العدالة الإجتماعية وضوابط توزيع الثّروة في الإسلام

الدكتور زهير الاعرجي

العدالة الإجتماعية وضوابط توزيع الثّروة في الإسلام

المؤلف:

الدكتور زهير الاعرجي


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣

وجه.

٢ ـ ( الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون ) (١).

٣ ـ وعن رسول الله (ص) : (اعدل الناس من رضي للناس ما يرضى لنفسه ، وكره لهم ما يكره لنفسه) (٢).

٤ ـ قال رجل للنبي (ص) : احب ان اكون اعدل الناس ، قال (ص) : (أحبّ للناس ما تحبّ لنفسك تكن أعدل الناس) (٣).

٥ ـ وعن الامام علي (ع) : (العدل نظام الأمر) (٤).

الصنف الثالث : حول الميزان باعتباره اداةً من ادوات تحقيق العدالة الاجتماعية :

١ ـ فقد ورد في النص المجيد : ( فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولاتفسدوا في الارض بعد اصلاحها ) (٥).

٢ ـ ( ويل للمطففين الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون واذا كالوهم او وزنوهم يخسرون ... ) (٦).

٣ ـ وعن رسول الله (ص) : (التاجر الصدوق الامين مع النبيين

__________________

(١) الانعام : ٨٢.

(٢) بحار الانوار ج ٧٥ ص ٢٥.

(٣) كنز العمال. ح ٤٤١٥٤.

(٤) غرر الحكم.

(٥) الاعراف : ٨٥.

(٦) المطففين : ١ ـ ٣.

٢١

والصديقين والشهداء) (١).

الصنف الرابع : حول المال ودوره في اشباع حاجات الناس :

١ ـ فقد ورد في النص المجيد : (وآتوهم من مالِ اللهِ الذي آتاكم ) (٢).

٢ ـ ( ... كي لا يكون دولةً بين الاغنياء منكم ) (٣).

٣ ـ وفي شرح ابن ابي الحديد في ذكر بيعة الناس لامير المؤمنين ، انه (ع) قال : ( ... فأنتم عباد الله ، والمال مال الله ، يقسم بينكم بالسوية لا فضل فيه لأحد على أحد ) (٤).

٤ ـ ومن كلام له (ع) لما عوتب على التسوية في العطاء : (أتأمروني ان اطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه! والله لا أطور به ما سمر سمير ، وما أمّ نجم في السماء نجماً! لو كان المال لي لسوّيت بينهم ، فكيف وإنما المال مال الله!) (٥).

٥ ـ وعن حفص بن غياث ، قال : سمعت ابا عبد الله (ع) يقول وقد سُئل عن قسمة بيت المال : (أهل الاسلام هم ابناء الاسلام أسوي بينهم في العطاء ، وفضائلهم بينهم وبين الله ، اجعلهم كبني رجل واحد لا يفضل أحد منهم لفضله وصلاحه في الميراث على آخر ضعيف منقوص) (٦).

٦ ـ ولّى امير المؤمنين (ع) بيت مال المدينة عمار بن ياسر وابا الهيثم بن

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ١٤٤.

(٢) النور : ٣٣.

(٣) الحشر : ٧.

(٤) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ٧ ص ٣٦ ـ ٣٧.

(٥) نهج البلاغة ، خطبة ١٢٦.

(٦) الوسائل ج ١١ ص ٨١.

٢٢

التيهان فكتب : (العربي والقرشي والانصاري والعجمي وكل من في الاسلام من قبائل العرب واجناس العجم [ سواء ]. فأتاه سهل بن حنيف بمولى له اسود ، فقال : كم تعطي هذا؟ فقال له أمير المؤمنين (ع) : كم أخذت أنت؟ قال : ثلاثة دنانير وكذلك أخذ الناس ، قال : فأعطوا مولاه مثل ما أخذ ثلاثة دنانير) (١).

٧ ـ وعن الامام الصادق (ع) : (إن الله تبارك وتعالى أشرك بين الاغنياء والفقراء في الاموال ، فليس لهم أن يصرفوا الى غير شركائهم) (٢).

٨ ـ ومن كتاب له (ع) الى قثم بن العباس وهو عامله على مكة : ( ... وانظر الى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه الى من قِبلكَ من ذوي العيال والمجاعة ، مصيباً به مواضع الفاقة والخلات ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا ) (٣).

٩ ـ وروى مجمع التيمّي ، قال : كان علي (ع) يكنس بيت المال كل جمعة ، ويصلي فيه ركعتين ، ويقول : (ليشهد لي يوم القيامة) (٤).

ولعل اهم مصاديق العدالة الاجتماعية في النظرية الامامية هو فكرة الامام المهدي (عج) وظهوره المرتقب ، كما ورد عن رسول الله (ص) حول ذلك : ( ... حتى يدفعوها الى رجل من اهل بيتي فيملأ الارض عدلاً كما ملؤها ظلماً ... ) (٥). وهي دعوة صريحة واضحة لبناء النظام الاجتماعي القائم

__________________

(١) بحار الانوار ج ٤٠ ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) وسائل الشيعة ج ٦ ص ١٥٠.

(٣) نهج البلاغة ـ كتاب ٦٧.

(٤) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ٢ ص ١٩٩.

(٥) الملاحم والفتن لابن طاووس ص ٥٢.

٢٣

على اساس العدالة الاقتصادية والسياسية بين جميع الافراد.

المبدأ الثالث : ان الاختلاف بين الفاضل والمفضول في الشريعة الاسلامية يعكس الاختلاف في القدرات العقلية والجسدية بين الافراد. وقد ورد في النص المجيد ما يشير الى ذلك : ( وضرب مثلا رجلين احدهما أبكم لايقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه أينما يوجّهه لايأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراطٍ مستقيمٍ ) (١) ، (أفمن يهدي الى الحق أحق أن يتّبع أمّن لا يهدّي إلا ان يُهدى فما لكم كيف تحكمون ) (٢). والمعنى ان الله عز وجل نفى التساوي بين الافراد الذين خلقهم ، تماماً كما نفى التساوي بين الخالق والمخلوق. ولاشك ان التفاضل في الرزق ، والتفاوت في القدرة على التصرف بالمال يعتبران من السنن التكوينية وجزءً لا يتجزّأ من التصميم الالهي للخلق والتكوين. الا ان هذا التفاضل التكويني لا يترك آثاره الاجتماعية الا على صعيد ترجمة ذلك التفاضل الى منفعة يقدمها الفاضل للمفضول. بمعنى ان الرزق ـ الذي منحه الخالق الى الفاضل ـ اذا لم يخرج منه الحق الشرعي ويسلمه للمفضول ، اصبح ذلك الرزق نقمة آلهية على الفاضل. وعلى ضوء ما ذكرناه ، فان التفاضل التكويني ، والاختلاف في القدرات العقلية والجسدية انما تؤديان ثمارهما العملية على الصعيد الاجتماعي ، اذا التزم الافراد بتطبيق مفردات الشريعة الاسلامية فحسب ؛ والا اصبحت تلك الاختلافات من موارد

__________________

(١) النحل : ٧٦.

(٢) يونس : ٣٥.

٢٤

انعدام العدالة الاجتماعية.

ومن دراسة هذه الآيات الكريمة والروايات نستطيع ان نستنتج مبدأين مهمّين من مبادىء النظرية الاسلامية في (العدالة الإجتماعيّة).

الاول : اطروحة العدالة الانسانية بين جميع الافراد على وجه الارض. فوراء كل الفروقات في القدرات العقلية ، والقابليات ، والاعراف الاجتماعية المقرّرة ، لابد وان تكون هناك طبيعة انسانية يحملها الافراد نحو فعل الخير والشعور العميق بان الكل متساوون امام خالقهم العظيم وامام نظامهم الاجتماعي الإلهي فيما يتعلق بالحقوق والواجبات.

الثاني : ان اطروحة النظرية الاسلامية في العدالة الاجتماعية اشمل من اطروحات النظريات الغربية. ففي حين كانت النظريات الغربية في القرون الثلاثة الاخيرة تناقش التفاضل الاجتماعي بين البرابرة والاغريق ، او افضلية بعض الاجناس البشرية على غيرها ، كانت الاطروحة الاسلامية تدعو الى العدالة الاجتماعية بين العبيد والاحرار (عن طريق تحرير العبيد) ، وبين الفقراء والاغنياء ، وبين النساء والرجال ، وبين الملوّنين وغير الملوّنين.

والمشكلة الفلسفية تكمن فأنّه لو افترضنا ان جميع الافراد يملكون مستوىً واحداً من التحليل العقلائي ، وصورة متقاربة للنفس البشرية ، ومواصفات أخرى حول الطبيعة الانسانية ؛ فما هي الدرجة التي تتساوى فيها اختلافات الافراد في تلك الخصائص الطبيعية؟ لم تتقدم نظرية فلسفية او اجتماعية للإجابة الشاملة على هذا السؤال ، عدا النظرية الدينية الاسلامية التي كشفت لنا خصائص النفس الانسانية في فعل الخير وفعل

٢٥

الشر ، كما ورد في النص المجيد : (ونفسٍ وما سواها فألهمها فجورَها وتقواها ) (١). فالانفس الانسانية الخاصة بالافراد متساوية بالاصل في الحد الادنى للفهم والادراك والعلم والحكمة وتحمّل المسؤولية ، ولكن الاختلاف ينشأ عندما يتغير توجه الافراد نحو فعل الخير او فعل الشر او تركهما معاً. ولذلك فان الاسلام ينادي بالعدالة الحقوقية باعتبار ان الافراد يجب ان يعاملوا بالتساوي على ضوء اعمالهم وحاجاتهم ، لا انهم متساوون بالمعاملة امام الدولة في هذه الحياة ، وامام الخالق العظيم يوم القيامة. وهذا الفرق مهمّ ، لانّنا سوف نظلم الافراد لو افترضنا ان من الحق النظر اليهم بصورة متساوية بالطبيعة ، اي بِغَضِّ النظر عن اعمالهم وقدراتهم. اما لو افترضنا ان مقياس العدالة هو ان يعاملوا بالتساوي مع ملاحظة الفروقات المتباينة في شخصياتهم وقابلياتهم ، فان تلك هي اقرب الصور الواقعية للانصاف والعدل ؛ وهو ما دعى اليه الاسلام تماماً.

وعلى ضوء ذلك ، فان العدالة الاجتماعية في الاسلام تتطلب ملاحظة الفروقات في شخصيات وقدرات وقابليات الافراد ، ولا تلحظ انهم متساوون بالاصل فتظلمهم دون علم. ومن اللافت للنظر ان النظريات الغربية جميعاً قد وقعت في هذا الفخ ، حيث نادت بالمساواة لا في التعامل الاجتماعي فحسب ، بل بالمساواة في اصل نشوء الافراد كما لاحظنا ذلك خلال مطالعاتنا السابقة لآراء (جيفرسون) و (روسو) و (كانت). وهو بلاشك يؤكد على كمال الرسالة الإلهية ، وضعف مقالة تلك النظريات

__________________

(١) الشمس : ٧ ـ ٨.

٢٦

الغربية.

ولا بد لنا من التأكيد على قضية مهمة وتكرارها مراراً ، وهي ان مناطق الفراغ التشريعي الخاصة بشروط التغير الاجتماعي والتي تركتها الشريعة للفقهاء المجتهدين بقصد مسبق ، انما تملأ عن طريق ملاحظة الارتكاز العقلائي. باعتبار ان الشريعة امضت الارتكاز العقلائي الذي يصاحب التغيير الاجتماعي المستمر على مدى السنين. فالعدالة الاجتماعية ضرورية للافراد والدولة ، الا ان تحديد تفصيلاتها الدقيقة ـ في غير ما ذكر في المفردات الفقهية ـ يرجع الى الارتكازات العقلائية التي يلحظها الفقيه خصوصاً فيما يتعلق باشباع الحاجات الأساسية للأفراد التي لم تكن موجودة في عصر الرسالة كالنقل والتطبيب والتعليم المدرسي العام.

أضف الى ذلك ان العدالة الاجتماعية لا تقتصر على اشباع الحاجات الغريزية ، بل تتعدى الى العدالة الحقوقية في افساح الفرص لجميع الافراد لاستثمار الخيرات الاجتماعية ، وفي حرية التعبير ايضاً. وحتى ان افكار بعض الفلاسفة الاوروبيين امثال (دي دي رافائيل) و (كريكي فالدستوس) (١) ، حول العدالة الاجتماعية المثالية بتصحيح اختلاف قابليات الافراد وقدراتهم الطبيعية عن طريق تشريع سياسة اجتماعية تقلّل من المكافآت الاجتماعية والاقتصادية التي يستلمها هؤلاء ، فيها الكثير من الاخطاء. لأنّنا لا نستطيع ان نمحي التفاضل الاجتماعي بين الافراد على اساس قابلياتهم الإبداعية ،

__________________

(١) (ساند فورد لاكوف). المساواة في الفلسفة السياسية. كامبردج ، ماساشوستس : مطبعة جامعة هارفارد ، ١٩٦٤ م.

٢٧

لأنّنا لو فعلنا ذلك لظلمنا اولئك المبدعين ، ولم نعدل في الوقت نفسه مع غير المبدعين. ولكن القضية الحاسمة هنا ـ والتي أكّدها الاسلام اكثر من مّرة ـ ان التفاضل يجب ان يكون عادلاً. فبدلاً من إلغاء التفاضل بين الافراد لابد لنا من تحديد صيغة تفاضلية عادلة تأخذ بنظر الاعتبار قابليات الافراد الابداعية. وعلى ضوء ذلك ، جعل الاسلام في اموال الاغنياء حقاً ثابتاً للفقراء ، وبذلك فهو لم يلغ التفاضل الاجتماعي ، بل وضع له ضريبة ثابتة تدخل في دائرة منفعة الافراد الذين لم يولّدوا مبدعين ، او الافراد الذين خانهم الحظّ في التوفيق الاقتصادي والاجتماعي.

٢٨

محاولة ابتدائية لإكتشاف علم الاجتماع الاسلامي

لا شك ان النفس الانسانية تتكون من جزءين مهمين يشكلان جوهرها وكيانها المتميز في الوجود. ولنصطلح على هذين الجزءين ـ على سبيل الافتراض ـ بمصطلحين هما : اولاً : ذاتية الفرد. وثانياً : شخصيته الخارجية. فذاتية الانسان كيان موضوعي طبيعي مرتبط بالخالق عز وجل ، تستلهم منه (تلك الذات) كل معاني السمو والقوة والكمال. فتستطيع ذاتية الفرد السمو الى آفاق رحيبة في عالم الروح والوجدان ؛ فهي الفطرة الطبيعية التي تميل نحو التعلّق بخالق الوجود ، والتشبّث بمعرفة حدود الكون ، والتشوّق نحو معرفة النظام التكويني للمخلوقات. ولا ريب ان الرسالة السماوية تساهم بشكل فعال في تربية ذاتية الانسان ، وفي دفعها نحو حبّ الخير والتنعم بالجمال الروحي من خلال التعبد وممارسة الطاعات المأمور بها المكلف الجامع لشروط التكليف.

اما شخصية الانسان فهي الكيان الموضوعي الخارجي الذي يبنى من خلال إطار تطبيق الاحكام الشرعية الخاصة بالنظام الاجتماعي. بمعنى ان إنزال الاحكام الشرعية التي تنظم العلاقات الشخصية بين الافراد في المجتمع الى الواقع العملي ، يبني شخصية الفرد بناءً محكماً على الصعيد الاجتماعي. فاذا كانت شخصية الفرد شخصية دينية ، اصبح كيان ذلك الفرد ركناً مهماً من اركان النظام الاجتماعي ؛ لان شخصية الانسان بطبيعتها

٢٩

اجتماعية المنشأ ، اي لا بد لها من التعاون مع الآخرين بهدف انشاء مجتمع متكامل يعيش فيه الفرد بجوٍّ من الاطمئنان والسعادة.

وامام هذين الجزءين في النفس الانسانية تنبع اهمية الرسالة السماوية في بناء النظام الاجتماعي الانساني. فلو كانت النظرية الدينية تهتمّ بالجانب الذاتي للإنسان فقط ، لما كان للدين تلك الأهمية في تنظيم حياة الفرد. فما معنى سمّو الفرد وارتباطه بالخالق عز وجل على الصعيد الروحي ، اذا كان النظام الاجتماعي مسيراً من قبل اعداء النظرية الدينية ومنتهكي حرمة العدالة الاجتماعية؟ بل كيف يؤدي الدين رسالته الاجتماعية في تهذيب الافراد اذا لم تحمل مضامينه الشرعية تكليفاً صريحاً بتنظيم النظام الاجتماعي؟

اذن ، فان الحاجة الى نظام اجتماعي لإسعاد الانسانية ، وإشباع حاجاتها الأساسية ، يدعونا الى فهم الدين على اساس ان رسالته الاجتماعية يجب ان تكون جزءاً من التصميم الالهي للوجود ؛ بمعنى ان الرسالة الدينية وان كانت تبعث في النفس البشرية الخشية والرهبة من الخالق عز وجل ، لكنها لا تستطيع ان تنظم مجتمعاً عادلاً ما لم يكن لها اطار اجتماعي يلزم الافراد الزاماً جماعياً نحو ممارسة السلوك الاخلاقي المقبول على الصعيد الشرعي ؛ لان حرية الانسان المطلقة في الافعال ، تعتبر احد مصادر تدمير النظام التكويني وتخريب الوجود على الارض ، وان نزعة الانسان نحو الشر اذا لم يوقفها عامل غيبي او ديني تصبح من اهم مصادر زعزعة النظام الحياتي بقسميه التكويني والاجتماعي في هذه الدنيا الصاخبة.

ومن هنا جاءت اخلاقية القوانين الاجتماعية للنظرية الدينية من اجل

٣٠

ترسيخ التجانس والتلاصق الاجتماعي بين الافراد ، رابطة هؤلاء الافراد جميعا بالسلطة الاخلاقية المطلقة وهو الله سبحانه وتعالى. ولما كانت للخالق عز وجل السلطة الغيبية على الافراد ، تعين ان يكون لرسله او من يمثلونهم سلطة دنيوية ؛ لان القانون لا يطبق ما لم يلزم الافراد بتطبيقه تطبيقاً كاملاً. وهذا الالزام الاجتماعي لا يتم الا على صعيدين ؛ الاول : الالزام الداخلي الذاتي. والثاني : نظام العقوبات. اي ان الفرد اذا حدثته نفسه بانتهاك حرمة القانون الاجتماعي ضمن اطار النظرية الدينية ، تعين عليه ان يتوقع ما يستحقه من نتائج وخيمة على مستوى ذلك الانحراف. وهنا لا تذوب الشخصية الفردية في المصلحة الاجتماعية ، كما تزعم النظرية الغربية ؛ بل ان الالزام الداخلي للفرد ، والحزم في العقوبة النازلة بالمنحرف يضمنان ـ بشكل قاطع ـ حقوق الافراد وحرّيّاتهم في التصرف السلوكي السليم ، ويرعيان حقوق الجماعة والنظام الاجتماعي من الانتهاك. اي ان النظرية الاجتماعية الاسلامية تحفظ شخصية الفرد من قيود النظام الاجتماعي ، وتنمي ذاتيته المتصلة بمصدر الاخلاق المطلق وهو الله سبحانه وتعالى ، وتمد الكيان الاجتماعي بكل عناصر القوة والديمومة والحياة ، حتى يتنعّم الفرد بأكمل اشكال الحياة الاجتماعية على وجه الارض.

ولا ريب ان اكبر المشاكل التي واجهتها النظرية الاجتماعية الغربية ، هو ماهية الربط بين الفرد والمؤسسات الاجتماعية. بمعنى آخر ، هل يستند الرابط بين الفرد والنظام الاجتماعي على قاعدة الاخلاق والالزام الاخلاقي ، ام يستند على قاعدة الدين والالزام الديني؟ ولم يزل الصراع بين انصار المدرستين الغربيتين (الاخلاقية والدينية) دائراً حتى انتصرت مدرسة

٣١

الالزام الاخلاقي بزعامة (جون دوي) (١) التي قالت بان الفرد ملزم اخلاقيا بتطبيق القانون الذي ينشئه النظام الاجتماعي ؛ لان هذا الالزام الاخلاقي لا ينشأ الا عن طريق العلم والمعرفة التي يكتسبها الانسان ؛ والخير او الشر ليس صفة للانسان ، بل انهما اثر من آثار تفاعل الطبيعة الانسانية مع المحيط والبيئة التي يعيش فيها الفرد. الا ان هذه المدرسة الاخلاقية تقع في خطأ واضح ؛ لانها تتجاهل حقيقة مهمة وهي ان لكل فرد استعداداً كامناً لفعل الخير او فعل الشر بغض النظر عن البيئة التي يعيش فيها الفرد ، وان الالزام الاخلاقي الذاتي الناشىء عن العلم والمعرفة لا يتحقق في الواقع الخارجي مالم تكن هناك سلطة ذاتية عليّاً تراقب النفس الانسانية ، وسلطة خارجية صارمة تعاقب المنحرف على انحرافه ؛ ولا تتكامل هاتان السلطتان الا في النظرية الدينية الاسلامية.

فمن استقراء النظرية الاجتماعية الاسلامية نستنتج حقيقة مهمة ، وهي ان الاسلام انما جاء باحكامه وتشريعاته لترتيب حياة البشرية ، عن طريق تنظيم الحياة الاجتماعية ، وجعل النظام الاجتماعي اساسا لسعادة الانسان. ولذلك قيل ان المرجحات الاصولية والفقهية المنصوصة هي مجرد وسيلة الى فهم الواقع الخارجي ، وليست غاية في نفسها ؛ بمعنى ان كل ما يقرب الانسان الى فهم واقعة الاجتماعي هو مرجح عند الفقيه سواء نص عليه الشارع او سكت عنه ، كما ورد في الحديث عن الامام الحسين بن علي (ع) : (دع ما يريبك الى ما لا يريبك) (٢). وعلى ضوء ذلك الفهم الاجتماعي

__________________

(١) (جون دوي). البحث عن اليقين. نيويورك : منتن ـ بالج ، ١٩٢٩ م.

(٢) انساب الاشراف للبلاذري. نسخة مخطوطة ص ٢٣٧ ب.

٣٢

للشريعة الاسلامية ، تتعامل الاحكام الشرعية مع قضايا النظام الاجتماعي وواقع الافراد الخارجي.

ومن اجل فهم النظرية الاجتماعية الاسلامية بالمقدار الذي تناولته بحوثنا في الفقه الاجتماعي ونقد النظرية الاجتماعية الغربية ، نورد النقاط التالية لتقريب اذهاننا نحو هذا اللون من الفكر الاجتماعي الخطير :

اولا : ان النظرية الاسلامية تؤكد على اصالة العدالة الاجتماعية بين الافراد. وهذا الاصل يتم عن طريقين ؛ اولهما : ان التفاضل بين الافراد في الاجور قائم على اساس بذل الجهد وقيمة العمل. وثانيهما : ان الثروة الاجتماعية يعاد توزيعها عن طريق استخراج زكاة وخمس الثروات الحيوانية والزراعية والنقدية من الاثرياء وتسليمها الى الفقراء. ولاشك ان الكفارات بشتى اشكالها ، وأضاحي الحج والصدقات المستحبة تسد حاجات الملايين من الافراد.

ثانيا : ان من اهم اهداف نظام العقوبات الجنائية هو ردع بقية الافراد عن ارتكاب انحرافات مماثلة. وتتمثل في معاقبة الانحرافات الخاصة بقتل النفس وما دونها بالقصاص او الديات او الارش ، والانحرافات المتعلقة بالملكية بالقطع اذا تحققت شروطها الشرعية ، والانحرافات الخلقية بالرجم والجلد ونحوها ، والانحرافات المتعلقة بالنظام الاجتماعي العام بالقتل والصلب او التعزير. وهذه العقوبات امضى تأثيراً من عقوبة السجن التي تؤمن بها النظرية الغربية ؛ فهي اضافة الى اطارها الرادع تحفظ للنظام الاجتماعي ثروته المالية والانتاجية ، لان المعالجة الفورية للانحراف ـ زيادة على قطعها دابر الجريمة ـ تبقي الافراد يعملون بجد ضمن حقولهم الانتاجية ،

٣٣

دون ارباك النظام الانتاجي للمجتمع. ودليلنا على كون المراد من هذه العقوبات الردع ، هو انه لم يحصل ولو لمرة واحدة في حياة النبي (ص) ان عوقب منحرف بالزنا عن طريق الشهود ، بل ان الذين حُدّوا انما حُدّوا بسبب اقرارهم فقط.

ثالثا : تأكيد النظرية الاسلامية على اصالة حق التعليم واكتساب المعارف الضرورية لكل فرد من اجل بناء النظام الاجتماعي خصوصا في المجالات التطبيقية كعلوم الزراعة والصناعة والطب والهندسة والفضاء ونحوها ، والمجالات النظرية كعلوم الدين واللغة والآداب. ويجب ان لا يتوقف الإنتهال من هذه العلوم على الاكتساب فقط ، بل ينبغي الابداع والتفوّق على بقية الأمم ، ومن امثلة الابداع تطوير الانظمة الاعلامية ، والتقنية ، والصحية بحيث تكون انظمة رائدة على الصعيد العالميِّ.

رابعا : اصالة الابداع في النظام الصحي الاسلامي. فلاشك ان اهمية المؤسسة الطبية في النظام الاجتماعي تنبع من ارتباط صحة وسلامة الفرد بالعمل الانتاجي. فالمجتمع السليم صحياً يكون اكثر قدرة على الابداع والانتاج الاقتصادي والاجتماعي. وتستند اصالة الابداع هذه على قاعدتين اهملهما النظام الصحي الغربي ، وهما : النظام الغذائي والنظام الوقائي. فالاعتدال في اكل اللحوم المحللة ، وحرمة تناول الميتة والدم والخنزير والخمر ونحوها تساهم في تقليل امراض الكبد والجهاز الهضمي وامراض القلب. ولا ريب ان المحافظة على البيئة من التلوث الصناعي يساعد هو الآخر على تقليل عدد امراض السرطان والرئة والجهاز التنفسي. واستعمال السواك والتخليل في تنظيف الاسنان يساهم في اجتناب

٣٤

امراض اللثة وتسوس الاسنان. ولا شك ان التذكية الشرعية بوضع الشروط للذباحة والصيد والاخراج من الماء يساهم هو الآخر في اجتناب امراض القلب والدورة الدموية ونحوها. اضافة الى ذلك ، فان النظرية الاسلامية تقرّ بضمان الطبيب ، وتجعله مسؤولا فيما اذا اتلف بعلاجه. ومن الطبيعي فان علاج الافراد طبياً ينبغي ان يكفل من قبل الدولة الاسلامية بناءً على السيرة العقلائية. ولابد ان يكون ذلك العلاج على قدر واحد من المساواة والعدالة بين الجميع.

خامسا : اصالة رعاية افراد الاسرة الواحدة. فالنظام العائلي في النظرية الاسلامية مصمم شرعاً من اجل سد حاجات الافراد المعاشية والعاطفية ضمن جدران البيت الواحد. وما وجوب الانفاق على الزوجة لمعاوضتها ، ووجوب الانفاق على الوالدين وان علوا والاولاد وان نزلوا لقصورهم ، وحقوق الرضاعة والحضانة والولاية الشرعية على الصبيان ، الا امثلة تساند فكرة الرعاية الشرعية للنظام العائلي الاسلامي. وبطبيعة الحال ، فان حقوق الزوجة في الصداق والنفقة الشرعية والعيوب الموجبة للخيار بين فسخ العقد وامضائه ، والخيار بالتدليس ، وشروط العقد الشرعية ، والارث ونحوها ، يضمن لها حياة سعيدة لا يقدمها لها اي نظام اجتماعي او ديني آخر.

سادساً : اصالة العلم والاجتهاد في القيادة السياسية الاسلامية في عصر الغيبة. وهي للفقيه الجامع للشروط الشرعية ، الذي يكون من واجبه ملء منطقة الفراغ الشرعية التي احدثها انتهاء عصر النص. واصالة المشاورة هو العلم والاختصاص ، الذي يرتبط نظرّياً بالجهاز التنفيذي في الحكومة الاسلامية. اما انتخاب اعضاء مجلس الشورى فانه يعتمد في الاصل على

٣٥

فكرة التوكيل السياسي ، وهي جائزة شرعاً لاطلاق ادلة الوكالة وعدم تقييدها بنوع معين من التوكيل. والجهاز القضائي مختص بالفقيه المجتهد ، فلا يتصدى للقضاء الا الفقيه المجتهد في الفقه والاصول. وعليه ، فانه يفترض ان يضم النظام السياسي الاسلامي نخبة علماء الامة ، واكثر الناس تطلعا وتشوقا نحو العدالة الاجتماعية بين الافراد ، واكثرهم تطبيقا للشريعة الاسلامية ، واكثرهم حلما لبناء الانسانية من تدميرها.

سابعا : اصالة الاجتهاد في النظام القضائي الاسلامي. فالقضاء هو بوابة حفظ حقوق الافراد الشخصية ، وحقوق الله المرتبطة تحقوق النظام الاجتماعي ؛ وجهاز بهذه الدرجة من الخطورة ، لابد وان يكون قائده مؤهلاً لتحمل المسؤولية بصورة موضوعية وبشكل نزيه وعلى درجة كبيرة من الفهم والادراك لأصول القضاء بين الافراد. لان الاصل في الحكم بين المتخاصمين هو براءة ذمة المتهم حتى يثبت العكس ، ولاشك ان الاصل دليل قوي ، والخروج عنه يحتاج الى دليل اقوى ، كما قال الفقهاء.

ثامنا : اصالة التكليف الشرعي للفرد المؤهل للتكليف ، على الصعيدين الشخصي والاجتماعي. فالفرد ملزم اخلاقياً بالقيام بدوره الاجتماعي في الحياة الدنيوية ؛ وعلى ضوء هذا الالزام يتحدد الجزاء الإلهي يوم القيامة.

تاسعا : ان اصالة الجهاد في النظام الدفاعي لحماية الدولة الاسلامية ، واصالة التبادل الاخلاقي في النظام الاقتصادي ، واصالة حرّيّة التعبير والتربية الاخلاقية في النظام الاعلامي ، واصالة بذل الجهد والابداع في النظامين الزراعي والصناعي ، واصالة التعبير في النظام الثقافي ، والسلوك الجمعي في الحج وتأثيره على التغيير الاجتماعي الانساني ، كلها تعكس

٣٦

تكامل النظرية الاجتماعية الاسلامية ؛ خصوصاً النظرية الفقهية الامامية التي منحت المجتهد فرصاً واسعة لبلورة النظرية الفقهية تمشياً مع التغيرات الاجتماعية المستمرة ـ التي هي جزء لا يتجزأ من النظام التكويني للخلق والمخلوقات ـ.

وقد حاولنا في بحوث متسلسلة مناقشة النظرية الاجتماعية الغربية الرأسمالية وتفنيدها علمياً ومنطقياً ، ونسف اسسها الفكرية المستندة على اصل استثمار رأس المال في الانتاج والتوزيع ، وتجميع الثروة الاجتماعية في الطرف المسيطر على وسائل الانتاج. ولا شك ان مناقشة النظرية الاجتماعية المستندة على القاعدة الرأسمالية في اختلاف المكافآت الاجتماعية بين الافراد وما يتبعها من نشوء نظام طبقي مصحوب بانعدام العدالة الاجتماعية ، يجعلنا مشكك بقدرة تلك النظرية على ان تكون شكلاً نموذجياً للنظام الاجتماعي المتوخى منه قيادة البشرية نحو شاطىء العدالة والأمن والسلام.

وبطبيعة الحال ، فان نقد النظرية الاجتماعية الرأسمالية ومحاولة تقديم نظرية اجتماعية على ضوء الاسلام ، تجعلنا اكثر ايمانا بان الرسالة السماوية ، ليست رسالة روحية فحسب ، كما يروّج اعداء النظرية الدينية لذلك ، بل انها رسالة اجتماعية عظيمة هدفها انشاء وتأسيس ارقى الانظمة الاجتماعية واعدلها على الارض ؛ خصوصا فيما يتعلق باشباع حاجات الافراد الاساسية في الطعام واللباس والعلم والتطبيب والامن والاجتماع الانساني القائم على اساس الاخوة ، وفسح المجال لحرية التعبير ، وتسهيل مهمة الانسان في عبادة الخالق عز وجل.

بيد ان المفردات الفقهية ، والكم الهائل من الروايات الشريفة ، والآيات

٣٧

القرآنية الكريمة ، ونتاج علماء الاسلام ومفكّريه ينبغي ان تساهم كلها في صياغة نظرية اجتماعية متكاملة تقدم للبشرية المعذبة ـ بكافة الوانها واشكالها ـ أملاً في تحقيق العدالة الاجتماعية. ان مسؤوليتنا الشرعية لاتنحصر في فهم المفردات الفقهية الشرعية فحسب ، بل تتعدى الى صياغة نظرية علمية تنظم شؤون مجتمعنا الاسلامي الجديد ، وتخاطب ـ بلغة العصر الفلسفية العلمية ـ شعوب الارض قاطبة ، وتهدف الى ايصال صوت العدالة الإلهيّة الى الانسانية المعذبة في كل مكان.

٣٨

اطـروحـة الـكـتاب

اهتمت النظريات الاجتماعية الغربية الحديثة والكلاسيكية بفكرة (العدالة الاجتماعية) زاعمة بان على الدولة والنظام الاجتماعي تحقيقها ضمن ضوابط الارتكاز العقلائي الأوروبي. فنادت (النظرية التوفيقية) بضرورة اختلاف أجور الافراد مقابل الاعمال التي ينجزونها بدعوى ان ذلك الاختلاف هو الذي يؤدي الى ثبات واستقرار النظام الاجتماعي. وطالبت نظرية (الصراع الطبقي) باعادة توزيع الثروة الاجتماعية عن طريق الصراع ضد الطبقة الرأسمالية الحاكمة ؛ لان انعدام العدالة الاجتماعية ما هو الا نتيجة حتمية للتراكم غير المشروع للثروة عند افراد الطبقة الرأسمالية. وحاولت (النظرية التلفيقية) الجمع بين محاسن النظريتين السابقتين ، فآمنت من جهة باختلاف الاجور والمكافآت الاجتماعية للعمال ، وآمنت من جهة اخرى بحتمية الصراع الاجتماعي للمحافظة على ديناميكية المجتمع. الا ان (ماكس وبر) في نظريته الجديدة رفض النظريات الثلاث السابقة ، زاعماً بان فكرة نشوء الطبقات الاجتماعية لا تحصل نتيجة الصراع الطبقي ، بل هي مجرد نتيجة تقاطع ثلاثة عوامل ، وهي : العامل الاقتصادي ، والسياسي ، والاجتماعي.

الا ان هذه النظريات الحديثة لم تعطنا صورة واضحة عن معنى (العدالة الاجتماعية) ، واساليب تحقيقها ، وطرق الزام الافراد او النظام الاجتماعي بالمشاركة في تثبيت اسسها. فالنظرية (التوفيقية) لم تفسر لنا ضوابط فوارق اجور العاملين في مختلف مجالات العمل الانساني ؛ ولم تعطنا تبريراً مقنعاً لدعمها نظام الاجور القائم ـ لا على اساس نوعية العمل المنجز ـ بل على اساس صفات العامل من حيث الطبقة والمنشأ ولون البشرة. ولم توفق نظرية (الصراع الاجتماعي) في التنبؤ بظهور طبقة اجتماعية متوسطة لاتخدم ـ بالضرورة ـ مصالح

٣٩

الطبقة الرأسمالية بشكل مباشر ، بل انها لم تتوقع حتى ظهور طبقة من الموظفين مهمّتها انجاز الخدمات الاجتماعية كالتعليم والطب والقضاء وليس العمل ـ بالضرورة ـ ضمن وسائل الانتاج العملاقة. اما (النظرية التلفيقية) فقد اهملت الضابط الاخلاقي لا في تحديد اجور العمل ، بل وحتى في تفسيرها لعملية الصراع والتنافس الاقتصادي. ومن اهم اخطاءها انها اعتبرت زيادة الثروة الاجتماعية سبباً من اسباب انعدام العدالة الاجتماعية ، وهو رأي مردود لان انعدام العدالة يرتبط بنظام توزيع الثروة الاجتماعية لا بحجمها. ولم تقدم نظرية (ماكس وبر) تفصيلاً لضوابط العدالة الاجتماعية ، بل انها فسرت نشوء الطبقات الاجتماعية على اساس جديد لم يطرح سابقاً.

وهذه النظريات الاجتماعية جميعاً جعلت النظام الرأسمالي محوراً لتوجهاتها وتحليلاتها على صعيدي السلب او الايجاب. وحتى نستطيع ان ننقد هذه النظريات على المستويين النظري والتطبيقي ، كان لابد لنا من دراسة فكرة (العدالة الاجتماعية) ومصاديقها في اكثر المجتمعات والانظمة تمسكاً بالفكرة الرأسمالية ؛ الا وهو النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة الذي يُدّعى انه محراب العدالة الاجتماعية. ولاشك ان البحوث التجريبية المطروحة في هذا الكتاب تثبت العكس تماماً. وهو ان النظام الرأسمالي الطبقي بما يمثله من تراكم للثروة في طرف وحرمان له في طرف آخر من اكثر الأنظمة الاجتماعية ظلماً واجحافاً بحقوق الانسان المادية والمعنوية. فلاريب ان نرى ان افقر فقراء العالم المعاصر يعيشون تحت ظل النظام الرأسمالي الامريكي ، في الوقت الذي نرى فيه ان اغنى اغنياء العالم يعيشون على نفس ارض ذلك النظام الاجتماعي ايضاً. الا ان هذا الفارق الشاسع في نظام الاجور والمكافآت الاجتماعية وتوزيع الثروة ترفضه الرسالة الدينية الإلهية بشكل قاطع.

فالاسلام لم يجعل الرابط التكويني بين الافراد مقدمة لفكرة (العدالة الاجتماعية) فحسب ، بل جعل التفاضل الإلهي بين الافراد صورة عاكسة لفكرة التعاون والتكاتف الاجتماعي لتحقيق تلك (العدالة) المنشودة. ولا شك ان تنوع الادوار الاجتماعية التي يقوم بها الافراد ينتج اختلافاً في درجات العيش ضمن الطبقة الواحدة التي أقرّها الاسلام ، وليس تعدداً للطبقات كما أكدّت على ذلك

٤٠