العدالة الإجتماعية وضوابط توزيع الثّروة في الإسلام

الدكتور زهير الاعرجي

العدالة الإجتماعية وضوابط توزيع الثّروة في الإسلام

المؤلف:

الدكتور زهير الاعرجي


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣

السياسية. اما الطبقة المتوسطة فان الطلاق منتشر فيها ايضاً. ولكن الطبقة الوحيدة التي لا يمسها شروره ـ الا استثناءً ـ هي الطبقة الرأسمالية بسبب قوتها الاقتصادية اولاً ، وقدرة افرادها على اختيار الشريك المناسب دون عراقيل اجتماعية او مالية ثانياً (١). ولا شك ان العوامل التي تؤدي الى الطلاق تختلف من طبقة الى اخرى ، ولكن اهم عوامل الطلاق في الطبقتين الفقيرة والمتوسطة هي العوامل الاقتصادية والدينية والسياسية. اولاً : العامل الاقتصادي ، حيث يساهم الفقر في تمزيق العلاقة الزوجية ، بسبب عدم قدرة الزوج على اشباع حاجات افراد عائلته الاساسية. ثانياً : الرادع الديني ، حيث لم يعد الدين رادعاً لفكرة الطلاق بسبب ايمان الرأسمالية بفكرة (المذهب الفردي) وما يترتب عليه من حرية وانعتاق من قيود الدين (٢). ثالثاً : ان نظام الخدمات الاجتماعية التابع للحكومة الإمريكية ، يساعد بشكل غير مباشر على ايقاع حالات الطلاق ؛ فالحكومة لا تساعد العوائل الفقيرة المؤلفة من آباء وامهات واطفال ، وانما تقدم المساعدة المالية للعوائل المنكسرة التي يعيلها معيل واحد ، اباً كان او اماً (٣). وفي هذا التشريع الحكومي تشجيع غير مباشر للازواج على الانفصال والطلاق. ولا ريب ان من اوضح علامات فشل النظام الاجتماعي والتشريعي في

__________________

(١) (جويس ماكارل نيلسون). الجنس في المجتمع : ابعاد حول انعدام العدالة الاجتماعية. بيلمونت ، كاليفورنيا : وادسورث ، ١٩٧٨ م.

(٢) (دنيس رونك). « فكرة الافراط في اجتماعية الانسان في علم الاجتماع الحديث ». مقالة علمية في (المجلة النقدية الامريكية لعلم الاجتماع) ، عدد ٢٦ ، ١٩٦١ م. ص ١٨٣ ـ ١٩٣.

(٣) (جو فياجن). اذلال الفقراء : المساعدة الحكومية والعقيدة الامريكية. انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، ١٩٧٥ م.

٨١

المجتمع الرأسمالي هو ان نصف عدد العلاقات الزوجية في المجتمع الامريكي ينتهي في فترة من الفترات الى الانفصال ثم الطلاق (١).

وعلى الصعيد التعليمي ، تتمتع الطبقة الرأسمالية بمستوى ثقافي وتعليمي اعلى من مستوى الطبقة الفقيرة. فاطفال الاغنياء هم المتفوّقون علمياً في مدارسهم على اقرانهم من الطبقة المحرومة اقتصادياً ، ولذلك فان الجامعات ومعاهد العلم تغص بذرية الطبقة الرأسمالية مما يهيّئ لها فرصاً اكبر لاحتلال الادوار الاجتماعية المهمة التي يحتاجها المجتمع لاحقاً (٢).

وعلى صعيد القيم فان ايمان الطبقة الرأسمالية بان قوة الانسان السياسية والاجتماعية نابعة من قوته الاقتصادية وقدرته على تحصيل المال ، يعتبر من اهم خصائص تلك الطبقة ؛ فهي ترى ان للنقد صوتاً مسموعاً ، وللمسكوك رنيناً جذاباً. بمعنى ان على الافراد في الطبقة الرأسمالية الاجتهاد بشتى الوسائل لكسب المال وتجميع الثروة ، لانها الاصل في تحصيل القوة الاجتماعية والسياسية (٣) ؛ على عكس ايمان الطبقة الفقيرة التي تتمسك بعقيدتها بدور الحظ والتوفيق في الحياة الاجتماعية ، وبأنّ التوفيق يصيب قوما ويحيد عن آخرين على القاعدة العربية القائلة (ما كلُّ رامي عرضٍ يُصيبُ) ، وعلى هذا الاساس يبني افرادها مستقبل حياتهم الاجتماعية فيتركون التخطيط لمستقبل الحياة ، ويصيبون جل اهتمامهم لمعاشهم اليومي وهمومهم الآنية.

__________________

(١) (روبرت وايس). الانفصال الزوجي. نيويورك : الكتب الاساسية ، ١٩٧٩ م.

(٢) (كريستوفر جينكز) وآخرون. انعدام العدالة : اعادة تقييم لتأثير العائلة والمدرسة في امريكا. نيويورك : الكتب الأساسية ، ١٩٧٢ م.

(٣) (بيتريم سوروكين). الديناميكية الاجتماعية والثقافية. نيويورك : الكتب الامريكية ، ١٩٣٧ م.

٨٢

وعلى الصعيد الصحي ، فان الطبقة الرأسمالية تتمتع اجمالاً بافضل الخدمات الصحية ، ويعيش افرادها عمراً مديداً يتجاوز اعمار افراد الطبقات الأخرى (١). بل ان اغلب الامراض العقلية في النظام الاجتماعي تنتشر بين افراد الطبقة الفقيرة. وتنتشر ايضا بين افراد الطبقاة المعدمة امراض القلب والسرطان بنسبة تزيد على انتشارها بين افراد الطبقات الاخرى من ذوي الدخل المرتفع. ويعزى قلة انتشار الامراض بين افراد الطبقة الرأسمالية الى عاملين ، الاول : حسن التغذية ، والثاني : توفر اسباب الأمان في مراكز الاعمال التي يؤديها هؤلاء الأفراد. اضف الى ذلك ان الجهاز الصحي في النظام الرأسمالي الامريكي قائم على مبدأ النظام التجاري ؛ فالخدمات الشفائية تقدم على اساس المنفعة التجارية البحتة. فلو افترضنا ان الغني يستطيع ان يستلم افضل الخدمات الشفائية لانه يدفع اجراً أعلى ، تبين لنا ان الفقير محكوم عليه بالمرض والموت لانه لا يستطيع ان يدفع اجراً يطرد به الآلام والمعاناة والنوازل التي تنزل به وبافراد أسرته (٢). فالاغنياء يشرون حياتهم وصحتهم وحياة اسرهم بثرواتهم المتراكمة ، بينما يجود الفقراء بنفوسهم ، لا لأنّهم عاجزون عن درء الاذى عن اجسادهم بل لفساد النظام الاجتماعي الذي بنيت عليه الفكرة الرأسمالية ، التي تؤمن بكل قوة بمعيار المصلحة الشخصية والمنفعة التجارية الصرفة.

وعلى صعيد تربية الاطفال ، فان التربية الغربية تتلوّن بلون الطبقة

__________________

(١) (هاورد ويتكن). المرض الثاني : تناقضات المرض الصحي الرأسمالي. شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو ، ١٩٨٦ م.

(٢) (كريك دنكان). « من الذي يسبق؟ ومن الذي يبقى في المؤخّرة؟ ». مقالة علمية في المجلة (الاحصائية السكانية الامريكية) ، عدد ٤ ، ١٩٨٢ م. ص ٣٨ ـ ٤١.

٨٣

الاجتماعية التي يعيش فيها الطفل. فالطفل الذي يرتع في محيط الطبقة الرأسمالية غالباً ما تشعره الطبقة بشخصيته المستقلة وكيانه المتطوّر ، فيترعرع ضمن الجوّ الاقتصادي وفكرة الاعتماد على النفس ؛ على عكس الطفل الذي ينشأ في طبقة فقيرة حيث ينشأ على تعلّم اطاعة الاوامر الصادرة من الجهات العليا ، والابتعاد عن مواطن الصراع السياسي (١). اما الطبقة المتوسطة فهي تغرس في نفوس ابنائها اهمية السلوك المعتدل القائم على نظرية المجتمع الاخلاقية.

وعلى صعيد الانحراف الاجتماعي ، تمارس اغلب الطبقات الاجتماعية في الولايات المتحدة انحرافاً من نوع ما كجرائم القتل ، والسرقة ، والاغتصاب ، والزنا ، والاعتداء ، وغير ذلك من الجرائم الاجتماعية والخلقية. الا ان افراد الطبقة الفقيرة معرضون الى الاعتقال والمحاكمة والسجن اكثر من نظائرهم في الطبقة العليا ، لنفس الجرائم المرتكبة (٢). بل ان بعض الجرائم التي يرتكبها افراد الطبقة الرأسمالية اعظم واخطر من جرائم الفقراء الا ان الثروة ووسائلها في المجتمع الرأسمالي تستطيع ان تلوي عنق القانون لصالح الظالم ضد المظلوم (٣).

__________________

(١) (اوتيس ديدلي دنكان) وآخرون. الخلفية الاقتصادية ـ الاجتماعية والمكتسبات. نيويورك : المطبعة الاكاديمية ، ١٩٧٢ م.

(٢) (ديفيد سايمون) و (ستانلي ايتزن). انحرافات الطبقة العليا. بوستن : الين وبيكون ، ١٩٨٦ م.

(٣) (مارشال كلينراد) و (روبرت مايير). علم اجتماع السلوك المنحرف. نيويورك : هولت ، راينهارت وونستن ، ١٩٨٥ م.

٨٤

« الحلم الامريكي » وارتباطه

بتغير الادوار الاجتماعية

ويتمحور مفهوم السعادة في النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة حول كلمتين لهما نغم خاص ورنين يداعب مشاعر معتنقي النظرية الرأسمالية ، وهما : « الحلم الامريكي ». حيث يدعي منظرو الفكرة الرأسمالية ان مفهوم « الحلم الامريكي » دليل قاطع على نجاح النظام الرأسمالي ، كنظام اقتصادي عادل يفسح المجال لكل المتشوقين للصعود الى قمة السلم الاجتماعي ، للسيطرة على منابع القوة والثروة والمنزلة الاجتماعية (١). فـ (ابراهام لنكولن) بدأ حياته الاجتماعية نزيل كوخ هرم في منطقة فقيرة ، ولكن « الحلم الامريكي » اوصله الى قمة البيوت في الولايات المتحدة وهو « البيت الابيض » فاصبح رئيساً للولايات المتحدة ، ولولا العدالة الرأسمالية لما وصل لنكولن الى البيت الابيض. وهناك اسماء اخرى من فقراء امريكا وصلت الى قمة الطبقة الثرية امثال (اندريو كارنيكي) ، و (جي بي موركن) وغيرهم حيث انتشلهم جهدهم وكدحهم من مستنقع الفقر والجوع الى جنة

__________________

(١) (كريستوفر جنكز) وآخرون. من الذي يسبق على الصعيد الاقتصادي؟ نيويورك : الكتب الاساسية ، ١٩٧٩ م.

٨٥

المتعة والمال (١). ففكرة « الحلم الامريكي » تصر على ان بامكان اي فرد من افراد المجتمع الرأسمالي الوصول الى قمة المنزلة الاجتماعية والثروة والقوة ، بغض النظر عن خلفية ذلك الفرد الاقتصادية والاجتماعية. فيبشر رواد هذه الفكرة ومعتنقيها اذن ، بالجنة والنعيم لكل العمال والمنتجين الذين يجدون ويكدحون تحت راية النظام الرأسمالي للوصول الى منبع الثروات في النظام الاجتماعي (٢).

والبصير يرى ان الاحلام غير الحقائق والوقائع غير الاوهام ، ولو كان « الحلم الامريكي » حقيقة لما سمي حلماً. فما بال هذه الملايين التي تستنزف كل طاقاتها الجسدية والفكرية للابحار الى مستوى كريم للعيش ، لا تصل الى شاطئ الامان الرأسمالي؟ فاين « الحلم الامريكي » من هؤلاء الفقراء؟ واين « الحلم الامريكي » من الذين يولدون في الطبقة الفقيرة من المجتمع فلا يجدون من يأخذ بايديهم الى سبيل العلم والمعرفة ثم الى السعادة والعيش الكريم؟ واين « الحلم الامريكي » من هؤلاء الذين ينقصهم التوفيق في تحصيل ارزاقهم ، وهم شعلة من نار في الجد والعمل؟

ومع ان القائلين بحتمية « الحلم الامريكي » لا يعتقدون اصلاً بنظام « الطفرة الطبقية » وهو الاثراء السريع خلال فترة قصيرة من العمل الجاد ،

__________________

(١) (ديفيد فيثرمان) و (روبرت هاوسر). الفرص والتغيير. نيويورك : المطبعة الاكاديمية ، ١٩٧٨ م. وايضاً : (سيمور مارتن لبست). « التحرك الاجتماعي والفرص المتكافئة ». مقالة علمية في مجلة (المصالح العامة) الامريكية ، عدد ٢٩ ، خريف ١٩٧٩ م. ص ٩٠ ـ ١٠٨.

(٢) (روبرت هودج) و (دونالد ترايمان). « تشخيص الطبقة الاجتماعية في الولايات المتحدة ». مقالة علمية في (المجلة الامريكية لعلم الاجتماع) ، عدد ٧٣ ، ١٩٦٨ م. ص ٥٣٥ ـ ٥٤٧.

٨٦

الا ان مبدأ « الحلم الامريكي » باطل من الاساس لانه يشجع الافراد على التسابق لتجميع الثروة وتراكمها غير المشروع ضمن مجموعة محددة من الافراد. وبذلك فان كل دولار يضاف الى اموال الطبقة الرأسمالية الثرية يؤخذ في الواقع من اموال الفقراء ، لان الاموال محدودة بحدود الاستثمار والتعامل في النظام الاجتماعي. فأية زيادة مالية في طبقة تؤدي الى اختلال اقتصادي واجتماعي في الطبقة الاخرى.

وعلى ضوء ذلك ، فلما كانت الثروة العينية الموجودة في المجتمع ثروة محدودة بحدود توفر النقد ، اصبح واضحاً ان تحقيق « الحلم الامريكي » وتراكم الثروة لدى مجموعة قليلة من الافراد ، يسبب في الوقت نفسه حرماناً لافراد آخرين يعيشون في نفس المجتمع. فكيف يحقق « الحلم الامريكي » العدالة الاجتماعية لجميع افراد النظام الاجتماعي؟

والجهد ، الذي تزعم الفكرة الرأسمالية كونه العامل الوحيد في تراكم الثروة ، لا يعتبر عاملاً حاسماً في تحقيق هذا الحلم. نعم ان الجهد عامل مهم في تحقيق الاسبقية في جني الثروة. الا ان العوامل الاجتماعية والتأثيرات السياسية والاقتصادية الاخرى ترفع افراداً من طبقة دنيا الى طبقة عليا دون بذل جهد معتبر. فابناء الطبقات المختلفة في المجتمع الحديث مثلاً ، يوفقون اجتماعياً اكثر من آبائهم في تحصيل الثروة والقوة السياسية ، بسبب تطور وتغير الحياة الانسانية السريع في فنون الصناعة والزراعة والخدمات ، فيتميز الجيل الجديد عن سابقه بتحصيل اسباب الفنون الحديثة. ويتسلق الابناء درجات معدودة في السلم الاجتماعي باتجاه الطبقة الثرية. فلماذا اختلفت اذن المكافآت الاجتماعية بين الابناء والآباء ،

٨٧

مع ان الآباء بذلوا جهدا مضنياً في تحصيل العيش ، ولكنهم لم يوفقوا في تجميع الثروة كما وفق ابنائهم لاحقاً؟ فالنتيجة اذن ، ان الجهد في المجتمع الرأسمالي ، بالاصل ، لا يضمن للانسان تراكماً غير محدود للمال.

واذا لم يكن الجهد عاملاً حاسماً في تراكم الثروة ، فلماذا يشكل تغير الادوار الاجتماعية تحدياً صارخاً لصميم نظرية العدالة الاجتماعية الرأسمالية؟ وامام هذا السؤال الكبير تعترف النظرية الرأسمالية بفشلها في تحقيق العدالة الاجتماعية لكل افراد المجتمع باعتبار ان المشكلة التي يواجهها النظام الاجتماعي تكمن في ان اعداداً كبيرة من الافراد تبحث عن عدد محدود من المراكز الاجتماعية العليا المؤثرة في النظام الاجتماعي (١). فلو اخذنا عضو مجلس الشيوخ الامريكي كمثال لفرد يحتل موقعاً متميزاً في الطبقة الرأسمالية وطبقنا فكرة « الحلم الامريكي » التي تقول بان كل فرد من افراد المجتمع له حق متساوٍ في الوصول الى اعلى منصب في النظام السياسي ، فان مائتين وخمسين مليون فرد سيتنافسون ـ نظرياً ـ على مائة منصب ؛ وهو عدد اعضاء مجلس الشيوخ. فاين موقع « الحلم الامريكي » من الذين يفشلون في الوصول الى هذا المركز الاجتماعي المتميز ، حتى لو بذلوا جهداً استثنائياً للوصول الى ذلك المركز الذي يحقق كل طموحاتهم الاجتماعية؟ ولو افترضنا ان هناك الف مؤسسة مالية كبرى تدير النظام الاقتصادي والمالي في المجتمع الرأسمالي ، وتشغل الف مدير يتمتعون بمراكز رفيعة في الطبقة الاجتماعية العليا ، فاين « الحلم الامريكي » من ملايين

__________________

(١) (جيرالد بيرمان). الطبقية في العالم الحديث. موريستاون ، نيوجرسي : مطبعة التعليم العام ، ١٩٧٣ م.

٨٨

الافراد الذين لا يستطيعون الوصول الى هذه المراكز لسبب من الاسباب؟ فكيف يزعم رواد المدرسة الرأسمالية اذن بتوفر الفرص لكل افراد المجتمع للوصول الى اعلى المراكز الاجتماعية ، وتجاوز الرحلة الشاقة الطويلة من الفقر والعدم الى الغنى والثروة؟ وكيف تفسر هذه النظرية مبدأ المساواة في الحقوق اذا كانت اغلب المراكز العليا في النظام الاجتماعي محجوزة لابناء الطبقة الثرية؟ اذن فان « الحلم الامريكي » لا يعدو اكثر من شعار مزيف وجرعة مخدرة تداعب احلام الفقراء في الانتقال من مستنقع البؤس والظلم والحرمان الى عالم مليء بالملاهي والآمال الخادعة.

ولا بد ، حتى يكون الفرد مؤهلاً ـ حسب الفكرة الرأسمالية ـ للانضمام الى الطبقة العليا المسيطرة على شؤون النظام الاجتماعي ان تتوفر فيه صفتان اساسيتان ؛ هما : النسب والعلم (١). والمقصود بالنسب هو المنزلة الاجتماعية للابوين. فاذا كان الابوان من المنتسبين للطبقة العليا المسيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي ، فان احتمال احتلال اعلى المناصب السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية للفرد يغدو امراً حتمياً. والمقصود بالعلم هنا هو حمل الشهادة الجامعية من جامعة خاصة بالطبقة العليا امثال جامعات هارفرد وييل وبرنستون واكسفورد وكامبرج ونحوها. حيث ان هذه الشهادة الجامعية هي في الواقع دليل آخر على انتماء الفرد الى الطبقة الثرية ؛ على عكس الطلبة من الطبقة الدنيا ، الذين لا يؤهلهم وضعهم الاجتماعي للتحصيل الجامعي لاسباب منها : عدم تكافؤ فرص الالتحاق بمؤسسات

__________________

(١) (اريك اولين رايت) وآخرون. « تركيبة النظام الطبقي الامريكي ». مقالة علمية في (المجلة النقدية الامريكية لعلم الاجتماع) ، عدد ٤٧ ، ١٩٨٢ م. ص ٧٠٩ ـ ٧٢٦.

٨٩

التعليم العالي ، ومنها : ان سوء تغذية اطفال هذه الطبقة تؤثر لاحقاً على اسلوب تفكيرهم وسلوكهم الاجتماعي ونظرتهم للحياة الاجتماعية ، ومنها : ان نسبة الطلاق العالية بين افراد هذه الطبقة تؤثر سلبياً على طموحات هؤلاء الافراد سياسياً وتجعلهم اسرى وضعهم الاجتماعي البائس. ولذلك ، فانهم نادراً ما يصلون الى شغل المناصب العليا في النظام الاجتماعي (١).

ومجمل القول ان النظام الطبقي الرأسمالي من اكثر الانظمة معاداة للعدالة الاجتماعية واشدها خداعاً للافراد. وما « الحلم الامريكي » الا مثال على ذلك. فالحركة الاجتماعية بين المراكز التي يحتاجها المجتمع ما هي الا حركة دائرية ضمن الطبقة الاجتماعية ذاتها. فاذا كان الاب عاملاً في مصنع من المصانع وحدث وان تدرج ابنه في العمل فاصبح مشرفاً على عدد من العمال ، فان هذه الحركة الاجتماعية انما تدور ضمن نفس الطبقة التي شغلها الأب وليست انتقالاً من طبقة فقيرة الى طبقة غنية ، او من طبقة التي شغلها الأب وليست انتقالاً من طبقة فقيرة الى طبقة غنية ، او من طبقة عمالية الى طبقة رأسمالية. ولو كان الاب معلماً في المدرسة الابتدائية واصبح ابنه يشتغل بالتعليم الثانوي ، فلا يعني ذلك ان الاسرة انتقلت من خلال هذه الحركة من طبقة الى اخرى. وهذه الحركة الاجتماعية ضمن الطبقة الواحدة تدحض الفكرة الرأسمالية القائلة بالمساواة التامة لكافة افراد المجتمع من مختلف الطبقات. فلو كانت المساواة حقيقية لما حصلت الحركة بين الطبقة الواحدة فحسب ، بل كانت بين الطبقات المختلفة ، وبالخصوص بين الطبقة الدنيا والطبقة العليا. ولو كانت العدالة الرأسمالية حتمية التحقق لما انشأت

__________________

(١) (روبرت هاوسر) و (ديفيد فيثرمان). عملية الظلم الاجتماعي : اتجاهات وتحليل. نيويورك : المطبعة الاكاديمية ، ١٩٧٧ م.

٩٠

النظرية الرأسمالية ، النظام الطبقي واقرته وكرسته كاساس لتشييد صرح الحضارة الغربية الحديثة.

٩١

الفـقـر والفـقـراء في النظام الرأسمالي

وتلوم النظرية الرأسمالية الفقراء في المجتمع الرأسمالي على فقرهم وتعاستهم ، وتلزمهم مسؤولية الهبوط الى قعر السلم الاجتماعي ، وتعزي سبب الفقر الى انعدام المسؤولية الاجتماعية للطبقة الفقيرة ، وتزعم بان انعدام المساواة الاجتماعية بين الافراد لها تبرير عقلائي وهو ان المُجدّ يفوز بقصب السبق من الناحية الاقتصادية ، والخاسر يعاقب بالحرمان من الكسب المالي ويجرد من مركزه الاجتماعي وقيمته الاخلاقية ؛ لانه ليس اهلاً للتمتع بالثروات الاجتماعية (١). واذا كانت الرأسمالية تضفي على مجتمعها الغني شتى صفات الحسن والكمال ، فانها تقصر عن اضفاء صفة كريمة واحدة على فقراء المجتمع الرأسمالي. فالفقير في ذلك المجتمع يعيش في جحيم دنيوي صنعه له انسان آخر يتمتع بكل ملذات الحياة ونعمها ، ويوصمه بالجهل والامية وانعدام الحافز والدافع الذاتي الذي يدفع الانسان السليم نحو الانشاء والابداع. ولا شك ان عدم اكتراث هذا النظام بالفقر والفقراء دليل على ان رواد هذه المدرسة الفكرية ليسوا اهلاً لقيادة وزعامة الانسانية المعذبة باي حال من الاحوال. فكيف يقود متخمو العالم ، ملايين المعذبين الذين يشدون على بطونهم الاحجار بلسماً لجوعهم وألمهم؟ وكيف

__________________

(١) (جون دالفين). الاصرار على انعدام العدالة الاجتماعية في امريكا. كامبردج : مطبعة شينكمان ، ١٩٨١ م.

٩٢

يؤمن المستضعفون تسليم مفاتيح مجتمعاتهم لافراد الطبقة الرأسمالية التي لا تملك فهماً للآلام والمعاناة الانسانية؟

ومع ان زعماء الرأسمالية يلقون لوم الفقر على الفقراء (١) ، الا ان النظرية التي يؤمن بها هؤلاء الزعماء تفتقر الى تحليل وتصنيف واضح لابعاد الفقر وحاجة الفقراء ؛ في حين انها تبذل جهداً مضنياً في تحليل ابعاد الاقتصاد الاجتماعي ودور رأس المال في تنشيطه وتنميته. ولكن نتيجة استقراء آراء النظرية الرأسمالية وواقعها العملي في الولايات المتحدة ، فاننا نستطيع تصنيف الفقراء في النظام الرأسمالي الى ثلاثة اصناف ؛ الاول : من يملك قوت سنته لسد حاجات عائلته الاساسية فقط ، والثاني : من لا يملك قوت سنته ، والثالث : من لا يملك قوت يومه.

فالقسم الاول يمثل الملايين من الافراد الذين يكدحون في سبيل كسب لقمة العيش ، ولكنهم ـ مقارنة بافراد الطبقتين الوسطى والعليا ـ محرومون من الرفاه الصحي والاقتصادي الذي ينعم به الآخرون ؛ علماً بان جهدهم لا يقل عن جهد افراد الطبقتين الأخريين (٢). اما افراد القسم الثاني فيعتمدون اساساً على المساعدات المالية الحكومية التي تقيهم غائلة الجوع لانهم لا يستطيعون توفير الحد الادنى للعيش الكريم من المأكل والملبس والملجأ واجور العلاج الطبي (٣). والقسم الثالث نزلاء الشوارع ، وهم الذين

__________________

(١) (ايلتون مايو). المشاكل الانسانية للحضارة الصناعية. نيويورك : فيكنك ، ١٩٦٦ م.

(٢) (ميلفين تيومين). « حول عدم المساواة ». مقالة علمية في (المجلة النقدية الامريكية لعلم الاجتماع) ، عدد ٢٨ ، ١٩٦٣ م. ص ١٩ ـ ٢٦.

(٣) (جو فياجن). اذلال الفقراء : المساعدة الحكومية والعقيدة الامريكية. انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، ١٩٧٥ م.

٩٣

لا ملجأ لهم ، يمدون ايديهم للناس ويبحثون في القمامة عن فضلات الطعام ليسدوا بها رمقهم. ويقدر عددهم اليوم باكثر من اربعة ملايين جائع في الولايات المتحدة فقط (١) ، ناهيك عن بعض بلدان اوروبا الغربية مهد الحضارة الرأسمالية الحديثة.

وحتى ان « خط الفقر » ، وهو الخط الاحمر الذي تحدده الحكومة الرأسمالية للكلفة المعيشية الدنيا للعائلة الواحدة سنوياً ، كان ـ ولا يزال ـ خطأ يعبره ملايين الناس من الطبقة المتوسطة ليستقروا داخل الطبقة الفقيرة. فالعائلة المكوّنة من اربعة افراد مثلاً يكفيها دخل سنوي بحدود عشرة آلاف دولار. فاذا هبط الدخل السنوي لهذه الاسرة عن هذا المبلغ انضمت الى جيوش الفقراء الذين يشكلون عشرين بالمائة من المجتمع الرأسمالي الامريكي (٢).

ولكن المدرسة الرأسمالية تزعم بان الفقر ينتشر بين افراد المجتمع ، بشكل عشوائي (٣). بمعنى ان النظام الطبقي ليس له دخل في نشوء الفقر وانتشار الفقراء ؛ وهو افتراض محض لا يقوم على دليل ؛ حيث ان الفقر ـ في واقع الامر ـ ينتشر بشكل منظّم بين ثلاث مجاميع من الافراد ، كلها من الطبقات الفقيرة.

__________________

(١) (بارنينكتن مور). الظلم الاجتماعي : القواعد الاساسية للطاعة والعصيان. نيويورك : بانثيون ، ١٩٧٩ م. وايضاً : (كين اوليتا). الطبقة المعدمة. نيويورك : ماكرو ـ هيل ، ١٩٨٢ م.

(٢) (كريستوفر جينكز). « كم هو فقر الفقير؟ ». مقالة علمية في (النشرة النقدية للكتاب في نيويورك) ، عدد ٣٢ ، رقم ٩ ، ١٩٨٥ م. ص ٤١ ـ ٤٩.

(٣) (سيمور مارتن لبست) و (راينهارت بنديكس). التحرك الاجتماعي في المجتمع الصناعي. بيركلي ، كاليفورنيا : مطبعة جامعة كاليفورنيا ، ١٩٥٩ م.

٩٤

اولها : العوائل التي تكون فيها الامهات ولاة الامور ، كالمطلقات والارامل وغيرهن اللاتي يعشن مع ابنائهن وبناتهن حيث يسمح النظام القضائي الرأسمالي للمرأة بالولاية الشرعية على الاسرة في حالة غياب الاب. وهذه المجموعة تشكل نصف العوائل الفقيرة في المجتمع الرأسمالي (١). ولما كانت الاسرة تفتقد المعيل ، تقوم الام مقام الاب وولي الامر في ترتيب امور العائلة المالية والاجتماعية. ويرجع سبب انضمام هذه العوائل الى الطبقة الفقيرة الى عدة اسباب ؛ منها : اولاً : ان اجور المرأة اقل من اجور الرجل لنفس العمل الذي تقوم به. ثانياً : ان هذه العوائل انكسر تشكيلها الاساسي بسبب الطلاق او وفاة الزوج ، فتضطر الام ـ حينئذٍ ـ الى رعاية ابنائها عن هذا الطريق. ثالثاً : ان (المذهب الفردي) الذي يؤمن به المجتمع الرأسمالي ادى الى انحلال العوائل الكبيرة التي يتم فيها التعاون الجماعي وقت الازمات العائلية كالعجز الجسدي ، ووفاة الزوج والطلاق.

ثانيها : الاطفال حسب المقياس الرأسمالي ؛ اي الافراد الذين لم يبلغوا سن الثامنة عشرة من العمر ، وهذه المجموعة تعد من افقر المجاميع الاجتماعية في النظام الاجتماعي الغربي. فخمس شباب واطفال الولايات المتحدة دون سن الثامنة عشرة ينضمون الى هذه الطبقة الفقيرة (٢) ؛ وهو دليل على تحلل النظام الاسري الرأسمالي من الالتزامات الخلقية والدينية برعاية الاحداث او من هم دون سن البلوغ الشرعي او القانوني ؛ علماً بان

__________________

(١) (روث سايدل). النساء والاطفال في المؤخرة : مأزق النساء الفقيرات في امريكا الغنية. نيويورك : فيكنك ، ١٩٨٦ م.

(٢) (شيلدون دانزايكر) و (دانيال واينبرغ). محاربة الفقر : ما الذي ينفع وما الذي لا ينفع؟ كامبردج ، ماساشوستس : مطبعة جامعة هارفارد ، ١٩٨٦ م.

٩٥

اكثر الاطفال الفقراء الذين يعيشون مع امهاتهم يفتقدون حنان الاب ورعايته الاجتماعية والاقتصادية.

ثالثها : الاقليات ؛ وهذه المجموعة تشمل المواطنين الافارقة من ذوي البشرة السوداء ، والافراد من غير بلدان اوروبا ، كالافراد المهاجرين من امريكا الجنوبية وآسيا. وهؤلاء الافراد يشملهم رابط واحد وهو ان لون بشرتهم يختلف عن لون بشرة افراد الجنس الاوروبي البيضاء ، فيميز النظام الاجتماعي بينهم وبين غيرهم في قضايا العمل والاجرة والمكافأة الاجتماعية (١).

ولا شك ان استفحال ظاهرة الفقر وانتشار الفقراء في المجتمع الرأسمالي دليل قوي على انعدام انسانية النظام الاقتصادي القائم على المنافسة الحرة ، وفكرة البقاء للاقوى والمذهب الفردي. فعجز الفرد عن القدرة العملية للانتاج لايمكن ان يكون سبباً في تجويعه وسحق كرامته وهدر انسانيته. فلو تصورنا ان فرداً عاملاً يعيل عائلة واحدة مؤلفة من عدة افراد ، ولكنه ـ بسبب حادث ما ـ افتقد مهارته الفنية وقدرته الابداعية على العمل والانتاج ؛ فهل من العدل والانصاف ان يعاني هذا الانسان واسرته من الحرمان؟ الا يعتبر عمله السابق خدمة كبيرة لافراد المجتمع؟ فكيف تفسر النظرية الرأسمالية الفارق الشاسع في المكافأة الاقتصادية بين هذا الفرد وبين الرأسمالي الذي انقطع عن العمل لنفس السبب؟ أليس من الحق ان نقول ان على النظام الاجتماعي ان يضمن لكل منهما حياة كريمة؟ فلماذا هذا الفارق الشاسع في المكافأة الاجتماعية بين العامل الفقير والرأسمالي الثري؟

__________________

(١) (ال دونبار). تقرير الاقلية. نيويورك : بانثيون ، ١٩٨٤ م.

٩٦

وبالرغم من كل هذا الاجحاف بحق الفقراء فان المدرسة الرأسمالية تزعم بان ثلث الفقراء في المجتمع الرأسمالي ينتقلون سنوياً من الطبقة الفقيرة الى الطبقة المتوسطة السفلى (١). ولكن حتى مع افتراض صدق المدرسة الرأسمالية في زعمها ، الا انها تخفي وراءها امراً مهماً ، وهو ان الفراغ الذي يتركه النازحون من الطبقة الفقيرة الى الطبقة الاعلى يشغله افراد آخرون ، اجبرتهم ظروف العمل او البطالة النزول الى مستوى الطبقة الفقيرة. فالواقع ان الطبقة الفقيرة تشهد حركة نشطة ما بين داخل اليها ونازح منها. اما الطبقة الرأسمالية ، فانها تشهد استقراراً وثباتاً ليس في جيل معين بذاته فحسب ، بل تشهد ذلك الاستقرار والثبات في كل جيل.

ولرب سائل يسأل : هل بمقدور النظام الرأسمالي ان يحل مشكلة الفقر حلاً جذرياً حاسماً؟ واذا كان الجواب بالايجاب فلماذا لا يقوم النظام الرأسمالي بذلك؟ والجواب : ان النظام الرأسمالي يستطيع من الناحية العملية ان يحل مشكلة الفقر حلاً حاسماً ، وذلك بحث المجتمع على ترك عادة مضرة واحدة مثل التدخين ، وتوزيع المال المصروف على تلك العادة المضرة على الفقراء. ولكن المشكلة ان هذا الحل لا ينسجم مع تطلعات الطبقة الرأسمالية. حيث ينهض رواد النظام الرأسمالي ، في نقاشهم لهذه القضية ، زاعمين بانه ليست لديهم القيمومة على حرية الافراد ، لان الفرد نظرياً ينبغي ان يتمتع بحرية كاملة على الصعيد الشخصي فيما يتعلق باللذة الجسدية ، فلا يستطيع الرأسمالي الحاكم ان يمنع فرداً من تناول شراب معين او استنشاق دخان

__________________

(١) (جورج ديفس) و (كليك واتسون). الحياة السوداء في المؤسسة التجارية الامريكية. نيويورك : دبل دي / انكور ، ١٩٨٢ م.

٩٧

ينقله الى عالم خيالي (١). ولكن هذا المنطق الرأسمالي يتناقض نفسه في اكثر من موقع. فالموقع الاول ، عندما حرم الكونغرس الامريكي الخمرة في الثلاثينيات من هذا القرن ، ثم عاد ورفع التحريم باعتبار ان التحريم يناقض مع الحرية الشخصية المزبورة في الدستور الامريكي. والموقع الثاني ، عندما حاولت الحكومة منع بيع وتعاطي المخدرات في الثمانينيات. فاذا كان النظام الرأسمالي لا يؤمن بالقيمومة على حرية الافراد الشخصية فلماذا يحرم تعاطي المخدرات؟ واذا كان النظام الرأسمالي يؤمن بتحديد الحرية الشخصية اذا كان الضرر محتماً ، فلماذا لا يحرم المسكرات؟

والمسألة الاخرى ان النظام الرأسمالي لايحث الرأسماليين على التبرع لمساعدة الفقراء. فالرأسماليون يتبرعون اساساً لتثبيت اسس النظام الاقتصادي والسياسي عن طريق اسناد المرشحين المنتخبين لمجالس النواب والشيوخ والادارات المحلية مالياً ، او يتبرعون لمساندة الجمعيات الخيرية التي تساند النظام الاجتماعي كالكنائس والمستشفيات والمراكز الفكرية (٢). وما نشاط مجاميع المنفعة الاقتصادية ، التي تمارس نفوذاً كبيراً على قرار الساسة والمشرعين والقضاة ، الا دليل على ذلك. وهكذا يبقى الفقراء فريسة سلوك الرأسماليين وطموح السياسيين ، وبذلك يضيع الحق وتفتقد العدالة المزعومة في ذلك النظام.

وتتحامل المدرسة الرأسمالية على الفقراء باعتبارهم متسولين محترفين ،

__________________

(١) (بيرناي زيلبرجيلد). انكماش امريكا : الخرافات حول التغيرات السايكولوجية. بوستن : ليتل براون ، ١٩٨٣ م.

(٢) (جيمس ساندكويست). ديناميكية النظام الحزبي. واشنطن دي سي : معهد بروكنكس ، ١٩٨٣ م.

٩٨

يتقاعسون عن العمل ولا يحملون روح الجد والمثابرة (١). وهو امر بعيد عن الواقع ، لان اغلب الفقراء هم من الاطفال والنساء الذين لا معيل لهم. واغلب الرجال في الطبقة الفقيرة هم افراد يفتقدون المهارة المهنية التي تدفعهم الى الارتفاع الى طبقة اجتماعية اعلى. ومع ان رواد النظام الرأسمالي يزعمون بان مساعدة الحكومة الرأسمالية للفقراء هي مساعدة سخية (٢) ، الا ان الواقع يظهر ان المساعدة الواقعية المزعومة تبلغ حوالي اثنين بالمائة فقط من ميزانية النظام الرأسمالي السنوية ، بينما تصرف الحكومة الفيدرالية الامريكية اضعاف هذا المبلغ على قضايا التسلح وابحاث الفضاء والكماليات.

وتتمسك النظرية الرأسمالية ايضاً بفكرة اعطاء الفرص المتساوية لافراد المجتمع ، وتزعم ان ظاهرة انعدام العدالة بين افراد المجتمع ظاهرة تكاملية لانها تمنح الفرد المجد مكافأة تتناسب مع مقدار بذله للجهد المطلوب (٣). ولكنها تخفي في واقع الامر ، القيود التي تضعها على الفرد للانتقال الى المستوى الاجتماعي المتناسب مع جهده وطاقته الفكرية والبدنية ، وهي قيود الطبقية والنسب. فالطبقة الرأسمالية المتحكمة لا تفسح المجال لاي وارد يبحث عن فرص متساوية ، مهما بلغ جهده الفكري والبدني مبلغاً ؛ بل انها تدعي انه لما كان الفقراء يتحملون اللوم كاملاً على فشلهم في الحقل الاجتماعي فانهم لا يحتاجون الى يد تمتد لمساعدتهم ، وانما يحتاجون الى من

__________________

(١) (اريك اولين رايت). التركيب الطبقي وتعيين الدخل. نيويورك : المطبعة الاكاديمية ، ١٩٧٩ م.

(٢) (روبرت دال). الديمقراطية في الولايات المتحدة. بوستن : هوتن ميفلين ، ١٩٨١ م.

(٣) (ديفيد فيثرمان) و (روبرت هاوسر). الفرص والتغيير. نيويورك : المطبعة الاكاديمية ، ١٩٧٨ م.

٩٩

يحرك فيهم الدافع الذاتي للعمل والانتاج (١). وهذا المنطق مخالف للواقع ، لان اغلب الفقراء ـ كما ذكرنا سابقا ـ هم من الاطفال والنساء والشيوخ والاقليات المستضعفة.

ولو كان مد يد المساعدة عملاً خاطئاً ، باعتباره يشجع الفقراء على التقاعس ، فلماذا اذن تمد المؤسسات الرأسمالية يدها لمساعدة المزارعين للمساهمة في رفع الانتاج الزراعي وخفض اسعار المنتوجات الزراعية؟ ألا تساهم هذه المساعدات في تقاعس بعض المزارعين مثلاً؟ ولماذا تمد المؤسسات الرأسمالية يدها لمساعدة الطلبة عن طريق المنح والقروض؟ ولماذا تمد المؤسسات الرأسمالية يدها لمساعدة رجال الاعمال في ازماتهم الاقتصادية المفاجئة؟ هنا تجيب النظرية الرأسمالية بالقول ان مساعدة هؤلاء العاملين يدفع عجلة النمو والاستثمار الاقتصادي ، بينما لا يجلب مساعدة الفقراء اي مردود اقتصادي. وتزعم بان على الحكومة الرأسمالية ـ نظرياً على الاقل ـ التهديد بقطع المساعدات المالية عن الفقراء لدفعهم الى العمل والانتاج حتى تكون مساعدتهم حقاً مشروعاً. بمعنى ان حث الاطفال والنساء والشيوخ على العمل ـ حسب الفكرة الرأسمالية ـ هو الاسلوب الافضل للتخلص من الفقر والفقراء!

وهكذا ـ كما ترى ـ تفشل النظرية الرأسمالية في تحديد العوامل الاجتماعية التي اوجدت الطبقة الفقيرة في المجتمع الانساني. فالفقر ليس ولادة فرد او خطأ أمة انما هو نتيجة موضوعية لفشل النظام الاقتصادي والاجتماعي في تحديد العوامل المتداخلة في تصميم وتنظيم التركيبة الاجتماعية. ولا شك ان

__________________

(١) (جورج كيلدر). الثروة والفقر. نيويورك : الكتب الاساسية ، ١٩٨١ م.

١٠٠