التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

عن طاعة الله ، ورهان جمع رهن ، ومعناه في اللغة الحبس ، والمراد به هنا وثيقة لدين المرتهن.

الإعراب :

فرجل وامرأتان رجل فاعل لفعل محذوف ، أي فليشهد رجل وامرأتان ، ويجوز جعله خبرا لمبتدأ محذوف ، أي فالذي يشهد رجل وامرأتان ، والمصدر من أن تضل مفعول لأجله لتذكر الأخرى ، والمصدر من أن تكتبوه مفعول ل (لا تَسْئَمُوا) ، وصغيرا أو كبيرا حال من الضمير في تكتبوه ، وتجارة بالنصب خبر كان ، واسمها محذوف ، أي الا ان تكون التجارة تجارة حاضرة ، ويجوز الرفع على أن تكون تامة لا تحتاج الى خبر ، ورهان خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير فالوثيقة رهان ، وقلبه فاعل لآثم.

المعنى :

ذكر الله سبحانه في آخر هذه السورة احكاما شرعية تتعلق بالصدقات والربا والدّين والتجارة والرهن ، وتقدم الكلام عن الصدقة والربا ، والكلام الآن في بعض مسائل الدّين والرهن والتجارة ، وقد اهتمت الآية كثيرا بكتابة الدين ، والاشهاد عليه ، حيث أمر الله بالكتابة أولا بقوله : (فَاكْتُبُوهُ). وثانيا : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ). وثالثا في بيان الحكمة من الكتابة والاشهاد : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ .. وَأَقْوَمُ .. وَأَدْنى).

وبالرغم من ذلك فان أكثر فقهاء المذاهب لم يوجبوا الكتابة في الدين ، ولا في البيع ، ولا الاشهاد عليهما ، وحملوا الأمر بذلك على الاستحباب ، ويؤيد قولهم بالاستحباب ان الله سبحانه بعد أن أمر بالكتابة والاشهاد قال : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ). أي إذا أئتمن الدائن المديون من غير صك ولا إشهاد فعلى المديون الوفاء ، وهذا ترخيص ظاهر بترك الكتابة والاشهاد ، وقريبا يأتي تفسير هذه الآية ، وهي (فَإِنْ أَمِنَ).

٤٤١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ). التداين على وزن تفاعل ، أي داين بعضكم بعضا ، ويأتي التداين لمعنيين : الأول التداين بالمال. الثاني المجازاة ، قال الإمام علي (ع) : كما تدين تدان ، ولما كان اللفظ محتملا لهذين المعنيين قال تعالى : تداينتم بدين ، دفعا لارادة المجازاة من التداين ، والأجل الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، والمسمى هو الذي يعين بالتسمية ، كالسنة والشهر ، وقوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ) أمر بكتابة الدّين ، والأمر يدل على الوجوب ، ولكن جرت سيرة المسلمين منذ القديم على عدم الالتزام بكتابة الدّين والاشهاد عليه ، فتعين حمل الأمر على الندب والإرشاد.

بين القرض والدّين :

يشترك الدّين مع القرض في ان كلا منهما يتوقف الانتفاع به على استهلاكه ، وانه حق ثابت في الذمة ، ويفترق القرض عن الدّين في ان العين المقترضة تسدد بمثلها في الجنس والصفات ، فإذا استقرضت نقدا ثبت في ذمتك للمقرض نقد مثله ، وكذا إذا استقرضت طعاما أو شرابا أو ثوبا ، وعلى هذا ينحصر القرض في المثليات دون القيميات.

أما الدّين فيثبت في الذمة بسبب من الأسباب الموجبة له ، كالقرض ، والبيع نسيئة ، والزواج بمهر مؤجل ، والجناية ، وما إلى هذه ، وعلى هذا يكون الدّين أعم من القرض ، ويقضى بمثله ان كان مثليا ، وبقيمته ان كان قيميا.

(وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ). لما كان الغرض من كتابة الدين ضمان الحق لكل من الدائن والمدين ، ودفع التنازع والتخاصم بينهما ـ لما كان كذلك وجب أن يكون الكاتب أمينا عارفا بأحكام الدين ، إذ لو كان جاهلا ، أو متحيزا انتقض الغرض المقصود.

وتسأل : لما ذا قال : ليكتب كاتب بالعدل ، ولم يقل : ليكتب بينكم كاتب عادل؟

الجواب : لأن الكتابة بين الناس لا يشترط فيها أن يتصف الكاتب بالعدالة

٤٤٢

بمعناها الشرعي ، كما هو الشأن في القاضي والمفتي وامام الجماعة في الصلاة ، لأن الغرض من كتابة الدّين ضمان الحق وصيانته ، كما أشرنا ، ويكفي لذلك أن يكون الكاتب عادلا في هذه الجهة فقط ، لا في جميع أقواله وأفعاله .. ومن هنا يمكن القول بأن هذه الآية تشعر بأن الشاهد لا يشترط فيه العدالة الشرعية ، بل يكفي الثقة بكونه صادقا وعادلا في شهادته ، لم يتحيز فيها لأحد المتخاصمين ، ونحمل عدالة الشاهد التي وردت في الأخبار على العدالة النسبية ، دون العدالة المطلقة.

وان قال قائل : ان إعطاء حكم كاتب الدين للشاهد قياس ، وأنت من القائلين ببطلانه؟.

قلنا في جوابه : ان كاتب الدين شاهد على من أملى عليه الدين ، وان لم يسمّ شاهدا عند العرف ، وبكلمة ان للشاهد فردين لافظا وكاتبا ، هذا يشهد بالكلام المكتوب ، وذاك يشهد بالكلام الملفوظ ، والكتابة أخت اللفظ.

(وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ). المراد بعلمه الله أمره والمأمور به الكتابة بالعدل ، ومن غير تحيز ، وقوله : (فَلْيَكْتُبْ) تأكيد لقوله : (لا يَأْبَ). وسر هذا التأكيد ان الذين يحسنون الكتابة آنذاك كانوا قلة ، فإذا ما امتنع الكاتب تعذر الاستعانة بغيره.

وتسأل : ان قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ) نهي ، والنهي يدل على التحريم ، ومعنى هذا ان الكاتب يجب عليه أن يلبي إذا دعي الى كتابة الدين ، مع العلم بأن هذه الكتابة ندب لا فرض ، فكيف زاد الفرع على الأصل؟.

الجواب : كما حملنا قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ) على الاستحباب دون الوجوب نحمل قوله : (لا يَأْبَ) على الكراهة دون التحريم .. اللهم الا إذا تيقن المدعو الى الكتابة بأن امتناعه سبب تام للفساد ، ووقوع المتخاصمين في الحرام .. فعندها يحرم عليه أن يمتنع ، ولكن من باب دفع الفساد ، لا من باب وجوب كتابة الدين.

(وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً). يملل ، أي يملي ، والذي عليه الحق هو المديون ، والضمير في منه يعود على الدين ،

٤٤٣

أو على الحق ، والمعنى ان المديون يجب أن يلقي على كاتب الدين الحق الذي عليه للدائن ، دون نقصان ، يلقيه بلفظ صريح واضح ، ليكون إقرارا منه بالحق يلزم به هو أو ورثته عند الاقتضاء ، فربما توفي قبل وفاء الدين ، وتمنع الورثة عن الدفع ، فيذهب الحق على صاحبه إذا لم يكن بيده حجة من غريمه تثبت دعواه.

وهذا أقل ما يجب على المديون تجاه صاحب الدين الذي قضى حاجته ، وحل مشكلته ساعة العسرة ، وقد رأيت أكثر من واحد يخفض جناح الذل لصاحب المال من الحاجة راجيا أن يقرضه ما يسد به الضرورة ، حتى إذا استجاب صاحب المال ، وأحسن تنكر له المديون ، واتخذه عدوا ، ووصفه بكل قبيح ، لا لشيء الا لأنه طالبه بحقه. وفضلا عن ان مقابلة الإحسان بالإساءة حرام شرعا وعقلا فإنها تنبئ عن الخبث واللؤم.

شكر الخالق والمخلوق :

قال تعالى في الآية ١٤ من سورة لقمان : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ). وفي الحديث : «لا يشكر الله من لا يشكر الناس». وفي حديث آخر : «من أسدى معروفا الى انسان ، فشكر الخالق ، وقال : الشكر لله. وتجاهل صاحب المعروف ، فان الله سبحانه لا يقبل منه الشكر ، حتى يشكر من أجرى المعروف على يده ..» ومن هنا اشتهر : من لا يشكر المخلوق لا يشكر الخالق ، ولهذه الملازمة أسرار :

١ ـ ان العقل والشرع يحكمان بوجوب شكر المنعم ، أي منعم كان ، ومن ترك هذا الشكر فقد عصى الله سبحانه ، والعصيان كفر وجحود لأنعمه جل وعلا.

٢ ـ ان كرامة الإنسان من كرامة الله ، وفي الحديث : «ان الله يقول يوم القيامة لعبد من عباده : ما منعك إذا مرضت أن تعودني؟. فيقول العبد : سبحانك أنت رب العباد ، لا تألم ولا تمرض .. فيقول الله : مرض أخوك المؤمن ، فلم تعده ، فوعزتي وجلالي لو عدته لوجدتني عنده ، ثم لتكفلت

٤٤٤

بحوائجك ، وقضيتها لك ، وذلك من كرامة عبدي ، وأنا الرحمن الرحيم».

٣ ـ ان شكر المحسن من الوفاء ، والوفاء دليل الصدق والإيمان ، بل هو أصل الفضائل ، فحيث يوجد الوفاء يوجد الصدق والإخلاص والأمانة والتضحية .. والوفاء لا يتجزأ ، فمن يفي لمن احسن اليه فانه يفي أيضا للأهل والأصدقاء والوطن ، وللانسانية جمعاء ، ومن غدر بمن أحسن اليه ، أو تجاهله ، فانه يتجاهل ويغدر أيضا بأهله وأصدقائه ووطنه ، ومن هنا قيل بحق : من لا وفاء عنده لا دين له.

وأروع ما يكون الوفاء في وقت المحنة وساعة العسرة ، لأن الوفاء في وقت النعمة والميسرة وفاء للمال ، لا لصاحبه ، وللدنيا ، لا لمن هي في يده.

(فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ٩). السفيه المبذر الذي لا يحسن التصرف في المال ، والضعيف الصبي ، ومن لا يستطيع الاملاء المجنون ، كل هؤلاء لا يصح منهم الاملاء والإقرار ، فلا بد أن يقوم مقامهم من يتولى شئونهم ، ويقوم بعنايتهم .. وتجمل الاشارة الى أن الولي على قسمين : ولي خاص ، وهو الأب والجد للأب ، وولي عام ، وهو الحاكم الشرعي الجامع بين الاجتهاد والعدالة ، ولا ولاية له إلا مع فقد الأب والجد ، والتفصيل في كتب الفقه ومنها الجزء الخامس من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق.

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ). هذا هو النوع الثاني من الأمور التي اعتبرها الله في الدين ، الأول الكتابة ، والثاني الاشهاد ، واستشهدوا ، أي أشهدوا ، يقال : استشهدت الرجل ، واشهدته بمعنى واحد ، والشهيدان هما الشاهدان ، وقد اعتبر القانون الوضعي وجود شاهدين في تحرير العقود الرسمية ، تماما كما جاء في القرآن ، وقوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) استدل به الفقهاء على ان الشاهد يشترط فيه الإسلام.

وقال الشيعة الامامية والحنفية : هذا إذا كان المشهود عليه مسلما ، أما إذا كان غير مسلم فان شهادة أهل ملة تقبل على ملتهم. وقال المالكية والشافعية : لا تقبل شهادة غير المسلم ، حتى ولو كان على مثله. (المغني وفتح القدير ، باب الشهادة).

٤٤٥

(فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ). تثبت الحقوق المالية بشهادة رجلين ، ورجل وامرأتين ، ورجل ويمين باتفاق المذاهب إلا أبا حنيفة فانه قال : لا يقضى بشاهد ويمين. والقرآن الكريم ذكر شهادة الرجلين ، والرجل والمرأتين فقط. أما ثبوت الحق المالي بالشاهد واليمين فقد صرحت به السنة النبوية.

وتسأل : هل يثبت الحق المالي بشهادة النساء فقط؟ ثم هل يثبت بشهادة المرأتين ويمين ، كما ثبت بشهادة الرجل واليمين؟

الجواب : اتفقت المذاهب على ان الحقوق في المال لا تثبت بشهادة النساء مفردات عن الرجال ، وبدون يمين ، واختلفت في ثبوتها بشهادة امرأتين ويمين. قال المالكية والامامية : يثبت ، وقال غيرهم : لا يثبت.

وقوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) يحتمل معنيين : المعنى الأول أن يكون المراد من الرضا خصوص الرضا لنفس هذه الشهادة الخاصة ، لا للشهود بما هم مرضيون دينا وصلاحا بصرف النظر عن شهادتهم هذه وغيرها ، وعلى هذا فلا تشترط العدالة في الشاهد ، بل يكفي أن يثق القاضي بأن شهادة الشاهد مطابقة للواقع ، كما هو شأن الشهادة في القوانين الوضعية ، حيث تركت تقدير الشهادة للقاضي وحده.

المعنى الثاني أن يكون المراد الرضا للشهود أنفسهم بما هم مرضيون دينا وصلاحا ، وعليه فلا بد من عدالة الشاهد نفسه .. ان لفظ الآية يحتمل هذا هذا المعنى والمعنى الأول ، ولكن الاخبار وفتوى الفقهاء يرجحان ارادة العدالة في الشاهد نفسه .. قال الإمام علي (ع) : «اشهدوا ممن ترتضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته ، وعلى هذا إذا شهد العدلان فعلى القاضي أن يحكم بموجب شهادتهما ، سواء أحصل له العلم من قولهما ، أم لم يحصل تعبدا بالنص ، أما إذا شهد عنده غير العدول فلا يحكم بشهادتهم الا إذا حصل له العلم من أقوالهم ، بحيث يكون العلم هو المصدر للحكم ، لا شهادة غير العدول.

(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى). هنا سؤالان :

الأول : لما ذا قال : ان تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ، ولم يقل

٤٤٦

فتذكرها الأخرى ، فأعاد الاسم الظاهر ، وهو إحداهما في جملتين لا فاصل بينهما بعيد أو قريب؟.

وأجيب عن ذلك بوجوه خيرها جميعا ان شهادة المرأتين لما كانت بمنزلة شهادة الرجل الواحد وجب الجمع بين المرأتين لتؤدي كل منهما شهادتها على مسمع من الثانية ، حتى إذا تركت شيئا من الشهادة ذهولا عنه ذكرتها الأخرى ، فإذا انتهت الأولى أدت الثانية بمحضر من زميلتها ، ومثلت الدور الذي مثلته تلك ، وعليه تكون شهادة كل منهما متممة لشهادة الأخرى ، وهذا المعنى لا يتأدى الا باعادة لفظ إحداهما ، لكي ينطبق على الاثنتين ، ولو قال فتذكرها الأخرى لكان المعنى لئلا تنسى واحدة فتذكر الثانية ، فتكون إحداهما ناسية ، والأخرى ذاكرة ، وليس هذا بمراد ، وانما المراد ان كلا منهما تذكر الأخرى كما قدمنا.

وتجمل الاشارة الى انه لا يجب الجمع بين الشهود إذا كانوا رجالا ، بل التفريق أولى على العكس من النساء الشاهدات.

السؤال الثاني : ما هو السر في ان شهادة امرأتين تساوي شهادة الرجل الواحد؟.

وأجيب عن هذا السؤال بأوجه ، منها ان المرأة ضعيفة العقل ، ومن الطريف جواب بعض المفسرين بأن مزاج المرأة تكثر فيه الرطوبة .. ولو صح هذا القول يكون كل رطب المزاج نصف شاهد ، حتى ولو كان رجلا ، وكل حار المزاج يكون شاهدا كاملا ، حتى ولو كان امرأة .. وأرجح الأقوال نسبيا ان الرجل يملك عاطفته وهواه أكثر من المرأة ـ غالبا ـ والجواب الصحيح ان علينا ان نتعبد بالنص ، حتى ولو جهلنا الحكمة منه.

وتجمل الاشارة الى أن القاضي قد تركن نفسه الى شهادة امرأة واحدة ، ويحصل له العلم من قولها أكثر مما تركن نفسه إلى شهادة عشرة رجال غير عدول .. والقاضي يجوز له أن يقضي بعلمه إذا تكوّن هذا العلم من ظروف الدعوى وملابساتها وقرائنها ، ولو كانت هذه القرينة شهادة امرأة ، ما دامت وسيلة للعلم أو الاطمئنان.

(وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا). إذا دعاك داع لتشهد له على حق أو دين وجب عليك أن تستجيب لدعوته على الكفاية ، أي إذا قام غيرك بهذه المهمة سقط الوجوب عنك ، والا كنت مسؤولا أمام الله سبحانه ، والدليل هذه الآية ،

٤٤٧

والحديث الشريف : «إذا دعاك الرجل ، لتشهد له على حق أو دين فلا يسعك أن تتقاعس عنه».

(وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ). السأم الملال ، والضمير في تكتبوه يعود الى الدين أو الحق ، والقصد هو الحث على كتابة الدين من غير فرق بين قليله وكثيره ، ما دام الغرض التحفظ من وقوع النزاع والخلاف.

(ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا). أي ان كتابة الدين والاشهاد عليه أعدل وأبلغ في الاستقامة وأقرب الى نفي الشك والارتياب.

وتسأل : ان الله سبحانه أمر بالكتابة أولا في قوله : (فَاكْتُبُوهُ) وثانيا : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ). وثالثا أشار الى الحكمة من ذلك بأن الكتابة أقسط وأقوم وأدنى ، ومع كل هذا فقد أفتى الفقهاء باستحباب الكتابة ، لا بوجوبها ، لسيرة المسلمين القطعية منذ الصدر الأول ، حتى اليوم ، ونحن معهم في ذلك ، ولكن هناك شيء آخر غير كتابة الدين ، والاشهاد عليه ، وهو ان الفقهاء قد أوجبوا على القاضي أن يحكم بموجب البينة العادلة ، حتى ولو لم يحصل له العلم منها ، وما ذاك إلا تعبدا بالنص .. ولكن الفقهاء لم يعتبروا الكتابة وسيلة من وسائل الإثبات كالبينة ، وقالوا : لا يجوز الحكم بموجبها الا إذا أوجبت العلم أو الاطمئنان .. ألا يدل هذا الأمر المتكرر بالكتابة على انها طريق لاثبات الحق ، ولو بالدلالة الالتزامية؟ ..

الجواب : ان الأمر بكتابة الدين صونا للحق الثابت شيء ، واعتبار البينة العادلة طريقا لاثبات الحق شيء آخر ، ومن هنا يجب الحكم بموجب البينة ، سواء أقرّ بها المحكوم عليه ، أو أنكرها ، أما الكتابة فلا بد من سؤال المدعى عليه عنها ، فان أقر بها دخلت في باب الإقرار ، وان أنكرها احتاج إثباتها الى وسيلة من وسائل الإثبات كالبينة أو اليمين أو الاختبار والمقابلة بينها وبين خط الكاتب ، وعليه فلا تكون الكتابة وسيلة مستقلة بذاتها ، كما هو الشأن في البينة.

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها). المصدر من ان وصلتها في محل نصب على الاستثناء المنقطع ، لأن الكلام المتقدم كان في كتابة الدين المؤجل ، والكلام هنا في التجارة الحاضرة ، واباحة عدم كتابتها ، ومعنى التجارة الحاضرة البيع بثمن معجل ، لا مؤجل ، ومعنى تديرونها

٤٤٨

بينكم تتناقلونها من يد إلى يد ، فيأخذ البائع الثمن من المشتري ، ويأخذ المشتري المثمن من البائع ، وينتقل بذلك ما كان في يد كل الى ملك الآخر.

ومحصل المعنى من مجموع الكلام انه لا بأس عليكم بترك الكتابة في المعاملات التجارية التي تقع بينكم بثمن معجل ، أما السر لاباحة ترك الكتابة في ذلك فلأن مثل هذا البيع المعروف ببيع المعاطاة يجري كثيرا بين الناس ، فلو كلفوا بكتابة الصكوك لكل المبيعات لشق الأمر عليهم ، بخاصة في الأشياء الصغيرة.

وكيف كان ، فان المسائل التجارية يوكل الشارع الأقدس أمرها الى الناس يديرونها بينهم حسبما تستدعيه مصالحهم ، فان كانت المصلحة في الكتابة والتسجيل فعلوا ، كما هو شأنهم في بيع العقارات ، وغيرها من المنقولات الثمينة كالسيارات ، وما اليها ، وان كانت المصلحة في ترك الكتابة تركوها ، كما هي عادتهم في بيع المأكول والملبوس .. وإذا أمر الله بكتابة الدين والبيع ، أو رخص بتركها فإنما يأمر استحبابا وإرشادا إلى ما يجنبهم المشاكل والمتاعب .. أجل ، انه تعالى ينهاهم تحريما عن الغش والتغرير ، والربا والاستغلال ، وأكل المال بالباطل من غير عوض ومقابل.

وتسأل : ان نفي الجناح عن ترك كتابة التجارة الحاضرة يشعر بأن ترك كتابة الديون فيه جناح ، وعليه تكون كتابة الديون واجبة خلافا لما عليه الفقهاء الذين قالوا باستحبابها ، لا بوجوبها.

الجواب : ان المراد بقوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) نفي البأس والمضرة الدنيوية ، لا نفي الإثم والمضرة الاخروية ، كي يكون الأمر بكتابة الديون للوجوب.

(وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ). اتفق الفقهاء على ان الاشهاد على البيع ندب ، لا فرض إلا الظاهرية ، فإنهم قالوا بأنه فرض ، لا ندب عملا بظاهر اللفظ. (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ). إذا اتفق المتبايعان على الكتابة والاشهاد في الدين أو البيع فعلى الكاتب أن يكتب بالعدل ، وعلى الشاهد أن يشهد بالحق .. وتقدم الكلام عن لفظ لا يضار واعرابه في الآية ٢٣٣ ، وهو قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها).

(وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ). الفسوق هو الخروج عن طاعة الله ، وكل من

٤٤٩

فعل شيئا نهى الله عنه ، أو ترك شيئا أمر الله به فهو فاسق خارج عن طاعة الله ، مستحق لغضبه وعقابه. (وَاتَّقُوا اللهَ) في الطاعة لجميع أوامره ونواهيه. (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). يعلمكم ما فيه خير لكم دينا ودنيا. وبديهة ان الله سبحانه لا يعلمنا مباشرة ، ولا يلقي العلم في عقولنا وقلوبنا إلقاء ، وانما يعلمنا بواسطة الوحي الذي ينزله على أنبيائه ، هذا الوحي الذي يتضمن كل ما فيه هدايتنا وإرشادنا إلى المصالح التي تضمن بقاءنا وسعادتنا.

مع الصوفية :

قال الصوفية كلهم أو جلهم : لا سبيل الى المعرفة والعلم بالله ووحيه ، والشريعة وأسرارها إلا الايمان والتقوى ، فمن اتقى الله عرفه وعرف شريعته وأحكامها ، وعرف الآخرة وأهوالها ، وفهم القرآن والحديث من غير درس وتعلم ، ويسمون علمهم هذا بالعلم اللدني ، واستدلوا بأدلة منها قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ). ولفظ الآية الكريمة يأبى هذا الاستدلال ، لأنه لو كان كما قالوا لجزم يعلمكم جوابا لاتقوا ، ولاقترن الجواب بالفاء ، لا بالواو .. هذا ، الى ان من أمعن الفكر في قول الصوفية هذا يجده أشبه بهذيان المحموم الذي يلغو ويقول : ان البيت لا يتم بناؤه إلا بعد السكن فيه ، وان الثوب لا يتم نسيجه إلا بعد لبسه.

ولا أدري كيف يدعي الصوفية العلم بالحديث ، وقد تواتر عن الرسول (ص) : «اطلبوا العلم ولو بالصين .. العلم بالتعلم»؟ ونحن لا نشك أبدا في أن النظريات تتبلور بالتطبيق والعمل ، وان العالم العامل تتفتح له أبواب بمعلومات جديدة ، ولكن هذا شيء ، وكون التقوى وسيلة الى المعرفة شيء آخر.

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ). بعد ان أمر الله بكتابة الدين صيانة له جعل الرهن وثيقة له بدلا عن الكتابة ، حيث تتعذر في السفر.

واتفق الفقهاء على ان عقد الرهن لا يتم إلا بالقبض ، واستدلوا بقوله تعالى :

٤٥٠

(فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ). والتفصيل في كتب الفقه ، ومنها الجزء الرابع من فقه الإمام جعفر الصادق.

وتسأل : ان الرهن جائز في السفر والحضر ، ومع وجود الكاتب وعدمه ، فما هو القصد من التقييد بالسفر ، وعدم وجود الكاتب؟

وتخطى بعض المفسرين هذا السؤال ، وتجاهله بالمرة ، مع انه يسبق الى ذهن كل عارف بالأحكام الشرعية .. وأجاب أكثرهم عنه بأن الله أجراه على الأعم الأغلب ، إذ الغالب في السفر عدم وجود الكاتب في ذاك العصر .. ويلاحظ بأن الغالب في السفر أيضا عدم وجود الرهن ، ومن الذي يحمل في سفره أشياءه التي يمكن رهنها إلا ما ندر؟

والجواب الصحيح ان الآية بظاهرها تدل على عدم جواز الرهن في الحضر ، بناء على ان للشرط مفهوما ، وهو هنا : ان لم تكونوا على سفر فلا رهان ، ولكن هذا الظاهر لا يجوز الاعتماد عليه بعد أن ثبت ان النبي (ص) الذي نزل الوحي على قلبه لم يعمل به ، فلقد رهن درعه عند يهودي ، وهو حاضر في المدينة ، وليست هذه هي الآية الوحيدة التي نترك ظاهرها بالسنة النبوية ، ومن هنا أجمعت الأمة على عدم جواز العمل بظاهر آية من آيات الأحكام الشرعية إلا بعد البحث والتنقيب عن الأحاديث النبوية الواردة مورد الحكم المدلول للآية الكريمة.

(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ). أي ان الدائن إذا أحسن الظن بالمديون ، وأعطاه بلا صك ولا رهن ولا إشهاد ثقة بصدقه ووفائه ، ان كان كذلك فعلى المديون أن يكون عند حسن ظن الدائن ، ويرد له الحق كاملا ..

وهذا الحكم عام لا يختص بالدين ، بل يشمل الأمانات بكاملها ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ـ النساء ٥٨». وقال رسول الله (ص) : لا تنظروا الى صلاة الرجل وصومه ، وكثرة حجه ومعروفه ، وطنطنته بالليل ، ولكن انظروا الى صدق حديثه وأدائه للامانة ، وقال الإمام زين العابدين (ع) : لو ان قاتل أبي ائتمنني على السيف الذي قتله به لأديته اليه.

(وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) فرق بين تحمل الشهادة ، وبين الأدلاء بها بعد تحملها ، فمعنى تحمل الشهادة ان يدعوك داع لتشهد له

٤٥١

على حق أو دين ، وتجب الاجابة هنا كفاية لا عينا كما ذكرنا في تفسير قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا). أما الأدلاء بها فهو أن يدعوك صاحب الحق بعد أن تتحمل الشهادة لتدلي بها أمام المحاكم ، ولا يسعك أن تمتنع عن اجابته إذا توقف ثبوت الحق على الاستماع إلى شهادتك ، وأمنت الضرر ، فإذا امتنعت ، والحال هذه ، فأنت آثم ، لقوله تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ). والمراد بآثم قلبه انه يعاقب عقاب من قصد وتعمد الإثم ، لأن القصد والعمد من صفات القلب.

ان قيدوا ما في انفسكم الآة ٢٨٤ :

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))

المعنى :

(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ). قد ترد على قلب الإنسان خواطر سوداء لا يتمكن من دفعها ، كما لو تمنى أن تهدم دار فلان ، أو تدهسه سيارة ، ولا حساب ولا عقاب على هذه ما دامت مجرد خواطر لا يظهر لها أثر في قول أو فعل ، لأنها خارجة عن القدرة ، فالتكليف بها سلبا أو إيجابا تكليف بما لا يطاق.

وقد يعزم على المعصية عزما أكيدا ، ويهم بها عن تصميم ، حتى إذا أوشك أن يفعل أحجم وتراجع ، إما خوفا من الله سبحانه ، واما خوفا من الناس ، والأول مأجور ، لأن إحجامه خوفا منه تعالى يعد توبة وانابة يثاب عليها ، والثاني غير مأجور ولا موزور ، لا يثاب ولا يعاقب تفضلا من الله وكرما ،

٤٥٢

فلقد جاء في الحديث : إذا همّ العبد بحسنة فلم يفعلها كتبت له حسنة ، فان فعلها كتبت له عشرا ، وان همّ بسيئة فعملها كتبت سيئة واحدة ، فان لم يعملها لم تكتب شيئا.

وقد يعزم على المعصية ، ويباشرها بالفعل ، وهذا العاصي على نوعين : نوع يعصي الله علنا غير مكترث بأقوال الناس وانتقادهم وتشهيرهم ، وهذا هو المراد بقوله : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ). ونوع يستر معصيته بالنفاق والرياء ، يفسد في الخفاء ، ويعلن الصلاح ، وكلا النوعين يعلم الله بهما (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ). ما دام الله سبحانه مالك السموات والأرض ، قادرا على كل شيء فله أن يعفو عمن يشاء من العصاة ، ويعذب من يشاء منهم حسبما تقتضيه حكمته .. قال محيي الدين ابن العربي في تفسيره ما معناه : ان الله يغفر للعاصي إذا كان قويا في إيمانه ، ولكن صدرت منه المعصية عرضا ، لا لرسوخ جذورها في نفسه ، ويعذب العاصي الضعيف في إيمانه الذي رسخت جذور المعصية في نفسه.

آمن الرسول الآة ٢٨٥ : ٢٨٦ :

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

٤٥٣

اللغة :

يطلق الخطأ على ثلاثة معان : الإثم ، وضد العمد ، وضد الصواب ، وهذا المعنى الأخير هو المراد من الآية ، والإصر العبء الثقيل ، يأصر صاحبه ، ويحبسه مكانه.

الاعراب :

المؤمنون مبتدأ ، وكلّ مبتدأ ثان ، وجملة آمن خبر المبتدأ الثاني ، والجملة منه ومن خبره خبر المبتدأ الأول ، وجملة لا نفرق مفعول لفعل محذوف ، أي يقولون : لا نفرق ، وغفرانك نصب على المفعول المطلق ، أي اغفر غفرانك ، أو مفعول به ، أي نطلب غفرانك.

المعنى :

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ). هنا سؤال يفرض نفسه ، وهو ان كل رسول يؤمن بالله وبالوحي الذي انزل اليه ، والا لا يكون رسولا ، فالاخبار عن ذلك يشبه توضيح الواضح ، وتحصيل الحاصل ، وهذا غير جائز في كلامه تعالى الذي يجب أن يحمل على أحسن المحامل ، فلا بد أن يكون للاخبار عن ذلك هدف يرمي اليه ، فما هو هذا الهدف؟.

الجواب : ليس الغرض من الآية مجرد الإخبار بأن النبي (ص) قد آمن بالله .. كلا ، فان كل نبي يولد مؤمنا بالله ووحدانيته ، ولكن ليس كل نبي يولد نبيا ، أو يعلم انه سيكون نبيا ـ إلا عيسى (ع) الذي قال حين انفصل عن امه اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا .. مريم ٣٠ ـ ومحمد (ص) لم ينزل عليه الوحي إلا بعد أن أتم أربعين عاما من عمره الشريف ، وحين قال له جبريل أول ما قال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) شك في أمره وحار ، وخشي أن يكون الصوت من الوساوس والهواجس ، حتى انه شكا إلى زوجته الحانية خديجة ، فانطلقت به إلى ورقة بن نوفل ، ثم اقتنع بالحس والوجدان ان الذي

٤٥٤

أتاه ملك ، وليس بشيطان ، وقد خاطبه الله بقوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) ـ يونس ٩٤». وفي الحديث ان النبي عقّب على ذلك قائلا : لا أشك ولا أسأل.

وبهذا يتبين ان الغرض في قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) ان ما جاء في هذه السورة وغيرها من أصول الايمان والعقيدة ، والعظات والأحكام وكل ما أخبر به الرسول هو من وحي الله سبحانه ، وهذا الوحي لم يؤمن به الرسول إلا بعد أن مر بمرحلة الشك والبحث والملاحظة الدقيقة ، والا بعد ان تكشفت له الحقيقة بالحس والعيان ، اذن ، كل ما أخبر به الرسول فهو من عند الله لا ريب فيه.

(وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ). ليس الايمان بالله بمعناه الكامل الشامل ان نعتقد بأنه خالق الكون وكفى .. كلا ، ان المؤمن حقا هو الذي يؤمن بالله ، وبما بعث من الرسل ، وأنزل من الكتب بما فيها من اصول ومبادئ واحكام وملائكة ، وما اليها من المغيبات دون استثناء ، فمن آمن بالله دون كتبه ورسله ، أو آمن به وببعض كتبه ورسله كان حكمه عند الله غدا حكم من لم يؤمن به إطلاقا ، ولو ان اهل الأديان أخذوا بمبدإ الايمان بالله ، وبكل ما جاء من عنده لما كانت هذه الطوائف وتناحرها وتخاصمها ، ولكنهم آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض فكان بينهم هذا العداء المستمر.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). لأن التكليف بغير المقدور ظلم : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ـ آل عمران ١٨٢». ولكن الاشعرية أجازوا التكليف بغير المقدور ، ونفاه الإمامية والمعتزلة.

(لَها ما كَسَبَتْ) من الخيرات والحسنات. (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) من الشرور والسيئات ، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .. ومن رحمة الله بعباده ان العبد إذا صدرت منه حسنة كتبها الله له في الحال ، وبمجرد صدورها منه ، وإذا صدرت منه سيئة أمهله حينا ، فان استغفر وندم لم تكتب ، وان أصر كتبت عليه .. وقال جماعة من العارفين ان الإنسان يفعل الخير بدافع من نفسه ، لأنه مفطور عليه ، ولا يفعل الشر إلا ببواعث خارجية من البيئة والتربية الفاسدة ،

٤٥٥

ولهذا جعل تعالى الخير من الكسب ، لا من الاكتساب ، حيث قال : (لَها ما كَسَبَتْ) ولم يقل ما اكتسبت ، وجعل الشر من الاكتساب ، فقال : (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) ولم يقل ما كسبت.

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا). هنا اشكال مشهور كثر حوله الكلام ، وحول جوابه في كتب الأصول وعلم الكلام ، وملخص الإشكال ان الخطأ والنسيان لا يدخلان تحت ارادة الإنسان وقدرته ، فالمؤاخذة عليهما مرفوعة بذاتها ، فمن نسي الصلاة ، أو أخطأ في فهم الحكم الشرعي واستخراجه من مصدره يحكم بمعذوريته وقبح مؤاخذته .. اذن ، فلا معنى لطلب رفع المؤاخذة عنه.

وغريب ما أجاب به الشيخ محمد عبده ـ كما نقل صاحب المنار في تفسيره ـ من ان الناسي والمخطئ تصح مؤاخذتهما بدليل ان الشريعة الاسلامية والشرائع الوضعية قد أوجبت الضمان على من أتلف مال غيره خطأ ، كما أوجبت الدية على من قتل إنسانا من غير قصد .. وأخذ هذا الجواب وتبناه في تفسيره الشيخ مصطفى المراغي.

ووجه الغرابة ان المقصود من المؤاخذة في الآية هو العقاب والمسئولية الأدبية ، لا الغرامة المادية ، فمن قتل إنسانا ، أو أتلف ماله خطأ لا يعاقب ، ولا يسأل عن شيء من الوجهة الأدبية ، وانما يحكم عليه بغرامة مالية ، تماما كالمديون.

والصحيح في الجواب : ان الخطأ والنسيان يصدران تارة من الإنسان بعد تحفظه واحتياطه ، وهذا النوع من النسيان والخطأ يعذر فيه صاحبه ، ولا تجوز مؤاخذته أدبيا ، وهو المقصود من الآية الكريمة .. وتارة يصدر الخطأ والنسيان عن التهاون وترك التحفظ ، بحيث لو تيقظ واحترز لم يصدرا منه ، وهذا النوع لا يعذر فيه صاحبه ، وتجوز المؤاخذة عليه ، وهو المطلوب رفعه في الدعاء .. وعليه يسقط الاشكال من أساسه.

(رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ). الإصر العبء الثقيل الذي يأصر صاحبه ، أي يحبسه مكانه ، والمراد به هنا التكليف الشاق .. وقد وضعه الله سبحانه على بني إسرائيل ، حيث فرض عليهم خمسين صلاة في اليوم والليلة ، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ، وغير ذلك من التكاليف الشاقة التي ذكرها أهل التفاسير مفسرين بها قوله تعالى :

٤٥٦

(كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا). وعليه يكون معنى : لا تحمل علينا إصرا ، لا تكلفنا بما يثقل علينا حمله.

وتسأل : ان قوله تعالى : (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) يفيد هذا المعنى بالذات ، مع العلم بأن هذه الجملة معطوفة على ولا تحمل علينا إصرا ، والعطف يقتضي المغايرة ، حيث لا يجوز عطف الشيء على نفسه؟.

الجواب : لو نظرنا إلى قوله : (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) مستقلا عن السياق لكان الأمر كما قلت ، لأن المعنى الظاهر هو ان لا تكلفنا بما يشق علينا .. أما إذا نظرنا اليه مع ملاحظة السياق فيتعين أن يكون المراد لا تعاقبنا عقوبة لا نطيقها .. فعبّر عن العقوبة بما تؤدي اليه من عدم إطاقتها والصبر عليها ، قال الشيخ مرتضى الأنصاري في كتابه المعروف بالرسائل ، باب البراءة : «لا يبعد أن يراد بما لا يطاق في الآية العذاب والعقوبة ، فمعنى لا تحملنا ما لا طاقة لنا به لا تورد علينا ما لا نطيقه من العقوبة».

(وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا). العفو والمغفرة والرحمة ألفاظ متقاربة ، والفرق بينها بسيط ، هو ان العفو مجرد ترك العقاب على الذنب ، والمغفرة ترك العقاب ، مع الستر على الذنب ، والرحمة طلب التفضل والانعام بالثواب. (أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) الذين يستخفون بدين الله ، ويعتزون بغير الله .. وجاء في مجمع البيان عن النبي (ص) : «ان الله سبحانه قال عند كل فصل من هذا الدعاء : فعلت واستجبت». ولهذا استحب الإكثار من هذا الدعاء.

ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.

٤٥٧

الفهرست

مقدمة..................................................................... ٥

الاستعاذة................................................................ ١٩

من هو الشيطان؟......................................................... ٢٠

منطق ابليس.............................................................. ٢٠

البسملة وتحديد الاسلام بكلمة واحدة....................................... ٢٤

الفاتحة................................................................... ٣١

سورة البقرة

فواتح بعض السور......................................................... ٣٧

القرآن والعلم الحديث...................................................... ٣٨

المعرفة.................................................................... ٤٣

الغيب................................................................... ٤٤

الدين والعلم.............................................................. ٤٥

يقيمون الصلاة........................................................... ٤٧

انذرت أم لا تنذر الآة ٦ ـ ٧............................................... ٥٠

منهج الاسلام............................................................ ٥١

٤٥٨

الملتزم بالحق............................................................... ٥٢

المنافقون الآة ٨ ـ ٢٠..................................................... ٥٤

من هو المنافق............................................................. ٥٥

اعبدوا ربكم الآة ٢١ ـ ٢٢................................................ ٥٨

الفرع يتبع الأصل......................................................... ٥٨

التوحيد.................................................................. ٥٩

فأتوا بسورة الآة ٢٣ ـ ٢٥................................................. ٦٤

سر الاعجاز في القرآن..................................................... ٦٥

التحد................................................................. ٦٦

هل لمحمد معجزة غير القرآن؟............................................... ٦٧

ان الله لا ستح آن ضرب مثلاٌ الآة ٢٦ ـ ٢٧............................. ٦٨

الهد والضلال........................................................... ٧٠

التکون والتشرع.......................................................... ٧٢

کف تکفرون بالله الآة ٢٨ ـ ٢٩.......................................... ٧٤

الانسان بذاته برهان....................................................... ٧٤

موئتان وحياتان............................................................ ٧٦

البعث................................................................... ٧٧

واذ قال ربك للملائكة الآة ٣٠ ـ ٣٣....................................... ٧٨

الخليفة................................................................... ٨٠

درس بليغ................................................................ ٨١

واذ قال ربك للملائكة الآة ٣٤............................................ ٨٢

يا آدم اسكن الآة ٣٥ ـ ٣٩............................................... ٨٣

حواء وضلع آدم........................................................... ٨٥

ضعف الارادة وسيلة الحرمان................................................ ٨٥

عصمة الأنبياء............................................................ ٨٦

٤٥٩

أهل البيت............................................................... ٨٨

يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي الآة ٤٠ ـ ٤٦................................... ٨٩

مظاهر الحياة.............................................................. ٩٠

تاريخ اليهود.............................................................. ٩١

محمد ويهود المدينة........................................................ ٩٢

أيضا يا بني اسرائيل الآة ٤٧ ـ ٤٨.......................................... ٩٤

التكرار في القرآن.......................................................... ٩٦

الشفاعة................................................................. ٩٧

واذ نجاكم الآة ٤٩ ـ ٥٠.................................................. ٩٨

واذ واعدنا موسى الآة ٥١ ـ ٥٣.......................................... ١٠١

واذ قال موسى الآة ٥٤ ـ ٥٧............................................ ١٠٣

رؤية الله................................................................ ١٠٧

واذ قلنا ادخلوا الآة ٥٨ ـ ٥٩............................................ ١٠٨

واذ استسقى موسى الآة ٦٠............................................. ١١١

حول الرأسمالية والاشتراكية................................................ ١١٢

شيء من لا شيء....................................................... ١١٣

واذ قلم يا موسى الآة ٦١............................................... ١١٤

ان الذين آمنوا والذن هادوا الآة ٦٢...................................... ١١٦

واذ أخذنا ميثاقكم الآة ٦٣ ـ ٦٦......................................... ١١٩

لا قياس على اليهود..................................................... ١٢٢

ان الله يأمركم أن تذبحوا بقرة الآة ٦٧ ـ ٧٣................................ ١٢٤

ثم قست قلوبكم الآة ٧٤............................................... ١٦٧

اختلاف الأمزجة........................................................ ١٢٩

أفتطمعون أن يؤمنوا الآة ٧٥............................................. ١٣١

واذا لقوا الذين آمنوا الآة ٧٦ ـ ٧٧........................................ ١٣٢

٤٦٠