العدالة الإجتماعية وضوابط توزيع الثّروة في الإسلام

الدكتور زهير الاعرجي

العدالة الإجتماعية وضوابط توزيع الثّروة في الإسلام

المؤلف:

الدكتور زهير الاعرجي


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣

النظرية الرأسمالية. وقد قدم الاسلام منهاجاً واضح المعالم لتحقيق فكرة (العدالة الاجتماعية) ؛ فاعلن مبدأ اشباع جميع حاجات الافراد الاساسية بما فيه الكفاية ، وقرر ان للفقراء حقاً معلوماً في اموال الاغنياء ، واعلن ايضاً مبدأ المساواة في العطاء ، ومبدأ ان الاجر على قدر الجهد ونوعية العمل المنجز. ولاشك ان الضرائب الاسلامية الواجبة كالزكاة والخمس والصدقة الواجبة والكفارات والاضحية ، والضرائب المستحبة كالصدقة المستحبة والانفاق في سبيل الله تصل كلها الى اكثر من خمسة وعشرين بالمائة من واردات الافراد ؛ انما تصرف على الفقراء لرفع مستواهم الى مستوى الطبقة العامة التي يتمتع بها الناس في المجتمع الاسلامي. بينما يصرف النظام الرأسمالي اثنين بالمائة فقط من وارداته على الفقراء كاعانات غذائية لاشباعهم ، او صحية لمنع تفشي الامراض بينهم.

وبذلك ، فان النظرية الاسلامية تعارض بكل قوة مبادئ النظريات الاجتماعية الغربية الزاعمة بان انعدام العدالة الاجتماعية لها نواح ايجابية نافعة للنظام الاجتماعي ؛ لانه لايمكن تبرير الظلم الاجتماعي باية منفعة اجتماعية اخرى. الا ان التفاضل الاجتماعي في الاجور ينبغي ان يتم ضمن الضوابط العقلائية والاخلاقية التي يقرها المجتمع الكبير.

ولا شك ان دعوة الاسلام الافراد لتحريك ما لهم الصامت ، وان تنوع مصادر الحقوق الشرعية كالثروة الحيوانية والزراعية والنقدية ، يزيدان من فرص تنشيط النظام الاقتصادي من جهة ، ويزيدان من فرص ذهاب الثروة الى مستحقيها واشباعهم اشباعاً حقيقياً من جهة اخرى. أضف الى ذلك ، فان تحديد مسؤولية رب الاسرة حول النفقة والولاية الاسرية يفتح آفاقاً لتنظيم شؤون العمل في المجتمع ، لان اهتمام المرأة بدورها في البيت سيوفر فرصاً اكبر لارباب العوائل بالعمل لاشباع حاجات عوائلهم. كل ذلك ، اذا تم ضمن الاطار الاخلاقي الذي جاء به الاسلام ـ خصوصاً على صعيدي القناعة الذاتية بالرزق والنهي عن التبذير ـ فانه يضع الاسلام على قمة الانظمة الدينية والاجتماعية التي تعالج باسلوب واقعي قضية (العدالة الاجتماعية) ، وتحاول تنظيم حركة الاموال في النظام الاجتماعي بحيث يؤدي الى صياغة اسس طبقة اجتماعية واحدة عادلة متعددة الدرجات ، ويلغي في الوقت نفسه نظام الطبقات الرأسمالي الظالم.

٤١

٤٢

القسـم الاول

العدالة الاجتماعية في النظرية الرأسمالية

رأي المدرسة التوفيقية ونقدها * رأي المدرسة الماركسية (مدرسة الصراع الاجتماعي) ونقدها * رأي المدرسة التوفيقية ـ الماركسية ونقدها * نظرية ماكس وبر والرد عليها * نقد مفهوم العدالة الاجتماعية في النظام الرأسمالي الامريكي : ١ـ الثروة ٢ ـ مصادر القوة ٣ ـ المنزلة الاجتماعية * نقد النظام الطبقي الامريكي * الآثار المترتبة على تطبيق النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة * «الحلم الامريكي» وارتباطه بتغيّر الادوار الاجتماعية * الفقر والفقراء في النظام الرأسمالي * الطبقية في النظام الرأسمالي البريطاني * الاسباب الداعية لاستمرار الظلم الاجتماعي : ١ـ السيطرة على منابع القوة ٢ ـ النظام الفكري لطبقة الاقوياء.

٤٣
٤٤

اشـارة

لما كانت العدالة الاجتماعية من اهم الاركان التي يبتنى عليها النظام الاجتماعي ، فقد كانت مناقشتها ضمن الاطار الموضوعي العام للنظرية الاجتماعية ضرورية للغاية ، في فهم جوهر النظام الاجتماعي الرأسمالي والاهداف المتوخاة من تطبيقه على الافراد. وعلى ضوء ذلك فسوف ندرس افكار المدرسة التوفيقية ، ومدرسة الصراع الاجتماعي ، ومعتقدات (ماكس وبر) ، والتطبيقات المتمخضة عن هذه النظريات.

ونقصد بالمدرسة التوفيقية : افكار مجموعة كبيرة من مفكري النظرية الاجتماعية الغربية المعاصرة ، التي لاترى مبرراً للصراع الاجتماعي تحت ظل النظام الرأسمالي القائم اليوم ، امثال (هربرت سبنسر) ، و (اميلي ديركهايم) ، و (تالكوت بارسنس) ونحوهم. وتعتقد هذه المجموعة من المفكرين وعلماء الاجتماع بان المؤسسات الاجتماعية القائمة تساند بعضها بعضاً من اجل خدمة الفرد في النظام الاجتماعي. وليس هناك موجب لنقدها او محاربتها. وقد جمعنا آراءهم تحت عنوان المدرسة التوفيقية ، لان نظرياتهم لم تتميز عن بعضها البعض بالاصالة.

٤٥

رأي المدرسة التوفيقية

يفترض رواد المدرسة التوفيقية ان انعدام العدالة الاجتماعية بخصوص اجور العمل والمكافأة لها نواح ايجابية نافعة للمجتمع (١). فاذا اريد للمجتمع الانساني التكامل من حيث العمل والانتاج والابداع ، فما على افراده الا القيام بادوار مختلفة لخدمة النظام الاجتماعي ، على اساس المهارة الشخصية والابداع. ولما كانت هذه الادوار تتطلب جهداً جسدياً وفكرياً وتضحيةً في الوقت والطاقة البشرية ، فالمفترض عقلياً ان الذي يقوم بهذه الادوار يكافأ مكافأة مالية ، تغريه بالانخراط بذلك العمل ، وتشجعه على القيام بذلك الدور. فاذا كان الطبيب اكثر نفعاً في المجتمع ـ مثلا ـ من معلم المدرسة ، فعلى المجتمع مكافأة الطبيب مكافأةً تفوق مكافأته للمعلم ، من الناحيتين المالية والاجتماعية. واذا اقر المجتمع مثلا بافضلية عمل المهندس ودرجة منفعته للنظام الاجتماعي من عمل الفلاح ، استحق ذلك المهندس اجوراً اعلى ومنزلةً ارفع من زميله الذي يمارس حرث الارض. وهذا التوزيع غير المتكافىء للثروة والمكافآت الاجتماعية ضروري ـ حسب رأي المدرسة التوفيقية ـ في ثبات استقرار النظام الاجتماعي ؛ لان المال والمكافأة الاجتماعية ، هما اللذان يجذبان الافراد نحو الاعمال التي تتطلب جهداً

__________________

(١) (اميلي ديركهايم). تقسيم العمل في المجتمع. جلينكو. الينوي : المطبعة الحرة ، ١٩٦٤ م. الطبعة الاصلية عام ١٨٩٣ م.

٤٦

اشد من بقية الادوار الاجتماعية الاخرى. وهكذا يكون انعدام العدالة الاجتماعية نتيجة حتمية لثبات واستقرار النظام الاجتماعي (١).

نقد رأي المدرسة التوفيقية

ولا شك ان رأي المدرسة التوفيقية بخصوص ارتباط الدور الاجتماعي الذي يقوم به الفرد بالمكافأة المالية التي يستحقها ، مهم جداً في تحليل التفاوت الواسع في نظام الاجور والمكافأة الاجتماعية في النظام الرأسمالي (٢) ؛ ولكن نظرة فاحصة على موقف المدرسة التوفيقية ، تبين لنا خطأ ما وصلت اليه النظرية الرأسمالية من استنتاجات باطلة ، نحاول توضيحها بالنقاط التالية :

اولا : ان اختلاف المكافآت الاجتماعية تبعاً لقيمة العمل ونفعه للنظام الاجتماعي أمر يتناسب مع الواقع الانساني ، ولكن ينبغي ان يتم ضمن ضوابط العدالة الاجتماعية التي تهملها النظرية التوفيقية. فكيف نقبل بتخفيض اجرة العامل الزراعي مثلاً الى عشر ما يقبضه المهندس الزراعي ، مع ان كليهما يقدم خدمة نافعة للانتاج الزراعي؟ نعم ، لابد في تحديد اجور العاملين ملاحظة السنوات التي يقضيهاالخبير في المعاهد العلمية ،

__________________

(١) (كنزلي ديفز) و (ولبرت مور) : « بعض مبادئ انعدام العدالة الاجتماعية». مقالة علمية في مجلة (العلوم الاجتماعية الامريكية). عدد ٥٠ ، ١٩٤٥ م. ص ٤٣٢ ـ ٤٣٧.

(٢) (بيتر بلاو) و (اوتيس دودلي دونكان). التركيبة الوظيفية الإمريكية. نيويورك : وايلي ، ١٩٦٧ م.

٤٧

واحتسابها ضمن اجرة العمل الاضافية. ولكن ينبغي في الوقت نفسه ضمان الحد الادنى للاجور التي تضمن معيشة كريمة للعامل غير الخبير.

ثانيا : ان انعدام العدالة الاجتماعية لا يؤدي الى ثبات واستقرار النظام الاجتماعي ؛ بل بالعكس. فكلما كانت الفوارق الطبقية شاسعة البون ، قبع النظام الاجتماعي على فوهة بركان يستعد للانفجار ؛ لان الظلم الاجتماعي يؤدي الى اختلال الموازين الاساسية في اشباع حاجات الافراد وتمتعهم بالثروات الاجتماعية ، والى اضطراب التعامل البناء بين افراد الطبقات. فالعدالة الاجتماعية اذن ـ لا انعدامها ـ هي امضى سلاح لتثبيت النظام الاجتماعي ، بكافة اطرافه السياسية والاقتصادية والصحية والثقافية.

ثالثاً : ان المكافآت الاجتماعية في النظرية الرأسمالية تتناسب مع حجم منفعة العمل للنظام الاجتماعي. وعلى ضوء ذلك ، فان اجرة الطبيب مثلاً اعلى من اجرة المعلم ، لان الطبيب يقضي فترة اطول للتدريب على ربط النظريات التي درسها بالجانب التطبيقي من المعلم. ولكن ، كيف تفسر النظرية التوفيقية ، اجور نجوم الرياضة والفنون الاعلامية والموسيقية ، التي تتجاوز اجور الاطباء والمهندسين في النظام الرأسمالي (١). فأيهما أنفع للنظام الاجتماعي : الطب ام المسابقات الرياضية التجارية مثلاً؟ وأيهما اجدر بالمكافأة النوعية : الذي يمارس الهندسة ام الذي يقوم بالغناء؟ وأيهما افضل من الناحية الانتاجية للأفراد : صناعة اجهزة النقل ام صناعة آلات اللهو؟

رابعا : اذا كانت المكافآت الاجتماعية تتم على حساب نفع العمل للنظام

__________________

(١) (دوناد بول) و (جون لوي). الرياضة والنظام الاجتماعي. ريدنك ، ماساشوستس : اديسون ـ ويسلي ، ١٩٨٣ م.

٤٨

الاجتماعي ، فلماذا تختلف اجور نفس العمل المنجز من قبل افراد يختلفون باللون والجنس؟ ولماذا يدفع للمواطنين السود في امريكا ، وافريقيا الجنوبية مثلاً ، اجر اقل ، لنفس العمل المنجز من قبل نظائرهم من المواطنين البيض (١)؟ أليس ذلك اخلالاً بالمساواة بين طاقات الأفراد وابداعاتهم عن طريق النظر الى منشأهم ولون بشرتهم ، لا النظر الى نوعية عملهم ونفعه للنظام الاجتماعي؟

خامسا : ان الاعمال اليدوية او الميكانيكية غالباً ما تنحصر ضمن طبقة معينة لاجيال عديدة. فالعائلة الفلاحية مثلاً ، ترث العمل الزراعي جيلاً عن جيل. والعائلة التي تهتم بالمهنة اليدوية التي تتطلب مهارة نادرة ، تحافظ على بقاء تلك المهنة ضمن نطاقها العائلي سنوات عديدة. وبالاجمال ، فان الاغنياء والفقراء يتمسكون بادوارهم الاجتماعية ويحافظون على مردوداتها المالية ، قليلة كانت ام كثيرة ، مما يؤدي الى ثبوت خارطة العمل واستقرار الادوار الاجتماعية ، وارتباطها بالنظام الطبقي. فأجرة عامل منتوجات الخزف اليدوي مثلاً قليلة نسبة الى معدل دخل الافراد ، ولكن هذه المهنة تبقى ضمن العائلة من جيل الى جيل ؛ مع ان النظرية التوفيقية تؤكد على ان الفرد لا يقوم بالعمل الانتاجي ما لم يدفع له النظام الاجتماعي مكافأة مالية تغريه بالانخراط بذلك العمل ، وتدفعه للثبات على ممارسة تلك المهنة. ولكن ، كيف تفسر النظرية صمود العامل على البقاء في عمله النافع اجتماعيا مع علمه باجرته المالية القليلة؟

سادسا : ان قلة اجرة العامل الفقير لا تعني ان عمله قليل المنفعة للنظام

__________________

(١) (باري آدم). بقاء السيطرة : الاذلال والحياة اليومية. نيويورك : السفاير ، ١٩٧٨ م.

٤٩

الاجتماعي. فادباء المجتمع وعلماء الاديان مثلاً من الفقراء غالباً ، فهل يعني هذا ان عملهم قليل المنفعة للنظام الاجتماعي؟ ألا يعد نشر العلوم والآداب بين الناس من ارفع الاعمال التي يقوم بها المصلحون؟ اذن ، فان الاجر القليل لا يحدد قيمة العمل المنجز واهميته.

٥٠

رأي المدرسة الماركسية

(مدرسة الصراع الطبقي)

ويرى رواد هذه المدرسة التي تعتقد بحتمية الصراع الاجتماعي ، ان المنافسة عامل حاسم من عوامل بناء تركيبة المجتمع الاقتصادية والسياسية ، وان الصراع الطبقي نتيجة حتمية لانعدام العدالة الاجتماعية ؛ لان سبب انعدام العدالة ـ حسب رأي رائد هذه المدرسة (كارل ماركس) ـ يعود الى ان تراكم الثروة عند افراد الطبقة الرأسمالية هو الذي ساهم في تصميم شكل القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يسيطر بها هؤلاء على مصير الطبقات الاجتماعية الاخرى (١). ولا شك ان صراع الطبقات هو المفتاح الرئيسي للتغيير الاجتماعي ؛ فكل طبقة حاكمة متنعمة باموال المحرومين سيطاح بها حتماً ـ حسب زعم ماركس ـ عن طريق الطبقة المحكومة ؛ فتصبح الطبقة المحكومة ـ عندئذ ـ طبقة حاكمة. وهكذا تعيد هذه العملية نفسها حتى الصراع النهائي بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية في المجتمع الصناعي. وهذا الصراع بين الطبقة العاملة والنظام الرأسمالي سيؤدي الى إضمحلال دور النظام الرأسمالي في المجتمع الانساني ، بسبب فساد هذا النظام القائم على اساس المنافسة الباطلة ضمن الطبقة

__________________

(١) (كارل ماركس). المخطوطات السياسية والاقتصادية لعام ١٨٤٤ م. نيويورك : الناشرون الدوليّون ، ١٩٦٤ م.

٥١

العليا التي تمتلك جميع وسائل الانتاج الصناعي والزراعي ، وسيختفي دور الطبقة المتوسطة لينفتح المجال للطبقة العاملة المحرومة بالثورة على النظام القائم. وعلى انقاض النظام الرأسمالي ستنشئ الطبقة العاملة المجتمع الاشتراكي الجديد ، حيث تتحول ملكية وسائل الانتاج والتوزيع من ايدي الرأسماليين الى ايادي الجماهير ، فيعم الخير جميع افراد النظام الاجتماعي. وبعد ذلك يقوم المجتمع الاشتراكي بدوره بانشاء المجتمع الشيوعي ، فتختفي ـ حينئذ ـ كل معالم الظلم الاجتماعي ، والاغتراب ، والصراع ، والاضطهاد الانساني.

نقد رأي المدرسة الماركسية

ومع ان فكرة مدرسة الصراع الطبقي لها مبرراتها الخاصة في ادانة الطبقة الرأسمالية الاوروبية في القرن التاسع عشر ، الا ان تحليلها يعجز عن تحديد هوية الطبقات الاجتماعية المختلفة في التاريخ. حيث تقتصر نظرتها على رؤية طبقتين فقط ؛ هما : طبقة العمال وهي الطبقة المستعبَدة ، وطبقة الرأسماليين وهي الطبقة المستعبِدة. ولمّا كانت الطبقة العمّاليّة تنتج بعرقها وجهدها ثروة زائدة تفيض عن حاجات المنتجين الاساسية ، اصبح هم الطبقة الرأسمالية ـ حينئذ ـ تجميع الثروة الفائضة من الانتاج الاجتماعي الكلي. وهذا الاسلوب الرأسمالي في العمل هو الذي انتج تراكماً للثروة في طبقة ، وحرماناً لها في طبقة اخرى. وبذلك اصبحت الثروة الفائضة وجشع

٥٢

الطبقة الرأسمالية مصدراً من مصادر انعدام العدالة الاجتماعية (١). وهذا المنطق في طبيعته ينسجم مع ظلم الفكرة الرأسمالية ، ولكن الفكرة الماركسية لم تصف لنا وضع الافراد العاملين في الخدمات الاجتماعية كالتعليم والطب والقضاء والشرطة ، ولم تضعهم ضمن أيّة طبقة اجتماعية. فهؤلاء لا يعملون لخدمة الطبقة الرأسمالية ولا يبذلون جهدهم ولا يعتصرون عرقهم من اجل الانتاج ، بل ان نشاطهم المهني منصبّ بشكل اساسي في مجال الخدمات الاجتماعية. ومهن كالتعليم والطّبّ والقضاء امتهنها الانسان منذ فجر التاريخ الانساني ، فكيف يستطيع الفرد الرأسمالي السيطرة على جهود هؤلاء المهنيين في الوقت الذي يمكنهم فيه فرض اجوراً عالية على الزبائن الرأسماليين انفسهم؟ وكيف تستطيع الرأسمالية السيطرة على اجور عمل القضاة وعلماء الكيمياء والصيدلة مثلاً؟ فالمعلم ـ وعن طريق اتحاده المهني ـ يستطيع ان يفرض اجورا عالية على تعليمه ابناء النظام الاجتماعي ، والقاضي في النظام الرأسمالي يقبض اجوراً من افراد الطبقتين عن طري واردات الضريبة الحكومية. فاين موقع هؤلاء الافراد في الصراع الاجتماعي؟ وهل يصح تصنيفهم ضمن الطبقة الرأسمالية او الطبقة العمالية؟ هنا تعجز النظرية الماركسية في الاجابة على هذا السؤال.

وهذا العجز والفشل ليس الاول الذي منيت به الفكرة الماركسية ، بل ان فشلها الرئيسي تمثل في عجزها عن التنبؤ بظهور طبقة وسطى في المجتمع الرأسمالي ؛ وان افراد هذه الطبقة لا يعملون بالضرورة ضمن توجه الطبقة

__________________

(١) (آنتوني اوبرشال). الصراع الاجتماعي والحركات الاجتماعية. انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، ١٩٧٣ م.

٥٣

الرأسمالية وخدمة مصالحها. فاساتذة الجامعات ، والعاملون في الحقول الطبية من بحوث وتطبيب وتمريض ، والعاملون في خدمات النقل البري والجوي والبحري يعملون اما على اساس الدخل الشخصي او يعملون كموظفين لشركات كبيرة مملوكة من قبل افراد عديدين عن طريق الاسهم والسندات. بل ان الكثير من العمال هم في الواقع افراد من ذوي المهن الحرة ، الفردية الاتجاه (١) ، كالبقالة والحلاقة وتصليح وسائل النقل وبيع المنتوجات الزراعية والصناعية ونحوها. ولا ينتقل فائض الثروة التي ينتجها هؤلاء الافراد الى يد الطبقة الرأسمالية بل يذهب هذا الفائض الى منفعة نفس العمال ومصلحتهم مباشرة.

أمّا ملكية وسائل الانتاج التي تتحدث عنها النظرية الماركسية فانها وان كانت موجودة في عالم اليوم ، الا ان العديد من هذه المؤسسات الصناعية الكبيرة تقع تحت ملكية الألوف من اصحاب الاسهم والسندات ، وتدار من قبل موظفين يتقاضون اجوراً معينة على جهدهم وعملهم (٢). وفي نهاية المطاف ، توزع ارباح هذه المؤسسات على الاسهم ومالكيها بالتساوي. فتراكم الثروة في هذه المؤسسات اذن ، يختلف اليوم عما كان عليه الوضع الاقتصادي في القرن التاسع عشر. فملكية وسائل الانتاج تختلف حتماً عن السيطرة على وسائل الانتاج. فاين يضع (ماركس) هذه الطبقة الجديدة من مدراء الشركات ، وعلماء المختبرات ، والمحاسبين الذين يتقاضون اجوراً كبيرة على اعمالهم ولكنهم لا يسيطرون على وسائل الانتاج؟ وماذا يقول

__________________

(١) (بيتر بلاو). السلطة والتبادل في الحياة الاجتماعية. نيويورك : وايلي ، ١٩٦٤ م.

(٢) (دوناد ترايمان). الوظائف الرفيعة في دراسة مقارنة. نيويورك : المطبعة الآكاديمية ، ١٩٧٧ م.

٥٤

(ماركس) عن موقع الطبقة الوسطى في الصراع الاجتماعي ودورها بالثورة على النظام الرأسمالي الحاكم؟

هنا ، تحتاج النظرية الماركسية الى اعادة نظر في منهجها الفكري العام. فبروز دور الطبقة الوسطى في الصراع الاجتماعي ، جعل تنبؤ الماركسية بحتمية الصراع الطبقي بين الرأسمالية والبروليتاريا ، مجرد وهم لا يستند على واقع موضوعي. وظهور فكرة شراء الأسهم والسندات من قبل مختلف الافراد لوسائل الانتاج العملاقة ، ساهم في ضرب الفكرة الماركسية ايضا ؛ لان السيطرة على جزء من وسائل الانتاج اصبحت بيد افراد الطبقة الوسطى ، وليست بيد الطبقة الرأسمالية كما كانت تؤكد عليه نظرية (ماركس).

وهذا الاخفاق في تحديد هوية الطبقات الاجتماعية جعل النظرية الماركسية تحتضر وهي تعيش ايامها الاخيرة وعاجزة عن تفسير معنى انعدام العدالة بين الطبقات الاجتماعية ، معترفة ان حتمية الصراع الاجتماعي التي كانت تنادي بها اصبحت مجرد فكرة نظرية ، ليست لها قيمة عملية خصوصا بعد بروز الطبقة الوسطى كطبقة لها دورها المهم في المجتمع الرأسمالي.

٥٥

رأي المدرسـة التـلفـيقـية (التوفـيقـية ـ الماركسيـة)

ولما كان موقف المدرستين التوفيقية والماركسية بخصوص تحليل منشأ انعدام العدالة الاجتماعية واضح الضعف ، قصير النظر ، في فهم المشكلة الاجتماعية ، فقد طفت على سطح الفكر الاوروبي تيارات معاصرة حاولت الجمع والتلفيق بين آراء المدستين ، والخروج بمنهج موحد لمعالجة مشكلة انعدام العدالة الاجتماعية. حيث آمن هذا الاتجاه الجديد (١) بصواب رأي المدرسة التوفيقية القائل بان المجتمع لايمكن ان يحيا بصورة طبيعية ما لم تتم مقابلة حاجات المجتمع الاساسية من الخبرات وغيرها بالادوار التي يتطلبها. وعلى ضوء مقابلة تلك الحاجات مع الادوار المختلفة ، فقد اختلفت قيمة المكافآت الاجتماعية للعمال والخبراء. ثم زعم بصواب رأي المدرسة الماركسية التي تقول بحتمية الصراع الاجتماعي للمحافظة على ديناميكية المجتمع الانساني ، باعتبار ان توفر الخيرات بشكل يفيض عن حاجة المجتمع ، سيؤدي حتماً الى التنافس والصراع الاجتماعي. ولما كان المجتمع يتطور بصورة دائمية فان انعدام العدالة سيتناسب مع حجم الثروة التي سينتجها المجتمع ، فاذا كانت الثروة كبيرة اصبحت الهوة بين الطبقة

__________________

(١) (جيرهارد لنسكي). القوة والامتيازات : نظرية في انعدام العدالة الاجتماعية. نيويورك : ماكرو ـ هيل ، ١٩٦٦ م.

٥٦

المحرومة والطبقة الغنية اوسع واكبر. واذا كانت الثروة الفائضة قليلة فسيكون التفاوت بين الطبقات اقل. فالمجتمعات البدائية التي كانت تفتقر الى الثروات ، كانت تسودها العدالة الاجتماعية ؛ لان التنافس في تلك المجتمعات كان معدوماً ، بسبب عدم توفر الثروة المالية. اما في المجتمعات المتطورة فان وسائل الانتاج العملاقة وادرار الثروة هي التي خلقت جواً من الطمع والجشع الانساني الذي ادى الى سوء توزيع هذه الثروة بين افراد الطبقات الاجتماعية.

نقد رأي المدرسة التوفيقية ـ الماركسية

ذكرنا في نقد موقف المدرسة التوفيقية ان المكافآت الاجتماعية التي يبشر بها المذهب التوفيقي لا تتناسب ـ في اغلب الاحيان ـ مع الأدوار التي يقوم بها الافراد في المجتمع الانساني ، مما يؤدي الى سوء توزيع الثروة الاجتماعية ، ويمهد الطريق لخلق طبقات ثرية متخمة واخرى فقيرة معدمة. اما التنافس والصراع الذي اشارت اليه المدرسة الماركسية ، فسببه بالاصل انعدام الوازع الاخلاقي. فاذا ما وجد ذلك الوازع الاخلاقي الذي يتحسس لآلام المعذبين ، اصبح التنافس الاقتصادي عملية يقوم بها الفرد من اجل التكامل الاجتماعي لا مجرد تكديس الاموال.

وزيادة الثروة في المجتمع ، ليست بالضرورة عاملا من عوامل نشر

٥٧

الظلم والحرمان الاجتماعي ، فزيادة الثروة وحسن وعدالة توزيعها تؤدي الى رخاء اجتماعي يساهم في رفع الحيف عن المظلومين والمحرومين ؛ لان العدالة الاجتماعية ترتبط في الاصل بنظام يساهم في توزيع عادل للثروة ، ولا يرتبط بالزيادة المالية نفسها. وهناك شواهد تاريخية عديدة تؤكد صدق هذا الرأي ، كما ورد في كتب التاريخ عن رجوع الصدقات الى بيت المال في صدر الاسلام ؛ لان الثروة المالية انتشرت عن طريق التوزيع بين عدد كبير من الافراد ولم تتكدس بايدي جماعة محدودة العدد.

ولاشك ان زعم الفكرة التوفيقية القائل بانه لا حياة للمجتمع الرأسمالي ما لم تتم فيه مقابلة حاجاته الاساسية من الخبرات بالادوار التي يتطلبها ذلك المجتمع لا يتطابق تطابقاً تاماً مع الحقيقة. فالتمييز العنصري القائم على اساس المنشأ واللون والدين الذي كان يمارسه المجتمع الصناعي في القرن التاسع عشر يفند هذا الادعاء. فقد كان الافراد البيض يرفضون استلام العلاج من طبيب اسود مثلاً ، بسبب لون بشرته (١) ، فكيف تقابل اذن ـ حسب ادعاء النظرية التوفيقية ـ حاجات المجتمع الاساسية مع الادوار الاجتماعية ، عن طريق استخدام قاعدة التمييز بين الافراد على اساس اللون والمنشأ والدين؟ وفي دول كثيرة من العالم ، لا يشغل السياسي الكفوء محله الطبيعي في الحكم والادارة بسبب معارضته للنظام السياسي. فكيف تفسر هذه المدرسة ، مقابلة حاجات المجتمع الاساسية مع الادوار المطلوبة في هذا

__________________

(١) (رالف داريندورف). الطبقة والصراع الطبقي في المجتمع الصناعي. بيركلي ، كاليفورنيا : مطبعة جامعة ستانفورد ، ١٩٥٩ م.

٥٨

المثال؟ بل كيف تفسر هذه المدرسة فارق الاجور بين الرجال والنساء في النظام الرأسمالي اليوم ، مع ان كل منهما يستطيع سد الشواغر الاجتماعية التي يحتاجها المجتمع بكل كفاءة (١)؟ أليس هذا الفارق في الاجور تناقضاً واضحاً للفكرة التوفيقية القائلة بان الاجر يجب ان يتناسب مع منفعة العمل للنظام الاجتماعي؟ أليس عمل المرأة في الطب يدر نفعاً اجتماعياً مشابهاً لعمل الرجل في نفس الاختصاص؟ اذن لماذا تختلف اجور الرجل عن اجور المرأة لنفس المهنة النافعة للنظام الاجتماعي؟

وهذه التساؤلات المهمة التي عجزت النظرية التوفيقية ـ الماركسية عن الاجابة عليها ، وضعت تلك النظرية في موقف لا تحسد عليه. فالنظرية تؤيد ايجابيات الماركسية وتتحمس بقوة للنظام الاجتماعي الرأسمالي ، وتعتبر مؤسساته المختلفة متضافرة من اجل الانسجام الاجتماعي ، ولكنها تقف حائرة امام التناقضات الفكرية والمبدأية التي يعاني منها ذلك النظام. وهذا الخلل يعتبر من اهم نقاط ضعف هذه النظرية.

__________________

(١) (دوناد ترايمان) و (هيدي هارتمان). النساء ، العمل ، والاجور ، واشنطن دي سي : الاكاديمية القومية للعلوم ، ١٩٨١ م.

٥٩

نظرية (ماكس وبر) والرد عليها

ولم يمنع اعجاب الطبقة العاملة والمثقفة الاوروبية في القرن التاسع عشر بأفكار (كارل ماركس) ، من تكثيف الجهود العملية لمناقشتها ونقدها ، والتشكيك بسلامة اسسها الفكرية. وكان من رواد هؤلاء الذين انتقدوا نظرية (كارل ماركس) في تحليل العلاقات الاجتماعية على ضوء الصراع الطبقي : العالم الاجتماعي الآلماني (ماكس وبر) ؛ حيث قدم خلال نقده لافكار (كارل ماركس) نظرية جديدة مناقضة تماما للنظرية الماركسية (١). وتتلخص نظرية (ماكس وبر) بالقول بان فكرة نشوء الطبقات الاجتماعية لاتحصل نتيجة الصراع الطبقي ، بل تحصل نتيجة تداخل عوامل ثلاثة وهي : الاول : العامل الاقتصادي (الثروة) ، والثاني : العامل السياسي (القوة) ، والثالث : العامل الاجتماعي (المنزلة الاجتماعية).

فاذا اردنا معرفة الطبقة الاجتماعية لـ « معلم المدرسة » مثلاً ، فما علينا الا ان نحسب ثروته المالية ونلاحظ قوته السياسية ونلمس منزلته الاجتماعية ، ثم نحكم من خلال هذه العوامل الثلاثة على موقعه في الطبقات الاجتماعية. فاذا كانت ثروته المالية متوسطة مثلاً ، وقوته السياسية ضعيفة ، ومنزلته الاجتماعية متوسطة ، اصبحت طبقته الاجتماعية متوسطة ـ دنيا. ولا شك ان

__________________

(١) (اج. اج. كيرث) و (سي. رايت ميل). ماكس وبر : بحوث في علم الاجتماع. نيويورك : مطبعة جامعة آكسفورد ، ١٩٤٦ م.

٦٠