التّفسير الكاشف - ج ٢

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٢

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٨

السماوية. (قالَ فَاشْهَدُوا). أي قال الله بلسان أنبيائه للأمم : ليشهد بعضكم على بعض بأنه أقر بنبوة محمد (ص) ووجوب مناصرته. (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ). ان الله وملائكته وأنبياءه يشهدون على أخذ هذا الميثاق من علماء الأديان وإقرارهم به .. ولكن برغم ذلك فقد أنكر أحبار اليهود والنصارى هذا الميثاق ، وكذبوا محمدا ، ونصبوا له المكائد والمصائد ، كما سبق ذلك مفصلا فيما تقدم من الآيات.

(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ). أي من أعرض عن الايمان بمحمد بعد أخذ الميثاق عليه ، والإقرار بمحمد ووجوب مناصرته (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ). المراد بالفسق هنا الكفر ، لأن كل من حرّف آية من كتاب الله ، أو أنكر نبيا من أنبياء الله على علم منه بنبوته فهو كافر.

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً). الاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ ، والمراد بالإسلام الانقياد والخضوع. وكل الناس تؤمن بالله من غير فرق بين الصالح والطالح ، سوى ان الصالح يؤمن بالله طوعا في هذه الحياة ، والطالح يؤمن به كرها يوم القيامة ، حيث ينكشف الغطاء ، ويرى كل جاحد البأس والعذاب وجها لوجه ، قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) ـ ٨٤ غافر».

وهذا المعنى الذي فسّرنا به طوعا وكرها لا يصعب على أحد فهمه وهضمه مهما كان مستواه .. ولكن الرازي فسّر (طَوْعاً وَكَرْهاً) تفسيرا فلسفيا على طريقته ، وما قاله قريب الا انه للخاصة ، لا للعامة ، وننقله لأولئك لا لهؤلاء ، قال :

«ان كل ما سوى الله سبحانه ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد الا بإيجاده ، ولا يعدم الا بعدمه ، فإذن ، كل ما سوى الله منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه ، وهذا نهاية الانقياد والخضوع».

١٠١

آمنا بجمع الأنبياء الآية ٨٤ ـ ٨٥ :

(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥))

المعنى :

مرّت الآية الأولى مع تفسيرها في الآية ١٣٦ من سورة البقرة ، والخلاصة ان كلا من اليهود والنصارى يؤمنون ببعض الأنبياء ، ويكفرون ببعض ، أما المسلمون فإنهم يؤمنون بالجميع لأن دعوة الأنبياء واحدة ، وهدفهم واحد ، فالتفرقة بينهم من حيث الايمان بنبوتهم حكم على الشيء الواحد بالسلب والإيجاب في آن واحد.

أما الآية الثانية ، وهي قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) فيعرف المراد منها من مراجعة تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) الآية ١٩ من هذه السورة.

وتجمل الاشارة الى اني رأيت البعض يستدل بالآية ٦٢ من سورة البقرة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) يستدل البعض بهذه الآية على انه لا فرق بين المسلم واليهودي والنصراني ما دام كل منهم يؤمن بالله واليوم الآخر .. وهذا خطأ من وجهين : الأول ان المراد بالمذكورين في الآية كل من مات على الايمان والعمل الصالح من أهل الأديان السابقة على محمد (ص). وقد بيّنا ذلك مفصلا عند تفسير الآية. الثاني ان

١٠٢

لفظ الآية وان كان عاما بظاهره لكل زمان الا ان قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) يخصص آية اليهود والنصارى بالمؤمنين منهم قبل عصر محمد (ص) ، أما من آمن بالله واليوم الآخر ، ولم يؤمن بمحمد بعد بعثته مع بلوغه دعوته فإن إيمانه ليس بشيء (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).

كيف يهدي الله الكافرين الآية ٨٦ ـ ٨٩ :

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩))

الإعراب :

كيف أصلها الاستفهام عن الأحوال ، والمراد بها هنا الإنكار ، ومحلها النصب بيهدي على انها مفعول مطلق ، أي أية هداية يهدي الله ، وشهدوا ان الرسول حق عطف على بعد ايمانهم ، حيث يجوز عطف الفعل على الاسم إذا كان الاسم بمعنى الفعل ، وبعد ايمانهم هنا بمعنى بعد أن آمنوا.

المعنى :

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ

١٠٣

الْبَيِّناتُ). المراد بالرسول محمد (ص) ، وبالقوم أحبار اليهود والنصارى ، لأن الله سبحانه وصف هؤلاء القوم بأنهم آمنوا به ، وشهدوا له بالرسالة ، ولكنهم بعد ان بعث ، وجاءهم بالبيّنات والدلائل على نبوته أنكروه ، ورفضوا متابعته ، وهذه الأوصاف تنطبق كل الانطباق على أحبار اليهود والنصارى ، لأنهم وجدوا اسم محمد مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، وانهم لذلك آمنوا به قبل مبعثه .. غير انهم لما بعث ، وجاءهم بالبينات كفروا به بغيا وحسدا ، وحرّفوا كل آية تدل عليه تصريحا أو تلويحا.

وتسأل : ان الظاهر من قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) ان الله سبحانه لا يريد رجوعهم الى الإسلام لو حاولوا التوبة والإنابة. وينبغي على هذا أن لا يستحقوا ذما ولا عقابا؟.

الجواب : ان الله سبحانه يقيم للعبد الدلائل على الحق فإن آمن به كان من المهتدين ، وكانت هدايته من الله ، لأنه أقام له الدلائل على الحق ، وأيضا تكون الهداية من العبد ، لأنه اهتدى باختياره ، فإن ارتد بعد الهداية مكابرة وعنادا فإن الله يدعه وشأنه في هذه الحياة ، ولا ينصب له دلائل جديدة ، حيث لا مزيد ، وأيضا لا يجبره على الهداية ، لأنه لا تكليف مع الجبر والقهر.

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). أي انهم مستحقون لذلك ، ولعنة الله عبارة عن غضبه وسخطه ، ولعنة الملائكة والناس عبارة عن الدعاء عليهم بأن يعذبهم الله ، ويبعدهم عن رحمته. وجاء في نهج البلاغة ان عليا أمير المؤمنين (ع) كان يخطب على منبر الكوفة : فاعترضه الأشعث قائلا : يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك. فقال له أمير المؤمنين : ما يدريك ما عليّ مما لي ، عليك لعنة الله ، ولعنة اللاعنين. قال الشيخ محمد عبده معلقا على ذلك : «كان الأشعث في أصحاب علي كعبد الله بن أبيّ في أصحاب رسول الله (ص) ، كل منهما رأس النفاق في زمنه».

(خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ). ضمير فيها يعود الى جهنم بقرينة قوله : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ). ولا ينظرون معناه لا يمهلون ، بل يعجل لهم ما يستحقون من العذاب. (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). جاء في الحديث : «التائب من الذنب كمن لا ذنب

١٠٤

له». وقال الإمام علي (ع) : ما كان الله ليفتح لعبد باب التوبة ، ويغلق عليه باب المغفرة.

وتسأل : إذا أسلم ، ثم ارتد ، ثم عاد إلى الإسلام ، ولكنه تهاون في الأحكام لا في الأصول ، كما لو ترك الصوم والصلاة عن كسل وتهاون فهل تقبل توبته؟ الجواب : أجل ، انها مقبولة ، لأن التوبة كانت عن الكفر بالذات ، لا عن الصوم والصلاة ، أما قوله تعالى : (وَأَصْلَحُوا) فان المراد منه أصلحوا ضمائرهم ، وثبتوا على الإسلام ، ولم يرتدوا عنه ثانية.

ثم ازدادو كفراً الآية ٩٠ ـ ٩١ :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))

الإعراب :

كفرا تمييز ، ومثله ذهبا.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ). معنى الكفر بعد الايمان واضح ، أما ازدياد الكفر فيكون بكثرة الذنوب التي يصيبها

١٠٥

المذنب ، وأعظمها العمل على بث الكفر وانتشاره ، ومحاربة المؤمنين ، لا لشيء إلا لأنهم مؤمنون.

وتسأل : ان الله حكم في الآية السابقة بقبول توبة من كفر بعد الإيمان ، ثم حكم في هذه الآية بعدم قبولها ، فما هو وجه الجمع؟.

وأجاب المفسرون بأجوبة أرجحها ان الكافر بعد الايمان على ثلاثة أقسام : أحدها من تاب توبة نصوحة ، وهو الذي ذكره الله في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا). ثانيها : من تاب توبة زائفة ، وهو الذي ذكره تعالى بقوله : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ). ثالثها : من مات على الكفر ، وهو المذكور بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ).

والذي نراه في الجواب ان الإنسان قد يشعر بصحة شيء ، أو فساده ، ثم تعرض بعض الملابسات تخيل اليه ان شعوره قد تغير من الصحة الى الفساد ، أو من الفساد الى الصحة ، مع ان شعوره في واقعه هو هو لم يتغير فيه شيء ، أما اعتقاد التغيير فمجرد وهم وخيال ، وكذلك الحب والبغض ، فقد يسيء ولدك اليك ، فيلوح لك انه أبغض الناس إلى قلبك ، وانك تود هلاكه ، ولكن عاطفة الأبوة تكمن في قرارة نفسك دون أن تشعر .. وكم شاهدنا من يفعل ويترك بوحي من المحاكاة والتقليد ، أو العاطفة والعادة ، وهو يعتقد ان ذلك بوحي من الدين والعقل.

وكذلك يلوح لكثير من التائبين من ذنوبهم انهم تابوا توبة نصوحة ، وهم في الواقع باقون على ما كانوا ، وهؤلاء التائبون هم المعنيون بقوله تعالى : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ). أما المعنيون بالآية السابقة ، وهي قوله سبحانه : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) فهم التائبون حقا وصدقا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ). ليس من شك ان من ختم حياته بالكفر ، ومات عليه حوسب حساب الكافرين.

ولك أن تسأل : انه لا ذهب يوم القيامة ، ولا وسيلة لامتلاكه ، ولا إنفاقه ، فما هي الفائدة من ذكره؟

١٠٦

الجواب : القصد انه لا طريق للافتداء بحال من الأحوال ، وبديهة ان فرض المحال ليس بمحال .. ومما قاله الإمام علي (ع) في وصف جهنم : «لا يظعن مقيمها ، ولا يفادى أسيرها».

المال هو المحك الآية ٩٢ :

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢))

المال هو المحك الآية ٩٢ المراد بالبر هنا إكرام الله ، وتفضله على عبده .. وقد سبق تفسير العديد من الآيات التي حثت على الإنفاق ، ولكن لهذه الآية ميزة على كل آية وردت في هذا الباب. لأنها لم تأمر بالإنفاق وكفى ، كغيرها من الآيات ، بل ربطت بين نيل الإنسان الدرجات العلى عند الله سبحانه ، وبين إقدامه على التضحية بما يحب ، فالعبادة المجردة عن التضحية لا تقرّب من الله بموجب دلالة هذه الآية ، وكذا سائر الأعمال إلا ان ينطبق عليها نوع من الفداء والتضحية في سبيل الله.

وعلى هذا يكون قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) بيانا وتفسيرا لكل آية ورواية حثت على العمل من أجل مرضاة الله ، والقرب منه ، بيانا وتفسيرا بأن القرب منه تعالى لا يحصل ، ولن يحصل لأحد الا إذا بذل من نفسه وماله ما يحب .. وكأنّ الإمام علي (ع) أخذ من هذه الآية قوله : لا حاجة لله فيمن ليس لله في ماله ونفسه نصيب.

ان البذل مما تشح به النفس ، وتحرص عليه ، بخاصة المال هو المحك المميز بين الايمان الدخيل والأصيل .. فلقد كان المال ، ولا زال معبود الملايين ، وان كثيرا من الناس يخيل الشيطان اليهم انهم يعبدون الله سبحانه ، وهم في حقيقتهم وواقعهم يعبدون الدرهم والدينار ، ولكنهم لا يشعرون.

١٠٧

جاء في بعض الروايات ان إبليس كان قبل ضرب الدرهم والدينار في شغل شاغل ، لإغواء الناس ، وصرفهم عن عبادة الرحمن الى عبادة الأوثان ، ولا يجد فترة من راحة في ليل ولا نهار .. وبعد ان دارت الأيام ، وضرب الدرهم والدينار تنفس إبليس الصعداء ، وفرح فرحا لم يفرح مثله من قبل ، وأقام حفلات الأنس والطرب ، وكان يرقص ، وهو يضع الدرهم على احدى عينيه ، والدينار على الثانية ، ويقول : لقد أرحتماني .. ولست أبالي بعد اليوم أعبد كما الناس ، أم عبدوا الأوثان ..

وسواء أكانت هذه الرواية قضية في واقعة ، أم كانت أسطورة من الأساطير فإنها تصوير صادق ورائع لعدم الفرق بين المال ، وعبادة الأوثان ، فكل منهما يصرف عن الله والحق ، بل ان عبادة المال أسوأ أثرا ، وأكثر ضررا ، لأن المال مادة الشهوات ، ومصدر الفساد في كثير من الأحيان .. فالذين خانوا أوطانهم انما خانوها من أجل المال ، والذين حاربوا الأنبياء والمصلحين ، وحرّفوا الدين ، وشريعة سيد المرسلين انما فعلوا ذلك بعد أن قبضوا الثمن .. ومهما شككت فإني لا أشك ان الملحدين وعبدة الأوثان الذين لم يخونوا بلادهم ، ولم يتآمروا على الأبرار والمخلصين لهم خير ألف مرة من الصائم المصلي ، والحاج المزكي الذي تآمر مع أعداء الله على بيع البلاد ، وأقوات العباد.

اذن ، فلا عجب إذا أناط سبحانه نيل الدرجات عنده بالبذل والتضحية بالمال ، وبالعزيز الغالي ، حيث يكشف هذا البذل عن إيثار الحق على الباطل ، والآجل على العاجل.

ولك أن تسأل : ان قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) يدل بظاهره ان الجنة محرمة الا على من بذل الطيّب من ماله ، مع العلم ان كثيرا من الناس ، أو أكثر الناس لا يملكون شيئا.

الجواب : ان الخطاب في الآية الكريمة يختص بالمالك القادر ، أما العاجز الذي لا يملك شيئا فيجب أن يأخذ ، لا أن يعطي ، بل هو أحد موارد البذل والعطاء .. هذا ، الى ان الذين يجاهدون بأنفسهم أعظم درجة عند الله من الذين يجاهدون بأموالهم ، لأن الجود بالنفس أقصى غاية الجود ، كما قال الشاعر.

وكما دلت الآية على ان القرب من الله سبحانه منوط بالبذل والتضحية فقد

١٠٨

دلت أيضا على ان المال يكون مصدرا للخيرات ، ووسيلة لطاعة الرحمن ، كما يكون مادة للشهوات ، ومرضاة الشيطان ، قال رسول الله (ص) : «من طلب الدنيا مكاثرا مفاخرا لقي الله ، وهو عليه غضبان ، ومن طلبها استعفافا ، وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ، ووجهه كالقمر ليلة البدر». وقال الإمام (ع) : ما أعطي أحد من الدنيا شيئا إلا نقص حظه من الآخرة. فقال له بعض من حضر : والله انّا لنطلب الدنيا. فقال له الإمام : تصنع بها ما ذا؟ قال : أعود بها على نفسي وعلى عيالي ، وأتصدق منها ، وأحج. قال الإمام : ليس هذا من طلب الدنيا ، هذا من طلب الآخرة.

١٠٩
١١٠

الجزء الرابع

١١١
١١٢

بنو اسرائيل والطعام الآة ٩٣ ـ ٩٥ :

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥))

الاعراب :

حنيفا حال من ابراهيم.

المعنى :

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ). لهذه الآية قصة تتلخص بأن أكثر من آية صرحت ان محمدا (ص) ومن معه هم على ملة ابراهيم ، يؤمنون بالله ، وما أنزل على ابراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء .. ومعنى هذا في ظاهره ان كل ما كان حراما في دين هؤلاء الأنبياء فهو حرام في دين الإسلام ، وكان اليهود يعتقدون ان لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة في دين الأنبياء المذكورين ، وقد رأوا محمدا (ص) يحللها ، مع ان هذا التحليل يتنافى مع قوله : انه على ملة ابراهيم ، وانه يؤمن بما أنزل على ابراهيم ، والأنبياء من بعده.

واعتمادا على هذا الزعم أشاع اليهود وأذاعوا بقصد الطعن والتشكيك في الإسلام ان محمدا يناقض نفسه بنفسه .. يحلل من الطعام ما كان محرما في ملة ابراهيم ،

١١٣

وفي نفس الوقت يدعي انه على ملة ابراهيم .. فرد الله عليهم بقوله : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ). أي ان ابراهيم ومن جاء بعده لم يحرموا لحوم الإبل وألبانها ، بل كل الطعام كان حلا لهم .. واليهود كاذبون مفترون في نسبة التحريم إلى أنبيائهم.

(إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ). إسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن ابراهيم ، وكان قد امتنع من تلقائه عن بعض الأطعمة ، لسبب يعود اليه خاصة ، ولم يمتنع عنه ، لأن الله قد حرمه .. بل كما يمتنع أحدنا عن التدخين ، أو غيره لأسباب صحية ، وما اليها .. ولكن جرت سنة بني إسرائيل على اتباع أبيهم في تحريم ما كان قد حرمه هو على نفسه .. وكان ذلك (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) ذكر الله سبحانه هذا القيد ، لأنه قد حرّم عليهم أنواعا كثيرة بعد التوراة بسبب الذنوب التي اقترفوها ، كما أشارت الآية ١٦٠ من النساء : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) أما الأنواع التي حرمت عليهم بعد نزول التوراة فقد جاء ذكرها في الآية ١٤٦ من الانعام : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ). والتفصيل في محله.

وتجمل الاشارة هنا الى ان المسلمين متفقون كلمة واحدة على ان الأصل هو الحل في جميع المأكولات والمشروبات ، حتى يثبت العكس.

(قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). هذا تحد لليهود ان يحضروا التوراة ، وهي المعتمد عندهم ، أن يحضروها ويقرءوا نصوصها على الملأ إن كانوا صادقين في دعواهم تحريم لحم الإبل أو غيره .. ولكنهم بعد هذا التحدي تواروا ، ولم يجسروا على إتيان التوراة ، لأنهم على علم اليقين بصدق النبي ، وكذبهم.

(فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ). أي بعد ظهور الحجة ، وقيام الدليل على الحق. (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، لأنهم ضلوا وأضلوا بالإصرار على الباطل ، ومعاندة الحق. (قُلْ صَدَقَ اللهُ). في ان كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل ، وان

١١٤

محمدا رسول الله حقا. (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) في استباحة لحوم الإبل وألبانها (حنيفا) مستقيما على دين الحق.

ولا بد من الاشارة الى ان محمدا (ص) كان على ملة ابراهيم ، وملة جميع الأنبياء في العقيدة وأصولها ، أما شريعته فإنها مستقلة عن كل الشرائع ، مع العلم بأنها جميعا قائمة على المصالح .. ولكن المصالح تختلف باختلاف الظروف والمناسبات .. واتفاق الشرائع في تحليل الأطعمة لا يستلزم وحدتها من جميع الجهات .. وعلى أية حال ، فإن القصد من الآيات التي شرحناها هو تكذيب اليهود فيما نسبوه الى الأنبياء من تحريم بعض الأطعمة.

أول بيت الآية ٩٦ ـ ٩٧ :

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))

اللغة :

لفظ أول اسم للشيء الذي يوجد ابتداء ، سواء أحصل بعده ثان ، أم لم يحصل ، يقال أول قدومي الى هذا البلد ، وهذا أول ما أصبته من المال ، وبكة من أسماء مكة ، وكثيرا ما تأتي الباء مكان الميم ، مثل ضربة لازم ، وضربة لازب ، ودائم ودائب ، ومعنى البك الدفع ، والناس في مكة لكثرتهم يدفع بعضهم بعضا ، ونقل الرازي في تفسيره ان الإمام محمد الباقر (ع) كان

١١٥

يصلي في الكعبة ، فمرت امرأة بين يديه ، فأراد رجل أن يدفعها ، فقال له الإمام : دعها ، فإن مكة سميت بكة ، لأن الناس يبك بعضهم بعضا ، تمر المرأة بين يدي الرجل ، وهو يصلي ، والرجل بين يدي المرأة ، وهي تصلي ، ولا بأس بذلك في هذا المكان.

الإعراب :

للذي اللام للتأكيد ، والذي خبر ان ، وبكة ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الذي ، تقديره استقر ، ومباركا حال من الضمير في استقر ، أو من الضمير في وضع ، ومقام ابراهيم بدل من بينات ، أو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره هي مقام ابراهيم ، وحج بفتح الحاء ، وكسرها مبتدأ ، وخبره لله ، ومن استطاع بدل من الناس ، وهو بعض من كل.

المعنى :

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ). سبق الكلام مفصلا في تفسير الآية ١٤٢ وما بعدها من سورة البقرة عما قال اليهود حول تحويل القبلة من بيت المقدس الى الكعبة ، ولهذه الآية صلة بآيات سورة البقرة ، بخاصة قول السفهاء هناك : «ما ولاهم عن قبلتهم».

وقوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) لا دلالة فيه انه أول بيت وجد على وجه الأرض ، بل هو ظاهر في انه أول بيت وضع للطاعات والعبادات ، لأن الناس ، كل الناس ، شركاء فيه ، وبديهة ان الناس جميعا لا يشتركون في بيت واحد الا إذا كان موضوعا لجهة عامة ، كالعبادة والطاعة ، أما سائر البيوت فكل بيت منها يختص ببعض الناس دون بعض.

ثم ان بعض أهل التفسير سودوا الصفحات في التحقيق ونقل الأقوال في الكعبة : هل هي أول بيت بني على وجه الأرض ، أو غيرها أسبق في البناء .. ولا جدوى وراء هذا البحث ، لأنه لا يمت الى أصول الدين ، أو فروعه بسبب ، ولا يطلب الاعتقاد به إيجابا ولا سلبا.

١١٦

(مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ). والمراد بالبركة هنا زيادة الثواب ، قال رسول الله (ص) : «فضل المسجد الحرام على مسجدي كفضل مسجدي على سائر المساجد ... صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه .. من حجّ ولم يرفث ، ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه .. الحج المبرور ليس له أجر الا الجنة». الى غير ذلك كثير .. اما ان المسجد الحرام هدى للعالمين فلأنه يذكر بالله سبحانه ، ويوحي بالخشوع والخضوع.

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ). كأنّ سائلا يسأل : ما الدليل على ان الكعبة قديمة ، وانها أول بيت وضع للعبادة ، وليس بيت المقدس؟.

وهذه الآية تصلح جوابا عن هذا السؤال ، لأن ابراهيم قديم ، وهو الذي بنى الكعبة ، فتكون قديمة بقدم بانيها ، أما بيت المقدس فقد بناه سليمان ، وهو يسمى معبد سليمان حتى الآن ، وبين ابراهيم وسليمان عدة قرون .. ونقل صاحب تفسير المنار عن كتب اليهود ان سليمان بنى بيت المقدس سنة ١٠٠٥ قبل الميلاد .. والدليل على ان ابراهيم هو الذي بنى الكعبة الآثار الواضحة والموجودة حتى الآن ، منها مقام ابراهيم ، فإن العرب ما زالوا يتناقلون بالتواتر أبا عن جد ان هذا الجزء الخاص من المسجد الحرام كان موضع قيام ابراهيم للصلاة والعبادة. فكما دل اسم معبد سليمان على انه هو باني بيت المقدس ، فإن اسم مقام ابراهيم يدل على انه هو باني الكعبة ، وانها قديمة بقدمه.

(وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً). تقدم تفسيره في الآية ١٢٥ من سورة البقرة ، وهي قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً). والفضل في ذلك لدعوة ابراهيم (ع) : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً). أيضا مر تفسيره في الآية ١٢٦ البقرة.

(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) الاستطاعة نوعان : عقلية ، وهي مجرد إمكان الوصول الى مكة ، وهذه ليست بشرط. وشرعية ، وهي القدرة الصحية والمالية ، والأمن على النفس والمال ، والرجوع الى كفاءة ، فإذا تم ذلك كان الحج حتما وفرضا .. والتفصيل في كتب الفقه.

(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ). المراد بالكفر هنا الجحود إذا

١١٧

أرجعناه الى كون الكعبة هي أول بيت وضع للناس ، أو الى عدم الاعتقاد بوجوب الحج ، ويكون المراد بالكفر الفسق إذا أرجعناه الى ترك الحج تهاونا.

الكفر بآات الله الآية ٩٨ ـ ٩٩ :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩))

اللغة :

السبيل الطريق ، يذكر ويؤنث ، والعوج الزيغ.

الإعراب :

جملة والله شهيد حال من الضمير في تكفرون ، وهاء في تبغونها تعود إلى السبيل ، وعوجا حال من الواو في تبغونها ، أي حالة كونكم ضالين.

المعنى :

اهتم القرآن اهتماما بالغا بأهل الكتاب ، فأنزل فيهم العديد من الآيات ، تذكّرهم بالتوراة والإنجيل ، وتنعى عليهم تحريفهما ، وتجادلهم بالتي هي أحسن ، وتحصي عليهم الكثير من أخطائهم وآثامهم ، ومنها هاتان الآيتان :

١١٨

الأولى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) التي دلت على نبوة محمد (ص) وعلى ان الكعبة هي أول بيت وضع للعبادة ، مع ان تلك الآيات والبينات واضحة كالشمس ، ولا ينكرها إلا مكابر.

الثانية : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً). لم يكتفوا بفساد أنفسهم ، حتى سعوا في افساد غيرهم وإضلاله ، فجمعوا بذلك بين الضلال والإضلال ، والفساد والإفساد ، وكل فاسد يود ويعمل ان استطاع على تكثير الفاسدين عملا بمبدإ إبليس : (بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ـ ٣٩ الحجر).

ولا تفوتنا الاشارة إلى هذا الرفق واللين في مخاطبة أهل الكتاب ، وحسن تذكيرهم بأنهم أهل دين وكتاب .. عسى أن يتعظوا ويثوبوا إلى رشدهم.

طاعة الكافر الآية ١٠٠ ـ ١٠٣ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣))

١١٩

اللغة :

اعتصم بالشيء إذا تمسك به حذرا من الوقوع فيما يكره ، وشفا الشيء حرفه ، يقال أشفى على الشيء ، أي أشرف عليه.

الإعراب :

جميعا حال من الضمير في اعتصموا ، أي كونوا مجتمعين في الاعتصام ، ولا تفرقوا أصلها لا تتفرقوا ، فحذفت احدى التاءين للتخفيف.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ). حذر الله سبحانه في الآيتين السابقتين أهل الكتاب من معاندة الحق ، وصد المؤمنين عن سبيله ، وحذر في هذه الآية المؤمنين من الإصغاء الى فريق من أهل الكتاب يحاول إضلال المؤمنين وفتنتهم عن دينهم.

وروي في سبب نزول هذه الآية ان بعض اليهود قصد إيقاظ الفتنة بين الأوس والخزرج ، وتفريق كلمتهم بعد أن جمعها الله على الإسلام ، فأخذ يذكّرهم بما كان بينهم في الجاهلية من العداء والقتال ، بخاصة يوم بغاث ، وهو يوم اقتتل فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه للأوس ، فثارت الحمية في رؤوسهم ، وكادت الفتنة أن تقع بينهم لولا أن تداركها رسول الله (ص).

والآية تنطبق على هذه الواقعة ، كما تنطبق على محاولة المبشرين المسيحيين في هذا العصر ، وعلى جميع المحاولات التي يهدف من ورائها بعض أهل الكتاب وغيرهم الى تفتيت كلمة المسلمين ، وصرفهم عن دينهم ، والشعور بوطنيتهم وحريتهم ، ليقعوا فريسة سائغة لكل ناهب وغاصب .. وهذا ما يفعله اليوم المستعمر الغربي مع العرب والمسلمين .. ولا تقع المسئولية عليه وحده ، بل يشاركه فيها العملاء الأدنياء الذين أطاعوه وساروا في ركابه ، وكفروا بعد ايمانهم

١٢٠