العدالة الإجتماعية وضوابط توزيع الثّروة في الإسلام

الدكتور زهير الاعرجي

العدالة الإجتماعية وضوابط توزيع الثّروة في الإسلام

المؤلف:

الدكتور زهير الاعرجي


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣

هذا الاستنتاج رائع ، الا ان النظرية تتعثر في تفسير وضع الافراد في بقية الطبقات الاجتماعية. فلو قارنّا الفلاح بمعلم المدرسة ، وتبين لنا ان الفلاح اوسع ثروة في المال وامضى قوة في السياسة من معلم المدرسة ، فهل يعني هذا ان الفلاح قد دخل الطبقة العليا في النظام الاجتماعي ، بينما بقي معلم المدرسة ضمن الطبقة المتوسطة؟ يجيب (ماكس وبر) بان لكل فرد منزلته الاجتماعية. فطبقة معلم المدرسة تختلف عن طبقة الفلاح. اي اننا لانستطيع قياس معلم المدرسة الى الفلاح لانهما من طبقتين مختلفتين. ولكن هذا الرأي يدل على تناقض في النظرية نفسها ، فكيف يعزي (ماكس وبر) سبب نشوء الطبقات الى الثروة والقوة والمنزلة الاجتماعية ، ثم عندما تختل معادلته المطبّقة على النظام الاجتماعي ، يتراجع ويقول ان لكل فرد طبقته الاجتماعية بغض النظر عن الثروة والقوة والمنزلة الاجتماعية؟ أليس هذا تناقضاً في اصل نظرية نشوء الطبقات الاجتماعية التي ابتكرها (ماكس وبر)؟ فلو افترضنا ان هذا الفلاح استطاع الانضمام للطبقة العليا المتحكمة بامور الدولة السياسية ، فكيف تم له تجاوز العامل الاجتماعي (المنزلة الاجتماعية) ، مع ان مقاعد المنزلة الاجتماعية العليا محجوزة لافراد الطبقة العليا؟ أليست هذه العوامل الثلاثة متشابكة في الطبقة العليا في المجتمع ، ومستقلة ومنفصلة عن بعضها البعض ، في الطبقتين الوسطى والفقيرة؟ الا تمتلك الطبقة الرأسمالية الثروة والقوة السياسية والمنزلة الاجتماعية بينما يمتلك الفقير احياناً المنزلة الاجتماعية ولكنه لا يمتلك الثروة؟ أليس عالم الدين الورع غنياً في النفس (المنزلة الاجتماعية) ، فقيراً في المال (العامل الاقتصادي) ، حكيماً في القيادة (العامل السياسي)؟ فاين تقع مرتبته في الطبقات الاجتماعية : الطبقة العليا ،

٦١

ام الطبقة الوسطى ، ام الطبقة الفقيرة؟ هذه الاسئلة لا تجيب عليها نظرية (ماكس وبر) ؛ لأنها تنظر لطبقات النظام الاجتماعي من منظار الطبقة العليا فقط ؛ ذلك ان عوامل القوة السياسية ، والثروة ، والمنزلة الاجتماعية هي اساس تماسك الطبقة العليا في المجتمع الرأسمالي فحسب ، ولولاها لما اقر انصار النظرية الرأسمالية وجود النظام الطبقي. و (ماكس وبر) لم يعط تحليلاً او علاجاً لمشكلة انعدام العدالة الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي ، وانما حاول النظر الى المجتمع بكافة طبقاته من خلال مواصفات الطبقة الرأسمالية الحاكمة. ولو كان صادقاً في تحليله لنظر الى جوهر المشكلة الاجتماعية وهي مشكلة توزيع الثروات بين الافراد ، وما يصاحب ذلك التوزيع غير العادل من تراكم للثروة وتركيزٍ للقوّة السياسية والاقتصادية ، وما يتبعها من تحكم وسيطرة تؤدي الى انعدام العدالة بين الافراد في النظام الاجتماعي.

٦٢

نقد مفهوم العدالة الاجتماعية

في النظام الرأسمالي الامريكي

ونقدنا لنظرية (ماكس وبر) لا يمنع من استخدامها لنقد مفهوم العدالة الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي نفسه. فمن خلال دراسة العوامل الثلاثة التي ذكرها (ماكس وبر) ، والتي تتحكم في وضع الطبقات الاجتماعية ، خصوصاً الطبقة الرأسمالية العليا ، فاننا نستطيع ان نكوّن صورة موضوعية عن معنى العدالة الاجتماعية في النظام الرأسمالي. وهذه العوامل هي : العامل الاقتصادي (الثروة) ، والعامل السياسي (القوة) ، والعامل الاجتماعي (المنزلة الاجتماعية).

١ ـ الثروة : وهي على نوعين ، الاول : الأرصدة والعقارات ووسائل الانتاج. والثاني : الأجر او الدخل السنوي.

فمن الواضح ان جميع المؤشرات تدل على انعدام العدالة الاجتماعية في البلدان الرأسمالية خصوصاً الولايات المتحدة ، وسببها في الاصل التوزيع غير العادل للثروة الاجتماعية بين الافراد. حيث تقع نصف كمية الارصدة والعقارات ووسائل الانتاج في حيازة مجموعة قليلة من الافراد تشكل واحداً بالمائة من نسبة السكان (١). بمعنى ان فرداً واحداً من كل مائة فرد يملك

__________________

(١) مكتب الاحصاء : مالكية الارصدة : ١٩٨٤ م. تقارير الكثافة السكانية ، سلسلة ب ـ ٧٠ ، رقم ٧. واشنطن دي. سي. : مطبعة الحكومة ، ١٩٨٦ م.

٦٣

نصف الثروة العينية والنقدية للمجتمع ، والباقي وهم تسع وتسعون فرداً يملكون النصف الآخر. وهذا يعكس ظلم النظام الرأسمالي للحياة الاجتماعية ، لان السيطرة على الثروة الاجتماعية يترجم غالبا الى سيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للدولة. حيث يتبين من احصاءات الحكومة الامريكية في العقود الاخيرة من القرن العشرين ان هناك اكثر من ستمائة الف مليونير من ضمنهم ستة وعشرون فرداً ممن يملكون اكثر من بليون دولار (١). وهؤلاء الأثرياء يتميزون عن غيرهم من الافراد ، لان اموالهم تجاوزت حدود المكافأة الاجتماعية للجهد الانساني في التاريخ. وتراكم المال بهذا الشكل عند بعض الافراد دون غيرهم له آثار سلبية على المجتمع من طرفين ؛ الطرف الاول : ان هذا التراكم يسبب حرماناً لعدد كبير من الافراد في الاستفادة من هذه الثروة وتوجيهها لمصلحة النظام الاجتماعي بصورة عادلة. والطرف الثاني : ان الاسراف الذي يرافق تراكم هذه الثروة عند بعض الافراد ضمن طبقة معينة ، يؤدي الى اهدار طاقات المجتمع وتبديد موارده الطبيعية التي خلقت في الاساس لاشباع حاجات جميع الافراد دون استثناء.

اما الاجر او الدخل السنوي للفرد فهو مؤشر آخر على انعدام عدالة توزيع الثروة الاجتماعية في النظام الصناعي الرأسمالي ؛ حيث ان نسبة

__________________

(١) (وليام دومهوف). من الذي يحكم امريكا الان؟ انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، ١٩٨٣ م.

٦٤

ضئيلة فقط من الافراد تستلم اجورا عالية تتجاوز الجهد المبذول. او بتعبير آخر ان واحداً بالمائة ايضا من افراد المجتمع الرأسمالي تستلم اعلى نسب الاجور (١) ، بينما تبقى الاغلبية العظمى من الافراد دون ذلك. وبطبيعة الحال ، فان الطبقة الرأسمالية المتمثلة برجال الاعمال والمستثمرين ورؤساء المؤسسات الكبيرة تعتبر من اكثر الطبقات تمتعاً بالاموال ، حيث تأتي غالبية وارداتها من الارباح الربوية والايجارات وارباح تشغيل وسائل الانتاج (٢) ، علماً بان الجهود المبذولة من قبل هؤلاء لاتتناسب مع حجم الاجور المقبوضة.

٢ ـ مصادر القوة : وتتركز القوة بيد القلة البيضاء في المجتمع الرأسمالي بنفس الاسلوب الذي تتراكم به الثروة الاجتماعية ؛ بينما يصيب الحرمان نسبة تقدر باكثر من خمس عدد السكان (٣) ؛ حيث يشكل المحرومون من القوة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الولايات المتحدة ولحد منتصف القرن العشرين ثلاثة اجناس ؛ هم : الفقراء ، والمواطنون من ذوي البشرة السوداء ، والنساء (٤). ومع ان عدداً من هؤلاء المستضعفين قد وصل الى مواقع عالية في سلم القوة السياسية والاجتماعية الا ان مبدأ الحرمان

__________________

(١) مكتب الاحصاء : ملخص احصائيات الولايات المتحدة : ١٩٨٦ م. واشنطن دي. سي. : مطبعة الحكومة ، ١٩٨٦ م.

(٢) (جون دالفين). الاصرار على انعدام العدالة الاجتماعية في امريكا. كامبردج ، ماساشوستس : شينكمان ، ١٩٨١ م.

(٣) (كين اوليتا). الطبقة المعدمة. نيويورك : ماكرو ـ هيل ، ١٩٨٢ م.

(٤) (كريستوفر جينكز). « كم هو فقر الفقير؟ ». مقالة علمية في (النشرة النقدية للكتاب في نيويورك) ، عدد ٣٢ ، رقم ٩ ، ١٩٨٥ م. ص ٤١ ـ ٤٩.

٦٥

لا زال موجوداً. فالطبقة التي تسيطر على مراكز القوة في النظام الرأسمالي ، هم الاغنياء من ذوي البشرة البيضاء ، ومن اتباع المذهب البروتستانتي (١). بمعنى ان الاصل في التحكّم بالقوة السياسية في النظام الرأسمالي ، هو المال والمذهب وجنس الفرد. ومن المؤكد ان معنى الثروة ـ حسب النظرية الرأسمالية ـ يرادف معنى القوة السياسية ؛ لان الثروة المتراكمة بيد القلة لا تخلق محيطاً مناسباً لرخاء العيش فحسب ، بل تخلق شهوة جامحة للتحكم والسيطرة السياسية على مقدرات النظام الاجتماعي. فثلث اعضاء الكونغرس الامريكي في النصف الاخير من هذا القرن من اصحاب الملايين (٢) ، بل ان لعائلتي روكفلر وكندي المشهورتين بالثراء حصصاً شبه دائمية في النظام السياسي الامريكي ، وحقوقاً سياسية متوارثة جيلا عن جيل (٣).

وبطبيعة الحال ، فان انعدام العدالة في النظام السياسي الإمريكي يستند على عدة عوامل مهمة تشكل اساس ديمومة الطبقة الرأسمالية ؛ وهذه العوامل هي :

الاول : وجود مجاميع المنفعة التجارية ، وهي مجموعات تمثل مصالح الطبقة الرأسمالية الصناعية ، وهدفها التأثير على صياغة القوانين المدنية والصناعية من قبل الكونغرس ، حتى تضمن مصالح المؤسسات الرأسمالية

__________________

(١) (جيرالد بيرمان). الطبقية في العالم الحديث. موريستاون ، نيوجرسي : مطبعة التعليم العام ، ١٩٧٣ م.

(٢) (روبرت دال). الديمقراطية في الولايات المتحدة. الطبعة الرابعة. بوستن : هوتن ميفلين ، ١٩٨١ م.

(٣) (جي. وليام دوموف). بحوث حول تركيبة السلطة. بيفرلي هيلز ، كاليفورنيا : سيك ، ١٩٨٠ م.

٦٦

الكبرى ضد المستهلكين (١). حيث تستخدم هذه المجموعات ـ بشكل يسمح به القانون الرأسمالي ـ الاموال والهبات لمساعدة اعضاء الكونغرس في اعادة انتخابهم ؛ لان عملية الترشيح والانتخاب تحتاج الى كمية محسوبة من المال. ولما كان عضو الكونغرس المنتخب مديناً في انتخابه لهذه المجاميع ، اصبحت القوانين الصادرة عن الكونغرس تصب في مصلحة الشركات الصناعية والتجارية العملاقة ، وبالتالي تصب في مصلحة الطبقة الرأسمالية. وهذا السلوك الرأسمالي يضر الطبقات الاجتماعية الفقيرة ، لانه ليس هناك من يمثلها في التشكيل السياسي والتشريعي.

الثاني : عدم عدالة نظام الضرائب المفروضة على الارباح الشخصية السنوية. فحسب القانون الضرائبي الرأسمالي يدفع الاغنياء كمية مالية تقل عما ينبغي دفعه فيما لوكان النظام الضرائبي عادلا. وافضل مثال على ذلك ، هو ان الضرائب الشخصية على الافراد تشكل ثلث واردات مجمل ضرائب الدولة ، بينما تشكل الضرائب المفروضة على المؤسسات الرأسمالية العملاقة اقل من عشرة بالمائة من تلك الواردات (٢). وهذا يعني ان الاثرياء من الطبقة الرأسمالية ، يحتفظون بفائض الارباح التي يجنونها عن طريق ايداع اموالهم واستثمارها ضمن المؤسسات الرأسمالية الكبرى.

الثالث : سوء توزيع الثروة الاجتماعية ؛ فتذهب الحصة العظمى من الاموال التي تحصل عليها الدولة الرأسمالية من الضرائب الى المؤسسات

__________________

(١) (ميشيل اوسيم). الدائرة الداخلية : المؤسسات التجارية العملاقة وبروز النشاط السياسي التجاري في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. نيويورك : مطبعة جامعة اكسفورد ، ١٩٨٤ م.

(٢) (شيلدون دانزايكر) و (دانيال واينبرغ). محاربة الفقر : ما الذي ينفع وما الذي لا ينفع؟ كامبردج ، ماساشوستس : مطبعة جامعة هارفارد ، ١٩٨٦ م.

٦٧

الرأسمالية الكبرى ، كالمؤسسات الصناعية العسكرية ، والنظام الطبقي الصّحّي بما فيه من مؤسسات رأسمالية عملاقة كصناعة الادوية والاجهزة الطبية ، وجهاز القضاء بما فيه من شرطة ومحاكم وقضاة. ولا يبقى للخدمات الاجتماعية كإعالة الفقراء والمشردين واشباع حاجاتهم الاساسية الا النزر اليسير (١). وهكذا تدور الثروة الاجتماعية من الافراد في الطبقتين العليا والوسطى الى المؤسسات الرأسمالية العملاقة ، ثم ترجع من المؤسسات الرأسمالية العملاقة الى الطبقة العليا بالخصوص والطبقة المتوسطة ، تاركة الطبقة الفقيرة تسبح في بحر من التخلف والحرمان.

٣ ـ المنزلة الاجتماعية : ويحتل الاثرياء والرأسماليون ومن تركزت القوة السياسية بايديهم مكان الصدارة والوجاهة في المجتمع الرأسمالي ؛ بينما يحتل المفكرون وعلماء الطبيعة ورجال الدين والاساتذة الطبقة الوسطى. ويحتل الفقراء المنزلة السفلى في السلم الاجتماعي (٢). وتمايز الطبقات في النظام الاجتماعي الغربي ليس بحديث عهد ، حيث يذكر المؤرخون ان العائلة المالكة في روما مثلاً ، كانت لا تسمح لغير افرادها بلبس الملابس الحمراء ، وان العائلة المالكة في انكلترا كانت لا تسمح في القرن السادس عشر ، لغير نسائها بلبس الملابس المخاطة بالذهب والفضة (٣). وهذه الممارسات تؤكّد

__________________

(١) (باسيل بيرنستاين). الطبقة الاجتماعية ، الرموز ، والسيطرة. لندن : روتليج وكيكان بول ، ١٩٧١ م.

(٢) (دونالد ترايمان). الوظائف الرفيعة في دراسة مقارنة. نيويورك : المطبعة الآكاديميّة ، ١٩٧٧ م. وايضا : (الكيس انكليس) و (بيتر روسي). « مقارنة قومية للوظائف المعتبرة ». مقالة علمية في (المجلة الامريكية لعلم الاجتماع) ، عدد ٦٦ ، ١٩٥٦ م. ص ٣٢٩ ـ ٣٣٩.

(٣) (بارنينكنن مور). الظلم الاجتماعي : القواعد الأساسية للطاعة والعصيان. نيويورك : بانثيون ، ١٩٧٩ م.

٦٨

على ان العوائل الحاكمة في اوروبا كانت تُكره الناس على حرمة التفكير بالصعود الى منزلتها الاجتماعية المتميزة. لانها ـ حسب زعمها ـ ملهمة ومسددة من قبل الخالق عز وجل ، وما على الافراد الا الطاعة والتسليم (١). وعلى ضوء هذا التمايز تُسيّر دفة النظام الرأسمالي. حيث يعكس تصميم هذه الانظمة القائمة على فكرة تمايز الطبقات ، التوزيع غير العادل للثروة. فرفعة المنزلة الاجتماعية التي يتمتع بها الفرد الرأسمالي تعكس تراكماً لمواد عينية ونقدية تصبح ـ لاحقاً ـ السبب في البذخ وتجاوز حدود سد الحاجة الطبيعية للانسان.

والمقياس في الرأسمالية الامريكية ، ان وجاهة الفرد الاجتماعية تحدد بموجب الدخل السنوي الذي يتقاضاه ، لا بمقتضى نوعية العمل الذي يقدمه للنظام الاجتماعي (٢). وعلى ضوء ذلك فقد صمم النظام الاقتصادي على اساس ان الفرد حر في استخدام وسائل الانتاج لاستدرار اقصى ما يمكن استدراره من الخيرات ، فاذا تراكمت الثروة لديه ارتقى الى مستوى اعلى في السلم الاجتماعي ، وعندها يمسك بزمام القوة السياسية ويحتل الصدارة الاجتماعية.

ولم تتوقف الفكرة الرأسمالية عند هذا الحد ، بل اعتبرت تلازم المنزلة الاجتماعية في النظام الرأسمالي بنظام الطبقات ونظام العمل امراً طبيعياً. فطبقة رجال الاعمال والمستثمرين ينبغي ان تتميز عن طبقة العمال في

__________________

(١) (بيث فانفوسين). تركيبة الظلم الاجتماعي. بوستن : ليتل براون ، ١٩٧٩ م.

(٢) (مايكل اوسيم). الدائرة المغلقة : المؤسسات العملاقة وظهور النشاط السياسي التجاري في الولايات المتحدة وبريطانيا. نيويورك : مطبعة جامعة اكسفورد ، ١٩٨٤ م.

٦٩

الحقول والمصانع ، والطبقة الارستقراطية ينبغي ان تتميز عن الطبقة الوسطى ، والطبقة الغنية ينبغي ان تترفع عن الطبقة الفقيرة (١) ؛ وهو تأكيد واضح على قياس تفاضل الافراد على اساس نسبة رأس المال المملوك ، وليس على اساس نفع العمل وقيمته الاخلاقية للنظام الاجتماعي. وهذا المقياس غير العادل يؤدي في النهاية الى تفضيل الظالم على المظلوم ، والسارق على المسروق ، والباغي على المبغي عليه ، خصوصاً اذا كان الظالم والسارق والباغي اكثر ثروة من المظلوم والمسروق والمبغي عليه ؛ وهو شرخ اخلاقي خطير في النظام الرأسمالي ، واجحاف بحق الفقراء والمستضعفين والمظلومين.

وحتى نستقرئ حجم وابعادَ انعدام العدالة الاجتماعية في النظام الرأسمالي للولايات المتحدة ، لابد لنا من ملاحظة الارقام التالية : ففي الربع الاخير من القرن العشرين يبلغ عدد نفوس الولايات المتحدة ، حوالي مائتين وخمسين مليون نسمة تقريباً ، منهم ستمائة الف مليونير بضمنهم ستة وعشرون بليونير وخمسة وثلاثون مليون شخص ما بين جائع او معدم او مشرد او فقير لايملك قوت سنته ؛ ومن بين هؤلاء تسعون عائلة امريكية غنية تسيطر على نصف ممتلكات امريكا من العقارات والارصدة ووسائل الانتاج ، حيث ترث هذه العوائل هذه الثروة العظيمة جيلاً بعد جيل ، منذ مائتي عام ولحد اليوم (٢). ومن استقراء هذه الحقائق نتساءل : اين ـ اذن ـ

__________________

(١) (اريك اولين رايت). التركيب الطبقي وتعيين الدخل. نيويورك : الاكاديمية ، ١٩٧٩ م.

(٢) (جي. وليام دوموف). من الذي يحكم امريكا الان؟ انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، ١٩٨٣ م. وايضا : (جي. وليام دوموف). الدوائر العليا. نيويورك : راندوم ـ هاوس ، ١٩٧٠ م.

٧٠

العدالة في توزيع الثروات بين افراد المجتمع في نظام يعتبر نفسه قمة التطور الرأسمالي في العالم؟

٧١

نقد النظام الطبقي الامريكي

وبالرغم من ان المفكرين الذين كتبوا الدستور الامريكي كانت لهم وجهة نظر معينة تجاه العدالة الاجتماعية (١) ، الا ان رؤية ثاقبة للنظريات الاجتماعية التي طرحت لتفسير الدستور تبين ان النظام الاجتماعي الامريكي بني على اساس رأس المال ، بما فيه من ربح وخسارة وتراكم للثروات دون وضع مفهوم واضح للعدالة الاجتماعية بعين الاعتبار (٢). وعلى ضوء ذلك ، فان بروز الطبقات في نظام اجتماعي كهذا ، وانفراج الشقة الكبيرة بين الفقراء والاغنياء لابد وان يكون امراً طبيعياً لا مفر منه. واذا كان حلم (بنجامين فرانكلين) و (توماس جفرسن) و (جيمس ماديسون) باقامة مجتمع الثروة والغنى لكل الافراد لم يتحقق ، فان النظام الاجتماعي الامريكي المعاصر قد حقق تقدماً كبيراً في انشاء الطبقات الاجتماعية المتفاوتة الثراء ، حيث يبتنى النظام اليوم على خمس طبقات متصارعة هي : الطبقة الرأسمالية ، والطبقة الوسطى العليا ، والطبقة الوسطى السفلى ، والطبقة العاملة ، والطبقة الفقيرة المعدمة (٣).

فتعتبر الطبقة الرأسمالية الثرية ، الصغيرة الحجم والمحدودة العدد ، من

__________________

(١) (توماس انتون). الفيدرالية الامريكية والسياسة العامة. بنسلفانيا : مطبعة جامعة تمبل ، ١٩٨٩ م.

(٢) (وليام ريان). المساواة. نيويورك : فينتاج ، ١٩٨٢ م.

(٣) (دانيال روسيدس). النظام الطبقي الامريكي. بوستن : هوتن ميفلين ، ١٩٧٦ م.

٧٢

اقوى الطبقات وامضاها في المجتمع الامريكي ؛ حيث تتشكل تركيبتها الاجتماعية من بقايا النظام الارستقراطي الاوروبي القديم الذي هاجر الى العالم الجديد ؛ والذي كان ولا يزال قائماً على الاساس العائلي (١) ، كالعوائل العريقة مثل : عوائل روكفلر ، وروزفلت ، وكندي ، وفاندربلت ، ودي بوند ، واستر ، وغيرها ، التي دخلت العالم الجديد باموالها ومنزلتها الاجتماعية في اوروبا وهي ترى ان من حقها ان تتعامل مع المجتمع الجديد في السيطرة والاستعباد ، كتعاملها مع المجتمع الاوروبي القديم (٢). بمعنى انها ترى ان من حقها التعامل مع بقية الافراد تعامل السيد مع العبد ، والحاكم مع المحكوم ، والمالك مع المملوك. وقد بقيت هذه الطبقة القوية محافظة على وضعها الاجتماعي والاقتصادي المتميز عن طريق انشاء مؤسسات اجتماعية خاصة بها. فوسائل التعليم والخدمات الاجتماعية الخاصة بهذه الطبقة ، تقدم خدماتها خصيصاً لهؤلاء الافراد فقط ، ولا تسمح لبقية افراد الطبقات الاخرى التمتع بها. وطريقتها في ذلك ، رفع الاجور الدراسية ـ مثلاً ـ للمدارس والجامعات الخاصة ، او اجور الانضمام للمعاهد والنوادي الخاصة بالطبقة ، الى نسب خيالية ، مما يحرم الطبقات الاخرى من الانضمام اليها ، والتمتع بخدماتها الراقية (٣). ونتيجة لذلك ، فقد ابتعدت الطبقة الفقيرة

__________________

(١) (دنيس كلبرت) و (جوزيف كال). بنية النظام الطبقي الامريكي : تركيب جديد. هومود ، الينوي : دورسي ، ١٩٨٢ م.

(٢) (هارولد كيربو). انعدام العدالة الاجتماعية : صراع الطبقات في الولايات المتحدة. نيويورك : ماكرو ـ هيل ، ١٩٨٣ م.

(٣) (ادوارد هيرمان). السيطرة التجارية المتحدة والسلطة التجارية المتحدة. نيويورك : مطبعة جامعة كامبردج ، ١٩٨١ م.

٧٣

عن الاختلاط بهذه الطبقات رويداً رويداً ، حتى انقطعت كل الصلات الاجتماعية بينهما. وبطبيعة الحال ، فان الطبقة الثرية تحافظ على نقاوتها وحيويتها جيلاً بعد جيل ، عن طريق التزاوج فيما بين افرادها. فالمناكحة بين ابناء الرؤوس الكبيرة يبقي تراكم الثروة ضمن حدود وجدران الطبقة الغنية دائماً (١).

ولا بد من سائل يسأل : هل يسمح لفرد تراكمت الثروة في حوزته عن طريق القمار او الربح السريع من الانضمام لهذه الطبقة؟ والجواب ان القادم الجديد لا يسمح له الانضمام الى هذه الطبقة حتى وان تجاوزت امواله اموال بعض افرادها ؛ لانه لا يملك النسب العائلي الذي يسمح له الدخول الى دائرة هذه الحلقة الاجتماعية العليا (٢).

ولاشك ان التأثير السياسي لهذه العوائل يتجاوز الحدود الجغرافية للولايات المتحدة ليشمل العالم الواسع من خلال التجارة والتسلح والتأثير السياسي والاقتصادي والثقافي. ولا ريب ان الظلم الذي لحق الافراد نتيجة سيطرة هذه الطبقة لم يشمل الافراد الذين يعيشون في بقعة جغرافية محددة او اولئك الذين يسكنون في دولة معينة ، بل قد شمل الانسانية المعاصرة كلها على وجه الارض (٣) ؛ خصوصاً اذا ما علمنا ان الطبقة الرأسمالية في امريكا لها ارتباطات وثيقة بالطبقات المالكة في الانظمة الرأسمالية الاوروبية كبريطانيا وهولندا والسويد.

__________________

(١) (رايت ميلز). الطبقة الحاكمة. نيويورك : مطبعة جامعة آكسفورد ، ١٩٥٦ م.

(٢) (هربرت هيمن). علم الاجتماع السياسي : دراسة في السلوك النفسي والسياسي. نيويورك : المطبعة الحرة ، ١٩٦٩ م.

(٣) (عمانوئيل ولرستاين). اقتصاد العالم الرأسمالي. نيويورك : مطبعة جامعة كامبردج ، ١٩٧٩ م.

٧٤

والطبقة الوسطى العليا ، وهي الطبقة التي تضم اعضاء يتجاوز دخلهم السنوي الحدود الطبيعية لنظام الاجر العادل ، وينضوي تحت لوائها أفراد من الجنس الابيض من معتنقي المذهب البروتستانتي ؛ ومثالها رجال الاعمال الذين لهم منزلتهم الاجتماعية ، ولكنهم لا يعتبرون من الطبقة الثرية المالكة ؛ وبذلك فهم لا يديرون دفة الامور السياسية بل ان اغلب تطلعاتهم مالية واقتصادية (١).

والطبقة الوسطى السفلى ، وهي الطبقة التي تضم تحت رايتها افراداً من ذوي دخل وأجر محدود يتناسب تناسباً معقولاً مع الجهد المبذول ؛ ويدخل تحت لوائها التجار الصغار والموظفون واصحاب المهن الحرة الذين يجهدون في العمل للحفاظ على وضعهم الاقتصادي والاجتماعي (٢).

والطبقة العاملة ، وهي التي تضم بين دفتيها كل الافراد الذين يعملون بأجر محدود في الحقول والمصانع والخدمات العامة ، وتتميز عن غيرها بان عمل افرادها عمل يدوي شاق غالباً. ومع ان الأجر والمكافأة المالية لهذه الطبقة جيد الا ان افرادها لا يتمتعون بالمنزلة الاجتماعية اللائقة التي يتمتع بها نظائرهم من الطبقات العليا (٣).

والطبقة الاخيرة هي طبقة الفقراء ، حيث يكافئهم النظام الرأسمالي بأدنى الاجور ويعتبرهم من اوطأ الطبقات درجةً واهميةً في السلم

__________________

(١) (دينس كيلبرت) و (جوزيف كول). هيكلية النظام الطبقي الامريكي : تركيب جديد. هوموود ، الينوي : دورسي ، ١٩٨٢ م.

(٢) (ميلفين كوهين). الطبقة الاجتماعية والتجانس. هوموود ، الينوي : دورسي ، ١٩٧٧ م.

(٣) (بات ولكر). بين العمل ورأس المال. بوستن ، ماساشوستس : ساوث اند ، ١٩٧٩ م.

٧٥

الاجتماعي (١) لسببين ؛ الاول : ان اغلب اعضاء هذه الطبقة عاطلون عن العمل. والثاني : ان هؤلاء الافراد ليست لديهم المهارة او الكفاءة في انجاز العمل الموكل لهم انجازه. ولما كان هؤلاء الافراد لايمثلون قيمة حقيقية في سوق العمل فانهم ـ حسب الفكرة الرأسمالية ـ لا يمثلون قيمة حقيقية في القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنظام الاجتماعي ؛ بمعنى ان الفرد الفقير الذي لا يستطيع ان يقدم انتاجاً مربحاً للعجلة الرأسمالية ليست له قيمة حقيقية في الحياة الانسانية (٢). ولا شك ان الحرمان الذي يصيب هذه الطبقة يدل دلالة واضحة على فشل النظام الرأسمالي في نظام توزيع الثروات الاجتماعية ، ويعتبر مؤشر ضعف في نظام عدالته القائم على اساس الربح والخسارة ، دون النظر الى النظام الاخلاقي في التعامل الاقتصادي وجني الارباح. فاذا كان الانسان غير قادر على الابداع فما ذنب ذريته التي تبقى ضمن الطبقة الاجتماعية نفسها ، جيلاً بعد جيل؟ بل كيف نضمن عدالة النظام اذا كان اشتراط النسب والثروة هو المقياس في التمسك باسباب القوة السياسية للنظام الرأسمالي الامريكي؟ واي ظلم افدح من حرمان الانسان الفقير حقه في تطوير قابلياته الذاتية لخدمة المجتمع الذي يرى فيه جذوره وتاريخه وثقافته وطموحاته؟

وبطبيعة الحال ، فان محافظة النظام الطبقي الامريكي على وجوده بكل قوة مدة قرنين من الزمان ، نابع من احكام قبضته الحديدية على النظام

__________________

(١) (جورج كيلدر). الثروة والفقر. نيويورك : الكتب الاساسية ، ١٩٨١ م.

(٢) (ميشيل هارينكتن). الفقر الامريكي الجديد. نيويورك : هولت. راينهارت وونستن ، ١٩٨٤ م.

٧٦

السياسي الذي تحركه الثروة والقوة والمنزلة الاجتماعية (١). فالطفل الذي يولد في دائرة الطبقة الثرية للمجتمع الرأسمالي يكتسب المهارة والقيم والثقافة المسيطرة على تلك الطبقة ، وينشأ ويتطور وجوده الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ضمن اجواء تلك الطبقة الحاكمة. والطفل الذي يولد في طبقة فقيرة ، يعيش مع اقرانه من المحرومين ، في الطبقة المحكومة ، فلا يرى امامه فرصة تؤهله للوصول الى الطبقة الثرية او حتى الحلم بالابحار الى شواطئ الرخاء والرفاهية ، فيصبح معاقاً من قبل النظام الاجتماعي وهو بعد لم يكتشف قدراته الابداعية.

__________________

(١) (كوين مور). « تركيبة الشبكة القومية للطبقة الحاكمة ». مقالة علمية في (المجلة الامريكية النقدية لعلم الاجتماع) ، عدد ٤٤ ، ١٩٧٩ م. ص ٦٧٣ ـ ٦٩٢.

٧٧

الآثار المترتبة على تطبيق النظام

الرأسمالي في الولايات المتحدة

ولاشك ان رسوخ فكرة تمايز الطبقات الاجتماعية في النظرية الرأسمالية الامريكية لها آثار سلبية على روح العلاقات الانسانية في المجتمع ، فالافراد المنضوون تحت راية الطبقة الرأسمالية الثرية يتمتعون بمختلف الامتيازات الممنوحة لهم على حساب الطبقات الاخرى ، بينما يقبع المحرومون في زوايا الظلم الاجتماعي حيث لا حيلة لهم لتغيير اسلوب حياتهم ولا قدرة لهم على استثمار فرص لاتتوفر لنوابغهم.

فعلى الصعيد السياسي ، تنشط الطبقة الرأسمالية في حركة التصويت والانتخاب للمرشحين السياسيين ، لان الانتخاب يعزز دعواها بسلامة النظام الديمقراطي ، ويثبت في نفس الوقت المراكز السياسية التي صممت اصلاً لخدمة الطبقة الرأسمالية ؛ بينما تظهر الطبقة الفقيرة تجاهلاً عملياً تجاه عملية التصويت الرئاسي والبرلماني لانها تعلم ان التصويت لا يغير الواقع السياسي والاجتماعي للنظام الرأسمالي (١). ولا بد هنا من ملاحظة قضية مهمة وهي ان اغلبية المرشحين السياسيين ينضوون تحت راية الطبقة الرأسمالية ، كافراد لهم قوة سياسية واقتصادية. وبسبب هذا التفاضل

__________________

(١) (ريموند ولفنكر) و (ستيفين روزنستون). من الذي يصوت؟ نيوهيفن : مطبعة جامعة ييل ، ١٩٨٠ م. وايضاً : (سيمور مارتن لبست). الرجل السياسي. نيويورك : دبل دي ، ١٩٥٩ م.

٧٨

السياسي بين الافراد على الاساس الطبقي ، اصبح التمييز السياسي بين الطبقات الاجتماعية امراً حتمياً ، خصوصاً على المستوى الحزبي ، حيث يمثل الحزب الجمهوري الطبقة الرأسمالية الغنية ، بينما يمثل الحزب الديمقراطي الطبقة العاملة والاقليات العرقية كاليهود والملوّنين (١). وعلى المستوى الاجتماعي يمثل الجمهوريون الحركة المحافظة وروادها من دعاة البقاء على القيم الاخلاقية التي اقرتها النصرانية كحرمة الطلاق والاجهاض ، واهمية دور المرأة في العائلة ، وضرورة المحافظة على القيم الدينية ؛ بينما يمثل الديمقراطيون الحركة التحررية التي تدعو الى التحرر من القيم الاجتماعية بالدرجة التي لا تتعارض مع المفهوم السياسي للديمقراطية ، كتحرر المرأة من الروابط الاجتماعية ، وضرورة اقحامها في النظام السياسي والقضائي والتشريعي ، والدعوة الى التحرر من القضايا التقليدية الاجتماعية (٢).

وعلى الصعيد الديني ، فان الطبقة الرأسمالية في الولايات المتحدة تنتمي الى المذهب البروتستانتي ، فالبروتستانت يتحكمون بالقوة المالية والسياسية للنظام الاجتماعي دون غيرهم (٣). ولكن التمييز الطبقي لا يترك فرداً ولا مذهباً ولا كنيسةً دون ان يلعب دوره المخرب فيها. فحتى الكنائس البروتستانتية مقسمة على اساس النظام الطبقي والدخل السنوي للافراد. فالأفراد من ذوي الدخل المرتفع من الطبقة الرأسمالية يتعبدون في كنائس تختلف فيها الخدمة الدينية عن تلك التي تؤمّها الطبقة الاضعف ماليّاً من

__________________

(١) (توماس ايدسال). السياسة الجديدة لعدم المساواة. نيويورك : نورتن ، ١٩٨٤ م.

(٢) (جون بيبي). السياسة ، الاحزاب ، والانتخابات في امريكا. نيويورك : نيلسون ـ هول ، ١٩٨٧ م.

(٣) (بارنينكتن مور). الاصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية. بوستن : بيكون ، ١٩٦٦ م.

٧٩

نفس المذهب. حيث تقوم كنائس الطبقة الرأسمالية البروتستانتية بخدمة المتعبّدين الاثرياء خدمة رقيقة ، مبشرة اياهم بالجنان التي صنعها الخالق عز وجل لهم في الحياة الآخرة ؛ بينما تقوم كنائس الطبقة البروتستانتية الاضعف مالياً بدعوة الناس الى قبول النظام الاجتماعي والسياسي القائم باعتباره نظاماً مباركاً من قبل الله عز وجل ، مذكرة اياهم بان رفضه يمثل رفضاً للدين والحياة الروحية. وما شعار (بارك الله في امريكا) الذي تستخدمه الحكومة الرأسمالية في المناسبات الرسمية ، الا شعار ديني ينبع من اصل الفكرة البروتستانتية الداعية الى اطاعة النظام الاجتماعي القائم على اساس الرأسمالية (١).

وعلى الصعيد العائلي ، فان الطبقة الرأسمالية لا تعاني من مشاكل الطلاق وما يترتب عليها من ازمات نفسية واقتصادية ، كما هو الحال في الطبقة الفقيرة ؛ بل ان اهمال النظام السياسي لهموم الطبقة الفقيرة ، سبب زيادة نسب حالات الطلاق في تلك الطبقة الى درجة ان تلك المشكلة اصبحت تهدّد اصل وجود الفقراء (٢). ولاشك ان اول نتيجة مدمرة للطلاق هو تشريد الاطفال ، وجعلهم عرضة للانحراف الاجتماعي. وطالما كانت هذه المشكلة الاجتماعية مطوقة ضمن حدود الطبقة الفقيرة ، فان النظام السياسي الرأسمالي لا يعتبرها مشكلة خطيرة ؛ بل يعتبرها ـ في واقع الامر ـ قضية صحية على الصعيد السياسي لانها تبعد الفقراء عن السلطة

__________________

(١) (ماكس وبر). الاخلاقية البروتستانتية والروحية الرأسمالية. نيويورك : سكرايبنرز ، ١٩٥٨ م.

(٢) (اندريو جيرلن). الزواج ، الطلاق ، ثم الزواج مرة اخرى. كامبردج : مطبعة جامعة هارفارد ، ١٩٨١ م.

٨٠