التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

استعدادا لعلم ما لم يعلموا ، وان فساده في الأرض لا يذهب بالفائدة من وجوده ، وعندها اقتنع الملائكة وأذعنوا.

هذا ، الى ان الله سبحانه لم يخلق الإنسان ، ليرتكب المعاصي والرذائل ، بل خلقه للعلم والعمل النافع ، ونهاه عن الإفساد والإضرار ، فان خالف وعصى عوقب بما يستحق.

وتدل هذه الآية على ان للعلم ومعطياته مكانة عظمى عند الله وملائكته ، لأنه سبحانه قد برر خلق الإنسان بقابليته للعلم والمعرفة .. وحين أطلع الملائكة على ذلك اعتذروا قائلين : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا). وإذا كانت الغاية من خلق الإنسان العلم والعمل فمن ترك وأهمل فقد نقض الحكمة من وجوده ، وخالف الفطرة التي فطره الله عليها.

وأخشى ان أقول : ان الملائكة لو علموا حينذاك بتأثير القنبلة الذرية والهيدروجينية ، وقنابل النابالم التي تستعملها أمريكا في فييتنام لما أقنعهم شيء .. وأستغفر الله الذي يعلم منا ما لا نعلمه نحن من أنفسنا.

درس بليغ :

والدرس البليغ الذي يجب أن نستفيده من هذه المحاورة بين الله وملائكته ان الإنسان بالغ ما بلغ من العلم ونزاهة القصد ، والقوة والسلطان ليس بفوق ان يجادل ويناقش ، ويشار عليه .. فالله سبحانه علا جلاله وعظمته قد فسح لملائكته مجال الحوار والمقال الذي هو أشبه بالاعتراض ، وهم بدورهم لم يحجموا عن ذلك ، بل أقدموا على علم منهم بعظمة الله وحكمته ، وقد تلطف سبحانه في جوابهم ، وأبان لهم برفق الدليل المحسوس الملموس ، وأخذ اعترافهم بالرضى ، والاقتناع ، لا بالزجر والغلبة. بل ان الله سبحانه قد فتح باب الحوار معه لإبليس اللعين الذي راجعه بقوله : خلقتني من نار ، وخلقته من طين .. كما يأتي.

فعلى الذين يرون أنفسهم فوق الاعتراضات ان يتعظوا ويستفيدوا من هذا

٨١

الدرس البليغ .. انهم إذ ينزهون أنفسهم عن الرد والمراجعة يرتفعون بها فوق مكانة العزيز الجبار ، من حيث لا يشعرون .. قال الإمام أمير المؤمنين (ع) في الخطبة ٢١٤ :

«لا تخالطوني بالمصانعة ، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ، ولا التماس إعظام لنفسي ، فانه من استثقل الحق ان يقال له ، أو العدل ان يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه ، فلا تكفوا عن مقالة بحق ، أو مشورة بعدل».

واذ قلنا الملائكة اسجدوا الآة ٣٤ :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))

وإبليس اسم ممنوع من الصرف ، للعلمية والعجمة.

أمر الله سبحانه ملائكته بالسجود لآدم إظهارا لمزيته عليهم ، وعلى جميع مخلوقاته ، ولا تفسير ظاهر لهذه الميزة الا فضيلة العلم ، والتعظيم من شأن حامله ، لأن العلم ، كما ثبت بالوجدان ، هو المقياس لكل خطوة تخطوها البشرية الى الرقي والرخاء والكمال ، كما ان الجهل أساس الحاجة والتخلف ، وما تفوق من تفوق على غيره الا بالعلم .. فالعالم دائما متبوع ، والجاهل دائما تابع .. ومن أجل هذا فرض الإسلام العلم على كل مسلم ومسلمة.

وقال أكثر المفسرين : كان السجود لمجرد التحية ، تماما كالانحناء ورفع اليد ، لأن السجود لغير الله محرم .. وهذا غير صحيح على حد تعبير صاحب مجمع البيان ، لأنه لو كان كذلك لمّا امتنع إبليس عن السجود .. وبديهة ان السجود بأمر الله تعالى طاعة لله ، لا لآدم.

وقد كان الأمر بالسجود للملائكة كافة دون استثناء ، حتى لجبريل وميكائيل بدليل قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) ـ الحجر ٣١».

٨٢

واختلفوا في حقيقة إبليس : هل هو من الملائكة ، أو من الجن؟ والصحيح انه من الجن ، وعليه يكون الاستثناء منقطعا ، والدليل قوله سبحانه : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) ـ الكهف ٥١».

ولا طريق إلى معرفة إبليس والشياطين والجن إلا الوحي ، تماما كما هو الشأن في الطريق الى معرفة الملائكة .. وسبق الكلام عن ذلك في الآية المتقدمة.

وتعرض المفسرون هنا لبحوث لا طائل تحتها .. لذا أعرضنا عنها مقتصرين على ما دل عليه ظاهر اللفظ .. وقد أشرنا في الصفحات السابقة الى بعض ما يعزى الى إبليس من الأساطير ، لأنها صورة واضحة لأكثر أهل هذا العصر في مغالطاتهم وتلاعبهم بالألفاظ التي لا تمت بشيء إلى علم أو فن أو أي شيء سوى السفسطة والشعوذة.

وقلنا يا آدم اسکن الآة ٣٥ ـ ٣٩ :

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

٨٣

الإعراب :

زوجك معطوف على الفاعل ، ورغدا قائم مقام المفعول المطلق ، والتقدير أكلا رغدا ، أي واسعا ، والشجرة بدل من هذه ، وفتكونا منصوبة بأن مضمرة بعد الفاء ، وبعضكم مبتدأ ، وعدو خبر ، ولبعض متعلق بعدو ، وإمّا مؤلفة من كلمتين ان الشرطية ، وما الزائدة ، وانما زيدت للتوكيد ، وهي التي سوغت دخول نون التوكيد على يأتينّكم ، تماما كقوله تعالى: (فَإِمَّا تَرَيِنَ) ، وقوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ).

المعنى :

أمر الله سبحانه آدم وحواء بسكنى الجنة ، وأباح لهما كل ما فيها ، ما عدا شجرة واحدة فانه جل وعز نهاهما عنها ، ولكن الشيطان أغراهما بالأكل منها ، ولما استجابا له اقتضت حكمته تعالى إخراجهما من الجنة الى الأرض ، وابتلاءهما بالتكليف والعمل ، والصحة والسقم ، والشدة والرخاء ، ثم الموت حين يأتي الأجل ، وشعر آدم بالنكبة فندم ، وسأل ربه مخلصا أن يقبل توبته فقبل منه ، وغفر له ، لأن الله تواب رحيم .. واحسب ان حواء تابت أيضا مع آدم ، ولكن الله سبحانه لم يشر الى توبتها ، ولا فرق عند الله بين الذكر والأنثى ، فمن أطاع وعمل صالحا أسكنه الجنة وأرضاه ، ومن تمرد وعصى أدخله النار وأخزاه ذكرا كان أو أنثى.

وقد تعرض كثير من المفسرين الى الجنة التي خرج منها : ما هي حقيقتها؟ وأين كانت؟ وإلى الشجرة : هل هي التين أو القمح؟ وعن الحية التي دخل إبليس في جوفها ، وعن المكان الذي هبط عليه آدم : هل هو الهند أو الحجاز؟ إلى غير ذلك مما جاء في الاسرائيليات ، ولم يشر اليه القرآن الكريم ، ولا ثبت في السنة النبوية بالطريق الصحيح ، ولا يملك العقل معرفة شيء منها ، ولا تتصل بالحياة من قريب أو بعيد .. أجل لا بد من التنبيه الى الأمور التالية :

٨٤

حواء وضلع آدم :

من الشائع ان حواء خلقت من ضلع آدم .. ولا مصدر صحيح لهذه الاشاعة .. والخبر الذي جاء به غير معتمد ، وعلى تقدير صحته فان المراد منه الاشارة الى المساواة وعدم الفرق بين الرجل والمرأة ، وانها منه ، وهو منها .. بل عن كتاب «ما لا يحضره الفقيه» ان الإمام الصادق (ع) حين سئل عن صحة هذه الاشاعة استنكرها ، وقال : تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .. هل عجز الله أن يخلق لآدم زوجة من غير ضلعه .. حتى ينكح بعضه بعضا ..

ضعف الارادة وسيلة للحرمان :

اقتضت حكمة الله سبحانه أن يمكث آدم وزوجه في الجنة بعض الوقت ، ثم يخرجا منها لسبب ، هما اللذان أوجداه ، وأخذا به بملء ارادتهما واختيارهما ، ولو لا ذلك لبقيا في الجنة الى الأبد ينعمان فيها من غير كد وعناء.

وأيضا اقتضت حكمته تعالى أن يستقر آدم وحواء في هذا الأرض الى حين يتناسلان ويكدحان وكذلك النسل والذرية ، وفي الوقت نفسه يسأل الجميع عما يأتون من أقوال وأفعال .. كما اقتضت حكمته تعالى أن يعود آدم وزوجه الى الجنة بعد الموت ، ويخلدا فيها إلى ما لا نهاية (١).

وتسأل : ما هي الحكمة من دخول آدم الجنة ، ثم الخروج منها الى الأرض ، ثم خروجه وعودته ثانية الى الجنة بعد الموت؟

الجواب : ربما كانت الحكمة أن يمر آدم بتجربة ينتفع بها ، ويستفيد منها هو وأبناؤه من بعده ، وان يعود الى هذه الأرض مزودا بهذه التجربة المفيدة النافعة ، وأعني بها ان الإنسان لا يستطيع أبدا أن يعيش في فوضى ، وكما يريد من غير مقاييس ومعايير ، وان من راعاها مالكا لإرادته غير مندفع مع ميوله عاش في هناء وسعادة لا تحديد لها ولا نهاية ، وان من استخف بالقيم وضعف

__________________

(١) جاء في الاخبار ان آدم يكنى في الجنة بأبي محمد توقيرا وتعظيما ، ولا يكنى في الجنة انسان غيره.

٨٥

أمام شهوته أصاب ما أصاب آدم من العناء والندم ، وابتلي بالمشقة والمصاعب.

عصمة الأنبياء :

اتفق المسلمون على ان آدم من الأنبياء ، والأنبياء كما هو المرتكز في الذهن منزهون عن الزلل .. اذن فما معنى قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ)؟. من أجل هذا رأى العلماء انهم بحاجة ماسة الى البحث عن عصمة الأنبياء ، ثم تفسير هذه الآية وما اليها في ضوء ما ينتهون اليه من النتائج .. ونحن نجمل القول عن ذلك فيما يلي ، ليكون كالأصل في كل ما يتصل بهذا الموضوع.

ومعنى عصمة النبي تنزيهه بحكم العقل عن الخطأ والخطيئة في كل ما يتصل بالدين وأحكامه ، بحيث يبلغ النبي من الطهر والقداسة ، والعلم والمعرفة بالله وما يريده من عباده ـ مرتبة تستحيل معها المخالفة عمدا وسهوا ، فمن أثبت العصمة للأنبياء بهذا المعنى ، وبشتى أقسامها الآتية أوّل الآيات التي تتنافى بظاهرها مع هذا المبدأ تمشيا مع القاعدة الكلية ، وهي وجوب تأويل النقل بما يتفق مع صريح العقل. ومن نفى العصمة عن الأنبياء أبقى الظاهر على ظاهره .. ولعلماء المذاهب في العصمة أقوال تختلف باختلاف هذه الأقسام :

١ ـ العصمة في العقيدة وأصول الدين ، أي تنزيه النبي عن الكفر والإلحاد ، وما اليه .. وهذه ثابتة لكل نبي بالبديهة والاتفاق ، إذ لا يعقل أن يكفر النبي بالذي اختاره للنبوة.

٢ ـ العصمة في التبليغ عن الله تعالى ، فإذا قال : ان الله يأمر بهذا ، وينهى عن ذاك فالأمر على ما قال.

واتفق الشيعة الإمامية على ثبوت هذه العصمة لكل نبي ، لأن الغرض من التبليغ حمل المكلفين على الحق ، فان أخطأ المبلغ انتقض الغرض من تبليغه ، ويؤيده قوله تعالى : (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى). وقوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). وبكلمة ان القول بعصمة الأنبياء لا ينفك أبدا عن القول بأن قولهم وفعلهم وتقريرهم حجة ودليل.

وبعد ان قال الرازي في تفسيره : «اتفقوا ـ أي المسلمون ـ على ان الخطأ

٨٦

في التبليغ لا يجوز عمدا ولا سهوا». قال : «ومن الناس من جوز ذلك سهوا». ولا أدري من عنى بهؤلاء الناس؟.

٣ ـ العصمة في الفتيا ، ومعنى الفتيا ان يفتي النبي بشيء عام ، كتحريم الربا ، وتحليل البيع ، ذكر هذا القسم الرازي في تفسيره ، وقال : «اجمعوا على ان خطأ الأنبياء لا يجوز في ذلك على سبيل العمد ، أما على سبيل السهو فجوزه بعضهم ، ومنعه آخرون».

ويلاحظ ان هذا القسم يرجع الى القسم الثاني ، أي التبليغ .. وينبغي أن يجعل القسم الثالث العصمة في الحكم لا في الفتوى (١).

واتفق الإمامية على ان النبي معصوم عن الخطأ في الحكم ، كما هو معصوم في التبليغ ، مع انهم نقلوا عن الرسول الأعظم (ص) انه قال : «انما أقضي بينكم بالبينات والايمان .. أنا بشر وانكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض ـ أي أفطن من خصمه ـ فاحكم له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا ، فإنما أقطع له قطعة من نار» .. اللهم الا أن يكون الخطأ في حكمه ـ على تقديره ـ انما هو في البينة ، أو في يمين الحالف ، أو ما أشبه ، أي في مستند الحكم لا في الحاكم.

٤ ـ العصمة في أفعال الأنبياء ، وسيرتهم الخاصة .. وقال الايجي في الجزء الثامن من المواقف : «ان الحشوية أجازوا على الأنبياء فعل الذنوب الكبائر ، كالكذب عمدا وسهوا ، ومنعه جمهور الأشاعرة ـ أي السنة ـ عمدا لا سهوا ، أما الصغائر فتجوز عليهم عمدا فضلا عن السهو».

وقال الإمامية : ان الأنبياء معصومون في كل ما يقولون ويفعلون ، تماما كما هم معصومون في العقيدة والتبليغ .. ويستحيل عليهم فعل الصغائر فضلا عن الكبائر ، ولن تصدر منهم إطلاقا لا على سبيل القصد ، ولا على سبيل السهو ، لا قبل النبوة ولا بعدها.

__________________

(١) الفرق بين الحكم والفتوى ان موضوع الحكم لا يكون إلا خاصا ، كحكم القاضي بأن هذا العقد الذي جرى بين زيد وبكر باطل ، أما موضوع الفتوى فعام كأحل الله البيع ، وحرم الربا.

٨٧

وقد أوّلوا كل آية لا يتفق ظاهرها مع هذا المبدأ ، وقالوا في أكل آدم من الشجرة ان النهي عنها لم يكن نهي تحريم وتعبد ، كما هو الشأن في «لا تزن .. لا تسرق» بل نهي ارشاد ونصيحة ، تماما كقولك لمن تريد له الخير : لا تشتر هذا الثوب ، لأنه ليس بجيد ، فإذا لم يسمع منك لم يفعل محرما ، ولم يظلم أحدا ، وانما ظلم نفسه ، وفعل ما كان الأولى به ان لا يفعله .. وبديهة ان الأكل من الشجرة لم يترتب عليه ظلم أي انسان سوى الآكل ، وعليه يكون معنى التوبة من آدم التوبة من فعل المرجوح والمفضول ، وترك الأفضل والأرجح .. هذا ، الى أن أمر التوبة سهل يسير ، فان الأنبياء والأبرياء دائما يرددون قول : «أستغفر الله وأتوب اليه» .. وكفى دليلا على ذلك دعاء الإمام زين العابدين في الصحيفة السجادية المعروف بدعاء التوبة الذي جاء فيه : اللهم اني أعتذر اليك من جهلي ، واستوهبك سوء فعلي.

أهل البيت :

وبالمناسبة قال محيي الدين المعروف بابن عربي في كتابه الكبير الفتوح المكية ج ١ ص ١٩٦ الطبعة القديمة : «ان الله سبحانه طهر نبيه وأهل بيته بدليل قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ـ الأحزاب ٣٣» .. والرجس في اللغة القذر ، ولا شيء أقذر من الذنوب .. وعليه فلا يضاف لأهل البيت إلا مطهر مقدس ، بل هم عين الطهارة» .. ثم قال ابن عربي : ان سلمان الفارسي معصوم أيضا ، لأن أهل البيت معصومون بشهادة الله ، وقد ثبت عن رسول الله انه قال : سلمان منا أهل البيت ، فيكون سلمان معصوما بشهادة الله ورسوله.

وقال في الجزء الثاني من الكتاب المذكور ص ١٢٧ : «لا يبقى في النار موحد ممن بعث اليه رسول الله لأن النار ترجع على الموحدين بردا وسلاما ببركة أهل البيت في الآخرة ، فما أعظم بركة أهل البيت!».

٨٨

يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي الآة ٤٠ ـ ٤٦ :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) الآية ذكر الله سبحانه اليهود في العديد من آي الذكر الحكيم ، وبينت هذه الآيات نعم الله على اليهود ، وجحودهم بها وقتلهم الأنبياء بغير الحق ، ومعاندتهم لموسى وهارون ، وعبادتهم العجل ، واستعباد الفراعنة لهم ، ثم تحريرهم من العبودية والاضطهاد ، ونجاتهم من الغرق ، وانزال المنّ والسلوى عليهم ، ثم كرههم ومؤامراتهم ضد محمد (ص) وعداءهم الشديد للمسلمين ؛ وللحق وأهله الى غير ذلك من المواقف والمشاهد التي يأتي بيانها بالتفصيل .. وقد حوت سورة البقرة التي ذبحوها ، وما كادوا يفعلون ، حوت الكثير من صفاتهم وأعمالهم.

الاعراب :

إسرائيل مجرور بالاضافة ، ومنع من الصرف للعجمة والتعريف ، وإياي

٨٩

ضمير منصوب على انه مفعول لفعل محذوف دل عليه الموجود أي ارهبوا إياي ، ولا يجوز أن يكون مفعولا لما بعد الفاء ، لأن ما بعدها لا يعمل بما قبلها ، وترهبون تقديره ترهبوني ، حذفت الياء للتخفيف ، وموافقة رؤوس الآيات ، ومثله فاتقون ، وأنزلت مفعوله محذوف تقديره أنزلته ، ومصدقا حال منه.

مظاهر الحياة :

ان أكثر مظاهر الحياة التي يعيشها الإنسان هي نتاج حتمي لتاريخ طويل ، فكيفية اللباس الذي نلبسه ، وطهي الطعام الذي نأكله ، وهندسة البيت الذي نسكنه ، كل أولاء ، وما اليها نتيجة لتصميم سابق ، حتى مركب البخار إن هو إلا امتداد للمركب الهوائي بعد مروره بمراحل التطور .. ان التقاليد التاريخية تفعل فعلها تماما كسنن الطبيعة ، كأمواج البحر تطفو على سطحه نتيجة للمد والجزر .. فالوقائع الجزئية التي تحدث في حياتنا اليومية ، ونوع العلاقات التي نقيمها مع الآخرين حسنة كانت أو سيئة كلها أو جلها امتداد للماضي البعيد أو القريب ، ومن هنا قال بعض الفلاسفة بحق : ان التاريخ طريق من طرق المعرفة ، وصورة من صورها.

وهذه الآيات التي خاطب الله بها اليهود ترتبط ارتباطا وثيقا بتاريخهم ، كما سنرى.

إسرائيل :

إسرائيل اسم ثان ليعقوب بن اسحق بن ابراهيم خليل الرحمن (ع) ، فإسحاق أخ لإسماعيل جد نبينا محمد (ص) ، ويلتقي اليهود والعرب جميعا في ابراهيم ، قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) .. وجاء في مجمع البيان ان العرب كلهم من ولد إسماعيل ، وأكثر العجم ، أي غير العرب ، من ولد اسحق.

ومعنى إسرائيل في اللغة العبرية عبد الله ، لأن «اسرا» هو العبد ، و «ايل» هو الله .. وقد تلطف سبحانه في خطابه مع اليهود ، حيث أضافهم الى النبي الكريم إسرائيل ، ليذكرهم بهذا النسب الشريف ، عسى أن يحرك فيهم شعور

٩٠

الكرامة ، ان كان في نفوسهم شيء منها ، تماما كما تقول : يا ابن الأبرار ، كن كآبائك وأجدادك .. وقد ذكّر أهل مريم ام عيسى (ع) بآلها وأرحامها.

أما وجه تسميتهم باليهود فلأن سبطا منهم ينتمي الى يهوذا ، وهو الابن الرابع للنبي يعقوب.

وفي الفقرة التالية نعرض عرضا موجزا لتاريخ اليهود لصلته بالآيات الكريمة التي نحن بصددها.

تاريخ اليهود :

سيأتي في سورة يوسف ان النبي يعقوب (ع) هاجر بأولاده من فلسطين الى مصر ، حيث يقيم ولده يوسف (ع) وزير فرعون في ذاك العهد ، فأقطعهم فرعون إكراما ليوسف أرضا خصبة في مصر ، وظلت سلالة يعقوب هناك أمدا غير قصير .. ولكن الفراعنة الذين جاءوا فيما بعد اضطهدوا اليهود ، وساموهم الخسف والعذاب ، فذبحوا الأبناء ، واستحيوا النساء ، واتخذوا منهم خدما وعبيدا ، ثم أرسل الله نبيا منهم ولهم ، وهو موسى بن عمران (ع) ، فحررهم من الظلم والاستعباد ، ثم طلب منهم العودة الى فلسطين ، وقتال أهلها ، ووعدهم النصر ، فتقاعسوا جبنا وخورا ، فكتب الله عليهم ان يتيهوا في صحراء سيناء أربعين سنة .. ويأتي التفصيل.

وفي هذه البرهة توفي هارون ، ثم أخوه موسى ، فخلفه ابن أخته يوشع ابن نون. وحوالى القرن الثالث عشر قبل الميلاد أغار بهم يوشع على أرض فلسطين ، فاحتلوها ، وأبادوا معظم أهلها ، وشردوا البقية الباقية ، تماما كما صنع نسلهم الصهاينة في فلسطين سنة ١٩٤٨ (١). وبعد يوشع أرسل الله منهم الكثير من الأنبياء. وفي سنة ٥٩٦ ق. م. أغار على فلسطين ملك بابل ، وهو «بخت نصر» ، فأزال ملكهم من فلسطين ، وذبح منهم كثيرا ، وأسر كثيرا.

__________________

(١) نذكر من ذلك مثلين : الأول جمع الصهاينة في قرية دير ياسين ٢٥ امرأة حاملا ، وبقروا بطونهن بالمدى والحراب .. الثاني جمعوا أهل قرية الزيتونة في المسجد ، ثم نسفوه بالديناميت على رؤوسهم.

٩١

وظلوا في حكم بخت نصر الى سنة ٥٣٨ ق. م. ، حيث تغلب ملك الفرس على بخت نصر ، فتنفس اليهود الصعداء ، واستمروا تحت سيطرة الفرس زهاء مائتي عام ، وبعدها وقعوا تحت حكم خلفاء الإسكندر الكبير ، ثم تحت سيطرة الرومان .. وفي سنة ١٣٥ ق. م. ثار اليهود على الرومان ، ولكن هؤلاء تغلبوا على اليهود ، وأخمدوا ثورتهم ، ثم أخرجوهم من فلسطين ، فهاموا على وجوههم في مختلف بقاع الأرض شرقا وغربا .. شرذمة في مصر ، وأخرى في لبنان وسورية ، وثالثة في العراق ، ورابعة في الحجاز ، أما اليمن فقد عرفها اليهود ، ورحلوا اليها للتجارة في عهد سليمان الذي تزوج ملكة اليمن بلقيس.

أما نعم الله عليهم التي أشار اليها بقوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) فكثيرة ، منها اختيار الأنبياء منهم كموسى وهارون ويوشع وداود وسليمان وأيوب وعزير وزكريا ويحيى وغيرهم ، ومريم ام عيسى اسرائيلية ينتهي نسبها الى داود ، ولكن اليهود لا يعترفون بالسيد المسيح ابن مريم (ع) ، ويزعمون ان المسيح المذكور بالتوراة لم يأت بعد.

محمد ويهود المدينة :

حين هاجر الرسول (ص) من مكة الى المدينة كان فيها من اليهود ثلاث عشائر : بني قينقاع ، وبني قريظة ، وبني النضير ، وقد أنشأوا فيها معاصر للخمور ، وبيوتا للدعارة ، ومراعي للخنازير ، وكانوا يحتكرون صياغة الذهب والفضة ، وصناعة الأسلحة ، ويتاجرون بالربا .. وبالإجمال كانوا هم السادة للحياة الاقتصادية بالمدينة .. شأنهم في ذلك اليوم شأنهم اليوم ، حيث حلوا .. وبعد مكوث النبي (ص) بالمدينة شعروا بالخطر المباشر على أرباحهم وامتيازاتهم ، لأن شباب المدينة لن يترددوا بعد اليوم على حوانيتهم ومواخيرهم ، وأهلها لن يأكلوا لحوم الخنازير .. ومعنى هذا ان اليهود يفقدون جميع مصادر الثراء والأرباح .. ومن أجل هذا أخذوا يكيدون للرسول الأعظم (ص) ، ويتآمرون مع المشركين ضد المسلمين ، تماما كما تتآمر اليوم القوى الرجعية حرصا على مصالحها الشخصية.

٩٢

وكأنّ النبي يوم دخل المدينة ، وعرف أوضاعها قد تنبأ بذلك ، وحسب له فأراد أن يلقي الحجة عليهم ، ويأخذهم بأقوالهم .. فترفق بهم ، وتلطف معهم ، فأجرى عهدا بينه وبينهم ، موقعا منه ومنهم ، على ان لهم الحرية التامة في دينهم ، وأموالهم ومعابدهم آمنين عليها ، وعلى أنفسهم ، على شريطة أن لا يعينوا عليه عدوا ، وإذا اختاروا القتال معه فلهم نصيب من المغنم .. وعليهم أن يشتركوا مع المسلمين في الدفاع عن المدينة تحقيقا للوحدة الوطنية ، لأن البلد للجميع ، لا لفئة دون فئة .. ولكن سرعان ما نكثوا العهود ..

ومتى صمدت العهود والمواثيق أمام تهديد المصالح؟ وهل من المعقول أن يقوم تعايش سلمي بين الغش والتغرير ، وبين لا ضرر ولا ضرار ، وكيف يعيش الذئب والحمل تعايشا سلميا؟ وأي جدوى من التذكير بالنعم ، ومن التحذيرات والنصائح إذا اصطدمت مع المصالح الشخصية ، والصفقات التجارية؟.

جاء في كتاب محمد رسول الحرية : «أشار النبي (ص) على التجار المسلمين أن ينشئوا سوقا جديدة في المدينة .. فأنشأوها ، ونشطت المعاملات فيها ، وأقبل التجار الغرباء عليها ، وآثروها على سوق اليهود ، لأن قواعد التعامل فيها كانت أكثر عدلا ، وأوفر ضمانا للبائع والمشتري».

وهذا وحده كاف لأن يملأ قلوب اليهود حقدا وغيظا على محمد ، ويحملهم على نقض العهد ، والانتقام منه ومن الإسلام بكل سبيل.

المعنى :

ابتدأ الله سبحانه خطابه مع اليهود بالتذكير بنعمه عليهم .. ومن هذه النعم كثرة الأنبياء فيهم ، وتشريفهم بالتوراة والزبور ، وتحريرهم من فرعون ، ونجاتهم من الغرق ، وانزال المن والسلوى عليهم ، واعطاؤهم الملك والسلطان في عهد سليمان ، وغير ذلك مما يستوجب الإيمان والشكر ، لا الجحود والكفر.

وتسأل : ان الخطاب موجه بظاهره الى يهود المدينة ، مع العلم بأن النعم المشار اليها منحها الله لآبائهم ، لا لهم؟.

٩٣

الجواب : ان النعمة على الآباء نعمة أيضا على الأبناء ، حيث يكتسب الابن شرفا من أبيه .. هذا ، إلى أن الجميع أمة واحدة.

وبعد أن ذكّرهم الله بنعمه خاطبهم بقوله سبحانه : (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وعهد الله هو الأخذ والعمل بما دلت عليه الفطرة ، ونزلت به الكتب من الإيمان بالله ورسله والعمل بأحكامه ، وقال صاحب مجمع البيان : «ان الله تعالى عهد اليهم في التوراة انه باعث نبيا ، يقال له محمد .. وعلى هذا أكثر المفسرين ، وبه يشهد القرآن».

أما عهد اليهود فهو عهد الله لهم ، ولكل من آمن وعمل صالحا فانه يجزيه بالأجر والثواب يوم القيامة ، وقيل : انه تعالى أعطاهم ان اتقوا أن يرفع من شأنهم في هذه الحياة ، وسنتعرض لفكرة الجزاء في الدنيا في المكان المناسب ان شاء الله.

ثم أمرهم سبحانه أن يؤمنوا بالقرآن ، ولا يسارعوا الى الكفر به وبمحمد ، ويموهوا على البسطاء ابتغاء المصالح الخاصة .. وان عليهم اقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، لتطهر نفوسهم وأموالهم. أما قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) فهو موجه إلى الأحبار والكبار ، لا إلى السواد ، لأن هؤلاء تابعون ، والعلماء متبعون ، وهم الذين يكتمون الحق على معرفة منه ، ويعظون ولا يتعظون.

ومرة ثانية نقول ونكرر ان المواعظ والنصائح لا تصمد أبدا أمام تهديد المصالح ، ومحال أن تترك أثرا إلا في نفس من لا مصلحة له ، ولا هدف إلا الحق. أما قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) فقد تكررت في الآية ١٥٣ من هذه السورة ، وهناك التفصيل.

ايضا يا بني اسرائيل الآة ٤٧ ـ ٤٨ :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨).

٩٤

اللغة :

لا يكون التفاضل الا بين طرفين ، وترجيح أحدهما على الآخر في الخير. ومعنى الوقاية الصيانة والحذر ، والمراد بها في كلام الله الخوف منه. ومعنى الجزاء المكافأة ، والمراد بها في الآية الكفاية والاستغناء. والشفاعة مأخوذة من الشفع ضد الوتر ، وقد أريد بها هنا الوسيلة الى الله ، ونتكلم عنها قريبا في فقرة مستقلة ، بالنظر لأهميتها. والعدل بالفتح ضد الجور ، والمراد به هنا الفدية ، أما العدل بكسر العين فمعناه المساوي.

الاعراب :

(يوما) قائم مقام المفعول به بعد حذفه ، أي اتقوا عذاب يوم ، أو شر يوم. و (شيئا) أيضا مفعول به ، وقيل يجوز جعله مفعولا مطلقا ، لأن معنى الشيء هنا الجزاء.

المعنى :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) هذه الآية تأكيد للآية السابقة ، وتمهيد لما يأتي بعدها من الآيات ، ونشير في فقرة تأتي الى الحكمة من التكرار ، والمراد بالذكر هنا الشكر ، أي اشكروا نعمتي عليكم بالسمع والطاعة.

(وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) .. فضلهم الله على شعوب ذاك العصر. واللام في العالمين للعموم العرفي ، لا للعموم الحقيقي ، ويكفي في صحة التفضيل أن تكون لهم الأفضلية من جهة واحدة ، لا من جميع الجهات ، وهذه الجهة التي امتاز بها بنو إسرائيل ان الله أرسل منهم العديد من الأنبياء والرسل : فموسى وهارون ويوشع وعزير وزكريا ويحيى ، وغيرهم كثير ، وكلهم من بني إسرائيل (١).

ومهما يكن ، فان تفضيلهم على أهل زمانهم من وجه لا يدل على فضلهم

__________________

(١) انظر فقرة : «لا قياس على اليهود» في تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ).

٩٥

وتفضيلهم على أهل ذاك الزمان من كل وجه ، ولا على ان كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم ، بل ان تضخم عدد الأنبياء فيهم ومنهم حجة عليهم ، لا لهم ، لأنه يدل على انهم كانوا لشدة ضلالهم في أمسّ الحاجة الى كثرة التحذير والانذار.

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ) أي ان كل انسان وما عمل ، فلا ظاهر ولا باطن ، ولا تعاون ولا تعاطف : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ـ عبس».

(وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي ان الشأن في يوم القيامة ؛ تماما كالموت لا تجدي معه واسطة من أي كان ، ولا تنفع فدية وان غلت ، ولا تمنع قوة مهما عظمت .. لا شيء على الإطلاق الا رحمة الله : (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).

التكرار في القرآن :

مرة ثانية يذكّر الله بني إسرائيل بنعمته ، وقد أعاد الآية بلفظها بعد خمس آيات ، وليست هي الآية الوحيدة التي أعادها القرآن فلقد كرر العديد من آياته في أكثر من سورة بخاصة ما يتصل منها ببني إسرائيل ، وسيرتهم مع كليم الله موسى (ع) .. وقد تساءل الكثيرون عن الحكمة من التكرار؟ واتفق المفسرون على ان الغرض من التكرار هو التأكيد.

وبمضي الأيام تكتشف الأحزاب ، وأرباب الأهداف من الساسة والتجار وأصحاب الشركات ان التكرار من اجدى الوسائل للترغيب والاقناع ، وترويج السلع والآراء ومن أجل هذا تفننوا في الاعلانات ، وتخصصوا بها ، ورصدوا لها المبالغ.

قال غوستاف لوبون في كتاب الآراء والمعتقدات : «من يكرر لفظا أو صيغة تكرارا متتابعا يحوله الى معتقد» .. وقال الدكتور جبسون في كتاب كيف تفكر : «للعبارات حين تكرر أمام أعيننا ، وعلى مسامعنا مرة ومرة فعل مغناطيسي

٩٦

ينوم عقولنا تنويما». ولبلوغ هذه الغاية يكرر القرآن المعنى بأسلوب آخر ، مع زيادة الوعد أو الوعيد ، وما اليهما ، حسبما تستدعيه الحكمة.

الشفاعة :

لا بد للشفاعة من أطراف ثلاثة : مشفوع لديه ، ومشفوع له ، وشفيع هو واسطة بين الاثنين يتوسل لدى الأول أن يعين الثاني ، سواء أأذن المشفوع لديه بالشفاعة ، أو لم يأذن بها .. هذا في الشفاعة لدى المخلوق ، أما الشفاعة لدى الخالق تعالى فان معناها العفو والغفران للمذنب ، ولن تكون الشفاعة عند الله إلا بإذن من الله.

وقال صاحب مجمع البيان : «الشفاعة عندنا مختصة بدفع الضار ، وإسقاط العقاب عن مذنبي المؤمنين».

وأنكر المعتزلة والخوارج شفاعة محمد (ص) في أهل الكبائر من أمته بهذا المعنى الذي نقلناه عن صاحب مجمع البيان .. وأثبتها الإمامية والأشاعرة.

والعقل لا يحكم بالشفاعة من حيث الوقوع ، لا سلبا ، ولا إيجابا ، أما من حيث الإمكان فان العقل لا يرى أي محذور من وجود الشفاعة ، وعليه يتوقف وقوعها وثبوتها على صحة النقل عن الله ورسوله ، فمن ثبت لديه هذا النقل وجب عليه أن يؤمن بالشفاعة ، وإلا فهو معذور .. وبهذا يتبين معنا ان الشفاعة ليست أصلا من أصول الدين ، وان من أنكرها مؤمنا بالله ورسوله واليوم الآخر فهو مسلم بلا ريب.

وإذا رجعنا الى الآيات القرآنية وجدنا ان منها ما ينفي الشفاعة بوجه عام ، كقوله تعالى : في الآية ٢٥٤ من سورة البقرة : (أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) .. والنكرة في سياق النفي تفيد العموم ، ومنها ما أثبتت الشفاعة بشرط ، كقوله تعالى : (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) ـ النجم ٢٦».

وإذا عطفنا هذه الآية على الآية السابقة ، وجمعناهما في كلام واحد تكون النتيجة هكذا : ان الله يقبل الشفاعة من الشفيع بعد أن يأذن هو بها .. وليس

٩٧

من الضروري أن يصدر اذنا خاصا من الله الى نبيه باسم كل واحد واحد لمن يرتضي الشفاعة له ، بل يكفي ان يعلم النبي بأن الشفاعة تحل ولا تحرم إذا لم يكن المشفوع له من أهل الإلحاد والكفر بالله ، ولا من مثيري الحروب وسفاكي الدماء ، ولا من مضطهدي العباد السالبين الناهبين للأقوات والمقدرات ، وانما هو ـ أي المشفوع له ـ فرد من الأكثرية الغالبة الذين يرتكبون الذنوب العادية المتفشية .. وبكلمة ان المراد بإذن الله بالشفاعة أن يوحي الى نبيه باني قد أبحت لك أن تشفع لمن شئت من أفراد أمتك الذين اقترفوا نوعا خاصا من الذنوب .. وعندها يكون أمر هؤلاء بيد الرسول الأعظم (ص) .. وهذا أقل ما يمنحه الله لمحمد (ص) غدا .. وهو بدوره يشفع لمن هو أهل للشفاعة ، فقد ثبت انه قال : «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».

ونحن على يقين من ثبوت الشفاعة في الإسلام من حيث هي ، ولكنا نجهل التفاصيل ولا نقطع فيها برأي ، وفي الوقت نفسه نؤمن ايمانا جازما بأن أفضل شفيع للإنسان هو عمله ، وان أنجح ما يستشفع به المذنبون هو التوبة .. ان الله سبحانه لا يعطي حجرا لمن استجار مخلصا برحمته ، ولاذ منكسرا بجوده وكرمه.

واذ نجيناكم الآة ٤٩ ـ ٥٠ :

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠))

اللغة :

الآل مأخوذ من آل يؤول بمعنى رجع ، فكل من رجع الى غيره بنسب ، أو رأي ، أو عقيدة فهو من آل من يرجع اليه ، ثم كثر استعمال الآل في أهل

٩٨

بيت الرجل الذي هم منه ، حتى اختص عرفا بهذا المعنى .. بل لا يقال آل فلان الا إذا كان لهذا الفلان مكانة وشأن ، بعكس الأهل ، فإنها أعم من ذلك .. والمراد بآل فرعون هنا أتباعه الذين كانوا يباشرون التنكيل بالاسرائيليين بأمر منه. وقال أبو حيان الأندلسي في تفسيره الكبير البحر المحيط : «لم يكن لفرعون ابن ولا بنت ولا عم ولا خال ولا عصبة» .. ولا أعرف الدليل الذي اعتمده لقوله هذا.

وفرعون لقب لملك مصر في ذاك العهد ، ككسرى الفرس ، وقيصر الروم ، ونجاشي الحبشة ، وتبع اليمن ، وخاقان الترك .. وقد أصبحت هذه الألقاب المالكة في خبر كان ، ولله الحمد ، ومعنى البلاء الاختيار والامتحان بما ينفع أو يضر ، قال تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ـ الاعراف ١٦٧».

الاعراب :

فرعون ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة ، وسوء العذاب مفعول مطلق ، لأن معنى يسومونكم يعذبونكم.

المعنى :

بعد أن ذكّر الله سبحانه بني إسرائيل بنعمه عليهم بنحو الإجمال ذكّرهم بها على سبيل التفصيل ، وأولى هذه النعم التي أشار اليها هي نجاتهم من فرعون وأتباعه الذين أذاقوا اليهود أشد العذاب ، وفسر الله سبحانه هذا العذاب بقوله : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يقتلون الذكور من نسلكم ، ويستبقون الإناث أحياء ليتخذوهن خدما (١) ..

__________________

(١) قال صاحب مجمع البيان : ان فرعون رأى في منامه ما أخافه وأزعجه ، وان السحرة فسروا له المنام بغلام من بني إسرائيل يقتله ، ومن أجل هذا فعل فرعون بالاسرائيليين ما فعل .. وهذا جائز في نفسه ، ولكن لا دليل يعتمد عليه.

٩٩

هذا ، الى ان المصريين كانوا يسخّرون اليهود في قطع الأحجار ونقلها ، وحفر الأقنية ، وما الى ذلك من الأعمال الشاقة.

وجاء الخطاب لليهود المعاصرين لمحمد (ص) لأنهم على دين أسلافهم ، وراضون بعملهم ، ومن أحب عمل قوم شاركهم فيه.

(وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي ان الله سبحانه قد اختبركم ـ يا بني إسرائيل ـ في السراء والضراء معا ، لتعرفوا : هل تجاهدون وتصبرون في الجهاد صبر الكرام في الأولى ، وتشكرون على الثانية ، أو انكم تخضعون وتستسلمون في الشدة ، وتكفرون وتطغون في الرخاء شأن كل جبان لئيم.

وتجدر الاشارة الى ان الله سبحانه لا يختبر عبده ليعلم ما هو عليه .. كلا ، فانه يعلم بكل كائن قبل أن يكون .. ولكنّه يختبر العبد ، لاقامة الحجة عليه ، إذ لا دعوى لمن لا حجة له ، حتى ولو كان المدعى به ثابتا في علم الله تعالى.

وأشار سبحانه الى النعمة الثانية على بني إسرائيل بقوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) أي فصلنا البحر وجعلناه اثني عشر طريقا على عدد الأسباط ، والباء من (بكم) للسببية أي بسببكم ، والسبط هو ولد الولد ، والأسباط من بني إسرائيل عشائر من نسل يعقوب.

والخلاصة لقد كان اليهود في غاية الضعف والمذلة ، وكان خصمهم في غاية القوة والعزة ، فعكس الله الآية على يد نبيه موسى (ع) فصاروا هم الأعزاء ، وخصمهم الذليل ، وعاينوا (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ذل من بالغ في إذلالهم ، وهلاك من حاول إهلاكهم ، وبهذا لزمتهم الحجة ، ووجب عليهم أن يتعظوا ويعتبروا ولا يعاملوا غيرهم بما كان يعاملهم الغير.

وما أشبه معاملة اليهود اليوم لعرب فلسطين بمعاملة الفراعنة لليهود من قبل .. وستنعكس الآية ، وتدور الدائرة على اليهود كما دارت على فرعون لا محالة ، وعليهم في يد بخت نصر والرومان .. ان للباطل جولة ، ثم يضمحل .. وأعجب ما في الإنسان انه يقع في الشدائد ، فإذا أنجاه الله منها طغى وبغى ، ونسي كل شيء.

وقال كثير من أهل التفسير : ان البحر المذكور هو بحر القلزم أي البحر الأحمر.

١٠٠