العدالة الإجتماعية وضوابط توزيع الثّروة في الإسلام

الدكتور زهير الاعرجي

العدالة الإجتماعية وضوابط توزيع الثّروة في الإسلام

المؤلف:

الدكتور زهير الاعرجي


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣

بين الافراد في الاسلام اذن ، يقع ضمن الطبقة الواحدة ، وليس بين الطبقات المتعددة. ولاشك ان التفاوت بين الدرجات ضمن الطبقة الواحدة اكثر عدلاً واقرب الى الواقع الانساني من التفاوت بين الطبقات الرأسمالية المختلفة ، كالطبقة العليا ، والطبقة المتوسطة ، والطبقة الفقيرة المعدمة. وهذا التفاوت بين الدرجات ضمن الطبقة الواحدة اقرب الى النظرية الاسلامية من نظام تعدد الطبقات الظالم.

وبطبيعة الحال ، فان الاسلام وضع لتسديد منهجه في تضييق الفوارق الطبقية ضوابط دقيقة ؛ حيث قرر ـ اولاً ـ اشباع جميع حاجات الافراد الاساسية بما فيه الكفاية من حيث المأكل ، والملبس ، والمسكن ، والخدمات الصحية ، وخدمات النقل العام. وقرر ـ ثانياً ـ ان للفقراء حقاً في اموال الاغنياء. ففرض ضرائب على الثروة الحيوانية والزراعية والمعدنية والنقدية ؛ وبذلك تعامل الاسلام مع صميم المشكلة الاجتماعية هادفاً ازالة اسباب الفقر والحرمان ، محاولاً اقتلاع جذور الفساد الاقتصادي الذي عانت منه البشرية لقرون طويلة. فالزكاة ، وهي الضريبة المحددة بنسبة مئويّة في الانعام الثلاثة : الابل والبقر والغنم ، وفي الغلات الاربع : الحنطة والشعير والتمر والزبيب ، وفي النقدين : الذهب والفضة ، تشبع الفقراء من المأكل والملبس وتسد حاجاتهم الاساسية الاخرى. والخمس ، الذي هو اخراج عشرين بالمائة من الواردات السنوية ـ خمس الغنيمة كانت او خمس الفائدة او الربح ـ يشتمل على عدة مصادر منها ، اولاً : المعادن المستخرجة من الارض بضمنها النفط والكبريت. ثانياً : ما يفضل من مؤونة سنة الافراد. ثالثاً : ما يخرج من البحار وما يعثر عليه من الكنوز. وهذا المقدار

١٢١

من الثروة الاجتماعية يغطّي حاجات الفقراء الواسعة ، ويرفع من مستواهم ويمنحهم فرصاً للعمل والانتاج ، ويساعد الدولة على بناء المدارس والمستشفيات ووسائل التدريب والتأهيل الاجتماعي. هذا اضافة الى ان الضرائب التي فرضها الاسلام كالصدقة الواجبة والكفارات والاضحية ، والضرائب التي شجّع الافراد على دفعها بدافع الاستحباب كالصدقة المستحبة والانفاق في سبيل الله ، ترفع حوائج المعدمين وتسد رمقهم وتشبعهم. وبالاجمال ، فان المجتمع الاسلامي يصرف اكثر من خمسة وعشرين بالمائة من وارداته على الطبقة الفقيرة في سبيل رفعها الى مستوى الطبقة الاجتماعية الواحدة التي يهدف الاسلام خلقها في المجتمع الانساني. وهذا الوارد الضخم الذي يخرج من جيب الطبقة الغنية ليدخل في دخل الطبقة الفقيرة ، يساهم مساهمة عظيمة في تضييق الفوارق الطبقية بين الافراد حتى يمحيها محواً من الخارطة الاجتماعية ، ويضع بدلها نظاماً انسانياً عادلاً مؤلفاً من طبقة موحدة مختلفة الدرجات ؛ بينما يصرف النظام الرأسمالي اثنين بالمائة فقط من وارداته على الفقراء كاعانات غذائية لاشباعهم ، او صحية لمنع تفشي الامراض بينهم. وان نظاماً كالاسلام يصرف ربع واردات افراده ومعتنقيه على الفقراء جدير بان يحقق اعلى درجات العدالة الاجتماعية في المجتمع البشري وجدير بقيادة العالم والبشرية المعذبة بعذاب الجوع والفقر والمرض نحو شاطئ الامان والعدالة والاستقرار الاجتماعي.

ووجود طبقة اجتماعية واحدة مختلفة الدرجات يحفّز العامل الذاتي لدى الافراد ، للاندفاع نحو العمل وبذل الجهد ، وتحصيل درجة اعلى في الطبقة

١٢٢

الواحدة المرجوّ نموّها. وهذا لايمثل نهباً لاموال الفقراء ، كما يحصل في النظام الرأسمالي (١) ، بل تشجيعاً لعمل العامل ومكافأة لجهده ومهارته في خدمة المجتمع والنظام الاجتماعي. ولا يؤدي وجود طبقة واحدة الى تقاعس العاملين ، كما تزعم الفكرة الرأسمالية (٢) ، بل ان اختلاف الدرجات ضمن الطبقة الواحدة يحفّز العمال على العمل والانتاج. وفي هذا الجو العام المليء باسباب التفاؤل والاستبشار يشعر الجميع بالمعنى الحقيقي للمساواة الاجتماعية والإخاء الانساني الذي يمثله الاسلام كتشريع الهي مصمم بالخصوص لسعادة الانسان وبناء الفرد والنظام الاجتماعي ، ضمن الصورة العبادية التي تربط الفرد بخالقه العظيم.

وهكذا تخالف النظرية الاجتماعية الاسلامية النظرية الرأسمالية القائلة بان انعدام العدالة الاجتماعية لها نواح ايجابية نافعة للنظام الاجتماعي (٣) ؛ لانه لايمكن تبرير انعدام العدالة باية منفعة اجتماعية تصب في صالح احدى الطبقات الرأسمالية ، حتى لو كانت تلك المنفعة متعلقة بتحفيز العمل وزيادة الانتاج. والا ، فما معنى زيادة الانتاج الصناعي في الوقت الذي تجوع فيه طبقة اجتماعية بكافة افرادها وتحرم من ابسط قواعد العيش الانساني الكريم؟ وهو تناقض واضح بين الايجابية المزعومة والعدل الاجتماعي. ولذلك فان الاسلام يرفض هذه الفكرة القائلة بان انعدام العدالة الاجتماعية

__________________

(١) (جورج كيلدر). الثروة والفقر. نيويورك : الكتب الاساسية ، ١٩٨١ م.

(٢) (دانيال روسيدس). النظام الطبقي الامريكي. بوستن : هوتن ميفلين ، ١٩٧٦ م.

(٣) (دنيس رونك). « النظرية التوفيقية في انعدام العدالة الاجتماعية : بعض الملاحظات المهملة ». مقالة علمية في (المجلة النقدية لعلم الاجتماع) ، عدد ٢٤ ، ١٩٥٩ م. ص ٧٧٢ ـ ٧٨٢.

١٢٣

يمكن جبره بزيادة الانتاج. وعلى ضوء ما ذكرناه ، فان الاجر والمكافأة في الدولة الاسلامية ينبغي ان يحدد من قبل لجنة دائمية تشكل لمراقبة الاعمال والخدمات التي يقوم بها الافراد ، وذلك بملاحظة الوضع العائلي للفرد العامل من حيث عدد افراد عائلته والمستوى المعاشي في المنطقة التي يسكن فيها ، وامتلاكه السكن ووسيلة النقل ؛ وعلى ضوء ذلك تحدّد اللجنة حدّاً ادنى وَحَدّاً اعلى للاجور. فاذا كان عمل الطبيب يمثل الحد الاعلى للاجور مثلاً ، وعمل الحذّاء يمثل الحد الادنى ، فعلى اللجنة ان تلاحظ ان الدولة يجب ان تضمن سد حاجة الحذاء اذا كان وارده لا يتناسب مع حاجيات افراد عائلته ، آخذة من الطبيب الحق الشرعي الخاص بالفقراء وهو عشرين بالمائة من فائض مؤونة سنته لسد حاجة ذلك الفقير. وبهذه الطريقة تضمن النظرية الاسلامية حق الافراد في الاندفاع نحو العمل والابداع ، وحق الفقراء الذين يخونهم التوفيق في النجاح العملي لضمان مستوى كريم للعيش. وبهذا الاسلوب تضيّق النظرية الاجتماعية الاسلامية الفوارق الطبقية ، وتفسح المجال للفقير بالنهوض الى مستوى الطبقة الاجتماعية الواحدة المؤمّل فيها ضم كل افراد المجتمع الاسلامي الكبير.

ولا شك ان اقرار الاسلام بالمساواة التامة في دفع المكافأة الاجتماعية لكل الافراد ـ مهما كان لونهم او جنسهم ـ يساعد على زيادة الانتاج الاجتماعي ، ويساهم في تمتين الاواصر النفسية بين العاملين. فالفرد ذو البشرة البيضاء لا يختلف عن نظيره من ذوي البشرة السوداء او الصفراء ، بل ان الكل سواسية امام رب العمل ، والمقياس في دفع الاجر هو الجهد المبذول وقيمة العمل ؛ وهذا هو عين المساواة. فقيمة عمل تصليح حاسب

١٢٤

الكتروني مثلاً تختلف عن عمل قطف الاثمار ، حيث ان عملية تصليح الحاسب الالكتروني تحتاج الى فترة دراسة وتدريب للفرد الخبير ، بينما لا يحتاج قاطف الاثمار الى كل ذلك. وعلى هذا الاساس فان اجرة الخبير في تصليح الحاسب الالكتروني ستكون حتماً اعلى من اجرة قاطف الاثمار ؛ وهو حق يقرّه العرف العقلائي في كل المجتمعات. وهذا الفارق في دفع الاجور انما يمثل فارقاً في الدرجة وليس فارقاً في الطبقة الاجتماعية. وهذا مهم في بناء العدالة بين الافراد ، لان الفارق في الدرجة الاجتماعية غير الفارق في الطبقة الاجتماعية. فالاول يقرّه النظام الاسلامي ، والثاني يقره النظام الرأسمالي. والفارق بين النظامين هو الفارق بين وجود العدالة الاجتماعية وبين انعدامها.

١٢٥

على اي اساس يتم التفاضل؟

ويختلف المجتمع الانساني في نظرته الى الافراد ، والتمييز والتفاضل بينهم. وعلى ضوء ذلك الاختلاف ، ينقسم المجتمع البشري الى قسمين. ففي بعض المجتمعات يتم التمييز في المكافأة ، على اساس اللون والجنس والمنشأ. وفي البعض الآخر يتم التمييز في المكافأة والتفاضل على اساس العلم والمهارة والجهد. وقد حرم الاسلام التفاضل القائم على الاعتبار الاول ، وشجع التمييز القائم على اساس الاعتبار الثاني. ومنشأ تحريم التفاضل على اساس لون البشرة كالابيض والاسود ، او جنس الانسان كالذكر والانثى ، او منشأ الفرد كالمولود في الريف والمولود في المدينة ان هذه المقاييس تتنافى مع العدالة الاجتماعية التي يقرها الدين. ولو كانت هذه الاعتبارات مقياساً صادقاً للتفاضل بين الافراد لما شاهدنا العيوب الاجتماعية التي تعيشها الانظمة الرأسمالية ، لان النظام الاجتماعي يفشل ـ حينئذ ـ في تنظيم العلاقات الاجتماعية بشكل ينسجم مع طبيعة الانسان في التعاون والتآزر والاجتماع وتضافر الافراد على خدمة بعضهم البعض.

ولكن التفاضل الذي يقره الاسلام ويشجع افراده على ممارسته هو التفاضل القائم على اساس بذل الجهد وقيمة العمل. ولما كانت قابليات الافراد في التحصيل والفهم والادراك متفاوتة ، كان تمايز الافراد من الناحية العلمية الاكتسابية امراً حتمياً. ومثال ذلك ، اننا لو تصورنا مسيرة عدة

١٢٦

افراد من المرحلة الدراسية الابتدائية ولحد مرحلة الدراسات الجامعية العليا ، ثم تبين لنا ان احدهم قد ترك التحصيل الدراسي من نهاية المرحلة الابتدائية ليشتغل بالحدادة وهي عملية تتطلب جهداً بدنياً لا جهداً ذهنياً ولا مسؤولية استثنائية ، وآخر حصل على اعلى شهادة جامعية في جراحة القلب مثلاً وهي مهنة تتطلب جهداً استثنائياً تتعلق بارواح مرضى الناس ؛ فالتفاضل هنا بين الحداد وجراح القلب يمثل التفاضل بين الجهد العملي والجهد العلمي. ولاشك ان الجهد العلمي اميز وافضل من الجهد العملي وعليه يكون مبدأ دفع المكافأة الاجتماعية. ولذلك فان الطبيب الجراح يستحق اجوراً اعلى من اجور العامل غير الماهر. وافضل ما يسلط الضوء الكاشف على الفارق بين الطاقات البشرية وقابلياتها على الانتاج ، قوله تعالى : ( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَينِ اَحَدُهُما اَبكَم لا يَقدِرُ عَلى شَيءٍ وَّهُوَ كَلٌّ عَلى مَولاهُ اَينَما يُوَجِّههُ لا يَأتِ بِخَيرٍ هَل يَستَوي هُوَ وَمَن يَّأمُر بِالعَدلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُّستَقيمٍ ) (١).

ولا شك ان الفرد العاطل عن العمل اختياراً لابد وان يكافأ مكافأة تقل عن ذلك الذي يبذل جهده ويصب عرقه في سبيل الانتاج. فقد ورد في بعض الروايات ان للحاكم الشرعي الحق في حبس البطال ، او العاطل عن العمل اختياراً حتى يثوب الى رشده ويعود الى الانتاج. ولكن ، ونحن نتكلم على مستوى العمل والاجر ، فلا بد من ضمان اجر الفرد العاطل عن العمل لظروف خارجة عن ارادته. وعلى نفس المستوى ، لابد ايضاً من زيادة

__________________

(١) النحل : ٧٦.

١٢٧

المكافأة الاجتماعية للعامل الماهر في عمله ، ان كانت مهارته اكتسابية او الهامية.

وبالاجمال ، فان التفاضل بين الافراد على اساس الجهد وقيمة العمل اصل مشروع وقاعدة عامة لتنمية المواهب والطاقات الخلّاقة ، شرط ان لا يخرج ذلك عن اطار العدالة الاجتماعية في سد الحاجات الاساسية لكل افراد النظام الاجتماعي.

١٢٨

تعـريف الفـقر وتحديـد

الفـقراء في النـظام الاسـلامي

ويضع الاسلام خطاً واضحاً للتفريق بين الفقراء والاغنياء ، ويجعل مقياس الفقر والغنى ، المؤونة السنوية. فالمؤونة السنوية هي ما يكفي الفرد وعياله من المواد الغذائية الاساسية واللباس والسكن لمدة سنة. وليس للمؤونة والنفقة المستثناة من الضريبة الشرعية معنى خاص في الشريعة ، وانما يرجع في تحديدها الى العرف. بل الضابط ان لا يكون انفاق الفرد تبذيراً واسرافاً ، وانما ينبغي فيها ملاحظة الاعتدال. ويدخل فيها بالاضافة الى المواد الغذائية واللباس والسكن ، ما يحتاجه في السفر وخدمة ضيوفه ، وتقديمه الهدايا ، وتزويج اولاده. ولا شك انه لا يمكن « الاحاطة ببيان ذلك جميعه ، خصوصاً مع ملاحظة الاشخاص ، والازمنة والامكنة ، وغيرها ، فالاولى ايكال [ معرفة النفقة ] الى العرف ، كايكال [ معرفة ] العيال اليه » (١).

وبتعبير آخر ، فان الفرد الذي لا يملك مؤونة سنته اللائقة بحاله له ولعياله يعتبر من الناحية الشرعية والقانونية فقيراً ، ومن يملك مؤونة سنته يعتبر من الناحية الشرعية غنياً. اما المسكين فهو من لا يملك شيئاً من المال

__________________

(١) الجواهر ج ١٦ ص ٥٩.

١٢٩

ويعتبر اسوأ حالاً من الفقير. وقيل ان الفقير لا يسأل الناس اشباع حاجته بينما المسكين يسأل. ولا شك ان الفرد الذي يملك كمية من المال ـ كرأسمال ـ ولكن لا تكفيه لمؤونة سنته ، يعتبر فقيراً ايضاً ويجوز له استلام الحقوق الشرعية. اذن ، فكل فرد في المجتمع الاسلامي مضمون ـ نظرياً ـ من الناحية المعيشية لمدة سنة ، فاذا دخلت السنة الجديدة وليس لديه وعائلته ما يكفيهم ، عندئذ يحق له اخذ ما يكفيه مع من يعيلهم من الموارد المالية الشرعية لسنة اخرى ، وهكذا الى ان يتبدل وضعه الاقتصادي فيصبح غنياً. وهذا الضمان المالي يشبع حاجات الطبقة الفقيرة ثم يرفعها الى مستوى عامة الناس ، وهي الطبقة المتوسطة في النظام الاجتماعي الاسلامي.

وبطبيعة الحال ، فان النظرية الاجتماعية الاسلامية لا تلوم الفقراء على فقرهم ولا تلزمهم مسؤولية تحميل الآخرين كأهل الانفاق ، بل ان الاسلام ينظر ضمن منهجه الاجتماعي الشامل الى الفقراء نظرة مملوءة بالرحمة والمساواة باعتبار انهم افراد خانهم التوفيق في التكسب ، ويؤكد ان للفقراء حقاً ثابتاً في اموال الاغنياء ، كما ورد عن الامام الصادق (ع) : « ان الله تبارك وتعالى شرك بين الفقراء والاغنياء في الاموال ، فليس لهم ان يصرفوا الى غير شركائهم » (١). فكما ان معدة الانسان لا تتسع لكل ثمار الارض حتى لو اشتهت نفسه تناول كل تلك الثمار ، وان رئتيه لا تتسع لهواء الكون حتى لو رغب استنشاق كل ذلك الهواء ، كذلك المال والثروة فان شهوة الانسان للمال لا يحدّها حدّ عرفي او اجتماعي ، الا ان الاسلام هذّبها بقسر الاغنياء

__________________

(١) الوسائل ج ٤ ص ١٤٨.

١٣٠

على دفع حقوق الفقراء والمساكين. بمعنى ان الله سبحانه قد جعل للفقراء حقاً في اموال الاغنياء كحق غرماء الميت المتعلق بتركته ، فان امتنع الغني عن اداء ذلك الحق ، كان للحاكم الشرعي او لعدول المسلمين من باب الحسبة استيفاء ذلك الحق قهراً. وليست الضريبة الواجبة من زكاة وخمس وكفارات وزكاة فطر وهدي هو كل ما يقدمه الاسلام للفقراء ، بل ان الانفاق المستحب وصدقة السر تسد جزءاً كبيراً من حاجاتهم ايضاً ، الى حد الكفاية والغنى.

وبالاجمال ، فان الاسلام عالج مشكلة الفقر بالخطوات التالية : اولاً : أمر بفرض ضريبة ثابتة على اموال الاغنياء. ثانياً : اعطى الفقراء حد كفايتهم من الناحية المعيشية مما يوفر فرصاً حقيقية لالتحاقهم بالطبقة المتوسطة. ثالثاً : حث على الانفاق المندوب ، وشجع على السخاء والكرم في العطاء. رابعاً : أمر بتحريك المال الصامت لتنشيط الطاقات والابداعات المختلفة في النظام الاجتماعي. فلا ريب اذن ان يثق الاسلام ثقة مطلقة بنظامه الاجتماعي الذي عالج فيه مشكلة الفقر معالجة حقيقية ، كما يشير الى ذلك قول الامام الصادق (ع) : « لو ان الناس ادوا زكاة اموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً » (١).

وبكلمة ، فقد جعل الاسلام مشاركة الفقراء اموال الاغنياء ، وسيلة واقعية لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية ، وإلحاق هؤلاء الفقراء بالطبقة المتوسطة الواحدة في المجتمع الاسلامي ، كما ورد في روايتين لأبي بصير ؛

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ٣.

١٣١

الاولى : قال : قلت لابي عبدالله (ع) : ان شيخاً من اصحابنا يقال له عمر سأل عيسى بن أعين وهو محتاج ، فقال له عيسى بن أعين : اما ان عندي من الزكاة ، ولكن لا اعطيك منها ، فقال له : ولم؟ فقال : لاني رأيتك اشتريت لحماً وتمراً ، فقال : انما ربحت درهماً فاشتريت بدانقين لحماً وبدانقين تمراً ثم رجعت بدانقين لحاجة ، قال : فوضع ابو عبد الله (ع) يده على جبهته ساعة ثم رفع رأسه ، ثم قال : ان الله نظر في اموال الاغنياء ثم نظر في الفقراء فجعل في اموال الاغنياء ما يكتفون به ، ولو لم يكفهم لزادهم ، بلى فليعطه ما يأكل ويشرب ويكتسي ويتزوج ويتصدق ويحج (١). والثانية : سؤال أبي بصير من الامام جعفر بن محمد (ع) عن رجل له ثمانمائة درهم وهو رجل خفاف وله عيال كثير أله ان يأخذ من الزكاة؟ فقال : (يا ابا محمد أيربح في دراهمه ما يقوت به عياله ويفضل؟ قلت : نعم ، قال : كم يفضل؟ قلت : لا ادري ، قال : ان كان يفضل عن القوت مقدار نصف القوت فلا يأخذ الزكاة وان كان اقل من نصف القوت اخذ الزكاة ، قلت : فعليه في ماله زكاة تلزمه؟ قال : بلى ، قلت : كيف يصنع؟ قال : يوسع بها على عياله في طعامهم وكسوتهم ويُبقي منها شيئا يناوله غيرهم ، وما اخذ من الزكاة فضّه على عياله حتى يلحقهم بالناس) (٢). فيفهم من منطوق هاتين الروايتين ان هدف دفع الحقوق الشرعية ـ بالاضافة الى اشباع حاجات الفقراء ـ هو الحاقهم بعامة الناس. بل ان التشريع الاسلامي أكد مراراً على ان الأولى للموسر ـ في دفعه الحقوق الشرعية ـ اشباع حاجات ارحامه واقاربه ومن يعرفهم معرفة العين ، حيث

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٥٧.

(٢) من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ١١.

١٣٢

« يستحب تخصيص اهل الفضل بزيادة النصيب بمقدار فضله لرواية عبدالله بن عجلان عنه (ع) : ( أعطهم على الهجرة في الدين والفقه والعقل ). كما انه يستحب ترجيح الاقارب وتفضيلهم على الاجانب لرواية اسحاق عن ابي الحسن موسى (ع) : (قلت له : لي قرابة أنفق على بعضهم وأفضّل بعضهم على بعض ، فيأتيني ابان الزكاة فاعطيهم منها؟ قال : مستحقون لها؟ قلت : نعم. قال (ع) : هم افضل من غيرهم ، اعطهم). وأهل الفقه والعقل على غيرهم ، ومن لا يسأل من الفقراء على أهل السؤال. ويستحب صرف صدقة المواشي الى أهل التجمل من الفقراء. لكن هذه جهات موجبة للترجيح في حد نفسها ، وقد يعارضها او يزاحمها مرجحات أخر ، فينبغي ملاحظة الاهم والارجح » (١). وهذا الترجيح المستند على القاعدة العقلية والعرفية يثبت اواصر الرحمة والمحبة والإخاء الاجتماعي ، على عكس توجه الانظمة الصناعية الحديثة التي تجمع الضرائب عن طريق مركزي ثم توزع الحصة المعلومة وهي اثنان بالمائة على المحتاجين او المتظاهرين بالحاجة (٢) ، فيضيع المحتاج الصادق في حاجته بين المتظاهرين بالحاجة ، وتبقى مشكلة الفقر قائمة. وتدل بعض المصادر الاسلامية على ان الفقير يعطى ليشبع حاجته الاساسية اذا كان قاصراً عن العمل ، اما اذا كان قادراً عليه فيعطى من بيت المال ليشتغل في التجارة او الصناعة على سبيل القرض ، ويعيل نفسه بعد ذلك من أرباح عمله. ويدل حديث ابي بصير

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ج ٩ ص ٣١٧.

(٢) (جو فياجن). اذلال الفقراء : المساعدة الحكومية والعقيدة الامريكية. انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، ١٩٧٥ م.

١٣٣

عند سؤاله الامام جعفر بن محمد (ع) ، المذكور آنفاً ، ان المعيل الذي يربح ربحاً يكفي اشباع نفسه وعائلته ويزيد قليلاً ، يجوز له اخذ الزكاة للارتفاع به وبعائلته عن مجرد اشباع الحاجة الاساسية الى مستوى الطبقة الوسطى المعتدلة الرفاه.

وفي الوقت الذي يدعو فيه الاسلام الى اشباع حاجات الفقراء والارتفاع بهم الى مستوى الطبقة العامة من الناس فانه يحرم اعطاء الصدقة للمتكاسلين الذين يحترفون البطالة والخمول والتسكع ، لان منهج الاسلام الديني يحث الافراد على العمل وبذل الجهد والطاقة ، حيث يجعل العمل البدني ، بقصد الارتواء من خيرات الارض ، عبادة عظمى يثاب عليها الانسان في حياته الابدية. وضمن اطار هذا المنهج ، فانه يحث المكلفين على التعفف عن سؤال الناس الا لحاجة حقيقية ؛ لان التكليف يسقط في الحالات الاضطرارية. ولا شك ان الفرد الجائع يمثل إدانة حقيقية للنظام الاجتماعي الذي يعيش فيه ، خصوصاً اذا كان ذلك النظام يساهم في تجويعه وحرمانه من ابسط مقومات الحياة. ولما كان الاسلام يمثل جوهر العدالة الاجتماعية فانه يعتبر من اخطر الانظمة الفكرية المضادة للنظام الاجتماعي الرأسمالي الذي يحصر الثروة الاجتماعية بالطبقة العليا ، غير مكترث بحرمان افراد الطبقات المعدمة من خيرات النظام الاجتماعي.

١٣٤

النـظرتان الاسـلامية والرأسمـالية

تجاه الفـقراء : ملاحظات مقـارَنة

وتختلف النظرة الاسلامية الهادفة الى رفع الفقراء الى المستوى العام للناس عن النظرة الرأسمالية ، اختلافاً جوهرياً. ومردّ الاختلاف ، ان الاسلام ينظر الى الانسان من زاوية اعتباره كياناً كريماً مستخلفاً في الارض ، خلق بالاصل لعبادة الخالق عز وجل. فكيف يرضى سبحانه وتعالى لجوع فرد وتخمة فرد آخر؟ ولذلك ، فان الرسالة السماوية انما جاءت لتنظيم الحياة الاجتماعية وتثبيت اسس العدالة وتعمير الارض حتى يتفرغ العباد لعبادة خالقهم وبارئهم. ولكن النظرية الرأسمالية تنظر للانسان باعتباره مصدراً للانتاج والربح والاستهلاك (١) ، وعلى ضوء ذلك فانها ترتّب فلسفتها في العدالة الاجتماعية على اساس كمية انتاجه وحجم استهلاكه دون النظر الى قيمته الانسانية. وبسبب هذا التباين الفلسفي بين النظريّتين ، فاننا سنناقش ابرز الاختلافات العملية بينهما في الموارد التالية :

اولاً : ان نظرة الاسلام للفقراء ، انما هي نظرة مبتنية على اساس الرحمة والتكاتف والتكافل الاجتماعي ، فتقرر ان المجتمع ينبغي ان يتكفل المحروم القريب تكفلاً انسانياً ، بحيث لا يجرح كرامته ولا يحط من قدره ، وتعتبره

__________________

(١) (ريتشارد ادوارد) وآخرون. النظام الرأسمالي. نيوجرسي : برنتس ـ هول ، ١٩٧٨ م.

١٣٥

واجباً دينياً واجتماعياً. فيؤكد الاسلام على الموسرين بصرف حقوقهم الشرعية لمستحقيها من الذين لهم علاقة معرفة بهم ؛ لان ذلك ادعى للاطمئنان ، واوصل للعلاقات الاجتماعية. وتسليم الحقوق الشرعية بشكل شخصي للافراد المستحقين امضى في العدالة ، لان معرفة المعطي للمحتاج ادق من معرفة المؤسسات الاجتماعية المركزية. فالمؤسسات الاجتماعية المرتبطة بالحكومة الرأسمالية لا تستطيع تقييم احوال جميع الفقراء ومعرفة قضاياهم الخصوصية. وهذا عامل آخر في فشل النظام الرأسمالي في مساعدة الفقراء ، لان عدداً ممن يدّعون الفقر يستلمون صكوك الاعاشة وهم في غنى عنها ، وما يدفعهم الا دافع الكسل والطمع لاستلام المال على حساب الفقراء الحقيقيين ، من اصحاب الحاجة الواقعية الماسة. ولا شك ان ايصال المساعدة المالية الواجبة اليهم امر في غاية الاهمية في تحقيق العدالة ، لانه يساهم في وضع الثروة في موضعها الصحيح اولاً ، ولان الفرد اعرف الناس بارحامه واقاربه واصدقائه ثانياً ، ولانها استر على الفقير ثالثاً. ولاشك ان اخراج الحقوق الشرعية الواجبة والمستحبة يعتبر عملاً عبادياً يجازى عليه الانسان بالثواب عند الامتثال ؛ خصوصاً المستحب منها كصدقة السر حتى لا تعلم يمناه ما انفقت يسراه كما جاء في بعض الروايات. وكما ان العبد لا يمن بصلاته على ربه كذلك الانفاق في سبيل الله فينبغي على المكلف ـ كما تؤكد الروايات ـ ان لا يمن بالانفاق على الغير.

ثانياً : ان الاسلام يحترم كرامة الفقير وشعوره الانساني ، ويدين كل من يحاول اهانته واذلاله واثقاله بالمنة والضعة والاستخفاف. اما النظرية

١٣٦

الرأسمالية فهي تنظر للفقير نظرة احتقار (١) ، لانها تعتقد ان الفقير ، لو كان نابهاً وعلى قدرٍ من الذكاء والادراك الاجتماعي لما تدهورت حالته الاقتصادية الى مستوى استجداء الناس وسؤالهم. فالفقر اذن حالة مرضية يصعب علاجها ، فكما ان المجنون لايجد دواءً لعلاج حالته المرضية فضلاً عن جعله عبقرياً ، كذلك الفقر فهو عاهة يصنعها الانسان لتغطية كسله وتقاعسه عن العمل. ولذلك فان افضل وسيلة لمعالجة الفقر ـ بزعم النظرية الرأسمالية ـ هو كشف الفقراء وفضحهم امام الناس حتى يشعروا بالذل والاهانة. حتى اذا أنّبهم وخز الضمير ، انتقلوا بجهدهم من الطبقة الفقيرة الى الطبقة الوسطى ، عن طريق الرجوع الى الحقل الانتاجي الاجتماعي (٢). ولكن تلك النظرية ، كما ذكرنا سابقا ، تتجاهل ان اغلب الفقراء هم من الاطفال والشيوخ والنساء والقاصرين الذين لا يستطيعون القيام بالعمل ولا يقدرون على الانتاج.

ثالثاً : ان تنوع مصادر الحقوق الشرعية في الاسلام ، يزيد من فرص ذهاب هذه الثروة الى مستحقيها واشباعهم اشباعاً حقيقياً. فالزكاة المختصة بالثروة الحيوانية والزراعية والنقدية ، وخمس الربح وخمس الغنيمة ، واضاحي الحج ، والمستحبات الاخرى تشبع ملايين الفقراء من الخبز واللحم واللبن والتمر ونحوها من المواد الغذائية الضرورية ، وتكسوهم ، عيناً دفعت ام نقداً.

__________________

(١) (باري آدم). بقاء السيطرة : الاذلال والحياة اليومية. نيويورك : السفاير ، ١٩٧٨ م.

(٢) (جو فياجن). اذلال الفقراء : المساعدة الحكومية والعقيدة الامريكية. انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، ١٩٧٥ م.

١٣٧

رابعاً : ان توزيع الحقوق الشرعية عن طريق المساجد وائمتها ، يقلل ايضاً من فرص ذهاب الثروة الى غير مستحقيها ؛ لان امام المسجد او وكيل المرجع الديني مسؤول عن محلته ، مطلع على افراد جيرته ، يساعد فقيرهم ويسأل عن اهل الحاجة فيهم ، حيث تتجمع عنده الصدقات والحقوق الشرعية فيصرفها ـ بعد الاذن ـ في مواردها لمساعدة الفقراء واشباع حاجاتهم وحاجات اسرهم. ولكن النظام الرأسمالي يعيّن مجموعة من الموظفين للقيام بالتحقيق باحوال الفقراء (١). وهذا التحقيق لا يقابل في اغلب الاحيان ، حاجات الفقراء الاساسية حيث ينفذ المتصيّدون الى النظام الاساسي ، مما يسبب انعداماً في عدالة التوزيع.

خامساً : ان الاسلام يحدّد مسؤولية الحاكم الشرعي او ولي امر الامة في الامور الحسبية ، وهي مسؤولية اشباع حاجات الايتام والارامل والقاصرين ، باعتباره المسؤول الاول الذي يسد مواقع آبائهم وازواجهم وذويهم. وهذه المسؤولية الشرعية مهمة في تحقيق العدالة الاجتماعية لهؤلاء المحرومين ، وضرورية في تمكينهم من تطوير انفسهم مستقبلاً. ومع ان الدولة في النظام الرأسمالي تظهر رعاية من نوع ما لهؤلاء المساكين ، الا ان اكثر الفقراء هم من الاطفال والنساء الارامل والمُطَلّقات ؛ وليس لهؤلاء تشريع خاص ، بل انهم يلحقون بعموم الطبقة الفقيرة (٢).

__________________

(١) (شيلدون دانزايكر) و (دانيال واينبرغ). محاربة الفقر : ما الذي ينفع وما الذي لا ينفع؟ كامبردج ، ماساشوستس : مطبعة جامعة هارفارد ، ١٩٨٦ م.

(٢) (روث سايدل). النساء والاطفال في المؤخرة : مأزق النساء الفقيرات في امريكا الغنية. نيويورك : فيكنك ، ١٩٨٦ م.

١٣٨

سادساً : ان الدولة في النظرية الاجتماعية الاسلامية تصرف خمس وارداتها السنوية على الفقراء ، ويصرف الاغنياء اكثر من ربع وارداتهم الشخصية على الفقراء ايضاً لرفعهم الى الطبقة العامة. وباجتماع هذين الموردين فان كمية ضخمة من الاموال تذهب للانفاق على المحرومين لرفع حرمانهم وسد حاجاتهم. واذا علمنا حجم ثروة العالم الاسلامي في الموارد المعدنية والبحرية والزراعية والحيوانية تبين لنا دور الاسلام الجبار في التخفيف عن الفقراء في كل مكان على وجه الارض. وهذا بالتأكيد يرفع مستوى المجتمع الانساني الى حالة من الرخاء والغنى لم يسبق لها مثيل في التاريخ. اما النظام الرأسمالي فانه يخصص حوالي اثنين بالمائة فقط لمساعدة الفقراء غذائياً وسكنياً ، وليس بالضرورة رفعهم الى طبقة اعلى من طبقتهم الاجتماعية الوضيعة ، بل ان الهدف من هذه النسبة المالية المئوية هو انقاذهم من المجاعة والمرض والتشرد (١).

سابعاً : ان النظرة الاخلاقية للاسلام تجاه العلاقات الاجتماعية والعقود كالزواج والطلاق ، تعطي حيزاً واسعاً لتثبيت اسس الاسرة ، وتبقي العائلة في حالة تماسك مستمر للسعي نحو حياة افضل. فاحصائيات العالم الاسلامي تؤكد على ان نسبة الطلاق في المجتمع الاسلامي نسبة ضئيلة لاعتبارات منها : اولا : ان الطلاق ابغض الحلال الى الله كما ورد في الحديث الشريف ، فلا يقدم الافراد على ايقاعه الا في الحالات الاستثنائية. ثانيا : ان الاسلام يعالج اسباب الطلاق من الاصل بتشريعه حجاب المرأة ، وعدم

__________________

(١) (كين اوليتا). الطبقة المعدمة. نيويورك : ماكرو ـ هيل ، ١٩٨٢ م.

١٣٩

اختلاط الرجال الاجانب بالنساء ، وتشجيعه على الزواج وادانته للعزوبية ، وتشكيل اطار عام للتعامل الاخلاقي بين الذكور والاناث في المجتمع. ولكن النظام الرأسمالي لا يتدخل في امور الزواج والطلاق الا بما يخص انشاء العقود وتسوية الخلافات بين الزوجين بالطرق القانونية ، ولا يحض النظام على الزواج ولا يحرم الطلاق ، بل يعتبر الزواج والطلاق قضية شخصية بين الزوجين فحسب (١). ونتيجة لهذا الوضع الاجتماعي فان نصف عدد الحالات الزوجية في الولايات المتحدة اليوم تنتهي الى الطلاق (٢). ولا شك ان الطلاق في الانظمة الصناعية الحديثة يعتبر واحداً من اهم عوامل الانزلاق الى الطبقة الفقيرة المعدمة.

ثامناً : ان رب الاسرة في النظرية الاسلامية مسؤول عن النفقة والولاية الاسرية ، فهو الذي يكدح غالباً خارج البيت. وعندها يكون دور الزوجة محدداً بتربية الاطفال والاهتمام بشؤون البيت. ومهما تطور الانسان في نظرته الشخصية للحياة البشرية فان هذا الاطار الاجتماعي سيبقى القاعدة وما عداه الاستثناء. فالطبيعة الانسانية للرجل تحتم عليه الخروج والعمل لجلب اسباب قوت عائلته. ومع ان الاسلام لا يمنع المرأة من العمل خارج البيت في نطاق التعليم والطبابة والادارة ، الا ان الطبيعة الانسانية للمرأة تشجعها على البقاء في البيت للاهتمام بشؤون ابنائها. وهذا النظام يفسح المجال لاكبر عدد من ارباب الاسر للعمل خارج البيوت مما يفتح آفاقاً للعدالة بين الافراد الذين يتحملون مسؤولية اعالة عوائلهم. اما في النظام الرأسمالي فان

__________________

(١) (جيسي برنارد). مستقبل الزواج. نيوهيفن : مطبعة جامعة ييل ، ١٩٨٢ م.

(٢) (فيليب بلومستاين) و (ببر شوارتز). الزيجة الامريكية. نيويورك : مورو ، ١٩٨٣ م.

١٤٠