التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

للتعرف على أسراره وحكمة بعض أحكامه .. ومن الجائز ان يكون هذا ما قصد اليه الذين كتبوا وألفوا في القرآن والعلم الحديث.

ومهما يكن ، فنحن على يقين راسخ بأننا أقوياء في ديننا ، أغنياء فيما لدينا من البراهين على صدقه .. ولسنا أبدا بحاجة الى ما عند الغير ، بل نعتقد ان الغير بحاجة إلينا في ذلك .. ان البشرية في تاريخها كله لم تعرف ، ولن تعرف دينا أصلح لها من دين الإسلام ، ولا كتابا أنفع من كتابه ، ولا نبيا أعظم من نبيه ، ومن لم يهتد بدلائل القرآن ، ودعوته الى الحياة الطيبة فلا تقنعه الكشوف العلمية قديمة كانت أو حديثة. وخطر في بالي الآن شيء .. ربما خفف عن القارئ وطأة الملل من القراءة ، وأغراه في المضي ، كما انه يصلح ـ على ما أظن ـ ردا على من يحاول تطبيق القرآن على العلم الحديث ، وهذا هو الخاطر : مر عزير على قرية خاوية على عروشها ، وكان معه حماره ، وطعامه ، وشرابه ، فتعجب واستغرب ، وقال : انّى يحيي هذه الله بعد موتها؟! وأراد الله أن يزيل استغرابه ، واستبعاده فأماته مائة عام ، وأبقى طعامه وشرابه طوال هذه المدة على حالهما دون أن ينالهما تغير وفساد .. ولما أحيا الله عزيرا وأراد أن يريه من آياته عجبا قال له : أنظر الى طعامك وشرابك لم يتسنه ، أي لم يتغير.

فهل يا ترى كان طعام عزير وشرابه في ثلاثة؟! السؤال موجه لصاحب القرآن والعلم الحديث .. وليس من شك ان هذه الثلاجة التي حفظت الطعام والشراب مائة عام ليس من شك انها من موديل سنة الألفين ، لا موديل سنة ال ٦٧.

أجل ، ان فهم معاني القرآن الكريم يمكن تطبيقه على العلم الحديث ، وبصورة خاصة على النظرية النسبية .. ذلك ان الفهم لجهة من جهات معنى من معانيه الدقيقة العميقة يختلف باختلاف زمن التلاوة ومكانها ، وحال من يتلو أو يسمع.

وان قال قائل : ان هذا الاختلاف لا يختص بالفهم لتلاوة القرآن وحده ، لأن النظرية النسبية عامة لا تقبل التخصيص.

قلنا في جوابه : هذا صحيح ، ولكن لمعاني القرآن استعدادا لذلك لا يوجد في غيرها .. وهذا يعزز ملاحظتنا بأن من يقف عند قول المفسرين ، لا يتعداه ولو في تفسير آية واحدة فهو قاصر يملك عقلا قارئا ، لا عقلا واعيا .. والله سبحانه المسئول أن يجعل فهمنا لآياته فهم وعي ودراية ، لا فهم نقل ورواية.

٤١

و (لِلْمُتَّقِينَ) أوله واو ، لأنه وقي وقاية ، ثم قلبت الواو تاء ، والوقاية في اللغة مطلق الصيانة والتحفظ ، وفي الشريعة الوقاية من سخط الله وعقابه على ترك واجب ، أو فعل محرم ، قال أمير المؤمنين (ع) : التقى رأس الأخلاق. وقال بعضهم : التقى ان لا يراك الله ، حيث نهاك ، ولا يفقدك ، حيث أمرك ، وبالتقوى وحدها يكون التفاضل عند الله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ).

وتسأل : ان المتقين مهتدون ، فلا يحتاجون الى من يهديهم ، تماما كما لا يحتاج العالم الى من يعلمه؟.

الجواب : ان المعلم يلقي دروسه على جميع الطلاب ، الأذكياء والبلداء ، ولكن الذين ينتفعون بالمعلم هم الأذكياء المجتهدون الذين تكون عاقبتهم الى النجاح ، وعليه يصح أن يقال : ان المعلم هو معلم الناجحين ، وكذا القرآن الكريم ، فانه قد خاطب الجميع دون استثناء ، ولكن الذين انتفعوا به هم الذين صاروا من المؤمنين المتقين ، ومن أجل هذا خصهم بالذكر ، على ان المتقي يستمر ويزداد. تقى بالقرآن : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً).

الذن ومنون بالغب الآية ٣ ـ ٥ :

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

العالم بكل شيء لا مكان له :

قيل : ان عالما كان يجلس في مكان الصدارة ، والناس من حوله يستمعون

٤٢

له ، ويخشعون ، فحسده منافس له في المهنة ، فقال له بمسمع من الجميع : ما قولك بكذا؟ وسأله مسألة أشبه بالطلاسم.

فقال العالم : لا أعلم.

قال السائل : ان المكان الذي أنت فيه لمن يعلم ، لا لمن لا يعلم.

قال العالم : ويلك ، ان هذا المكان لمن يعلم شيئا ولا يعلم أشياء ، والذي يعلم كل شيء لا مكان له.

أجل ، ان الإنسان يستحيل أن يحيط بكل شيء علما : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

المعرفة :

لا أحد من الناس يخلق عالما بشيء من الأشياء ، وانما تتجدد له المعرفة آنا بعد آن بسبب من أسبابها ، حتى اسمه العلم لا يعرفه إلا بعد أن ينادى به أكثر من مرة ، وقد ذكر أهل الاختصاص للمعرفة أسبابا ، منها :

١ ـ أن يتلقى الإنسان معلوماته من إحدى حواسه الخمس ، كمعرفته الألوان بالبصر ، والأصوات بالسمع ، والروائح بالأنف ، والطعوم بالذوق ، والصلابة وما اليها باللمس .. ومثلها ما يتصوره الإنسان عن طريق مشاعره الباطنية ، كالجوع والشبع ، والحب والبغض.

٢ ـ أن يتلقى معارفه من المراقبة والتجربة.

٣ ـ أن يتلقاها بالبديهة ، أي أن يشترك في معرفتها جميع العقلاء مثل : واحد وواحد اثنان ، والأشياء المساوية لواحد متساوية ، والشيء النافع خير من الضار ، أو يتلقاها من إعمال الفكر واجتهاد العقل الذي يتلقاها بدوره من الحواس ، أو التجربة أو البديهة ، مثل الحكم على كل قطعة من قطع الحديد بأنها جسم صلب ، فان هذا الحكم على كل قطعة ما وقع منها في خبرة الحس ، وما لم يقع ، ان هذا الحكم لا يعتمد على اختبار كل القطع الحديدية ، وانما اعتمد على مجرد تصور العقل وتنبؤه بوجود قدر جامع بين جميع قطع الحديد ، وعلى هذا يكون الحكم الشامل عقليا ؛ لكنه استخرج من المعرفة التي تستند الى التجربة.

٤٣

٤ ـ أن لا يتلقى معلوماته من الحس ، أو التجربة ، أو القوة العقلية ، بل يتلقاها مباشرة وبلا واسطة. وذلك بعد جهاد النفس لتنقيتها من الشوائب كما يقول المتصوفة .. وبكلمة أوضح ان القلب عند المتصوفة تماما كالعقل عند غيرهم فكما ان العقل يدرك بعض الأشياء بالبديهة ، ومن غير نظر ، والبعض يدركه بالاجتهاد والنظر كذلك القلب ، فانه يشعر بأشياء من غير حاجة الى جهاد النفس ، كشعوره بالحب والبغض والبعض يشعر به بعد جهاد النفس ، كوجود الباري وصفاته ، فالاجتهاد العقلي عندنا يقابله جهاد النفس عند المتصوفة.

ولا أحد يستطيع أن يناقش الصوفي في آرائه ومعتقداته ، لأنك إذا سألته عن الدليل يجيبك بأن ايماني وعلمي ينبع من ذاتي وحدها .. وإذا قلت له : ولما ذا لا ينبع هذا الإيمان ، وهذا العلم من ذوات الناس ، كل الناس؟ يقول : لأنهم لم يمروا بالتجربة الروحية التي مررت بها.

ونحن نقف من هذا التصوف موقف المحايد المتحفظ ، فلا نثبته ، لبعده عما عرفنا وألفنا ، ولا ننفيه ، لأن المئات من العلماء في كل عصر ، حتى في عصرنا هذا يؤمنون بالتصوف على تفوقهم ، واختلافهم في الجنس والدين والوطن واللغة ، وليست لدينا أية حجة تنفي التجارب الشخصية البحتة ، ومن الجائز أن تكون تجربة الصوفي أشبه شيء باللحظات التي يلهم فيها الشاعر والفنان ، ولكن هذا شيء يعنيه وحده ، ولا حجة له فيه على غيره ، حيث لا ضابط له ، ولا رابط.

الغيب :

وهناك أشياء لا وسيلة الى معرفتها بالحس والتجربة والقوة العقلية ، منها : اللوح المحفوظ والملائكة ، وإبليس ، وحساب القبر ، والجنة والنار. ومنها : انقلاب العصا حية ، واحياء الموتى ، وما الى ذلك مما اخبر به النبي ، ولا يستقل العقل بادراكه ، ولم نره نحن بالعين ، كل ذلك هو المقصود بالغيب في قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). فالغيب هو الذي لا يمكن التوصل الى معرفته الا بالوحي من السماء على لسان من ثبتت نبوته وصدقه بالعقل : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ

٤٤

الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) ـ الانعام ٥٩». وبهذا يتبين ان الايمان بالغيب جزء من الإسلام ، وان من لا يؤمن به فليس بمسلم .. وأيضا يتبين ان ما لا يمكن استكشافه بالمشاهدة والتجربة ، أو بالعقل ، ولم تنزل به آية من كتاب الله ، أو تأتي به رواية عن رسول الله فهو أسطورة وخرافة ، كأكثر ما يرويه الرواة من الاسرائيليات ، وما اليها.

الدين والعلم :

والغريب ان الطبيعيين يؤمنون بالغيب ، لأنهم يعتقدون اعتقادا جازما بأن الكون وجد صدفة .. وليس من شك ان الايمان بالصدفة ايمان بالغيب ، لأن الطبيعيين لم يشاهدوها بالعيان ، إذ المفروض انهم وجدوا بعد الكون ، وأيضا لم يدركوها بالعقل ، لأن العقل يبطل الصدفة ، أو لا تقع تحت اختباره اثباتا ولا نفيا ـ على الأقل ـ.

والاغرب انهم يسمحون لأنفسهم أن يفترضوا وجود مادة لطيفة يطلقون عليها اسم الأثير ، ومنها وجد الكون بزعمهم ، بل يؤمنون بذلك ايمانا لا يشوبه ريب ، ثم يحرمون على غيرهم أن يفترض ويؤمن بوجود قوة حكيمة مدبرة وراء هذا الكون .. مع العلم بأن هذا الافتراض أقرب الى العقل والقلب من افتراض وجود مادة عمياء صماء.

وعلى أية حال ، فان الغيب يدل اسمه عليه ، يدرك بالوحي فقط ، لا بالتجربة ولا بالعقل .. أجل شرطه الوحيد أن لا يتنافى مع العقل ، لا أن يستقل العقل بادراكه .. وعلى هذا فلا يبقى مجال لأية محاولة تهدف الى اخضاع الوحي ونصوصه للعلم التجريبي .. ان مهمة هذا العلم تنحصر في محاولة الإنسان لفهم الطبيعة ، والسيطرة عليها ، ويجيب عن هذه الأسئلة : ما هي القوى التي تتألف منها طبائع الأشياء من جماد ونبات وحيوان؟ وكيف نصمم طائرة تزيد سرعتها على سرعة الصوت؟ ولا يدرك العلم التجريبي من أوجد الطبيعة ونظامها.

أما الدين فانه يعرفنا بأسباب الوجود ويعطينا المفاتيح الرئيسية لمعرفة خالق الكون ويقودنا الى ما ينبغي عمله في هذه الحياة ، لنحقق أهدافنا الروحية والمادية. ان

٤٥

المصنع وحده ، والحقل وحده ، أو هما معا لا يفيان بجميع أغراض الإنسان وأهدافه ، لأن الإنسان ليس جسما ومادة فقط ، انه مادة وروح وعاطفة ووعي .. ان في داخل الإنسان رحمة شاملة ، اسمها الانسانية ، ونورا ساطعا ، اسمه العقل الذي يتصاغر أمامه ، ويتضاءل العالم الأكبر.

ان مطالب جسمنا هذا المحسوس من الأكل والشرب والنوم قد فرضت نفسها علينا فرضا ، ولا خيار لنا في رفضها ، فنحن نسعى للقيام بها دون اختيار ، ولا يختلف في ذلك فرد عن فرد عالما كان أو جاهلا ، نبيا أو غير نبي. أما الروح فتختلف مواهبها ومطالبها باختلاف الأشخاص والأفراد ، وكثيرا ما يكبت الإنسان عواطفه وميوله ، ويكظم غيظه ، ويتجرعه طواعية ، لا قسرا ، ويكون الخير كل الخير في هذا الكبت والردع ، على العكس من الجسم إذا لم نلب مطالبه.

هذا ، ولو كان الإنسان جسما فقط لتحكم به علماء الطبيعة ، كما يتحكمون بالمادة ، ولاستطاعوا أن يعرفوا أسرار النفس وكوامنها ، وان يحولوا جحودها إلى ايمان ، وإيمانها الى جحود ، وحزنها الى فرح وفرحها الى حزن ، وحبها إلى بغض وبغضها الى حب ، وإدراكها الى جنون ، وجنونها الى ادراك ، وشيخوختها الى شباب ، وشبابها الى شيخوخة .. ولو استرسلت في هذا الباب لملأت العديد من الصفحات .. وأرجو أن أوفق لعرض هذه المسألة في المناسبات الآتية بصورة أكمل وأوضح.

والقصد من هذه الاشارة هو البيان بأن موضوع العلم التجريبي شيء ، وموضوع الدين والوحي شيء آخر .. فالأول موضوعه المادة جامدة كانت ، أو نامية ، وهدفه الكشف عما تحتوي عليه من قوى ، والثاني موضوعه حياة الإنسان بشقيها المادي والروحي ، وان شئت قلت حياته الروحية والعملية. أما هدفه فهو أن يعيش الناس ، كل الناس عيشة راضية مرضية.

أجل ، ان الإسلام يحترم العقل والعلم النافع ، ويحث على طلبه ، ويعتبره فريضة على كل مسلم ومسلمة ، ويرفع أهله درجات ، ومن أجل هذا يجب على المسلم بما هو مسلم أن يعتقد بأنه لا شيء في العلم الصحيح أو العقل السليم ، يتنافى مع الإسلام ، ولا في أحكام الإسلام ما يتنافى معهما .. ان عدم المنافاة والمناقضة

٤٦

شرط أساسي ، أما أن يستقل العقل ، أو العلم التجريبي بإدراك كل حكم من أحكام الإسلام فليس بشرط.

وتسأل : لقد ثبت عن الرسول الأعظم (ص) قوله : «أصل ديني العقل» وهو بظاهره يدل على ان العقل يدرك جميع الأحكام الدينية الاسلامية؟.

الجواب : ان الإسلام يرتكز أول ما يرتكز على الألوهية والنبوة ، ومنهما تنبع تعاليمه وأحكامه ، والسبيل الى معرفتهما هو العقل (١) ، وعليه يكون معنى الحديث الشريف ان الإسلام الذي يرتكز على الألوهية والنبوة اعتمد في إثباتهما على العقل ، لا على التقليد والمتابعة العمياء ، ولا على الخرافات والأساطير.

ويقيمون الصلاة :

قد تحكم السلطة على شخص بالإقامة الجبرية في بلد معين ، وتحجر عليه ان يتعداه الى غيره ، وتلزمه بالحضور كل يوم في الدائرة المختصة اثباتا لوجوده ، فان تخلف كان مسؤولا.

واختط الإسلام للمؤمن مخططا خاصا يثبت به ويؤكد كل يوم خمس مرات إيمانه بالله فاطر السموات والأرض ، وإخلاصه في جميع أعماله : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .. (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ». ١٦٢ ـ ٦٣).

ومن ترك الصلاة جاحدا فهو مرتد عن الإسلام ، أو متهاونا فهو فاسق مستحق للعقاب. وبهذا نجد تفسير قول الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة : «ان رسول الله شبه الصلاة بالحمّة ـ هي عين تنبع بالماء الحار ـ تكون على باب الرجل ، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات ، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن». أي ان المواظبة على الصلاة تزكي القلب من الارتداد والفسق ، تماما كما يطهر الاغتسال الجسم من الاقذار ، وأي شيء أقذر من الكفر والفسوق؟!

__________________

(١) يعرف الله سبحانه بالعقل عن طريق الكون ، ويعرف النبي بالعقل عن طريق المعجزة.

٤٧

ومما رزقناهم ينفقون :

الإنفاق هنا يشمل جميع ما يبذله الإنسان في سبيل الخير زكاة كان ، أو غيرها .. وليس من شك ان البذل في سبيل الخير راجح في ذاته ، ولكن هل : يجب في الأموال شيء غير الزكاة والخمس؟

لقد جاء في طريق السنة ، كما عن الترمذي ، وفي طريق الشيعة كما عن الكافي ان في الأموال حقا آخر. وفسر الإمام جعفر الصادق (ع) هذا الحق بأنه الشيء يخرجه الرجل من ماله ، ان شاء أكثر ، وان شاء أقل على قدر ما يملك ، واستدل بقوله تعالى : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ـ الذاريات ١٩» .. والآية ٢٤ من سورة المعارج : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). غير ان أكثر العلماء حملوا ذلك على الاستحباب دون الوجوب إلا الشيخ الصدوق من الشيعة ، حيث نقل عنه القول بأن في الأموال حقا لازما غير الخمس والزكاة ، يخرجه المالك حسب ما يملك كثرة وقلة .. ومهما يكن ، فان الذي لا شك فيه ان بذل المال في سبيل الخير يطهر من الاقذار ، وينجي من عذاب النار ، قال تعالى في الآية ١٠٣ من سورة التوبة : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها).

يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ :

الخطاب الى محمد (ص) ، والمراد (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) القرآن والسنة معا ، لأنه (ص) ما ينطق عن الهوى ان هو إلّا وحي يوحى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).

والمراد بما انزل من قبلك الكتب التي نزلت على من سبق من الرسل ، كزبور داود ، وتوراة موسى ، وإنجيل عيسى (ع) .. ولا أثر اليوم للايمان بهذه الكتب من الوجهة العملية ، لأنها في عقيدة المسلمين اما غير موجودة ، واما الموجود منها محرّف .. وندع الكلام فيما يتعلق بالأناجيل للمسيحيين أنفسهم ، قرأت في كتاب «فولتر» تأليف «جوستان لانسون» ، ترجمه محمد غنيمي هلال ص ١٩٣ طبعة ١٩٦٢ ما نصه بالحرف الواحد : «كان المعروف من هذه

٤٨

الأناجيل يبلغ اربعة وخمسين انجيلا ، وكان تحرير الأناجيل الأربعة متأخرا عن ذلك ، والرابع ـ لوقا ـ هو أحدثها».

وقال الياس نجمة في كتاب «يسوع المسيح» ص ١١ طبعة ١٩٦٢ : «ولما رأى الرسل ـ يريد تلاميذ المسيح ـ وتلاميذهم انه من الضروري تدوين بعض تعاليم الرب ، وبعض أعماله ومعجزاته كتبوا بعضا من تلك التعاليم والأعمال والمعجزات ، وهذا ما نسميه بالضبط الإنجيل المكتوب ، فجاء الإنجيل المكتوب واحدا في صور أربع ، أو نصوص أربعة».

وهذا اعتراف صريح بأن الأناجيل الأربعة ليست وحيا بنصها وحروفها ، كما هو الشأن في القرآن ، وانما هي مجرد نقل عن السيد المسيح (ع) ، تماما ككتب الحديث عند المسلمين التي دونوا بها أقوال محمد (ص) واعماله ومعجزاته .. والفارق الوحيد ان رواة الأناجيل الأربعة ، وهم : متى ويوحنا ومرقس ولوقا معصومون عن الخطأ عند المسيحيين لا يجوز الطعن برواياتهم (١). ولا عصمة ولا حصانة لرواة الحديث عن النبي عند المسلمين ، بل لا يجوز الأخذ والعمل بأخبارهم إلا بعد التحقيق والتمحيص ، ولا فرق في منطق العقل بين الأناجيل الأربعة ، وبين كتب الحديث من حيث جواز الطعن بهما معا ، ما دام كل منهما مجرد نقل عن صاحب الرسالة .. أما الفرق بين القرآن والأناجيل فواضح ، لأن القرآن يتحدى الأجيال أن تأتي بسورة من مثله دون جميع الكتب السماوية.

وحاول الياس نجمة أن يدفع هذا الاشكال بقوله في ص ١٢ : «الكنيسة تشهد للانجيل ، والإنجيل يشهد للكنيسة ، وكلاهما يثبت الآخر».

وبديهة ان هذا اثبات للدعوى بالدعوى نفسها ، لأنه تماما كقول من قال : أنا صادق في دعواي ، لأن فلانا يشهد لي بالصدق .. فإذا قيل له : ومن يشهد لفلان بأنه صادق قال : أنا أشهد بذلك .. ومعنى هذا في واقعه ان الشاهد هو

__________________

(١) في ملحق جريدة «النهار» البيروتية ، تاريخ ١٢ ـ ٧ ـ ١٩٦٤ ، مقال مطول ، جاء فيه : ان العلماء المختصين ، والمسيحيين أيضا أثبتوا بالتجربة وبالدماغ الاكتروني ان أكثر الرسائل المنسوبة إلى بولس الرسول المؤسس الأكبر للمسيحية ، ان أكثر هذه الرسائل مزورة .. وبهذه المناسبة لا بأس ان تقرأ التعليق على الآية ٧٩ من هذه السورة.

٤٩

عين المدعي .. والفلاسفة يسمون هذا النوع بالدور الذي يحيله العقل .. وقد نظمه بعض الشعراء بقوله :

مسألة الدور جرت

بيني وبين من أحب

لو لا مشيبي ما جفا

لو لا جفاه لم أشب

والبيت الأخير ـ كما ترى ـ أشبه بهذيان المجانين ، لأن معنى العجز ان مشيب الشاعر حدث بعد هجر الحبيب ، وان سبب المشيب هو الهجر .. ومعنى الصدر ان الهجر حدث بعد المشيب ، وان سبب الهجر هو المشيب ، وعلى هذا يلزم أن يكون كل من الهجر والمشيب سببا ومسببا ، ودليلا ومدلولا ، وعلة ومعلولا في آن واحد ، كقول القائل : فصّلت هذا الثوب كي ألبسه ، ولبسته كي أفصّله.

انذرت ام لم تنذر آة ٦ ـ ٧ :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

(سَواءٌ) اسم بمعنى الاستواء ، والفعل منه استوى ، والوصف مستو ، وجملة (لا يُؤْمِنُونَ) خبر انّ ، و (سَواءٌ) مبتدأ ، و (أَنْذَرْتَهُمْ) خبره ، والجملة من المبتدأ والخبر معترضة بين (إِنَ) وخبرها ، وعلى هذا يكون تقدير الكلام ان الذين كفروا لا يؤمنون ، حتى ولو أنذرتهم ، والهمزة هنا للتسوية لا للاستفهام.

٥٠

منهج الإسلام :

سبقت الاشارة الى أن تعاليم الإسلام ومبادئه على نوعين : عقائدية ، وعملية ، أي أصول وفروع ، عقيدة وشريعة عبّر بما شئت ، وموضوع العقيدة يتصل بنفس الإنسان ومشاعره ، وموضوع الشريعة أعمال الإنسان وأفعاله ، وقد دعا الإسلام الى الايمان به عقيدة وشريعة.

أما المنهج الذي اتبعه الإسلام لانتشار دعوته فيما يتصل بالعقيدة فقد جاء بيانه في الآية ١٢٥ من سورة النحل : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). والمراد بالحكمة والموعظة الحسنة الاعتماد على العقل فيما يستقل بادراكه ، كالألوهية التي يتوصل الإنسان الى معرفتها بالامعان والتأمل في خلقه ، وفي خلق السموات والأرض ، وكنبوة محمد (ص) التي يعرفها الباحثون من سيرته ، وطبيعة رسالته .. أما منهج الإسلام في معرفة ما لا يستقل العقل بادراكه من أصول العقيدة ، كبعض المغيبات فهو الاعتماد على وحي من الله الى نبيه الذي ثبت بدليل العقل نبوته وصدقه فيما أخبر به عن الله جل وعز.

أما المنهج لاثبات الشريعة فهو الكتاب والسنة والعقل .. وترتكز أحكام هذه الأصول الثلاثة على المصالح والمفاسد ، الطيبات والخبائث ، العدل والبغي ، عبّر بما أردت : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) ـ الأعراف ١٥٦» .. (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ـ المائدة ٥» .. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) ـ الأنبياء ٧٣» .. (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) ـ النحل ٩٠».

واختصارا ان العقيدة منها ما يقوم على العقل ، ومنها على الوحي ، وأحكام الشريعة ترتكز على المصالح والمفاسد .. واستجاب للإسلام ودعوته الذين آمنوا بالغيب ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأعرض عنه الكافرون والمنافقون ، وقد ذكر الله المؤمنين أولا في الآيات السابقة ، وثنّى بذكر الكافرين ، وثلّث بالمنافقين وأوصافهم ، كما يأتي :

٥١

الملتزم بالحق :

الناس من حيث الالتزام بالحق وعدمه اثنان : الأول يلتزم به لوجه الحق ، سواء أوافق غرضه الخاص ، أو خالفه ، بل لا غرض له يتنافى مع الحق ، والا لم يكن ملتزما ، ومن أجله يضحي ، ويتحمل المشاق ، تماما كالمريض ، ينشد الصحة في شرب الدواء المر ، وفي ألم المبضع ، والثاني لا يلتزم بشيء ، ولا قيمة عنده لشيء إلا إذا اتفق مع غرضه وهواه ، ولا يبالي بالنقد ، مهما كان صائبا .. ولا يخلو هذا المستهتر من أحد اثنين : اما مستهتر بالحق باطنا وظاهرا ، في قلبه ولسانه ، واما باطنا لا ظاهرا ، ويسمى الأول كافرا ، والثاني منافقا في عرف القرآن ، ويفترق الملتزم بالحق عن المستهتر بكلا قسميه ، يفترقان من وجوه :

«منها» : ان الملتزم يشعر بالمسؤولية ، على العكس من غير الملتزم الذي لا يشعر بشيء.

و «منها» : ان الملتزم لا يؤمن بشيء إلا مع الدليل المقنع ، أما غير الملتزم فلا يؤمن بشيء اسمه دليل وحجة ومنطق ، فالمبرر عنده عدم المبرر إلا ما يريد .. وإذا تظاهر بتبرير ارادته فإنما يفعل ذلك استخفاء من الناس ، وحرصا على حرمته عندهم.

و «منها» : ان الملتزم يفسح المجال للنقد ، ويرحب به ، ويصغي للناقد بامعان ، ويعدل عن رأيه إذا استبان له الخطأ ، وهذا هو المعني بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ـ الزمر ١٨». وغير الملتزم : عنز ولو طارت (١) .. وقد صوّر الله الذين يصرون على ضلالتهم بأدق تعبير وأبلغه في العديد من الآيات الكريمة : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) ـ فصلت ٥» .. (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) ـ فاطر ١٤».

__________________

(١) قيل : ان رجلين أبصرا سوادا من بعيد ، فقال أحدهما : هذه عنز. وقال الآخر : بل غراب وأصر كل منهما على ما قال .. وبعد ثوان طار الغراب. فقال الذي أصاب لصاحبه : أرأيت؟ فقال زميله : عنز ولو طارت .. فذهبت مثلا.

٥٢

و «منها» : ان الملتزم معفو عن خطأه إذا أخطأ بعد البحث والفحص ، ولا عذر لغيره ولا جزاء إلا اللعنة والعذاب.

وأكثر الناس لا يؤمنون ، ولا يقتنعون إلا بمصالحهم الخاصة ، من حيث لا يشعرون ، أو يشعرون .. وكيف تقنع جاهليا بأن أكرم الناس عند الله أتقاهم وهو يعتز ويتعالى بنسبه؟ أو تقنع حاكما بالعدل في حين ان حكمه وسلطانه قائم على العسف والجور .. أو تقنع محتكرا بتحريم الاحتكار وتركه ، وهو المصدر الأول لثروته؟.

ان هؤلاء ، ومن اليهم من المستهترين والمتمردين على الحق هم المقصودون بقوله تعالى(: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

وتسأل : ما ذا تقول بالذين لا ينطبق عليهم وصف الملتزم ، ولا غير الملتزم ، كالحمقى السذج الذين يسارعون الى التصديق من غير حجة ولا برهان ، بل بدافع من سلامة الطوية ، وكفى؟.

الجواب : ان هؤلاء أشبه بالمجاذيب والمستضعفين : (عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً).

سؤال ثان : ان الظاهر من قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) انه هو الذي منعهم من الايمان واتّباع الحق ، وعليه يكون الكافر مسيرا لا مخيرا ، وبالتالي ، فلا يستحق ذما ولا عقابا؟.

الجواب : ان كل شيء لا ينتفع به ، ولا يؤدي الغرض المطلوب منه يكون وجوده وعدمه سواء ، والغرض المطلوب من القلب أن ينتفع ويهتدي بالأدلة والبراهين الصحيحة ، كما ان الغرض من السمع أن ينتفع بما يسمع من أصوات ، ومن البصر بما يشاهد من كيفيات وكميات ، فإذا قامت الدلائل القاطعة على الحقيقة ، وانصرف الإنسان عنها مصرا على ضلاله فان معنى هذا انه لم ينتفع بقلبه ، ولا قلبه انتفع بما ينبغي الانتفاع به ، حتى كأن الله قد خلقه بلا قلب ، أو بقلب موصد لا ينفتح للحق .. ولذا جاز أن ينعت قاسي القلب بأنه لا قلب له .. قال عز من قائل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ـ ق ٣٧». مع العلم بأن القلب موجود وثابت ، لكنه ليس بشيء ما دام بعيدا عن الهدى والرشاد .. وعليه تكون نسبة الختم اليه سبحانه

٥٣

مجازا لا حقيقة ، ويؤيد هذا ان لا غشاوة حسية على سمع الكافرين وبصرهم ، فكذلك لا ختم حقيقي على القلوب .. أما مسألة الجبر والاختيار ، وهل الإنسان مسير أو مخير فيأتي الكلام عنها مفصلا ان شاء الله.

المنافقون الآة ٨ ـ ٢٠ :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢)) (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧)) (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ

٥٤

الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)

ذكر سبحانه المؤمنين أولا ، وهم الذين أخلصوا للحق قلبا وقالبا ، وثنّى بالكافرين الذين محضوا الكفر باطنا وظاهرا ، والآن جاء دور المنافقين الذين تظاهروا بالإيمان ، وما هم بمؤمنين ، وكفر هؤلاء أخبث الكفر ، وأبغضه إلى الله ، ولذا أطنب بأوصافهم ، وما يؤول اليه حالهم بثلاث عشرة آية بينما اقتصر في وصف الكافرين على آيتين ، بل أنزل سورة خاصة بالمنافقين .. وهذه الآيات واضحة الدلالة ، لا تقبل التأويل ، ولا تحتاج الى تفسير ، تماما كقوله سبحانه : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). لذا نكتفي بالفقرة التالية :

من هو المنافق؟

كل منا يريد أن يكون شيئا مذكورا عند الناس ، وعلى الأقل ان لا ينتقدوه في تصرفاته ، ولا يتناولوه بالذم في ألسنتهم ، بخاصة إذا كان نجاحه في عيشه ومهنته يتوقف على ثقة الناس به .. ومن أجل هذا ينبغي الشك والريب في دخيلة كل انسان من هذا النوع ، وان لم يبد من أمره ما يريب .. انه معرّض دائما للخداع والرياء حرصا على مصلحته ، ولو لا اطلاق الدليل لاستثنيته من قاعدة «حمل فعل المسلم على الصحة» (١).

ومهما يكن ، فان كل من يؤثر الاستخفاء من الناس ، ويتظاهر بما ليس فيه ، ويخشى أن ينكشف الستر عن حقيقته فهو كذاب منافق ، ومراء مخادع ،

__________________

(١) لقد تسالم الفقهاء على قاعدة ، أسموها حمل فعل المسلم على الصحة ، ومثالها : ان ترى شخصا يشرب مائعا ، ولا تدري : هل هو حلال أو حرام ، أو علمت بأنه حرام ، وشككت : هل يشر به للتداوي ، أو جاهلا بالتحريم ، أو يشربه من غير عذر؟ .. فعليك أن تحمله على الصحة ، حتى يثبت العكس.

٥٥

حتى ولو حاز على ثقة الناس أجمعين ، بل ان هذه الثقة تضاعف من جريمته ، وتكون وبالا عليه عند الله ، والناس أيضا إذا انكشفت عنه حجب الخداع.

وتسأل : إذا اعتقد الناس ان فعلا من الأفعال محرم ، واعتقد شخص بينه وبين الله انه مباح لا ضمير فيه ، وتعاطاه في الخفاء خوفا من كلام الناس ، فهل يعد منافقا ومرائيا ، ثم هل يجب عليه أن يبين لهم ما يعتقد ، ويكون مسؤولا لو سكت عن خطأهم؟.

الجواب : لا بأس عليه في فعل ما يعتقد بإباحته ، ولا يعد من المنافقين والمراءين ما دام مرتاح الضمير ، لأن تكليفه الخاص يرتبط بوجدانه ، وليس بوجدان الناس .. بل يعذر في الخطأ ، إذ لا جرم ولا عيب في الخطأ ، أما بيان الحقيقة فيجب عليه من باب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لأن المفروض انه خطأ في معرفة الحكم ، لا في تشخيص الموضوع (١).

والآيات التي نحن بصددها تحدثت عن المنافقين الذين قامت الحجة عليهم بنبوة محمد (ص) ، واثبات الحق ، ومع ذلك أصروا على الإنكار عنادا وتمردا ، كما قامت على المشركين الذين عاندوا وحاربوا ، والفرق ان المشركين أعلنوا معاندتهم للحق ، وقالوا بجرأة وصراحة : لا نتبع الحق لأن الفقراء اتبعوه واعتنقوه : (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) ـ الشعراء ١١١». أما المنافقون فإنهم رفضوا الحق لهذا السبب أو لمثيله ، ولكنهم آثروا العناد ، وأظهروا التسليم جبنا وخداعا فكانوا أسوأ حالا من الكافرين ، حيث لاءم هؤلاء بين ظاهرهم وباطنهم ، وصدّقوا في إعلان الكفر والعناد ، تماما كمن يشرب الخمر على قارعة الطريق ، وخالف المنافقون بين ما أضمروا وأظهروا ، كالسفاح يلبس مسوح القديسين.

ولا دلالة لهذا الخداع إلا ان المنافق لا وازع له من دين أو عقل ، ولا من حق أو عدل ، ولا يتحرك ضميره لشيء ما دام بعيدا عن أعين الناس ، ومن كان هذا شأنه فمن الصعب ان يؤوب الى خير. ولذا نعت الله المنافقين في هذه

__________________

(١) إذا رأيت إنسانا يأكل الخنزير ـ مثلا ـ وهو يعلم بأنه لحم خنزير ، ولكن لا يعلم بحكمه وتحريمه فعليك ان ترشده إلى حكم الله ، وتبين له انه محرم ، أما إذا كان يعلم بالحكم ، ولكنه يعتقد ان هذا اللحم هو لحم غنم فلا يجب عليك البيان ، لأنه معذور ، والأول يسمى جاهلا بالحكم ، والثاني جاهلا بالموضوع.

٥٦

الآيات بالخديعة والغفلة ومرض القلب والسفه والغرور ومتابعة الهوى والخبث والإصرار على الضلالة .. ونعتهم الناس بالطابور الخامس ، وبالعملاء الأدنياء ، وبالمفسدين والمراءين ، وهم موجودون في هذا العصر ، كما وجدوا في عهد الرسول وقبله ، وسيوجدون في الأجيال الآتية ، ولكنهم ملعونون أينما وجدوا ، حتى وهم في قبورهم ، وان نجحوا فالى حين ، أما نجاح الصادقين المخلصين فالى آخر يوم.

ومن طريف ما قرأته عن المنافقين قول محي الدين المعروف بابن عربي في الجزء الرابع من الفتوحات المكية : «ما أحسن ما قال تعالى : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) فإنهم مجبولون على النسيان ، ولا يستخفون من الله الذي لا يضل ولا ينسى ، وكان الأولى لو صح عكس القضية».

ومعنى هذه العبارة ان المنافق لو تدبر أمره ، وكان على شيء من الفكر والعقل لوجب ان يخفي جرائمه ونقائصه عن الله ـ لو أمكن ـ لا عن الناس ، لأن الناس لا يملكون له نفعا ولا ضرا ، والذي في يده النفع والضر هو وحده .. هذا ، إلى أن الناس ينسون ما يرونه من السيئات والموبقات ، فيتكلمون على صاحبها ، وينالون منه بعض الوقت ، ثم ينسون ويسكتون ، كأن لم يكن شيء .. وقد شاهدنا الكثير ممن ارتكب العظائم ، وافتضح بها لدى الملأ ، حتى توارى من سوء فعلته .. ثم ظهر للناس ، وجالسوه ، وتعاملوا معه ، كأي بريء ونزيه .. وربما منحوه ثقتهم ، واختاروه للمناصب العامة ، بل قد يتولى منصبا دينيا مقدسا لا يتولاه الا نبي أو وصي نبي. وبالاضافة الى ان الناس ينسون فإنهم يمدحون ويذمون تبعا للغرض والهوى ، فيجدر بالعاقل أن يخاف الله ، ولا يخاف الناس ، وان يكون رقيبا على نفسه ، فيجنبها ما يستحي منه ، ولا يحب أن يعرف به ، ويؤاخذ عليه. ولا أحد أجبن ممن يعمل في السر ما يستحي منه في العلانية.

٥٧

اعبدوا ربكم. آة ٢١ ـ ٢٢ :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢))

بعد ان ذكر سبحانه كلا من المؤمنين والكافرين والمنافقين بسماتهم وأوصافهم ، وما يؤول اليه حال كل منهم انتقل الى مخاطبة البالغين العاقلين ، مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين ، الموجود منهم في زمن الخطاب ، ومن سيوجد آمرا الجميع بعبادة الله وحده .. والأمر بالنسبة الى المؤمنين يراد به الثبوت والاستمرار على الايمان والطاعة ، وبالنسبة الى غيرهم من الكافرين والمنافقين والفاسقين يراد به التوبة والانابة.

وتسأل : كيف عممت الخطاب لمن سيوجد مع العلم بأن يا أيها الناس خطاب مشافهة ، والمشافهة مع المعدوم لا تجوز؟.

والجواب : ان القضايا على نحوين : خارجية وحقيقية ، والأولى تختص بمن وجد بالفعل ، ولا تشمل من سيوجد ، مثل غرق من في السفينة ، والثانية تشمل من وجد ، ومن سيوجد ، مثل اعدلوا أيها الحكام ، فان هذه القضية تنطبق على كل حاكم موجود بالفعل أو بالقوة ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) من هذا الباب.

الفرع يتبع الأصل :

من تتبع آيات القرآن ، وتدبرها بروية وإمعان يرى انه إذا قرر أصلا من

٥٨

أصول العقيدة ، كالتوحيد والنبوة والبعث قرنه بالحجة والبرهان ، وإذا ذكر حكما شرعيا ، كتحريم الزنا ـ مثلا ـ أرسل القول فيه من غير دليل ، فما هو السر؟.

الجواب : إذا ثبت وجود الباري ، ونبوة محمد (ص) بالحجة العقلية كان قولهما هو الدليل والحجة ، ولا يجوز مخالفته بحال ، لأن مخالفة قول الله والرسول نقض لدليل العقل القاطع على التوحيد والنبوة ، فمن آمن وسلّم بهذين الأصلين فعليه أن يسلّم بكل ما ثبت بنص الكتاب والسنة من أحكام الشريعة وفروعها من غير سؤال ، وطلب للجواب ، ومن أنكرهما فلا جدوى من الحديث معه في الشريعة وفروعها ، ومن أجل هذا اهتم القرآن بإيراد الأدلة والبراهين على التوحيد والنبوة والبعث ، وابتدأ بالأول ، لأنه الأساس.

التوحيد :

ترتكز الأديان السماوية كلها على أصول ثلاثة : التوحيد ، والنبوة ، والبعث ، وما من نبي من آدم الى محمد (ص) إلا وتقوم دعوته على هذه الأصول ، وما عداها يتفرع عنها ، فعدالة الله وقدرته وحكمته فرع عن التوحيد ، والإمامة والقرآن فرع عن النبوة ، والحساب والجنة والنار فرع عن البعث.

وابتدأ القرآن الكريم بالأصل الأول ، وأرشد الى دلائله ، لأنه الأساس ، وخاطب الناس بقوله : اعبدوا ربكم الذي خلقكم الخ .. وبديهة ان عبادته تستدعي معرفته أولا بطريق القطع والجزم ، لا بطريق التخمين والظن (١) لأن الظن لا يغني عن الحق شيئا بشهادة القرآن نفسه. فما هو الطريق الذي يؤدي قطعا الى معرفة الله جل وعلا؟

__________________

(١) الإسلام عقيدة وشريعة ، والعقيدة كالايمان بالله وصفاته ، والنبي وعصمته ، والبعث وما اليه من الغيب. ولا يثبت شيء من مسائل العقيدة إلا بطريق القطع ، ومن هنا لم تكن محلا للاجتهاد. والشريعة كالعبادات والمعاملات والجنايات ، ويجوز اثبات مسائلها بطريق الظن والاجتهاد ، على شريطة أن يقوم دليل قطعي على صحة العمل بهذا الطريق الظني الخاص ، بحيث يكون القطع مصدرا للعمل بالظن.

٥٩

لقد اختلف العلماء في نوعية هذا الطريق ، وقرره كل بما رآه صوابا .. فمنهم من اعتمد على الدليل الكوني ، وأورده على هذه الصورة : ان الطبيعة وحوادثها المتكررة المتجددة تتطلب وجود علة لها ، ولا يصح أن تكون العلة هي الطبيعة نفسها ، وإلا لزم أن يكون الشيء علة ومعلولا في آن واحد ، وهذا هو الدور الباطل الذي أوضحناه في الفقرة السابقة (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية ٤ من هذه السورة ، وان كانت العلة خارجة عن الطبيعة نقلنا اليها الكلام وسألنا : هل هي نتيجة لعلة سابقة ، أو انها وجدت لذاتها من غير علة ، وعلى الأول يأتي الكلام والسؤال عن كل علة سابقة ، وهكذا دواليك .. وهذا هو التسلسل المحال ، فتعين الثاني ، أي وجود علة بذاتها ، واليها تنتهي جميع العلل ، ولا تنتهي هي الى غيرها ، وهي كلمة الله ، وقوله للشيء كن فيكون.

ـ ملحوظة ـ هذا الدليل يقوم على التسليم بنظرية العلية ، وهي ان كل أثر يستلزم مؤثرا ، وكل معلول لا بد له من علة ، تماما كالعلم يستدعي وجود العالم ، والكتابة وجود الكاتب (١).

ولكي تتضح لديك فكرة التسلسل وبطلانها ، ووجوب الانتهاء الى علة لا علة لها نضرب اليك مثلا من هذه التصاميم التي يضعها المهندسون للطائرات والسيارات ، وغيرها من الآلات والبنايات فإنها جميعا لا بد أن تنتهي الى المخترع الأول الذي وضع التصميم من تلقائه ، يأخذ الغير منه ، ولم يأخذه هو من أحد ، ولو افترض انه لا مخترع أول للتصميم لزم أن لا يوجد اختراع ولا شيء يمت الى التصميم على الإطلاق.

وعلى هذا فليس لأحد أن يقول ويسأل : ممن أخذ المخترع الأول هذا التصميم ، لأن معنى مخترع انه لم يتلق من الغير ، وهذه الحقيقة تدل على صحتها بنفسها ، تماما كما تدل الشمس على ضوئها .. وهكذا الحال بالنسبة الى الخالق

__________________

(١) إن الفيلسوف الانكليزي هيوم ينكر مبدأ العلية ، ويقول : لا دليل على ان وجود شيء يستلزم وجود شيء آخر ، وإنما العادة جرت أن يحدثا معا دون أن يكون بينهما تلازم قهري .. وليس لدينا شيء نرد به هذا القول سوى ان الغاء مبدأ العلية الغاء لبديهة العقل عند جميع الناس ، فما من أحد يتصور وجودا من غير سبب موجب .. هذا ، إلى ان تكرار وجود الحادثين معا ، وعدم تخلف أحدهما عن الآخر ، ولو بحسب العادة يجعل للعادة من القوة ما للتجربة التي هي الطريق الوحيد للمعرفة عند التجربيين.

٦٠