثم انتقل الى الغرب ، ومن الجائز القريب أن يتفوق المسلمون علما وصناعة في السنوات المقبلة .. من يدري؟ الله أعلم.

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا). هذه الجملة معطوفة على محذوف ، والتقدير وتلك الأيام نداولها بين الناس لحكمة اقتضت هذه المداولة ، وليس المراد ان الله لم يكن عالما بالمؤمنين ، فداول الأيام لكي يعلمهم ، كلا ، فان الله يعلم السر وأخفى ، وانما المراد اظهار علمه بالمؤمنين ، ليعرفوا بين الناس ، ويتميزوا عن غيرهم ، قال صاحب مجمع البيان : ان أحدنا يعلم بإتيان الغد قبل مجيئه ، فإذا أتى علم به حاضرا ، وإذا انقضى علم به ماضيا ، فالتغيير والحدوث يحصل في المعلوم ، وهو الغد لا في العالم ، وكذلك الحال بالنسبة الى الله سبحانه ، فإنه يعلم المؤمن والكافر قبل أن يظهرا للناس على حقيقتهما ، فإذا ظهرا وتميزا علم بهما متميزين معروفين للناس.

(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ). الشهيد هو الذي يجود بنفسه للذود عن عقيدته ، لأنه يرى الموت في سبيلها سعادة ، والحياة مع الظالمين برما ، كما قال سيد الشهداء الحسين بن علي (ع). وقد ملئ القرآن بتعظيم الشهداء ، من ذلك قوله تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ) ـ ٦٨ النساء».

(وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). فلا يصطفي منهم أحدا للشهادة. (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا). ان الغرض من مداولة الأيام ان يستفيد الإنسان من التجارب ، ويطهر نفسه من الشوائب ، وقيل : المراد بالتمحيص الابتلاء والاختبار الذي يظهر الإنسان على حقيقته.

(وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ). قال الرازي : «الأقرب ان المراد بالكافرين هنا طائفة مخصوصة منهم ، وهم الذين حاربوا رسول الله (ص) يوم أحد ، وانما

١٦٤

قلنا ذلك لعلمنا بأنه تعالى لم يمحق كل الكفار ، بل كثير منهم بقي على كفره». وهذا صحيح ان كان المراد بالمحق العذاب الدنيوي ، لا الاخروي.

ثمن الجنة الآة ١٤٢ ـ ١٤٣ :

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣))

الإعراب :

أم منقطعة ، بمعنى بل والهمزة ، أي بل أحسبتم ، وقيل : ان أم هنا بمعنى لا الناهية ، أي لا تحسبوا. ولما يعلم الله الواو للحال ، ولما بمعنى لم ، تجزم الفعل المضارع الا انها تشعر بتوقع الفعل ـ كما قيل ـ ويعلم الصابرين بالجزم عطفا على (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) ويجوز النصب على أن تكون الواو بمعنى مع وان مضمرة بعدها ، أي وان يعلم ، مثل لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، أي لا تجمع بينهما ، ويجوز الرفع على تقدير أن الواو للحال. وتمنون ، أي تتمنون ، وحذفت احدى التاءين للتخفيف.

المعنى :

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ). قد دلت هذه الآية دلالة صريحة واضحة على ان الإسلام يرتبط ارتباطا وثيقا بالعمل الصالح في هذه الحياة ، وان الشرط الأول للقرب من الله ، والفوز بمرضاته

١٦٥

وثوابه هو الجهاد والكفاح ، والصدق والإخلاص والصبر والثبات ، أما بناء المساجد والمعابد ، والصوم والصلاة ، والتلاوة والأوراد ، كل ذلك ، وما اليه ليس بشيء الا إذا كان وسيلة لعمل يجلب للناس نفعا ، أو يدفع عنهم ضرا.

وفي معنى هذه الآية (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا) التي ربطت دخول الجنة بالجهاد والصبر على تحمّل متاعبه ، في معناها آيات كثيرة ، منها الآية ١١٢ من التوبة : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ). والآية ٧٢ من الاسراء : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً). وكفى دليلا قاطعا على ذلك قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) ـ ٤٠ النجم».

ومن أقوال الإمام علي (ع) : حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات .. ليس لأنفسكم ثمن الا الجنة ، فلا تبيعوها الا بها. وسبق الكلام عن ذلك في تفسير الآية ١٥٥ من سورة البقرة ، فقرة «ثمن الجنة».

الشعارات الدينية :

الشعارات الدينية كالمعابد والصلوات مقدسة ، ما في ذلك ريب .. بل هي ضرورة دينية لا بد منها ، فما من دولة أو فئة يجمعها مبدأ واحد الا ولها شعار يبرز شخصيتها ، ويجمع أشياعها وأتباعها .. ولكن ليست العبرة بالشعار وحده ، بل بما وراء الشعار من فاعلية وأثر ، فليس الغرض من الصلاة مجرد الركوع والسجود ، بل بما تتركه في نفس المصلي من النهي عن الفحشاء والمنكر ، ولا من الجامع أن نجتمع فيه للتهليل والتكبير ، بل لنتآزر ونتعاون مخلصين على ما فيه خير الجميع.

وقد اتخذ كثيرون في عصرنا الشعار الديني أداة للتضليل ، وستارا يخفون وراءه مطامع استعمارية ، وأهدافا صهيونية .. فإن الكثير من الأحزاب والتكتلات التي تحمل اسم الدين أو الثقافة أو الوطنية خرجت من مكاتب الاستخبارات

١٦٦

الأجنبية ، أما ميزانيتها فمن غنائم شركات النفط .. والذي يهون الخطب انها تكشفت للجميع فلا يثق بها مخلص ، ولا يتعاون معها الا خائن باع دينه وبلاده للشيطان.

(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). الخطاب لبعض أصحاب الرسول (ص) الذين كانوا يتمنون الفوز بالشهادة قبل وقعة أحد ، ولما جد الجد جبنوا وانهزموا ، وأسلموا النبي (ص) لأعدائه وأعدائهم .. وفي بعض الروايات ان رجالا من الأصحاب كانوا يقولون : لئن شهدنا حربا مع النبي (ص) لنفعلن ونفعلن ، فلما ابتلوا بذلك لم يفوا بالعهد ، فأنزل الله فيهم : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) الخ. والمراد برؤية الموت رؤية أسبابه من مبارزة الأبطال .. وقد وبخهم الله بهذه الآية لمخالفة أقوالهم لأفعالهم.

تغير الأخلاق والأفكار :

لكل انسان ظروفه وبيئته الخاصة ، وهذه الظروف هي التي تهيمن على أخلاقه وأفكاره ـ في الغالب ـ فالضعيف مثلا يستقبح الظلم أكثر من القوي ، ومن تربى في بيئة تعبد الأوثان لا يرى بأسا في تقديسها .. اللهم إلا إذا كان إنسانا فوق المعتاد كمحمد بن عبد الله ، فإنه كان بفطرته يرفض كل قبيح من عادات قومه.

وقد تتغير ظروف الإنسان ، فيصبح غنيا بعد أن كان فقيرا ، أو بالعكس فتتغير تبعا لها أخلاقه وأفكاره. فالذات تبقى على صفاتها ، ما لم تتغير ظروفها الاجتماعية ، فإذا تغيرت صفات الذات ـ في الأعم الأغلب ـ وقد شاهدنا رجالا كانوا ينتقدون الأغنياء والرؤساء ، وهم فقراء مرؤوسون ، حتى إذا نالوا نصيبا من المال والجاه نقضوا العهد ، وأصبحوا أسوأ حالا ممن نقموا عليه بالأمس.

وقد أكد القرآن الكريم هذه النظرية بقوله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) الآية. وبالآية ٧٤ من التوبة : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَ

١٦٧

وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ).

والعاقل المجرب يتهم نفسه ، ولا يؤكد كل ما يعرض لها من خطرات وتصورات خشية أن تكون سرابا يذهب مع الريح ، كما ان المؤمن حقا وواقعا يبقى ثابت الايمان في السراء والضراء تنطبق أقواله على أفعاله في جميع الحالات ، ويتجه بها جميعا الى الله وحده ، مهما تكن الظروف والنتائج. وقد جاء في تفسير الآية ٩٨ الانعام : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ). جاء في تفسيرها روايات تقول : ان المستقر هو الايمان الثابت ، والمستودع هو الايمان المعار .. ولا شيء أدل على الايمان المستقر الثابت من انسجام الأقوال مع الأفعال ، وعلى الإيمان الزائف من تناقض الأقوال للأفعال .. ومن ثم كانت أقوال الأنبياء والأئمة الأطهار عين أفعالهم بالذات ، وأفعال المنافقين أبعد ما تكون عن أقوالهم.

وما محمد الا رسول الآية ١٤٤ ـ ١٤٨ :

(وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا

١٦٨

اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨))

اللغة :

يقال لكل من عاد الى ما كان عليه : انقلب على عقبيه ، وعليه يكون المراد بقوله : (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) رجعتم كفارا بعد ايمانكم. والمؤجل ذو الأجل المضروب. وربيّون قال صاحب مجمع البحرين : هم الكاملون في العلم والعمل ، وقال غيره : بل هم الجماعات الكثيرة واحدهم ربي وهو الجماعة. والوهن الضعف. والاستكانة اظهار الضعف بالاستسلام للخصم. والإسراف مجاوزة الحد.

الإعراب :

شيئا مفعول مطلق ، أي شيئا من الضرر. وكتابا مفعول مطلق لفعل محذوف ، والتقدير كتب كتابا مؤجلا ، لأن كل ما كان بإذن الله فهو مكتوب ، وكأين أصلها (أي) فدخلت عليها الكاف ، كما دخلت على كذا ، وصارت كلمة واحدة ، وهي بمعنى كم الخبرية ، ومحلها الرفع على انها مبتدأ ، وكتبت بالنون في المصحف ـ كما في تفسير المحيط ـ وجملة قاتل معه ربيون خبر.

المعنى :

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ). تشير هذه الآية الى واقعة معينة ، وهي وقعة أحد ، وسبقت الاشارة

١٦٩

اليها ، وتلخيصها ان النبي (ص) أمر الرماة ان يلزموا الجبل ، ولا ينتقلوا عنه بحال ، سواء أكان الأمر للمسلمين ، أم عليهم .. ولكن جماعة من الرماة لما رأوا انهزام المشركين في الجولة الأولى أخلوا ظهر المسلمين ، وبادروا الى الغنيمة ، فأعاد المشركون الكرة على المسلمين ، وأكثروا فيهم القتل ، وكسرت رباعية الرسول (ص) وشج وجهه ونزفت جراحه ، ونادى مناد ان محمدا قد قتل ، فانكفأ الناس عن النبي (ص) ، وما بقي معه الا قليل ، منهم علي بن أبي طالب وأبو دجانة الأنصاري ، وقال البعض من الأصحاب : ليتنا نجد من يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان ، وقال آخرون : لو كان محمد نبيا لم يقتل ، ألحقوا بدينكم الأول.

وقد وبّخ القرآن المنهزمين والمشككين ، وقال لهم : ان محمدا ليس الا بشرا يبلغ رسالة ربه الى عباده ، ومتى بلغها تنتهي مهمته ، ورسالته العامة لا ترتبط بشخصه ، ولا تموت بموته ، بل تبقى ببقاء الله الذي لا يموت ، تماما كما هو الشأن بالنسبة الى غيره من الأنبياء الذين ماتوا أو قتلوا ، وبقيت رسالاتهم وتعاليمهم .. وبكلمة ان الدعوة لا تموت بموت الداعي ، والمبادئ لا تزول بزوال الأفراد.

وخير ما يمثل هذه الحقيقة ما جاء في تفسير الطبري ان رجلا من المهاجرين مر برجل من الأنصار يتشحط في دمه ، فقال للأنصاري : أعلمت ان محمدا قد قتل؟. فقال الأنصاري : ان كان محمد قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم .. وفي الطبري أيضا وغيره ان انس بن النضر مر بعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، فقال انس : ما يجلسكم؟. قالوا : قتل محمد. قال : ان كان قد قتل محمد فإن رب محمد لم يقتل ، وما تصنعون بالحياة بعده؟. فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : اللهم اني أعتذر اليك مما قال هؤلاء ، وأبرأ اليك مما جاؤوا به ، ثم شد بسيفه ، فقاتل ، حتى قتل ، رضوان الله عليه.

وقال ابن القيم الجوزية في الجزء الثاني من زاد المعاد ص ٢٥٣ : «ان وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصا ـ أي لوما ـ بين يدي موت محمد (ص) ، فنبأهم

١٧٠

الله ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم ان مات رسول الله أو قتل». ونقل صاحب تفسير المنار عن أستاذه الشيخ محمد عبده ان كلمة (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) عامة تشمل الارتداد عن الدين ، والارتداد عن تأييد الحق ، ثم علق صاحب المنار على ذلك بقوله : (هذا هو الصواب). اذن ، فالانقلاب المقصود بالآية لا ينحصر بترك كلمة التوحيد ، بل يشمل ترك العمل بالحق الذي أوصى به النبي (ص) .. ويعزز ذلك ما جاء في الجزء التاسع من صحيح البخاري ، كتاب الفتن ، ان رسول الله (ص) يقول يوم القيامة : أي ربي أصحابي .. فيقول له : لا تدري ما أحدثوا بعدك .. وفي حديث ثان من أحاديث البخاري:انك لا تدري ما بدلوا بعدك؟. فأقول : سحقا سحقا لمن بدل بعدي .. وليس من شك ان المراد بهذا التبديل الاعراض عن سنته ووصيته ، ومخالفة أقواله وشريعته.

(وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) بل يضر نفسه بتعريضها لسخط الله وعذابه. (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). قال ابن القيم الجوزية في الجزء الثاني من زاد المعاد ص ٢٥٤ : «والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة فثبتوا عليها ، حتى ماتوا أو قتلوا. فظهر أثر هذا العتاب وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله (ص) وارتد من ارتد على عقبيه».

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً). وفي معنى هذه الآية قوله تعالى :

الأجل محتوم :

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ـ ٣٣ الاعراف». والمعنى ان الحياة والموت بيده تعالى ، وان الأجل محدود بعلمه لا تقديم فيه ولا تأخير ، سواء أكان سببه السيف أو المرض أو الهرم أو غيره ، قال الإمام علي (ع) : كفى بالأجل حارسا. وقال الأجل جنة حصينة .. وفي الآية تحريض على الجهاد ، لأن الأجل محتوم ، ولا أحد يموت قبل بلوغ أجله ، وان اقتحم المهالك.

١٧١

وتسأل : الذي نشاهده ان للموت أسبابا خاصة ، كالقتل والغرق والوباء وما اليه ، وهذا ينافي أن يكون الأجل محدودا بعلم الله؟

وقد أجاب عن ذلك الشيخ محمد عبده ـ كما في تفسير المنار ـ بأنه ليس هناك أسباب للموت غير الأجل المقدر عند الله ، فان الوباء قد يعم ، ومع ذلك يفتك بالشاب القوي ، ويترك الشيخ الهزيل ، وكم من ضربة قتلت هذا دون ذاك ، ولو كانت هذه أسبابا مطردة لظهر أثرها في الجميع دون استثناء.

سؤال ثان : على هذا ينبغي ان يكون القاتل غير مسؤول أمام الله ، مع انه قال عز من قائل : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) ـ ٩٢ النساء»؟

الجواب : ان المقتول مات بأجله المعين ، والقاتل استحق العقاب : لأنه أقدم على ما نهى الله عنه ، مع قدرته على أن يجتنبه ، ويدع المعتدى عليه يموت بسبب آخر .. وبتعبير ثان هنا قضيتان : الأولى كل من باشر الحرام متعمدا فهو مسؤول. الثانية للمعتدى عليه اجل معين ، وقد تواردت القضيتان على مورد واحد ، فكان لكل منهما حكمه وأثره.

(وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ). لفظ الآية عام ، وسياق الكلام وارد في خصوص الجهاد ، والمعنى ان من قاتل طلبا للربح والغنيمة لا رغبة في ثواب الله ، وقتل فقد خسر الدنيا والآخرة ، وان سلم وغنم الجيش أخذ حظه من غنيمة الحرب ، وليس له من ثواب الله شيء .. وان قاتل انتصارا للحق وإعلاء كلمة الدين أخذ نصيبه من الغنيمة ، واستحق من الله الأجر والثواب ، وكذا لو قصد الاثنين معا لقوله تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) ـ ٢٠٠ البقرة». فطبيعة الجهاد تتحمل القصدين معا ، قصد الدنيا وقصد الآخرة ، على العكس من الصوم والصلاة والحج والزكاة فإنها لله وحده يفسدها أدنى الشوائب.

١٧٢

لكل امرئ ما نوى :

من تتبع آيات الله سبحانه وأحاديث رسوله (ص) يرى ان للنية تأثيرا عظيما في الحكم على الأقوال والأفعال والرجال ، قال تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) الخ .. وقال : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء .. (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) ـ ١٩ الأسراء». وقال : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ـ ٨٧ الشعراء». وفي الحديث الشريف: لكل امرئ ما نوى .. يحشر الناس على نياتهم .. انما الأعمال بالنيات .. نية المرء خير من عمله.

ولا عجب فان القلب هو الأساس ، فبحركته تبتدئ حياة الإنسان ، وتنتهي بسكونه .. وهو محل الإيمان والجحود ، والخوف والرجاء ، والحب والبغض ، والشجاعة والجبن ، والإخلاص والنفاق ، والقناعة والطمع ، وما الى ذلك من الفضائل والرذائل .. وفي الحديث القدسي : ما وسعتني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن ، أي أدرك عظمة الله.

فالأعمال كلها تتكيف بحال القلب ، وتنصبغ بصبغته ، لأنه أصلها ومصدرها ، وجاء في تفسير الآية ٨٧ الاسراء : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ). أي على نيته .. وعلى هذا يستطيع الإنسان ان يختار طريقه بنفسه باختيار مقاصده وأهدافه ـ خيرا أو شرا ـ يختاره من البداية الى النهاية ، كما نستطيع نحن ان نحكم عليه بما يختار هو لنفسه من الأهداف والأغراض.

وقال الوجوديون : لا يمكن الحكم على الإنسان الا بعد أن يعبر آخر مرحلة من مراحل حياته .. ومعنى هذا ان الوجودية يلزمها ان لا تجيز الحكم الا على الأموات .. أما الأحياء فلا يحكم عليهم بخير ولا بشر ، ولا بادانة أو براءة ، مع العلم بأن الوجوديين ، وفي طليعتهم زعيمهم سارتر يحكمون على الأحياء .. ونحن لا ننكر ان الإنسان ما دام في قيد الحياة يمكنه أن يعدّل في أفعاله ، ويصحح من أخطائه ، ولكن هذا لا يمنع أبدا من الحكم عليه بما فيه ، وحسبما يصدر عنه قبل الموت.

وتسأل : لقد سبق منك أكثر من مرة وبمناسبات شتى ان العبرة بالأفعال ،

١٧٣

وانه لا ايمان بلا تقوى وعمل صالح ، وهذا ينافي قولك هنا : ان العبرة بالنوايا والأغراض؟.

الجواب : نريد من النية هنا الباعث القوي والعزم الأكيد الذي لا ينفك عن العمل ، مع تهيؤ الجو ، وتوافر الأسباب الأخر .. وقد أشارت الى ذلك الآية ١٩ الاسراء : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها). وهذه النية بحكم العمل ، بل هي العمل ، كما قال الإمام جعفر الصادق (ع) ، لأنه أصله ومصدره .. ومن لا يقصد لا يعمل ، وعليه يكون ثواب هذه النية ثواب العمل. أما نية الشر أي التصميم على فعله فهي محرمة ما في ذلك ريب ، وصاحبها يستوجب العقاب ، ولكن الله سبحانه أسقطه عنه تفضلا منه إذا لم يتلبس الناوي بالمعصية ، حتى ولو صرفه عنه صارف قهري. وعلى هذا تكون نية فعل الخير خيرا في نظر الإسلام ، أما نية فعل الشر المجردة فليست شرا.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ). بعد ان نصر الله المسلمين في بدر ، وهم قلة ضعاف اعتقدوا أنهم منصورون في كل حرب ، ما دام محمد (ص) بينهم .. فلما كانت الهزيمة يوم أحد فوجئوا بما لا ينتظرون ، فكان منهم ما سبق ذكره ، وفي هذه الآية ضرب الله مثلا للذين وهنوا وضعفوا واستكانوا وما صبروا يوم أحد ، ضرب الله مثلا لهؤلاء باتباع الأنبياء السابقين الذين صبروا على الجهاد والقتل والأسر والجراح ، وتركوا الفرار ولم يولوا مدبرين ، كما فعلتم أنتم يا أصحاب محمد (ص) ، وكان الأليق بكم أن تقتدوا بهم ، وتعتبروا بحالهم ، وتصبروا كما صبروا ، كما هو شأن المؤمنين المدافعين عن دينهم وعقيدتهم بالأرواح.

(وَما كانَ قَوْلَهُمْ) ـ اي اتباع الأنبياء السابقين ـ (إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ). فلم يشكوا أبدا في دينهم ونبيهم ، كما فعل من فعل من أصحاب محمد (ص) يوم أحد .. وهكذا المؤمن الحق يتهم نفسه ، ويرجع ما أصابه من النوائب الى تقصيره وإسرافه في أمره ، ويسأل الله العفو والصفح ، والهداية والرشاد ، أما المؤمن الزائف فيحمل المسئولية لله ، ويقول : ربي أهانني.

١٧٤

(فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). وكفى بثواب الله وحبه وشهادته بالإحسان فخرا وذخرا .. وتشعر هذه الآية ان التواضع واتهام النفس يقرب من الله ، ويرفع المتواضع الى أعلى عليين.

ان تطيعوا الذين كفروا الآية ١٤٩ ـ ١٥١ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١))

اللغة :

المولى الناصر والمعين. والمراد بالسلطان هنا الحجة والبرهان ، وسمي البرهان سلطانا لقوته على دفع الباطل ، والمثوى المكان الذي يكون مقرا للإنسان ، من ثوى يثوي ثويا إذا أقام.

الإعراب :

خاسرين حال. وما من (بما) مصدرية ، أي بسبب اشراكهم بالله. و (ما لم) ما مفعول أشركوا.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ). قال

١٧٥

الشيخ المراغي في تفسير هذه الآية ، فقرة تفسير المفردات ما نصه بالحرف : «المراد بالذين كفروا أبو سفيان لأنه شجرة الفتن».

وكل انسان محقا كان أو مبطلا يود أن تكون الناس ، كل الناس على دينه ومبدئه .. والفرق ان طاعة المبطل خسارة ومضرة ، وطاعة المحق ربح ومنفعة ، ومن أجل هذا حذر الله المؤمنين من الكافرين.

(بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ). المؤمن لا يفكر بطاعة الكافر وموالاته ، ولا يأبه بإغوائه وخدعه .. ولا يتخذ له مولى إلا الله وحده ، وهو الذي ينصره على أعدائه ، ومن كان الله ناصره فلا يحتاج معه الى ولي ولا ناصر.

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ، بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً). أي لا تخافوا أيها المسلمون من المشركين ، لأنهم هزموكم في أحد فان الله سيلقي الرعب منكم في قلوبهم بسبب انهم جعلوا لله شركاء لا دليل على أنها شيء يؤبه له ، وانما عبدوها تقليدا. وقيل : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون من أحد متوجهين الى مكة قالوا بئس ما صنعنا ، قتلناهم ، حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم .. ارجعوا فنستأصلهم ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب ، حتى رجعوا عما هموا به .. وسواء أكان هذا هو سبب النزول ، أو لم يكن فإن لفظ الآية لا يأباه.

صدقكم الله وعده الآية ١٥٢ :

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢))

١٧٦

اللغة :

تحسونهم ، أي تستأصلونهم بالقتل ، فكأن القاتل يبطل حس المقتول بالقتل ، يقال : بطنه إذا أصاب بطنه ، ورأسه إذا أصاب رأسه.

الإعراب :

صدقكم يتعدى الى مفعولين. ووعده مفعول ثان. وحتى إذا فشلتم جواب إذا محذوف ، والتقدير منعكم الله نصره ، وقيل : ان إذا هنا ليست بشرط ، وان المعنى قد نصركم الله الى ان كان منكم الفشل والتنازع ، وقيل : الجواب هو عصيتم والواو زائدة ، كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ) والمعنى ناديناه.

المعنى :

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ). ما زال الكلام والخطاب مع الأصحاب الذين كانوا في أحد .. وكان (ص) قد وعدهم النصر يومئذ ان امتثلوا أمره ، وقد وفى الله لهم بما قاله على لسان نبيه ، ذلك ان الرسول (ص) أقام الرماة عند الجبل صيانة لمؤخرة المسلمين ، وأوصاهم ان لا يبرحوا مكانهم ، حتى ولو رأوا العدو تتخطفه الطير ، ووعدهم النصر بهذا الشرط. وكان الرماة خمسين رجلا.

ولما ابتدأت المعركة شرع الرماة يرشقون المشركين ، وبقية الأصحاب يضربونهم بالسيوف ، وقتلوهم قتلا ذريعا ، حتى انهزموا ، وهذا معنى (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ). أي تقتلونهم بأمر الله. وفي تفسير ابن جرير الطبري والمراغي وغيرهما ان طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين المعروف بكبش الكتيبة قام فقال : يا معشر أصحاب محمد انكم تزعمون ان الله يعجلنا بسيوفكم الى النار ، ويعجلكم بسيوفنا الى الجنة ، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي الى الجنة ، أو يعجلني بسيفه

١٧٧

الى النار؟. فقام اليه علي بن أبي طالب (ع) وضربه فقطع رجله وسقط ، فانكشفت عورته ، فقال طلحة لعلي : أنشدك الله والرحم يا ابن عم .. فتركه علي (ع) وكبر رسول الله (ص) وقال لعلي أصحابه : ما منعك أن تجهز عليه؟. قال : ناشدني الله والرحم .. هذا هو علي في خلقه يفيض قلبه بالحنان والرحمة ، حتى على أعدى أعدائه الذي برز له شاهرا السيف في وجهه مصمما على قتاله وقتله.

(حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ). بعد أن ولى المشركون الدبر ـ وكانوا ثلاثة آلاف مشرك ـ امتلأ الوادي بما خلفوه من الغنائم ، وحين رآها الرماة ، وإخوانهم المسلمون ينتهبونها دونهم عصف بهم ريح الطمع ، واختلفوا فيما بينهم ، وقال بعضهم : ما بقاؤنا هنا؟ وتجاهلوا وصية النبي وتشديده عليهم بالبقاء. فقال لهم أميرهم عبد الله بن جبير : امكثوا ولا تخالفوا أمر الرسول (ص) .. ولكن أكثرهم غادروا مواقعهم هابطين الى انتهاب الأسلاب والأموال ، وتركوا أميرهم عبد الله في نفر دون العشرة ، والى هذا التنازع والعصيان يشير قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ). أما قوله : (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) فيشير الى انهزام المشركين وغنائمهم.

وكان خالد بن الوليد يحارب النبي (ص) مع أبي سفيان ، وحين رأى مؤخرة المسلمين مكشوفة بعد أن أخلاها الرماة اغتنم الفرصة ، وانقض مع جماعة من المشركين على البقية الباقية من الرماة ، وقاتل هؤلاء بشجاعة وحرارة ، حتى استشهدوا جميعا ، وخلا ظهر المسلمين ، ورجع المشركون الى الميدان ، وأحاطوا بالمسلمين من الخلف والأمام ، وأكثروا فيهم القتل والجراح ، ودارت الدائرة عليهم بعد ان كانت لهم .. وهذه هي النتيجة الحتمية للتنازع والتخاصم.

(مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا). وهم الرماة الذين تركوا مقاعدهم طمعا بالغنيمة. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ). وهم الذين ثبتوا مكانهم مع أميرهم عبد الله بن جبير ، حتى نالوا الشهادة. (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ). أي ردكم عن الكفار بعد أن نصركم عليهم بسبب تنازعكم وعصيانكم. (لِيَبْتَلِيَكُمْ). أي عاملكم معاملة من يمتحنكم ليظهر ثباتكم على الايمان ، وصبركم على الشدائد ، ويميز بين المخلصين والمنافقين.

١٧٨

(وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). وكثيرا ما يخطئ الإنسان عن طيش ، ثم يؤوب الى رشده ، فيعفو الله عما سلف منه ، ولكن من عاد فينتقم الله منه.

فأثابكم غما بغم الآة ١٥٣ ـ ١٥٥ :

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥))

١٧٩

اللغة :

المراد بالصعود هنا الذهاب في الأرض ، يقال : اصعد من مكة الى المدينة ، أي ذهب. ولا تلوون ، أي لا تلتفون ، يقال : فلان لا يلوي على شيء ، أي لا يعطف عليه ، ولا يبالي به. وأخراكم وأخر آياتكم بمعنى آخركم. والثواب الجزاء ، ويستعمل غالبا في الخير ، ويجوز استعماله في الشر. والغم ضيق الصدر. ويغشى يغطي ويستر. والمراد بالمضاجع هنا المصارع. وذات الصدور السرائر. واستزلهم أوقعهم في الزلل والخطيئة.

الإعراب :

وإذ تصعدون إذ ظرف زمان. متعلق بعفا في الآية المتقدمة. ولكيلا المصدر المنسبك مجرور باللام متعلق أيضا بعفا ، وأمنة مفعول أنزل ، وهي مصدر مثل العظمة والغلبة. ونعاسا بدل من أمنة. وطائفة الأولى مفعول يغشى. وطائفة الثانية مبتدأ ، والخبر جملة قد أهمتهم. وجملة يظنون حال من الضمير في أهمتهم. وغير الحق مفعول مطلق ليظنون ، لأنه بمعنى يظنون غير الظن الحق. وظن الجاهلية بدل من غير الحق. وجملة يقولون بدل من جملة يظنون.

المعنى :

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ). الخطاب للذين انهزموا يوم أحد ، وهو يذكرهم بخوفهم من المشركين ، وفرارهم غير ملتفتين الى أحد ، ولا مستجيبين الى دعوة الرسول (ص) حين كان يناديهم ، وهو واقف في آخرهم ، ويقول : هلم إليّ عباد الله .. انا رسول الله .. من يكر فله الجنة .. وقد فعل هذا ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح : ان محمدا قد قتل ، وتزلزلت قلوب المسلمين.

(فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ). أمر الرسول الرماة أن لا يبرحوا الجبل بحال ، فعصوه

١٨٠