التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

والرازق ، فان معناه انه يخلق ، ولم يخلق ، ويرزق ، ولم يرزق .. لذا كان ليبنتز يسمي الله المهندس ، أي المخترع ، وأفلاطون يسميه الصانع ، اشارة إلى أنه خالق غير مخلوق.

ومنهم من استدل على وجود الله بنظام العالم وتنسيقه واطراد هذا النظام والتنسيق ، ويسمى هذا الدليل بالدليل الغائي.

ـ ملحوظة ـ يرى الكثير من علماء الطبيعة الجدد أن ظواهر الطبيعة لا يجوز تفسيرها بالعلة الغائية ، بل يتحتم تفسيرها بالعلة الفاعلية.

والجواب : انّا نستكشف وجود العلة الفاعلية من وجود العلة الغائية ، تماما كما نستكشف من ترتيب السرير ترتيبا هندسيا وجود النجار الخبير. ويتضح الجواب أكثر من تقرير الفرض الضروري فيما يلي :

ومنهم من اعتمد الفرض الضروري الذي يعتمده علماء الطبيعة وغيرهم في اكتشاف العديد من الحقائق ، ومن هذا الفرض نظرة الجاذبية التي اكتشفها نيوتن من سقوط التفاحة على الأرض .. فان جميع الافتراضات غير الجاذبية خاطئة ، وافتراض الجاذبية صحيح ، ومن هنا جزم نيوتن بوجودها.

أما تطبيق هذا الدليل على ما نحن فيه فهو انّا نشاهد نظام العالم وتماسكه واطراده ، وكل ما نفترضه لوجود هذا النظام غير الخالق الحكيم فهو فرض فاسد يرفضه العقل ، ولا يتقبل العقل إلا وجود خالق حكيم هو الذي نظّم ورتب ، واليك هذا المثال :

إذا رأيت اسمك مكتوبا في الفضاء بأحرف من نور ، ثم بحثت في كل جهة فلم تر أحدا ، فلا بد ان تفترض ان إنسانا عاقلا يوجد في مكان ما يملك آلة يستطيع بواسطتها أن يرسم أحرفا في الفضاء من نور متماسكة منسجمة .. وأي فرض غير هذا ، كالصدفة ، أو اصطدام سيارتين ، أو وجود بركان ، كل ذلك وما اليه يجرك الى الخطأ ، وعلى الأقل لا يركن اليه عقلك الا إذا افترضت وجود الشخص الذي يملك الآلة .. وهكذا الحال بالنسبة الى نظام الكون.

وأخطر كلمة وأوضحها كلمة «فولتر» ، حيث يقول : «ان فكرة وجود الله فرض ضروري ، لأن الفكرة المضادة حماقات». وقرأت في كتاب

٦١

الظاهرة القرآنية ص ٩١ طبعة ١٩٥٨ : «ان نوعا من النمل في أمريكا يغادر مساكنه قبل اندلاع الحريق فيها بليلة». ومهما فرضت لذلك من الفروض والتفاسير فلا تركن النفس أبدا الا بفرض وجود مدبر حكيم أعطى لكل نفس هداها.

ومنهم من يعتمد البرهان الخلقي ، ويقول : لو لا الايمان بوجود الله لانهارت المقاييس الخلقية ، ولم يكن من رادع يردع الناس عن الشر ، ولا وازع يبعثهم على عمل الخير.

وهذا الدليل في واقعه أقرب الى انكار الخالق من الاعتراف به ، إذ يكون الايمان بالله ، والحال هذه ، وسيلة لا غاية ، بحيث لو افترض وجود انسان يفعل من تلقائه ما ينبغي فعله ، ويترك ما ينبغي تركه لما وجب عليه الايمان بالله .. وليس من شك ان جعل الله أداة أقبح من إنكاره.

ومنهم من يعتمد الدليل اللدني ، وهو الشعور والاحساس القلبي مباشرة ، ويقول : ان قلب الإنسان يدرك وجود الخالق مباشرة من غير براهين ، ومقدمات ، تماما كما يحس الحب والبغض ، وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٣ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) فقرة المعرفة ، رقم ٤.

وأفضل الطرق كلها هو الطريق الذي استدل به الله سبحانه على وجوده ، ويتلخص بالنظر والتفكير في خلق السموات والأرض ، وفي الإنسان والموت والحياة ، والنعم الجلّى ، وما إلى ذاك مما جاء في القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، ونهج البلاغة.

وهذا الطريق ، وان رجع في حقيقته الى الدليل الكوني والغائي الا أن تقريره في هذا الأسلوب يبعده عن التكلف والتعسف ، ويقربه الى افهام الخواص والعوام .. ومن لا يقتنع من الله سبحانه بما أورده هو جل وعلا من الأدلة على وجوده ، فهل يقتنع من عبد مثله؟.

وغريبة الغرائب ان الجاحد يؤمن ويعتقد بأن القميص الذي يلبسه ـ مثلا ـ قد زرع بذره الفلاح بانتظام ، ثم غزله وحاكه العامل بإتقان ، ثم باعه التاجر بمعرفة ، ثم فصّله وخاطه الخياط على القدر المطلوب ، انه يعتقد بهذا كله ، ثم لا يعتقد بوجود من اتقن وصنع كل شيء؟.

وبالاضافة الى الأدلة على وجود الله التي تدخل تحت ضابط عام ، وقاعدة

٦٢

كلية ، فانه سبحانه قد أعطى كل انسان دليلا خاصا به وحده على وجوده جل وعز لا يشاركه فيه سواه ، فما من انسان أيا كان إذا رجع إلى ما مر به من حوادث وتجارب ، وتأملها بإمعان إلا ويجد في حياته أشياء لا تفسير لها إلا ارادة الله ومشيئته.

واني أستبعد كل البعد أن يعيش انسان ، أي انسان ، ولو كان كافرا ، يعيش حينا من الدهر دون أن تمر لحظة واحدة في حياته ، ولا يرجع فيها الى الله تلقائيا ومن غير قصد وشعور ، وإلى من يتجه في أحلك لحظات الشدة؟ انه من غير شك يعود الى فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وطبعت كل مولود بطابعها ، حيث لا أب يعلمه ، ولا أم تلقنه ، ولا محيط يكيفه.

قال زنديق للإمام جعفر الصادق (ع) : ما الدليل على وجود الصانع؟

قال الإمام: لو ركبت البحر ، وهاجت الرياح ، وغرقت السفينة والملاحون ، وبقيت أنت حيا ، فهل ترجو النجاة لنفسك؟

قال الزنديق : أجل.

قال الإمام : ان الصانع هو الذي ترجوه آنذاك.

وبالتالي ، فاني أنصح من يشك في وجود الله أن يقرأ أدلة الجاحدين والماديين ، فانه سينتهي حتما الى الإيمان بالله ، إذ لا يجد دليلا على انكارهم إلا انهم يريدون ان يروا الله بالعين ، ويلمسوه باليد ، ويشموه بالأنف.

وقد ذكرت الكثير الكثير من أدلة هذا الباب في كتاب «الله والعقل». وكتاب «فلسفة المبدأ والمعاد» الذي وضعته خاصة للرد على الفلسفة المادية ، وكتاب «بين الله والإنسان». وكتاب «معالم الفلسفة». وكتاب «الإسلام مع الحياة» وكتاب «إمامة علي والعقل» (١). وغير هذه المؤلفات من الكتب والمقالات .. والله سبحانه المسئول أن يطهر نفوسنا من الشك والريب ، وأن يشملها بتوفيقه ورضوانه.

__________________

(١) اسطر هذه الكلمات في اليوم السابع من الشهر الثالث من سنة ١٩٦٧ ، وفيه قدمت دار العلم للملايين ٥ كتب من مؤلفاتي ، إلى المطبعة لتعيد طبعها ، وتجمعها في كتاب واحد باسم «الإسلام والعقل» وهذه الكتب الخمسة هي الله والعقل. النبوة والعقل. الآخرة والعقل. إمامة علي والعقل. المهدي المنتظر والعقل.

٦٣

وأطلنا الكلام في الأصل الأول ، وهو التوحيد ، ليكون كالضابط العام الذي يرجع اليه في كل ما يتصل به من الآيات.

فأتو بسورة الآة ٢٣ ـ ٢٥ :

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

كما أرشد القرآن الى طريق العلم بوجود الله سبحانه فقد أرشد أيضا الى طريق العلم بنبوة محمد (ص) .. من ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) أي محمد (ص). والمراد بها التحدي بأن يأتوا بحديث مثل القرآن ، وهم أهل الحديث والكلام ، بل هو سيد عملهم .. وليس من الضروري أن يأتوا بما يعادله في الكم والحجم ، فان ذلك متروك لاختيارهم ، ان شاءوا كلا ، وان شاءوا بعشر سور ، وان شاءوا بسورة واحدة .. وأيضا ليس من الضروري أن يأتوا بمثل معانيه من قوانين الأخلاق ، وأصول التشريع ، والأخبار بالغيب ، وما اليه ، بل بما يستطيعون من كل معنى وغرض ، على أن يكون لبيانهم نفس الخصائص التي للقرآن.

٦٤

وهذا الطلب ، كما ترى ، ليس فيه تعجيز ـ لو كان القرآن من عند غير الله ـ لأنه لم يطلب منهم أن يحملوا الجبال ، أو يجففوا البحار ـ مثلا ـ وانما طلب الحديث ، ولا شيء أيسر منه عليهم ، وحيث ثبت عجزهم فقد ثبت ان هناك سرّا ، ولا تفسير لهذا السر الا الوحي والنبوة ، وهكذا كل ما يستعصي تفسيره على العلم بما هو علم لا بد أن يفسر بما فوق الطبيعة.

ولا شيء أقوى في الدلالة على صدق القرآن من هذا الجزم والوثوق في قوله تعالى : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) .. وحتى اليوم ما فعل واحد من بعدهم ، وما زال الباب مفتوحا الى آخر يوم.

وبعد ان ذكر الله الكافرين ، وما لهم من الجحيم والعذاب عقب بذكر المؤمنين ، وما لهم من النعيم والثواب جريا على عادة القرآن من شفع الترغيب بالترهيب ، واقتران الوعد بالوعيد مبالغة في الإرشاد والموعظة.

وقال أكثر المفسرين : ان الضمير في مثله يعود الى القرآن ، والمعنى فأتوا بسورة على صفة القرآن وخصائصه في الأسلوب.

وقال آخرون : بل هو عائد الى عبدنا ، وهو محمد (ص) ، والمعنى فأتوا بأميّ لم يقرأ كمحمد يستطيع أن يأتي بمثل هذا القرآن الذي أتى به هذا الرجل الأمي.

والمعنى مستقيم وصحيح على كلا القولين ، ولكن القول الأول أشهر وأظهر ، حيث قال عز من قائل : (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا) ولم يقل : ان ارتبتم في محمد (ص) .. ومع ذلك فان للقول الثاني وجها قويا ، لأنه لو افترض ان عالما قديرا أتى بمثل أسلوب القرآن لا يكون ذلك نقضا للتحدي ، لأن وجه التحدي محصور بالإتيان من أميّ ، لا من عالم قدير.

والمراد بالوقود كل ما توقد النار به ، والمراد بالناس العصاة ، وبالحجارة الأصنام التي كان يعبدها المشركون.

سر الاعجاز في القرآن :

النبوة سفارة بين الله ، وبين خلقه يخص بها من يشاء من عباده ، ليبلغهم

٦٥

عنه ما لا غنى لهم عن معرفته .. وقد عزز الله كل نبي ببينة جلية واضحة على صدقه في نبوته ، لتكون له الحجة على من أرسل اليهم ، والشرط الأساسي لهذه البينة أن تكون من نوع خاص يظهر على يد الأنبياء بالذات دون غيرهم حذرا من الخلط والاشتباه بين النبي وغيره.

ولمحمد (ص) بيّنات ودلائل على نبوته ، منها هذا القرآن الذي عمت نسخه كل مكان ، وأذيعت سوره وآياته في المكبرات ، ومن الاذاعات في الشرق والغرب ، حتى من إسرائيل .. ووجه الدلالة أنه تحدى ، وما زال ، ولن يزال يتحدى كل منكر أن يأتي هو بنفسه ، أو يأتي بمن يأتي بسورة من مثله. وما نقل عن واحد قديما وحديثا انه استطاع أن ينقض هذا التحدي ، على الرغم من كثرة الجاحدين ، وعدائهم للإسلام والمسلمين ، وحيث ثبت العجز فقد ثبتت نبوة محمد (ص) بالبداهة.

وبعد أن اتفق العلماء على ان القرآن معجزة اختلفوا في وجه الاعجاز وسره : هل هو الأسلوب والشكل من الجمال والروعة ، أو هو المضمون والمحتوى من العلم وقوانين التشريع ، والاخبار بالغيب ، وما إلى ذلك ، أو هما معا؟

وقد أطالوا الكلام في بيان وجه الاعجاز ، ووضعوا فيه كتبا خاصة ، ولا أريد التطويل في ذكر ما قيل ، واقتصر على ما أراه وجها للاعجاز ، ويتلخص بأن الإنسان يستطيع أن يقلد ويحاكي إنسانا مثله في قول أو فعل تكلفا وتصنعا بالنظر إلى ان كلا منهما يصدر عن العقل والخيال ، اما ان يقلد ويحاكي خالقه وصانعه في أثر من آثاره فمحال ، لأن الإنسان لا يتجاوز حدوده كمخلوق ، مهما بلغ من القوة والعظمة .. ومن الخير أن ننبه على ما يلي:

التحدي :

أشرنا الى ان محمدا تحدى المعاندين بالقرآن ، وليس من شك ان التحدي يتم ويصح إذا كان الفعل من النوع الذي يقدر عليه الشخص المقصود بالتحدي ، كما لو طلبت ممن له يد سليمة أن يضعها على رأسه ، أو يرفع بها ريشة من الأرض ، أما إذا طلبت من الأمي أن يقرأ ، ومن غير الطبيب أن يشفي المرضى ،

٦٦

ومن غير الشاعر أن ينظم الأشعار فلا يكون من التحدي في شيء .. وقد تحدى محمد (ص) المعاندين بما من شأنه أن بكون مقدورا لهم ، وهو الكلام ، فعجزوا عنه ، وعجزهم هذا أضفى على القرآن صفة المعجزة.

وتسأل : ينبغي أن يكون معجزة بالنسبة الى البليغ في اللغة العربية ، لا بالنسبة الى الجاهل بها ، أو الضعيف من أهلها؟.

والجواب : ان القرآن معجزة بما هو كلام الله ، بصرف النظر عن العربي البليغ وغيره ، وانما نعرف المعجزة ، ونكتشفها من عجز العربي البليغ ، تماما كما نكتشف من عجز بطل السباحة العالمي في البحر الهائج عجز سواه ، مع التقدير بأنه الأول في بطولة السباحة .. وبتعبيرنا نحن الفقهاء ان عجز العربي البليغ سبب للمعرفة بمعجزة القرآن ، وليس جزءا ولا شرطا لها.

هل لمحمد معجزة غير القرآن؟

يرى البعض ان لا معجزة لمحمد (ص) الا القرآن ، أما أنا فمع الذين يؤمنون بأن معجزاته لا يبلغها الإحصاء ، لأن الحكمة الإلهية تستدعي تنوع المعجزة واختلافها باختلاف الموارد والأشخاص ، كما استدعت حكمته سبحانه أن يباهل نبيه نصارى نجران .. هذا إذا كان طالب المعجزة يبتغيها بصدق ، أما الكاذب المتعنت الذي لا يجدي معه شيء فيقتصر الأمر معه على القرآن ، لأن اعجازه مبدأ عام لا يختص بعصر دون عصر ، ولا بفئة دون فئة ، أو بفرد دون فرد .. وقد تستدعي الحكمة ان لا تعرض المعجزة على الشخص إطلاقا ، كما لو اكتفى بمجرد شعوره وإحساسه ، أو بيمين النبي ، فقد جاء في الأخبار ان رجلا قال لمحمد (ص) : ما لي وللمعجزات؟ .. احلف بالله انك رسول الله ، وأنا أومن بك. فقال الرسول : والله اني رسول الله. فقال الرجل : اشهد ان لا إله الا الله ، وان محمدا رسول الله.

والذي يدلنا على ان آفاق محمد (ص) ومعجزاته أعظم من أن يبلغها الإحصاء ان رجل الدين فيما مضى كان يستدل على نبوة محمد (ص) بما جاءت به الأخبار من تكلم الحصى له ، وسعي الشجرة اليه ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وكان

٦٧

الناس يتقبلون هذا يومذاك ، أما اليوم حيث يتطلع الناس الى حياة أفضل فانّا نستدل مما نستدل به على نبوته بأنه وقف مع المستضعفين ، وحارب المستأثرين والظالمين ، وبفضله وفضل شريعته نزعت التيجان عن رؤوس الجبابرة ، وألقيت تحت أقدام رعاة الإبل ، ووزعت كنوز الملوك على الفقراء والمساكين.

وعلى أية حال ، فان جميع معجزات الرسول الأعظم هامة وعظيمة ، ولكن أهمها جميعا في تقديري أمران :

الأول : شريعة القرآن التي نظمت حقوق الإنسان ، وعلاقات الناس بعضهم مع بعض على أساس العدل والتعاون ، وسنعرض كل شيء في مورده ان شاء الله.

الثاني : مباهلة الرسول مع وفد نجران التي سجلها الله سبحانه في سورة آل عمران ، ان هذه المباهلة هي الدليل الحاسم ، والحد الفاصل الذي يضع المعاند الجاحد أمام العذاب والهلاك وجها لوجه ، هلاك ينزله محمد من السماء بكلمة واحدة تخرج من فمه الطاهر .. ان هذا التحدي لا مثيل له على الإطلاق في تاريخ البشرية .. ويأتي الشرح والتفصيل في محله ان شاء الله تعالى.

وأطلنا الكلام في الأصل الثاني ، وهو النبوة ، ليكون الضابط العام الذي يرجع اليه في كل ما يتصل به من الآيات. وقد ألفت كتابا خاصا فيه ، أسميته «النبوة والعقل» طبع أربع مرات.

ان الله لا يستحي ان يضرب مثلا الآة ٢٦ ـ ٢٧ :

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

٦٨

الحياء :

إذا نسب الحياء الى الإنسان فمعناه تغير حاله الطبيعية الى حال أخرى ، لسبب من الأسباب ، وحياء الإنسان حسن وقبيح ، والحسن منه أن يستحي المرء من فعل القبائح والرذائل ، ولذا يقال لمن يفعلها دون مبالاة : إذا لم تستح فاصنع ما شئت .. وقال الإمام الصادق (ع) : لا حياء لمن لا إيمان له.

أما القبيح من هذا الحياء فهو أن يترك المرء فعل ما ينبغي فعله تخوفا وتهيبا ، كالاستحياء من التعلم وطلب المعرفة ، وما إلى ذاك ، قال الإمام أمير المؤمنين (ع) : قرنت الهيبة بالخيبة ، والحياء بالحرمان ، والفرص تمر مر السحاب .. وقديما قيل : لا حياء في الدين.

هذا إذا نسب الحياء الى الإنسان ، أما إذا نسب اليه سبحانه فيراد به ترك الفعل ، ومن ذلك ما جاء في الأخبار : ان الله يستحي من الشيخ الكبير ، أي يترك عذابه وعقابه.

والمرد بالمثل الشبيه والنظير ، ويضرب المثل بقصد توضيح الفكرة ، وازالة اللبس عنها.

والمراد بعهد الله ما قامت به الحجة لله على عباده ، سواء أكان مصدر هذه الحجة الفطرة والعقل ، أو النقل الثابت بكتاب منزل ، أو على لسان نبي مرسل .. والمراد بالميثاق الإبرام والأحكام .. وأعظم عهود الله المبرمة المحكمة توحيده والإخلاص له بالعبودية التي دل عليه العقل ، وأقره الشرع .. والمراد بقطع ما أمر الله به ان يوصل أوامره ونواهيه.

الاعراب :

يصح أن تكون «ما» من قوله تعالى : (مَثَلاً ما) زائدا جيء بها للتوكيد ، و «بعوضة» مفعولا أولا ، و «مثلا» مفعولا ثانيا مقدما ، والتقدير ان الله لا يترك جعل البعوضة مثلا ، وقيل : يجوز أن يكون «مثلا» حالا من بعوضة.

وأيضا يجوز أن تكون «ما» اسما مبهما بمعنى شيء من الأشياء ، وعليه تكون مفعولا ليضرب ، وبعوضة بدلا منها ، ومثلا مفعولا ثانيا مقدما ، والتقدير

٦٩

ان الله لا يترك جعل شيء من الأشياء مثلا ، حتى ولو كان هذا الشيء بعوضة.

والمصدر من أن يوصل بدل من الضمير في «به» ، أي يقطعون ما أمر الله بصلته.

الهدى والضلال :

يطلق الهدى على معان :

«منها» : البيان والإرشاد ، وأكثر آيات الهدى في القرآن ، والكثير منها تحمل ذلك ، مثل قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) .. وقوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى). أي البيان ، ولا بيان لله الا ما جاءت به الرسل ، أو حكم به حكما بديهيا لا يتطرق اليه الشك والاحتمال.

و «منها» : ان يتقبل الإنسان النصيحة ، وينتفع بها ، ومنه قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) ـ يونس ١٠٨».

و «منها» : التوفيق والعناية من الله بوجه خاص ، كقوله سبحانه : (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» ) .. وقوله : (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) ـ الحج ١٦» ، أي يوفقه الى العمل بالهداية ، ويمهد له السبيل اليها .. وبديهة ان الهداية بمجرد البيان لا تلازم التوفيق الى العمل ، بل قد وقد .. ومن ذلك قوله عز من قائل : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ). أي لا عليك ان يعملوا بهداك ، أو لا يعملوا ، وانما عليك البيان.

و «منها» : الثواب ، كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ـ يونس ٩» ، أي يثيبهم بسبب ايمانهم ، وكذلك قوله : (يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ).

و «منها» ان يراد بالهدى المرشد والمبين بالنظر الى ان الهداية حصلت بسببه ، وهذا هو المقصود هنا بقوله تعالى : (يَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ، قال صاحب مجمع البيان : «قوله يهدي به كثيرا يعني الذين آمنوا به ، وقالوا هذا في موضعه ، فلما حصلت الهداية بسبب الله أضيفت اليه».

٧٠

و «منها» : ان يراد به الحكم والتسمية بالمهتدي تماما كقولهم عدّله القاضي ، أي حكم بعدالته ، وهذا المعنى تصح نسبته الى الله سبحانه.

وكذلك الضلال يطلق على معان :

منها» : التلبيس والتشكيك والإيقاع في الفساد والمنع عن الدين والحق ، وهذا لا يضاف الى الله بحال ، بل ينسب الى إبليس وأتباعه ومنه قوله تعالى حكاية عن إبليس. (لَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ). وقوله : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ). وقوله : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ).

و «منها» : العقاب ، وفي القرآن آيات كثيرة بهذا المعنى ، منها : (يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) .. (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) .. و (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ). أي يعاقب الكذاب والكافرين والظالمين.

و «منها» : ان يراد به الحكم والتسمية بالضال ، كقولك : أضله فلان إذا أردت انه نسبه الى الضلال ، واعتبره من الضالين. ويجوز هذا المعنى عليه سبحانه.

و «منها» : التخلية بين المرء ونفسه .. فمن أهمل ولده من غير عناية وتربية يصح أن يقال : أضلّه أبوه.

و «منها» : الضياع ، تقول : أضلّ فلان ناقته ، أي ضاعت منه ، وهذا أيضا لا يضاف إلى الله.

و «منها» : الابتلاء والامتحان ، بحيث يحصل الضلال عند البيان الذي يمتحن الله به عباده ، قال صاحب مجمع البيان : «المعنى ان الله تعالى يمتحن بهذه الأمثال عباده ، فيضل بها قوم كثير ، ويهتدى بها قوم كثير».

المعنى :

ومحصل معنى الآيتين ان الله لا يترك ضرب الأمثال بما يراه الجهلة والسفلة حقيرا كالعنكبوت والذباب والبعوضة ، وغيرها ، لأن الله خالق كل شيء ، ورب كل شيء ، يستوي لديه جناح البعوضة ، والكون بكامله .. هذا ، إلى ان ضرب الأمثال موجود في جميع اللغات ، والغاية منه جلاء الأفكار المجردة

٧١

بمقارنتها بشيء محسوس ، فكل ما يحقق هذه الغاية يصح جعله مثلا ، صغيرا كان أو كبيرا ، وبه تتم الحجة على كل من خالف وعاند.

وقد امتحن الله الناس بهذه الأمثال كما امتحنهم وابتلاهم بغيرها من الدلائل والآيات ، فعمل بها كثير ، وأعرض عنها كثير ، والذين عملوا بها هم الطيبون المؤمنون ، والذين أعرضوا هم الفاسقون الضالون ، وصحت اضافة الهداية والضلال اليه سبحانه بالنظر الى أنه هو الذي ضرب الأمثال التي كانت رحمة على من اتعظ بها ، ونقمة على من لم يتعظ.

ومن المفيد ان نقدم مثالا لتوضيح هذه الفكرة : عالم ارتفع به علمه إلى أعلى المناصب ، فحسده من حسده ، حتى بلغ الحسد منه مبلغا أودى بجسمه وعقله ـ ملحوظة قال أمير المؤمنين : صحة الجسد من قلة الحسد ـ فيصح أن نقول تجوزا : العالم هو الذي أدّى بالحاسد الى هذه النتيجة السيئة ، تماما كما تقول : أفسدت فلانة الحسناء فلانا ، وأذهبت عقله ، وربما لم تكن تعرف عنه شيئا ولكن لما فسد عقله من أجلها أضيف الفساد اليها ، وبهذا الاعتبار ساغت نسبة الضلال الى الله مجازا ، لأنه هو الذي أبان الحجة الدامغة وأعلنها ، وترتب على اعلانها مخالفة المبطل وضلاله ، ولو سكت الله عن بيان الحجة لانتفى موضوع الطاعة والعصيان ، ولم يكن هناك ضال ومهتد.

وقد وصف الله من لا يتعظ بالأمثال ، وصفه بالفسق ، ونقض العهد ، وقطع ما أمر الله بصلته من متابعة الأخيار ، وملازمة الجماعة ، وغير ذلك مما فيه التعاطف والتعاون على الخير.

التكوين والتشريع :

لله سبحانه ارادتان : ارادة الخلق والتكوين ، ويعبر عنها «بكن فيكون» وبهذه الارادة يوجد الشيء من لا شيء .. والارادة الثانية ارادة الطلب والتشريع التي يعبر عنها بالأمر والنهي ، والدعوة الى فعل الخير ، وترك الشر ، فان فعل العبد الخير فعله بملء ارادته واختياره بلا جبر وإكراه ، وكذلك ان فعل الشر وترك الخير .. وإذا كان تنفيذ الأحكام الدينية بكاملها منوطا بارادة المكلفين

٧٢

واختيارهم ، ولا رقيب عليهم الا من أنفسهم فمن الخطأ أن يقال بأن للدين تأثيرا على انحطاط أتباعه والمنتمين اليه ، بحيث نكتشف من تأخرهم عدم صلاحية الدين للحياة .. أجل ، لو عملوا به ، وطبقوه تطبيقا كاملا على أفعالهم لصح ان يتخذ الدين مقياسا لرقيهم وانحطاطهم.

وبهذا يتبين الحقد والدس على الإسلام في قول من قال : «ان ضعف المسلمين دليل على ضعف الإسلام وتعاليمه».

وعلى منطق هذا المتجني يجوز لنا أن ننسب الى الديانة المسيحية كل فسق وفجور وتهتك في أمريكا واوروبا ، وان ننسب اليها أيضا الخراب والدمار وجميع الحروب التي أثارتها الدول المسيحية في شرق الأرض وغربها ، حتى إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما ، وقنابل النابالم في فييتنام ، وحتى الانحلال الخلقي ، وارتفاع عدد الجرائم يوما بعد يوم في أمريكا واوروبا ، وحتى اباحة اللواط في انكلترا قانونا وكنيسة ، كل ذلك وما اليه كثير وكثير ينبغي أن ينسب الى السيد المسيح (ع) .. حاشا الأبرار من هذه الأقذار.

هذا ، ولو أخذنا بفرية ذاك المفتري لكان اليهودي في اليمن تماما كاليهودي في نيويورك تحضرا ورقيا ، والمسيحي في مصر كالمسيحي في باريس .. ان لتأخر البلدان أسبابا كثيرة غير الدين ، وأهمها الجهل ورواسب التاريخ ، وظروف البيئة وملابساتها ، وعدم اختلاط البلد المتأخر بالبلد المتقدم (١) ، ولو لا اختلاط المسلمين في صدر الإسلام بغيرهم من الشعوب والأمم المتحضرة لم يكن لحضارة المسلمين عين ولا أثر .. أجل ، لقد كان الإسلام هو الحافز على ذاك الاختلاط .. وبالاختصار ان أسباب التقدم أو التأخر ليست كامنة في طبيعة المسلمين ، ولا في طبيعة المسيحيين ، ولا في طبيعة اللادينيين ، بل للظروف والأحوال الاجتماعية تأثير بالغ .. وسنعود الى موضوع الجبر والتفويض ببيان أطول واضح حين نصل الى آياته ، وقد شرحناه مفصلا في كتاب «معالم الفلسفة الاسلامية» ، وكتاب «مع الشيعة الإمامية».

__________________

(١) ان الدين تماما كالسلطة التشريعية ، أما التنفيذ فعلى غيره ، وقد فشلت الأمم المتحدة في الكثير من مهمتها ، وأيضا فشلت مؤتمرات السلام في تحقيقه ، وفشلت لقاءات الحكام واجتماعات القمة ، ودول عدم الانحياز وغيرها ، وما أكثر الفاشلين ، ولم تكن المسئولية عليهم ، فكيف يحمل الإسلام مسؤولية المنتمين اليه بالاسم؟

٧٣

كيف تكفرون بالله؟ الآة ٢٨ ـ ٢٩ :

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ؟) الآية ٢٨ ـ ٢٩ :

الاعراب :

كيف اسم استفهام ، يسأل بها عن الكيف ، وهي الحال ، كما يسأل بكم عن الكم ، وهو العدد ، وبأين عن المكان ، وبمتى عن الزمان ، ومحل كيف النصب على الحال من تكفرون ، وهي متضمنة هنا معنى الإنكار والتعجب ، والضمير من (سوّاهن) يعود الى السماء ، لأنه اسم جنس يصح إطلاقه على القليل والكثير و (سبع سماوات) بدل من الضمير ، وهو (هنّ). وقيل : بل تمييز مفسر لهذا الضمير ، وقيل : يجوز أن تكون (سبع سماوات) مفعولا ثانيا لسواهن ، لأنها بمعنى صيرهن .. وجميعا حال من (ما فِي الْأَرْضِ).

الإنسان بذاته برهان :

الظاهر من سياق الكلام ان الخطاب في هاتين الآيتين موجه الى من لا يجدي معه ضرب الأمثال شيئا ، ولكنه في واقعه يشمل كل من كفر بالله ، مع وجود هذه الدلائل والبراهين التي لا يبلغها الإحصاء ، منها هذا الكافر الجاحد ، فانه هو بالذات برهان واضح على وجود خالقه ، وإلا فمن الذي أوجده على هذا النظام الدقيق ، ووضع كل شيء منه في مكانه الخاص به من خلايا المخ والقلب ، الى الأمعاء والكبد ، الى السمع والبصر ، الى الاطراف والشرايين ، الى ما لا نهاية .. وكل يؤدي مهمته بدقة بالغة دون تعهد واشراف من مخلوق .. وأيضا

٧٤

من أين جاء هذا الفهم والعقل الذي به قرّب البعيد ، وسهل العسير ، وجمع ما في الأرض في بيت واحد ، ثم ارتقى ووضع آثاره ومعالمه على سطح القمر .. فهل هذا وغير هذا جاء صدفة وعفوا؟ وهل في خصائص الأشياء ما يؤدي الى هذا التنسيق والتنظيم؟ وهل يستطيع العلم ان يجيب على ذلك؟ وبالأصح هل الاجابة عنه من اختصاص العلم التجريبي؟.

وحاول من حاول أن يجيب .. ولكن تولد من سؤاله ألف سؤال وسؤال .. نحن لا ننكر أبدا ان علماء الطبيعة قد توصلوا الى حقائق باهرة مذهلة في الطب والزراعة والصناعة .. ولكن علماء الحياة ما زالوا ينظرون في فراغ ، وهم يبحثون عن سرها وأصلها ، ولا شيء لديهم سوى ظنون لا تغني عن الحق شيئا .. وبديهة ان كل ما تعجز الطبيعة عن تفسيره يتحتم تفسيره بما وراءها.

وإذا كان وجود الإنسان هو البرهان القاطع على وجود الله سبحانه فكيف ساغ لهذا البرهان أن يجحد الدلالة الملازمة له؟ كيف ساغ للفصيح البليغ أن يجحد فكرة الفصاحة والبلاغة من الأساس؟. وهنا يكمن سر التعجب في قوله سبحانه : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) أي ما أعجب أمركم وكفركم بالله ، وأنتم بالذات الدليل الواضح القاطع على وجوده .. ومهما أنكرتم وكابرتم ، فهل تستطيعون أن تنكروا وتكابروا في انكم لم تكونوا شيئا من قبل ، فصرتم شيئا يسمع ويرى ، ويحس ويدرك ، ويقول ويفعل؟. أليس هذا دليلا ناطقا بوجود القوة الخالقة؟ .. حقا ان الإنسان لظلوم كفّار .. وما كفره بوجود الله الا كفر وجهل بوجوده هو (١) .. ومن جهل نفسه فأولى به أن ينكر ويجهل غيره .. وبهذا نجد تفسير الحديث الشريف : «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه».

وتقول : وأي عاقل ينكر وجود نفسه؟ وهل يعقل ذلك؟.

ونجيب : ان الدليل يستلزم المدلول ، وانكار اللازم يستدعي حتما انكار

__________________

(١) قال شارلي شبلن السينمائي العالمي الذي فاقت شهرته شهرة غاندي : «ان في مملكة المجهول طاقة خيرة لا حد لها». وقال كيركجارد : «ان الله يتجلى للنفس اليائسة في أحلك لحظات اليأس ، وفي أسفل دركات الخطيئة».

٧٥

الملزوم ، فمن أنكر دلالة الألفاظ ـ مثلا ـ على ما وضعت له من المعاني فقد أنكر الألفاظ بالذات ، من حيث يريد أو لا يريد ، ولا يجديه أن يعترف بها في حين انه ينكر دلالتها .. وهذا هو الشأن في الجاحد ، فان وجوده دليل وجود الخالق ، ووجود الخالق سبحانه مدلول له ، فإذا أنكر هذا المدلول فقد أنكر الدليل ، وهو الجاحد بالذات من حيث لا يحس ولا يشعر ..

وهكذا يفعل الجهل بصاحبه ، يفصله عن نفسه ، وعن الطبيعة التي يعيشها ويحياها ، ويحمله من حيث لا يشعر على أن يجحد أوضح الواضحات ، ويؤمن بالأساطير والسخافات.

موتتان وحياتان :

المراد بالموتة الأولى المشار اليها ب (كنتم أمواتا) المراد بها العدم السابق ، والمراد بالاحياء الأول (فأحياكم) الخلق بعد العدم ، والموت الثاني (ثم يميتكم) هو الموت المعهود ، والأحياء البعث للحساب والجزاء (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

وتسأل : هل الروح تفارق الجسد بعد نفاد قواه الموجبة للحياة ، بحيث لو بقيت هذه القوى مئات السنين لبقي الإنسان معها حيا ، أو انه من الممكن أن تفارق الروح الجسم ، حتى مع وجود القوى بكاملها ، ودون أن يطرأ أي خلل على الجسم؟

ذهب الماديون الى الأول ، وقال غيرهم بالثاني ، أما قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ـ الاعراف ٣٣» ، أما هذه الآية فتحتمل الوجهين ، لأنها لم تبين سبب الأجل : هل هو فساد الجسم ، أو شيء آخر؟ وأما قوله سبحانه : (الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) ـ البقرة ٢٤٣». وقوله : (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) ـ البقرة ٢٥٩». أما هاتان الآيتان فإنهما قضيتان في واقعتين لا تتعديانهما الى بقية الوقائع ، كما هو الشأن في القواعد العامة ، والمبادئ الكلية.

ومهما يكن ، فلا شيء لدينا يوجب القطع والجزم ، ولكن الذي نشاهده

٧٦

بالوجدان ان كثيرا من الناس يدركهم الموت ، وهم في مقتبل العمر ، وأوج الصحة والسلامة ، وان كثيرا منهم يسرحون ويمرحون ، وهم في سن متقدمة ، وفيهم أكثر من داء .. وكم من طبيب ماهر قال لمريضه : ستموت بعد ساعات ، فعاش سنوات .. وقد يحدث العكس.

البعث :

البعث هو الأصل الثالث من أصول الإسلام بعد التوحيد والنبوة اللذين سبق الكلام عنهما ، وقد أخبر الله بالمعاد في قوله : (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) .. واستدل أو قرّب سبحانه إمكان البعث وجوازه في العديد من الآيات ، منها : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) ـ الأحقاف ٣٣». ومنها : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) وما الى ذلك مما سنتعرض له من الآيات.

وليس من شك ان من خلق الشيء من لا شيء يهون عليه ان يجمع أجزاءه ثانية بعد انحلالها وتفرقها ، بل الجمع أهون وأيسر من الخلق والإيجاد .. ومن بنى قصرا يكون بناء الكوخ عليه أيسر (١).

ولي كتاب خاص في هذا الموضوع ، وهو كتاب «الآخرة والعقل» طبع أكثر من مرة ، ثم أدرج في كتاب «الإسلام والعقل».

ما في الأرض :

بعد ان ذكّر الله سبحانه الإنسان بنعمة الوجود عليه ذكّره بكثرة النعم عليه

__________________

(١) في سنة ١٩٥٩ ألف مصطفى محمود المصري كتاب الله والإنسان أنكر فيه الله والبعث ، وألفت في الرد عليه كتاب الله والعقل ، وطبع حتى الآن خمس مرات. وبتاريخ ١٠ ـ ٤ ـ ١٩٦٧ ، قرأت لمصطفى محمود مقالا في مجلة «روز اليوسف» قال فيه ما نصه بالحرف الواحد : «ان ايماني يلح علي بأني كنت موجودا قبل حياتي هذه باسم آخر ، وانني بعد موتي لن أفنى ، وإنما سأعود إلى الحياة بشكل أو بآخر ، وان الحياة مستمرة».

٧٧

من المأكل والمشرب والملبس والمركب والمنظر ، وما الى ذاك من متع الأرض وخيراتها التي لا تدخل في حساب.

واستدل الفقهاء بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) على ان الأشياء قبل ورود الشرع على الاباحة ، وانه ليس لمخلوق أن يحرم شيئا الا بدليل : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) ـ يونس ٥٩».

وربما يستدل بهذه الآية الكريمة على ان الأرض لا تملك ، وان الذي يجوز تملكه هو ما تنتجه الأرض ، لأنه قال عز من قائل : خلق لكم ما في الأرض ولم يقل خلق لكم الأرض ..

سبع سموات :

معنى (اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) قصد اليها ، (فَسَوَّاهُنَّ) خلقهن ، وذكر السبع بالخصوص لا يدل على الحصر بها ، ولا ينفي أبدا وجود غيرها .. فلقد أثبت العلماء في علم الأصول واللغة ان العدد لا مفهوم له ، فمن قال : إني أملك سبع كتب لا يدل قوله هذا على انه لا يملك غيرها ، ويؤيد ذلك ان الله تعالى حين خاطب نبيه (ص) بقوله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ـ التوبة ٨٠». قال الرسول الأعظم (ص) : لو أعلم ان الله يغفر لهم لو زدت على السبعين لفعلت .. وقد يكون السبب لذكر السبع ان لها خصائص لا توجد في سائر السماوات.

واذ قال ربك للملائكة الآة ٣٠ ـ ٣٣ :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ

٧٨

قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

المراد من الأسماء في قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) المراد بها معاني الأسماء ، وهي أشياء الكون وخواصها وصفاتها ، قال صاحب مجمع البيان : ان الأسماء بلا معان لا فائدة فيها ، ولا وجه للاشارة الى فضلها» .. وسئل الإمام الصادق (ع) عنها ، فقال : الجبال والأودية .. ثم أشار إلى بساط تحته ، وقال : هذا منها. أي كل شيء ، حتى هذا البساط.

الملائكة :

لا وسيلة إلى معرفة الملائكة وحقيقتهم بالحس والتجربة ، ولا بالعقل والأقيسة ، ولا بشيء إلا بطريق الوحي من الله على لسان أنبيائه ورسله ، فمن يؤمن بالوحي يلزمه حتما أن يؤمن بالملائكة بعد أن أخبر الوحي عنهم بوضوح لا يقبل التأويل ، ومن ينكر الوحي من الأساس فلا يجوز الحديث معه عن الملائكة بحال ، لأنهم فرع ، والوحي أصل .. فان كان ولا بد من الكلام والنقاش معه فينبغي أن يكون حول فكرة الوحي وصحتها فقط ..

ولا نريد هنا نقاش من ينكر الوحي ، فلقد سبق الكلام مفصلا عن ذلك ، وانما نقول للمنكر : لا يحق لك أن تفرض رأيك على من يؤمن بالوحي ، وإلا جاز له أيضا أن يفرض رأيه عليك .. وإذا قلت ـ الحطاب للمنكر ـ لمن يؤمن

٧٩

بالوحي : إن إيمانك هو باطل ، لأنه لا يستند الى التجربة أجابك بأن قطعك وإيمانك بأن الوحي باطل أيضا لا يستند الى التجربة ، لأن النفي منك ، والثبوت من المؤمن موضوعه واحد ، وهو الوحي ، فإذا كانت التجربة لا تثبت الوحي فهي أيضا لا تنفيه ، والتفكيك محال .. وبكلمة ان الإيمان بعدم صحة الغيب تماما كالإيمان بصحته كلاهما غيب في غيب ، وبديهة ان الغيب لا يصح نقده بغيب مثله .. قال سارتر الأديب والفيلسوف الفرنسي الشهير ، وهو يرد على الماديين :

«انكم إذ تنكرون وجود الله تسترسلون في الغيب تماما كالمثاليين الذين يسلمون بوجود الله .. ان يقين المادي بنفي الغيب يعتمد على نفس الدليل الذي اعتمده المؤمن ليقينه بصحة الغيب .. وبهذا يتبين ان المادي يناقض نفسه بنفسه» (١).

الخليفة :

المراد من الخليفة في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) هو آدم أبو البشر ، وكل انسان وجد ، أو سيوجد من نسله في كل زمان ومكان .. ووجه تسميته بالخليفة ان الله سبحانه أو كل للإنسان زمام هذه الأرض ، والكشف عما فيها من قوى ومنافع ، والاستفادة منها.

ويظهر من قول الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) ، يظهر منه ان الله سبحانه قد أعلم ملائكته بطريق من الطرق ، وقبل أن يخلق آدم ، أعلمهم بأن الإنسان لو وجد في هذه الأرض لعصى بالفساد وسفك الدماء (٢) ومن هذا عظم الأمر عليهم ، وتعجبوا كيف يوجد الله من يعصيه ، وهم يسبحون بحمده ، ويقدسون له .. فأبان لهم سبحانه الحكمة من خلق الإنسان ، وان فيه

__________________

(١) انظر فصل سارتر والمذهب المادي من كتابنا «فلسفة المبدأ والمعاد» الذي ألفناه للرد على الفلسفة المادية وابطالها.

(٢) وقيل كان في الأرض العديد من الآدميين قبل آدمنا ، وانهم أفسدوا فيها كما أفسدنا ، ثم انقرضوا ... والملائكة على علم من ذلك.

٨٠