التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

وإذا قال قائل : ان هذا الحديث خاص بخطإ المجتهد في الأحكام الفرعية ، لا في المسائل العقائدية ، كما ادعى جماعة من العلماء.

قلنا في جوابه وجوابهم : ان المبرر لعدم مؤاخذة المجتهد في الأحكام هو احتراسه وعدم تقصيره في البحث ، وهذا المبرر موجود بالذات في المسائل العقائدية .. هذا ، الى ان جميع الفقهاء اتفقوا ، ومنهم الذين خصوا هذا الحديث بالمجتهد في الفروع ، اتفقوا كلمة واحدة على ان القاصر الذي يعجز عن ادراك العقيدة الحقة معذور ، ونحن لا نرى أي فرق بينه وبين المجتهد الذي عجز بعد ان استنفد الجهد ، لأن كلا منهما عاجز عن معرفة ما لم يصل اليه.

والخلاصة ان من جحد الحق ، أي حق كان فهو مؤاخذ ، سواء اجتهد أم لم يجتهد إلا إذا كان قاصرا كالبهائم ، وان وقف من الحق موقفا محايدا لم يثبت ولم ينف ينظر : فإن وقف هذا الموقف دون أن يجتهد وينظر الى الدليل ، أو اجتهد اجتهادا ناقصا فهو مؤاخذ ، وان كان قد نظر الى الدليل ، حتى بلغ الاجتهاد نهايته فهو معذور ، على شريطة أن يبقى متجها الى الحق عازما على العدول عن موقفه متى ظهر العكس.

وتسأل : قلت ان القاصر الذي يعجز عن معرفة العقيدة الحقة ـ ومنها نبوة محمد ـ معذور : وكذلك المجتهد غير الجاحد ، مع عدم تقصيره في الاجتهاد ، فهل معنى هذا انه يجوز لنا أن نعاملهما معاملة المسلمين في الزواج والإرث ، وما اليهما؟

الجواب : نريد بالعذر هنا عدم استحقاق العقاب في الآخرة .. وهذا شيء ، والزواج والإرث في هذه الحياة شيء آخر .. وكل من لا يؤمن بنبوة محمد (ص) مهما كان السبب فلا يجوز أن نعامله معاملة المسلمين من حيث الإرث والزواج ، سواء أكان من الناجين غدا ، أم من الهالكين ، كما ان من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله له ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم ، حتى ولو كان أفسق الفاسقين ، بل ومن المنافقين أيضا.

١٤١

لا يجدي مع الكفر شيء الآية ١١٦ ـ ١١٧ :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧))

اللغة :

الصر البرد الشديد ، والمراد بالحرث هنا الزرع.

الإعراب :

شيئا مفعول مطلق ، لأنها بمعنى الإغناء ، فكأنه قال : لا تغني عنهم إغناء ما. وكمثل الكاف زائدة.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً). قال الرازي وصاحب تفسير المنار : اختلف المفسرون في المراد بالذين كفروا ، فقال جماعة : المراد بعض الكفار ، وقال آخرون : بل المراد جميع الكفار.

أما نحن فنرى ان المراد بهم كل من خالف الحق وعانده حرصا على مصلحته ومصلحة أولاده ، وخوفا على ماله وثروته كافرا كان ، أو مسلما .. أجل ، ان لفظ الآية خاص بالكافرين ، ولكن السبب الموجب لعدم الإغناء عام يشمل جميع المخالفين للحق بدافع من أهوائهم ، وهم الذين وصفهم الله سبحانه بقوله

١٤٢

في أكثر من آية بأنهم يبيعون الحق بأنجس الأثمان.

(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ). الريح التي فيها صر هي الريح المهلكة لشدة بردها وسمومها ، والمعنى ان الذين يجمعون الثروات من الحلال والحرام ، ويخالفون من أجلها الحق ، وينفقونها على جاههم وملذاتهم غير مكترثين بخلق ولا دين ، ان هذا الإنفاق من هؤلاء قد أهلك عقولهم ، وأفسد أخلاقهم ، تماما كما تهلك الريح الباردة العاتية الزرع الذي قد تهيأ للاخصاب والانتاج.

وإذا ربحوا أياما من اللذة وإشباع الشهوات فقد خسروا أنفسهم ، وباعوها للشيطان ، ولهم في الآخرة عذاب الخلود .. وما ظلمهم الله (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). لأنهم اندفعوا وراء شهواتهم وأهوائهم مختارين .. قال الإمام علي (ع) : الناس في الدنيا رجلان : رجل باع نفسه فأوبقها ـ أي باع نفسه لهواه وشهوته فأهلكها ـ ورجل ابتاع نفسه فأعتقها. أي اشتراها وخلصها من أسر الشهوات.

بطائة السوء الآية ١١٨ ـ ١٢٠ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ

١٤٣

يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠))

اللغة :

بطانة الرجل خاصته مأخوذ من بطانة الثوب ، وتستعمل للواحد والجمع مذكرا ومؤنثا ، ويألونكم مصدرها ألوا والماضي ألا والمضارع يألو ، ومعنى الألو التقصير ، يقال : لا آلوك نصحا أي لا أقصر في نصحك ، ولا آلوك جهدا ، أي لا أنقصك جهدا ، والخبال النقصان والفساد ، ومنه رجل مخبل ومخبول ومختبل ، أي ناقص العقل وفاسده ، والعنت المشقة.

الإعراب :

يألون فعل قاصر ، ولكنها هنا تتضمن معنى المنع فعديت إلى مفعولين ، وخبالا مفعول ثان ، وجملة لا يألونكم لا محل لها من الإعراب ، لأنها جواب عن سؤال مقدر ، كأنّه قيل : لما ذا لا نتخذ بطانة من غيرنا فأجيب : لأنهم لا يألونكم خبالا ، وها أنتم «ها» للتنبيه ، وأنتم مبتدأ ، وأولاء اسم اشارة خبر ، وتحبونهم الجملة في محل نصب على الحال من اسم الاشارة ، ولا يضركم جواب إن الشرطية ، ويجوز كسر الضاد وسكون الراء على ان يكون المصدر الضير ، وإذا كان الضرر فالأصل لا يضرركم ، ثم أدغمت الراء بالراء ، وضمت تبعا لحركة الضاد ، وشيئا مفعول مطلق ، أي شيئا من الضرر.

المعنى :

تكلم سبحانه في الآيات السابقة عن أهل الكتاب والمشركين والمرتدين الذين كفروا بعد ايمانهم ، وتوعد الجميع ، وألزمهم الحجة ، ثم أمر المسلمين بتقوى

١٤٤

الله ، والاعتصام بحبله ، والأمر بالمعروف ، بعد هذا كله حذر سبحانه المسلمين من الكافرين الذين يضمرون السوء للإسلام والمسلمين ، ويتمنون لهم الويلات والعثرات ، حذرهم بقوله :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ). وهذا بظاهره نهي للمسلمين عن كل من ليس على دينهم ، دون استثناء ، وعليه يتجه الاعتراض التالي :

المعروف عن رؤساء الأديان في جميع الطوائف انهم يبثون بين أتباعهم روح العداء والتعصب ضد أهل الطوائف الأخرى ، وهذا هو القرآن يسير على نفس الطريق ، حيث أمر المؤمنين به بالتباعد عن غيرهم ، وحذرهم أن يتخذوا أولياء وخواصا إلا منهم وفيهم .. اذن ، أين التساهل والتسامح في الإسلام؟ وأي فرق بين المسلمين ، وبين اليهود الذين قال بعضهم لبعض : «ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم»؟

الجواب : ان الآية لم تحذر المسلمين من غيرهم من حيث انهم لا يدينون بدين الإسلام .. كلا ، وانما حذرتهم من الذين ينصبون لهم المكائد والمصائد ، وهذا المعنى صريح في قوله تعالى : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أي يجتهدون ، ولا يقصرون في مضرتكم ، وافساد الأمر عليكم ، وفي قوله : (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) أي يتمنون لكم العنت والمشقة ، وفي قوله : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي الطعن في دينكم ونبيكم وقرآنكم. (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) مما يفيض على ألسنتهم .. وأيضا من أوصاف الذين حذر الله منهم (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) ..(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها). كل هذه الأوصاف هي السبب الموجب للنهي عن اتخاذ البطانة .. وعلى هذا فكل من يتصف بهذه الأوصاف يجب الابتعاد عنه ، ولا يجوز اتخاذه بطانة ، سواء أحمل اسم مسلم ، أو أي اسم آخر.

نحن الآن في سنة ١٩٦٧ ، وفي ٥ حزيران من هذه السنة دفع الاستعمار باسرائيل الى الاعتداء على الأراضي العربية ، بعد أن مهد لها السبيل حثالة من صراصير الاستعمار ، تنتمي بدينها الى المسلمين وبقوميتها الى العرب .. وهذه الحثالة أعظم جرما عند الله من الملحدين والمشركين الذين كفوا الأذى عن غيرهم .. إذن ،

١٤٥

المسألة مسألة شر وخيانة وآثام ، لا مسألة كفر ، وعدم اسلام.

وتسأل : إذا كان الأمر كما ذكرت فلما ذا قال تعالى (مِنْ دُونِكُمْ) ولم يقل من الخائنين المفسدين؟

الجواب : ان الآية نزلت في بعض المسلمين الذين كانوا يواصلون اليهود ـ كما قال المفسرون ـ وبديهة ان العبرة بالسبب الموجب لتشريع الحكم ، لا بسبب نزوله ، وتطبيقه على مورد من الموارد ، وبكلمة ان الحكم يتبع ظاهر اللفظ إذا لم نعلم بسببه ، أما إذا كنا على يقين من سببه التام فيكون مدار الحكم على السبب ، لا على ظاهر اللفظ.

(قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ). المراد بالآيات هنا العلامات الفارقة بين الذي يصح أن يتخذ بطانة ، والخبيث الذي يجب الابتعاد عنه. (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ). ظاهر الخطاب انه موجه الى جماعة تنتمي الى الإسلام ، ولا يصح ان يتوجه الى جميع المسلمين لا في العصر الأول ، ولا في غيره ، إذ لم يعهد ان كلمة المسلمين اتفقت على حب الكافرين في يوم من الأيام.

وقال الطبري شيخ المفسرين ، وتبعه كثير ، قالوا ما معناه ان حب المسلمين لمن يكرههم من الكافرين دليل على ان الإسلام دين الحب والتساهل.

هذا سهو من الطبري ومقلديه ، لأن الإسلام لا يتساهل أبدا مع المفسدين والخائنين ، ولا شيء أدل على ذلك من هذه الآية نفسها التي فسّرها الطبري بالتساهل.

والذي نراه ان المسألة ليست مسألة تساهل ، وانما هي مسألة خيانة ونفاق من بعض من انتسب الى الإسلام ، وفي الوقت نفسه يتجسس على المسلمين لحساب عدو الوطن والدين ، كما هو شأن عملاء الاستعمار اليوم المعروفين بالطابور الخامس ، وبالمرتزقة والانتهازيين ، لأنهم يبيعون دينهم ووطنهم لكل من يدفع الثمن.

(وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ). الألف واللام في الكتاب للجنس ، والمعنى انكم تؤمنون بكل كتاب منزل من الله سواء أنزل عليكم أم عليهم ، ولستم مثلهم يؤمنون ببعض ، ويكفرون ببعض.

(وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا). رياء ونفاقا .. ولا ينبغي للمؤمن أن يوالي المنافقين والمراءين.

١٤٦

(وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ). عضوا عليكم الأنامل كناية عن حقدهم ولؤمهم ، ولا شيء يغيظ العدو مثل الفضيلة والخلق الكريم ، ومثل الائتلاف واجتماع الكلمة ، وصلاح ذات البين ، وما تمكن العدو من المسلمين قديما وحديثا الا لشتاتهم وتفتيت وحدتهم. (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ). هذا مثل قول العرب لمن يدعون عليه : «مت بدائك» أي أبقى الله داءك ، حتى تموت به .. وبديهة ان هذا يقال للعدو إذا كان القائل قويا عزيزا ، ولا قوة كالاجتماع والائتلاف. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). ذات الصدور كل ما يجول في خاطر الإنسان ، وكل ما ينطوي عليه قلبه من دوافع الخير والشر ، والقصد ان الله يعلم بحقدهم ولؤمهم ، ويعاملهم بحسبه.

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها). شأن كل عدو ، وقال المفسرون : ذكر المس في الحسنة للاشعار بأن أقل خير يناله المسلمون يسيء عدوهم ، وذكر الاصابة في السيئة للاشعار بأنه كلما تمكنت السيئة من المسلمين ازداد عدوهم فرحا ، وهذا أبلغ تعبير عن شدة العداوة. (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على طاعة الله ، وأذى أعدائه (وتتقوا) المحرمات والمعاصي (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً). من كان مع الله كان الله معه ، ومن يتق الله يجعل له مخرجا.

وقعة أحد الآية ١٢١ :

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١))

وقعة أحد الآية هذه الآية ، وعشرات الآيات بعدها نزلت في وقعة أحد التي نلخصها بما يلي :

أحد اسم جبل يبعد عن المدينة ثلاثة أيام على التقريب ، وكانت معركة أحد في شوال سنة ثلاث من الهجرة.

١٤٧

بعد ان قتل المسلمون صناديد قريش في بدر خلا الجو لأبي سفيان ، وأصبح السيد الرئيس لقريش ، فأخذ يؤلب المشركين على رسول الله ، واستطاع أن يؤلف جيشا من ثلاثة آلاف مقاتل ، فزحف به ، ونزل قريبا من جبل أحد ، وكان معه زوجته هند ابنة عتبة ام معاوية.

وخرج النبي (ص) في ألف مقاتل ، ولكن عبد الله بن أبيّ رأس النفاق خذل الناس ، واستجاب له ثلاثمائة ، وبقي مع النبي سبعمائة ، وحاول عبد الله ابن عمرو والد جابر الأنصاري أن يثني ابن أبيّ عن عزمه فلم يفلح ، وهمّ حيان من الأنصار ان يتبعا ابن أبيّ ، ثم عصمهم الله وثبتوا مع النبي (ص) ، وهما بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس.

ورسم النبي (ص) خطة القتال ، فجعل الرماة على جبل خلف جيش المسلمين ، وكانوا خمسين راميا ، وجعل عليهم عبد الله بن جبير ، وقال لهم : احموا ظهورنا ، ولا تفارقوا مكانكم غالبين كنا أو مغلوبين .. ولما اشتبك القتال قامت هند أم معاوية في النسوة التي معها ، وضربن بالدفوف خلف الرجال يحرضنهم ومما كانت تغني به هند :

ان تقبلوا نعانق. ونفرش النمارق. أو تدبروا نفارق. فراق غير وامق. وكان يقول النبي عند سماعها : اللهم بك أحول ، وبك أصول ، وفيك أقاتل ، حسبي الله ، ونعم الوكيل.

وكانت راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة العبدي من بني عبد الدار فقتله الإمام علي ، فأخذ الراية سعيد بن أبي طلحة فقتله الإمام ، وسقطت الراية فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله الإمام ، حتى قتل تسعة أنفار من بني عبد الدار ، ثم أخذ الراية عبد أسود لبني عبد الدار فقتله الإمام ، وانكسر المشركون وانهزموا شر هزيمة ، وشرع المسلمون ينتهبون الغنائم.

ولما رأى الرماة هزيمة المشركين ، وإخوانهم المسلمين يجمعون الغنائم أخلوا مكانهم الذي رتبهم فيه رسول الله (ص) .. وقال لهم أميرهم عبد الله بن جبير مكانكم ، أطيعوا الله ورسوله ، فأبوا ، وانطلقوا للسلب والنهب ، ولم يبق مع ابن جبير إلا عشرة رجال ؛ فقصدهم خالد بن الوليد بكتيبة من المشركين ، فأبادهم بعد أن قاتلوا قتال المستميت.

١٤٨

ولما نظرت قريش ما صنع خالد تجمعوا على المسلمين ، وأصابوا منهم ما أرادوا ، ووصل العدو الى رسول الله (ص) ، وأصابته حجارة المشركين ، فكسرت رباعيته وشج في وجهه ، وكلمت شفته ، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجهه ، وفر المسلمون عن النبي (ص) بعد أن صاح صائح بأعلى صوته : ان محمدا قد قتل .. ولم يبق معه إلا نفر على رأسهم علي بن أبي طالب ، وأبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، وقد استماتوا في الدفاع.

وأغرت هند وحشيا باغتيال محمد أو علي أو حمزة ، فاغتال حمزة بحربة ، فشقت هند بطنه ، واستخرجت كبده ، فلاكتها. ومن ذاك اليوم التصق بها اسم آكلة الأكباد .. وكان عدد القتلى من المشركين ٢٢ ، وعدد الشهداء من المسلمين ٧٠.

المعنى :

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ). الغدوة والغداة ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ، وتبوئ تهيئ وتدبر ، والمقاعد واحدها مقعد ، أي مكان القعود. والمعنى اذكر أيها الرسول وقت خروجك غدوة من بيتك تدبر أمكنة للرماة ، وللفرسان ، ولسائر المؤمنين الذين كانوا معك.

الآية ١٢٢ :

(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢))

المعنى :

الطائفتان هما بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس. كادت تؤثر

١٤٩

فيهما حركة المنافق عبد الله بن أبيّ ، لولا ان أدركتهما ولاية الله وتثبيته. وقوله تعالى : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) دليل قاطع على انه سبحانه يمنح التوفيق والعناية لناس من عباده ، دون ناس ، لأن معناه انه لا يدع الطائفتين تفران وتفشلان. والله سبحانه أعلم ، حيث يجعل عطاءه وعنايته ، كما انه أعلم ، حيث يجعل رسالته.

وقعة بدر الآية ١٢٣ ـ ١٢٧ :

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧))

وقعة بدر الآية في هذه الآيات يذكّر الله المسلمين بوقعة بدر التي انتهت بالنصر ، وبدر بئر بين مكة والمدينة ، كانت لرجل يسمى بدرا ، فسميت البئر باسمه ، وكانت قوافل قريش التجارية الى الشام تمر ببدر ، وجدّ المسلمون في مهاجمة هذه القوافل التي كانت برئاسة أبي سفيان ، وخرج المشركون حوالى ألف مقاتل بالعدة والعدد لحماية احدى هذه القوافل ، والتحموا مع المسلمين ، وكانوا ٣١٣ رجلا ، وكانت هذه الوقعة نصرا مؤزرا للمسلمين ، وكارثة كبرى على المشركين ، وكان

١٥٠

لها دوي عظيم في أرجاء البلاد العربية .. وسنعود الى وقعة بدر ان شاء الله حين نصل بالتفسير الى قوله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) ـ الآية ٧ من سورة الانفال.

المعنى :

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). هذا تذكير بنصر الله للمسلمين يوم بدر لتقوى قلوبهم ، وكانوا آنذاك في قلة من العدد ، وفي غير منعة من العدة ، إذ كان عدد المسلمين ٣١٣ رجلا ، ولم يكن معهم الا فرس واحد ، وكان المشركون حوالى ألف ، ومعهم مائة فرس ، ومع ذلك قتل من المشركين ٧٠ ، وأسر ٧٠ ، وانهزم الباقون.

والقصد من تذكيرهم هذا أن يبين لهم ان الانتصار في معركة من المعارك لا يعد نصرا حاسما ، ولا الانكسار في معركة من المعارك يكون انكسارا نهائيا ، وانما النصر النهائي للصابرين الثابتين ، والمتقين المخلصين ، وقد دلت الأحداث والحروب قديما وحديثا على هذه الحقيقة وصحتها بخاصة الحرب العامة الأخيرة التي ابتدأت سنة ١٩٣٩ ، وانتهت سنة ١٩٤٥.

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ). كان هذا القول من النبي (ص) يوم بدر : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ). أي نازلين من السماء. (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا). بلى إيجاب للنفي ، أي يكفيكم هذا الامداد ، وضمير الغائب في يأتوكم للمشركين ، وضمير المخاطب للمؤمنين ، ومن فورهم أي من ساعتهم. (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ). مسومين من السيماء ، أي لهم علامة تدل عليهم.

وقد دل قول الله هذا دلالة لا تقبل التأويل انه جلت قدرته قد أمد المسلمين بالملائكة في بعض حروبهم ، وقد دلت الروايات الكثيرة ، واتفق المسلمون على ان الله أنزل الملائكة يوم بدر لنصرة المؤمنين ، واختلفوا في إنزالهم يوم أحد ، وليس من شك ان الله سبحانه أنزل الملائكة يوم بدر لنصرة المؤمنين ، ولكن لا نعلم نوع هذا النصر : هل كان نصرا ماديا كالقتال ، أو نصرا معنويا

١٥١

كتخويف المشركين ، وحصول الطمأنينة للمؤمنين؟ الله أعلم .. ولا يجب علينا البحث والتنقيب عن ذلك : على انه إذا بحثنا فلن نصل الى يقين.

أجل ، هناك أدلة تفيد ان الملائكة تتصور بصورة البشر ، منها ما أخبر الله به عن ضيف ابراهيم (ع) في الآية ٥١ وما بعدها من سورة الحجر : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) ـ الى قوله ـ (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ). ومنها عن ضيوف لوط الآية ٧٧ سورة هود ، ومنها قوله تعالى : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) ـ ١٧ مريم». ومنها ان جبريل كان يأتي رسول الله (ص) في صورة دحية الكلبي .. ولكن تصور الملائكة بصورة البشر لا يحتم انهم قاتلوا من أجل المسلمين ، بل من الجائز أن يناصروهم بطريق آخر غير القتال.

وتسأل : ان الله سبحانه قال في الآية ٩ من سورة الأنفال : (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ). وقال في الآية ١٢٤ من آل عمران : (يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ). وقال في الآية التي بعدها بلا فاصل : (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) ـ الى قوله ـ (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ). تسأل : هل أمدهم الله أولا بألف ، ثم بثلاثة ، ثم بخمسة ، حتى صار المجموع تسعة ، أو ما ذا؟

ومما أجيب به عن ذلك ان الله أمدهم أولا بألف مردفين ، أي لهم تبع ، ثم ضم الى الألف ألفين ، فصاروا ثلاثة ، ثم ضم الى الثلاثة ألفين آخرين ، فصار المجموع خمسة.

وقال قائل : ان الله أمد المسلمين يوم بدر بألف. ثم بلغهم ان بعض المشركين يريد أن يمد قريشا بعدد كبير من المقاتلين ، فخاف المسلمون ، وشق ذلك عليهم ، لقلة عددهم ، فوعدهم بخمسة آلاف من الملائكة ان جاء المدد الى قريش ، ولكن بثلاثة شروط ، وهي الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور ، كما نطقت الآية : (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) .. ولكن هذا المدد لم يأت قريشا ، فاستغنى المسلمون عن الامداد بالزيادة على الألف.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ). الهاء في (جعله) يعود على غير مذكور بلفظه وهو الامداد والوعد به ، وانما استخرجناه من يمدد ،

١٥٢

وهو المعبر عنه بالمصدر المتصيد ، والمعنى ان الله سبحانه أمدكم بالملائكة ، أو وعدكم بالامداد ، لتسكن قلوبكم ، فلا تخافوا من كثرة العدد في عدوكم ولا تيأسوا لقلة عددكم.

(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ). اي ان الله سبحانه أمدكم بالملائكة ليهلك طائفة من الكافرين بالقتل والأسر ، أو يخزيهم بالهزيمة ، فيرجعوا خائبين لا أمل لهم بالنصر.

ليس لك من الأمر شيء الآية ١٢٨ ـ ١٢٩ :

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩))

المعنى :

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ). قد يظن المسلمون ـ بالنظر الى تعظيمهم رسول الله ـ ان له يدا فيما حدث للمشركين ببدر ، أو يحدث لهم من الهزيمة ، فدفع سبحانه هذا الوهم بأن الأمر كله لله وحده .. وقد أكد القرآن في العديد من آياته بأن محمدا (ص) هو بشير ونذير ، يبلغ أحكام الله لعباده ، وكفى .. وغير بعيد أن تكون الحكمة من هذا التكرار والتأكيد ان لا يغالي المسلمون في نبيهم ، كما غالى المسيحيون بالسيد المسيح (ع).

(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ). يتوب منصوب ، لأنه معطوف على يكبتهم المنصوبة في الآية السابقة ، والمعنى ان الأمر كله لله ، فاما أن

١٥٣

يهلكهم ، أو يتوب عليهم ان أسلموا ، أو يعذبهم ان أصروا على الكفر ، لأنهم يستحقون العذاب بظلمهم ، أي بكفرهم.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ومن كان له ملك السموات والأرض كان حقيقا بأن يكون له الأمر كله ، ولا شيء لأحد معه. (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ). ذكرنا أكثر من مرة ان العقل يحكم بأن الكافر يستحق العقاب ، ولكن لا يحتمه على كل حال ، بل ان لله سبحانه ان يغفر عنه لحكمة ، مع استحقاقه للعقاب ، تماما كما تغفر عمن أساء اليك ، وتسقط ديونك عمن هو مدين لك .. وجانب الرحمة والمغفرة عند الله هو الغالب تفضلا منه وكرما.

لا تأكلوا الربا الآية ١٣٠ ـ ١٣٣ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣))

اللغة :

ضعف بكسر الضاد معناة الزيادة على الشيء بمثله.

الإعراب :

أضعافا حال ، ومضاعفة مفعول لاضعاف.

١٥٤

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ذكر المفسرون وجوها عديدة لربط هذه الآية بما قبلها. وسبق ان أشرنا أكثر من مرة الى ان من سنة القرآن ان يمزج بعض الأحكام ببعض ، بالاضافة الى ان آياته نزلت بالتدريج ، ولمناسبات شتى.

واستدل البعض بهذه الآية على ان الربا المحرم هو الربا الفاحش ، أما غير الفاحش فليس بحرام ، لمكان لفظ أضعافا مضاعفة.

والصحيح ان الربا محرم بجميع أقسامه ومراتبه .. وأضعافا ليس قيدا للنهي ، وانما هو اشارة الى ما كان عليه المرابون في الجاهلية .. هذا ، الى وجود الأخبار ، وقيام الإجماع على ان قليل الربا محرم كالكثير منه ، بل كل ما كان كثيره حراما فقليله كذلك ربا كان أو غير ربا.

وأطال صاحب تفسير المنار الشرح والتفصيل عند تفسير هذه الآية ، وانتهى أخيرا الى ان الربا على قسمين :

القسم الأول ربا النسيئة ، وهو ان يكون للرجل دين على آخر الى أجل ، فإذا حلّ الأجل ، وعجز المديون قال للدائن : زدني في الأجل ثانية ، وأزيدك في المال ، وهكذا كلما زاد الأجل ، زاد المال. ثم قال صاحب المنار : ان هذا النوع من الربا محرم لذاته.

القسم الثاني : أن يعطيه مائة درهم بمائة وعشرة الى أجل ابتداء ، وادخل صاحب المنار هذا القسم بربا الفضل ، وقال : ان هذا النوع ليس محرما لذاته ، وانما يحرم لسد الذريعة ، أي خوفا أن يجر الى ربا النسيئة الذي هو محرم ذاتا ، وبكلمة ان ربا النسيئة عند صاحب المنار محرم كغاية ، وربا الفضل محرم كوسيلة ، ثم قال : «ان ربا الفضل يباح للضرورة ، بل وللحاجة كما قال ابن القيم».

ويلاحظ : ان النص الثابت كتابة وسنة يحرم جميع أنواع الربا من غير فرق بين أن يكون التأجيل للمرة الأولى ، أو للمرة الثانية.

ثانيا : ان قوله «بل وللحاجة» من سهو القلم ، لأن الضرورات تبيح المحظورات ، أما الحاجات فليس ، والفرق بين الحاجة والضرورة ان الحاجة

١٥٥

يمكن الاستغناء عنها ولو بالصبر ، أما الضرورة فلا يجدي معها شيء الا سدها بالذات.

ثالثا : ان الضرورة هنا غير متحققة إطلاقا ، لا بالنسبة الى القابض ، ولا بالنسبة الى الدافع ، أما القابض أي صاحب المال فلأن المفروض ان لديه ما يقيم به الأود ، ولو يوما واحدا ، وأما الدافع فإن الضرورة إذا سوغت له أخذ المال فإنها لا تسوغ له دفع الربا ، وان اشترط عليه ، لأن الشرط فاسد ، وإذا أخذ منه قهرا عنه فلا يحل للآخذ ، لأنه أكل للمال بالباطل.

رابعا : لو سلمنا جدلا بأن الضرورة ممكنة بالنسبة الى القابض فإنها تسقط الحكم التكليفي دون الوضعي ، فإذا سرق الجائع المضطر رغيفا يسقط عنه العقاب ما في ذلك ريب ، ولكنه مسؤول عن ثمن الرغيف ، وعليه أن يدفعه الى صاحبه عند الميسرة .. ومن أباح أخذ الربا للضرورة لا يوجب رده عند الميسرة الى من أخذ منه.

وتكلمنا عن الربا مفصلا في سورة البقرة الآية ٢٧٥.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). في هذا دلالة على أمرين : الأول ان أكل الربا معصية لله والرسول. الثاني : ان من يعصي الله والرسول لا تناله رحمة الله بحال.

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ). بعد أن نهى سبحانه عن أكل الربا ، وحذر من النار ، ودعا الى التقوى وطاعة الله والرسول ، بعد هذا كله أمر بالمسارعة الى فعل الخير الذي يستوجب رضوان الله وجنته .. ومن أظهر الخيرات والمبرات التراحم والتعاون وانفاق المال لوجه الله تعالى ، كما نصت الآية الآتية .. وقوله (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) كناية عن السعة.

صفات المتقين الآية ١٣٤ ـ ١٣٦ :

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ

١٥٦

النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦))

اللغة :

السراء الحال التي تسر ، ومنها اليسر والسعة ، والضراء الحال التي تضر ، ومنها العسر والضيق ، وكظم الغيظ عدم إظهاره بقول أو فعل ، والمراد بالفاحشة هنا الذنب الكبير ، ومنه الزنا ، قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً).

الإعراب :

الذين صفة للمتقين في آخر الآية السابقة والكاظمين والعافين عطف على الذين ، وفاحشة صفة لمحذوف ، أي فعلوا فعلة فاحشة ، ونعم أجر العاملين المخصوص بالمدح محذوف ، أي نعم أجر العاملين أجرهم.

المعنى :

وصف الله المتقين بأوصاف هي مناقب وفضائل حتى عند من لا يؤمن بالله واليوم الآخر :

«منها» : (يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ). لا يبطرهم الغنى ، ويزيد في

١٥٧

طمعهم وحرصهم ، فيشحون بالمال ، ولا يضجرهم الفقر ، ويبعثهم على اليأس ويرون انهم أجدر بالأخذ لا بالعطاء ، وهم في الحالين سواء ينفقون حسبما يستطيعون .. وفي الحديث : تصدقوا ولو بشق تمرة.

و «منها» : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ). ولا شيء أدل على قوة الإيمان ، ورجاحة العقل من تمالك النفس وكظم الغيظ ، وإذا كان في تجرع الغيظ مرارة ومشقة على النفس ، فانه وقاية من كثير من المصائب والكوارث ، قال الإمام علي (ع) يوصي ولده الإمام الحسن (ع) : تجرع الغيظ فاني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ، ولا ألذ مغبة.

و (منها) : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ). والعفو عمن أساء أفضل بكثير من كظم الغيظ ، لأن الإنسان كثيرا ما يضبط نفسه ، ويكظم غيظه بدافع من صالحه الخاص ، وتجنبا للوقوع في المشاكل ، أما العفو عن ذنوب الناس فهو احسان محض. قال الإمام علي (ع) : إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه.

و (منها) : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). ويتحقق الإحسان بكل ما فيه نفع مادي أو معنوي ، كثر ، أو قلّ ، ولو بكلمة (من هنا الطريق). قال الشيخ المراغي في تفسير هذه الآية : «أخرج البيهقي ان جارية لعلي بن الحسين (ع) جعلت تسكب الماء عليه ليتهيأ للصلاة ، فسقط الإبريق من يدها فشجته ، فرفع رأسه ، فقالت : ان الله يقول : والكاظمين الغيظ. فقال لها : قد كتمت غيظي. قالت : والعافين عن الناس. قال : قد عفا الله عنك. قالت : والله يحب المحسنين. قال : اذهبي أنت حرة لوجه الله تعالى.

و (منها) : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ). الفاحشة أفحش الذنوب وأكبرها ، ومنها الاعتداء على حقوق الناس ، وليس في ظلم النفس اعتداء على الغير ، ولكن قد يكون فاحشا كالكفر ، فيكون ذكره بعد ذكر الفاحشة من باب ذكر العام بعد الخاص .. ومهما يكن ، فإن الله يعفو عن الجميع ، ويغفر كل ذنب كبيرا كان أو صغيرا بشرط الاستغفار ، أي التوبة النصوحة. (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ). أي ان الله سبحانه يغفر لمن تاب وأقلع عن الذنب ، أما من أصر واستمر في

١٥٨

فعل الذنب ، وهو يعلم بأنه ذنب فلا يغفر الله له. ومعنى هذا ان من ارتكب قبيحا عن جهل بقبحه فهو معذور.

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ) الخ مر نظير هذه الآية في سورة البقرة ٢٥ و ٢٦٦.

قد خلت من قبلكم سنن الآية ١٣٧ ـ ١٣٨ :

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨))

اللغة :

خلت ، أي مضت. والسنن واحدها سنة ، وهي الطريقة المستقيمة ، والسيرة المتبعة.

المعنى :

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ). سبقت الاشارة الى وقعة أحد ، وان الانتصار فيها كان للمشركين ، لأن المرابطين في الثغر من المسلمين تركوه ، والعدو مشرف عليهم ، فأخلوا بين عدوهم وبين ظهورهم .. وقد خاطب الله سبحانه. بقوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أصحاب محمد (ص) ان يتعرفوا على أخبار الماضين ، وما حل بالمنحرفين منهم ، ليتعظ الأصحاب بذلك ، ولا يعودوا الى مثل ما فعلوا في أحد من معصية الرسول بإخلاء الثغر الذي أمرهم بالبقاء فيه ، مهما كانت النتائج ، فلما خالفوه أصابهم ما أصاب الأمم السالفة التي خالفت أنبياءها.

(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ). ليس المراد من السير في الأرض هنا خصوص السفر ، بل مطلق التعرف على أحوال الماضين

١٥٩

بأي سبيل. وليس من شك ان من المفيد للعاقل أن يبحث عن أحوال الناس ، ويطلع على الأسباب الموجبة لضعفهم ، أو قوتهم ، فيتعظ ويعتبر ، ويسترشد إلى ما فيه خيره وصلاحه ، ومن أجل هذا قال عز من قائل :

(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ). هذا اشارة الى ذكر السنن الحكيمة التي من سار عليها ظفر ، ومن تنكبها خسر .. ولا بد من البيان للناس كافة ، ليكون حجة على من عصى ، وهدى وموعظة لمن اتقى ، فانه السبيل الوحيد الذي يميز بين العاصي والمطيع .. ولو لا البيان لا طاعة ولا عصيان.

نكسة ٥ حزيران :

في سنة ١٣٨٧ ه‍ دعاني أهل البحرين لالقاء محاضرات دينية بمناسبة شهر رمضان المبارك ، ومكثت عندهم حوالي ٢٥ يوما ألقيت خلالها عشرين محاضرة ، وكان الشباب يوجهون إليّ العديد من الأسئلة المتنوعة ، وفي ذات يوم جاءني وفد منهم ، وقالوا : حدثنا عن أسباب نكسة ٥ حزيران من غير الوجهة الدينية.

قلت : لا فرق بين العلم والدين من حيث النظر الى القوانين والسنن التي تحكم الحياة ، فإن مشيئة الله سبحانه في خلقه وعباده تسير على سنن علمية مستقيمة وأسباب مطردة ، لا تختلف باختلاف المؤمنين أو الكافرين .. فالعارف بفن السباحة ـ مثلا ـ يعوم ويصل إلى شاطئ الأمان ، ولو كان كافرا ، والجاهل بالسباحة يرسب ، ويكون عرضة للهلاك ، ولو كان مؤمنا .. وكذلك من أعد العدة لعدوه واحتاط له ظفر به ، وان كان ملحدا ، إذا لم يكن الطرف الآخر على حذر واستعداد ، ومن تقاعس وأهمل خسر ، وان كان من الأولياء والصديقين. قال تعالى مخاطبا أصحاب الرسول (ص) بالآية ٤٦ من الأنفال : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). وقال الإمام علي (ع) : «ان هؤلاء ـ يشير إلى أصحاب معاوية ـ قد انتصروا بإجماعهم على باطلهم ، وخذلتم ـ الخطاب لأصحابه ـ بتفرقكم عن حقكم». اذن ، الحق لا ينتصر لمجرد انه حق ، والباطل لا يخذل لمجرد أنه باطل ، بل هناك سنن في هذه

١٦٠