التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

تفرق الناس شيعا وأحزابا متناحرة .. ولكن السؤال لم يقع عن هؤلاء ومن اليهم بل عن تخليد من هو دونهم بمراتب ومراتب.

وتقول : وما ذا تصنع بنصوص القرآن والسنة النبوية على التخليد بالنار؟.

وأجيب : لا شيء منها يرفض التأويل ويأباه.

وتقول ثانية : كل ما جاء به النص ، وكان الأخذ به ممكنا يجب بقاؤه على ظاهره ، وتخليد بعض العصاة في النار ليس محالا في ذاته؟

وأقول : أجل ، ولكن حمل الخلود على طول الأمد ، دون الأبد جمعا بين النص ، وبين أدلة الرحمة لا تأباه الصناعة ، ولا يرفضه الشرع والعقل.

وتقول مرة ثالثة : ان الفقهاء لا يرتضون هذا الجواب ، لأنهم لا يجيزون حمل اللفظ على غير ظاهره الا بأسباب ثلاثة : قرينة عرفية ، كحمل العام على الخاص ، أو شرعية ، كالنقل الصريح الثابت عن المعصوم ، أو عقلية لا تقبل احتمال الخلاف ، ولا شيء منها فيما نحن فيه.

الجواب أولا : أحسب ان الفقهاء الذين اطلعوا على أدلة رحمة الله تعالى يوافقونني على انها تصلح لصرف أدلة الخلود في النار عن ظاهرها بالنسبة الى بعض العصاة .. ومن تلك الأدلة الحديث القدسي : سبقت رحمتي غضبي ، والحديث الشريف : ان الشفعاء يوم القيامة كثيرون ، وآخر من يشفع هو أرحم الراحمين .. وان الله ينشر رحمته يوم القيامة ، حتى يطمع بها إبليس ، ويمتد لها عنقه .. وفي بعض الروايات : ان الحسن البصري قال : ليس العجب ممن هلك كيف هلك ، ولكن العجب ممن نجا كيف نجا ، فقال الإمام زين العابدين (ع) : أما أنا فأقول : ليس العجب ممن نجا كيف نجا ، وانما العجب ممن هلك كيف هلك ، مع سعة رحمة الله. فإذا عطفنا هذه الروايات على الآية ٥٣ من سورة الزمر : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً). إذا عطفنا روايات الرحمة على هذه الآية تشكل لدينا قرينة قطعية على صرف أدلة الخلود في النار عن ظاهرها واختصاصها ببعض العصاة.

ثانيا : نحن نتكلم في الأمور العقائدية القطعية ، لا في المسائل الفرعية الظنية ، والفقهاء على ورعهم وقوة ايمانهم فإنهم علماء بأحكام الله الشرعية ، لا بالأمور العقائدية ، بل ان الكثير منهم بمنزلة المقلدين فيما يعود الى صفات الله وأفعاله ،

٤٠١

أما فيما يعود الى الأدلة على وجود الباري سبحانه فيعلمون منها دليل الدور والتسلسل ، والبعرة والبعير (ملحوظة نحن من القائلين بصحة التقليد في أصول العقائد ، مع موافقتها للواقع).

ثالثا : ان العقل يستقبح الخلف بالوعد دون الوعيد ، فإذا قلت لآخر : سأحسن اليك ، ثم أخلفت كنت ملوما عند العقل والعقلاء ، أما إذا قلت لمن يلزمه أداء حقك : سآخذ حقي منك ، ثم سامحت وصفحت ، فأنت ممدوح عند الله والناس ، بخاصة إذا كان من له الحق غنيا عنه ، ومن عليه الحق فقيرا الى التسامح ، والله غني عن العالمين وعذابهم ، وهم في أمس الحاجة الى رحمته وعفوه.

سؤال رابع وأخير : بماذا تؤول آيات الخلود في النار؟. وعلى أي معنى تحملها؟.

الجواب : يمكن حملها على طول الأمد ، لا على الأبد ، أو على البقاء في النار من غير عذاب ، تماما كخيمة حاتم الطائي (١) أو وجود ابراهيم في النار ، ويعزز هذا ما جاء في بعض الأحاديث ان بعض أهل النار يتلاعبون بجمراتها كالأكرة ، ويقذف بها بعضهم بعضا. وليس من شك ان هذه اللعبة لا تجتمع أبدا مع خفيف العذاب فضلا عن شدته ، وليس على الله بعزيز أن يجعل النار بردا وسلاما على غير ابراهيم كما جعلها على ابراهيم (ع). قال محيي الدين ابن العربي في الجزء الثاني من كتاب الفتوح المكية ص ١٢٧ : «لا يبقى في النار موحد ممن بعث اليه رسول الله (ص) ، لأن النار ترجع بردا وسلاما على الموحدين ببركة أهل البيت في الآخرة ، فما أعظم بركة أهل البيت».

الذي حاج ابراهيم الآة ٢٥٨ :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ

__________________

(١) في بعض الروايات ان حاتما يدخل النار لكفره ، ولكنه في خيمة تقيه حرها لكرمه.

٤٠٢

إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨))

اللغة :

حاجّ جادل ، وبهت أفحم.

الإعراب :

ان آتاه المصدر المنسبك من أن وصلتها مفعول من أجله لحاجّ ، لأن الذي حمله على المحاجة هو إيتاء الملك.

المعنى :

بيّن الله سبحانه في الآية السابقة ان المؤمنين وليهم الله ، وانهم يخرجون من ظلمة الشك الى نور الهداية والايمان ، وان الكافرين أولياؤهم الطاغوت ، ويخرجون من نور الفطرة الى ظلمة الكفر والضلال. ثم قص على نبيه الأكرم قصة المؤمن الذي خرج من ظلمة الشك الى نور الايمان في الآية الآتية ، وقصة الكافر الذي حاج ابراهيم بعد أن خرج من نور الفطرة الى ظلمة الكفر ، قال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). وهذا الحوار يذكره الله تعالى لنبيه وللناس كافة في أسلوب التعجب من المجادل مع الإنكار عليه.

دعا ابراهيم (ع) الى نبذ الأصنام والطغاة ، والى دين العدالة والمساواة ، فعارضه وقاومه أهل الامتياز والحكام ، لا ايمانا منهم ببطلان دعوته ، بل خوفا على منافعهم ومكاسبهم ، وحرصا على استغلالهم ومناصبهم .. وكالمعتاد جادلوا

٤٠٣

ابراهيم باللسان ، ولما عجزوا وأفحموا أعلنوا عليه الحرب ، وحاولوا الخلاص منه باحراقه في النار ، تماما كما يفعل المستعمرون في هذا العصر ، يبثون دعايات التضليل والتمويه عن طريق الصحف والاذاعات والأبواق المأجورة ، فان أخفقوا دبروا مؤامرات الانقلاب ، فان فشلوا ألقوا قنابل «النابالم» وغيرها على الآمنين والمستضعفين.

قال الذي أطغاه الجاه والمال لإبراهيم : من ربك؟ قال ابراهيم : ربي الذي يهب الحياة لمن يشاء ، ثم يزيلها ، ولا أحد يشاركه في ذلك. قال الطاغية : وأنا أيضا أقدر على ذلك ، ثم احضر رجلين ، فقتل أحدهما ، وأرسل الآخر .. ولما رأى ابراهيم مغالطة الطاغية وتدليسه بالاعتماد على حرفية اللفظ ، متجاهلا وجه الحجة ، والمعنى المقصود جاءه بمثال آخر لا يمكن أن يغالط فيه ويدعيه ، وقال :

(فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ). لأنه عجز عن التمويه والتضليل ، وهكذا كل مبطل يلجأ في تلفيق حججه الى التزييف والتدليس ، فإذا لم تنطل الحيلة أسقط في يده ، وأخذته الدهشة والحيرة. وقال جماعة من المفسرين : ان ابراهيم عدل عن الجواب الأول ، وهو يحيي ويميت الى جواب ثان ، وهو فأت بها من المغرب ، ليقطع الجدال عن قريب ، ولا يطيل النقاش. وقال الرازي والشيخ محمد عبده : ليس قوله : فأت بها من المغرب جوابا آخر ، بل هو انتقال من مثال ، لتوضيح الدليل ، إذ المعنى ان الذي أعطى الحياة هو الذي أتى بالشمس من المشرق ، وإذا استطعت التمويه على قومك بالمثال الأول فإنك أعجز من أن تموه عليهم في هذا المثال.

وسواء أكان قول ابراهيم جوابين ، أم مثالين فان الذي كفر قد أفحم ، وانما افحم لأنه مبطل ، وهو مبطل لأنه كافر. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). الذين ظلموا أنفسهم بمناصرة الباطل ، ومعارضة الحق.

ولم تذكر الآية اسم الطاغية ، لأن المهم استخراج العبرة من القصة ، لا اسم (بطلها). والمشهور انه نمرود بن كنعان بن سام بن نوح ، وقيل : هو أول من وضع التاج على رأسه ، وتجبر وادعى الربوبية .. وسنعود الى قصة ابراهيم وقومه في سورة الأنبياء ، وغيرها ، حيث تدعو المناسبة.

٤٠٤

الذي مر على قرية الآة ٢٥٩ :

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩))

اللغة :

خاوية أي خالية ، يقال : خوت الدار إذا باد أهلها لخلوها منهم ، وعروش جمع عرش ، وهو سقف البيت ، وكل ما هيئ ليستظل به فهو عرش وعريش. ولم يتسنه أي لم يتغير ، وقيل : مأخوذ من السنة ، أي مرت عليه السنون والأعوام ، وعلى هذا تكون الهاء أصلية ، وقيل : بل مأخوذ من تسنن الشيء إذا فسد ، وعليه تكون الهاء في يتسنه للسكت، مثل الهاء في حسابيه وماليه وسلطانيه الواردة في آيات من سورة الحاقة. وننشزها قرئ بالراء ، أي نحييها ، وقرئ بالزاي ، ومعناه نرفعها.

الاعراب :

كالذي الكاف اسم بمعنى مثل ، ومحلها الجر عطفا على الذي حاج ابراهيم ، وجملة وهي خاوية على عروشها حال من قرية ، ولا يلتفت الى قول النحاة بأن صاحب الحال لا يكون الا معرفة ، لأن القرآن حجة على النحاة ، وليس

٤٠٥

النحاة حجة على القرآن .. أجل ، في الغالب يكون صاحب الحال معرفة ، وأنّى في موضع نصب على الحال ، وصاحب الحال لفظ الجلالة ، وكم في محل نصب على الظرفية بلبثت ، أي كم مدة لبثت ، وكيف في موضع نصب على الحال من الضمير المستتر في ننشز ، كما قال صاحب مجمع البيان ، وقال صاحب البحر المحيط : انها بدل من العظام.

المعنى :

كانت الآية السابقة مثالا للكافر الذي اتخذ الطاغوت وليا ، وخرج من النور الى الظلمات ، وهذه الآية مثال للمؤمن الذي اتخذ الله وليا ، وخرج من الظلمات الى النور.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها). لم يفصح الله سبحانه عن اسم القرية ، ولا عن اسم المار بها ، ومن هنا اختلف المفسرون : هل كان كافرا ، أو نبيا أو صدّيقا؟. وإذا لم يكن كافرا فهل هو عزير أو ارمياء أو الخضر؟. وأيضا اختلفوا في القرية : هل هي بيت المقدس ، أو غيره؟. ولا دليل على التعيين ، ولا للقائلين به الا الاسرائيليات.

ومعنى خاوية خالية من السكان ، والعروش سقوف البيوت ، والمراد ان بيوت القرية منهدمة وليس فيها أحد ، والاستعظام كان لإحياء أهل القرية ، لا للقرية نفسها.

ونقول لمن زعم ان الذي مر على القرية كان كافرا ، لأنه شكك في قدرة الله ، نقول له : ليس كل من مرّت شبهة بذهنه ، وطلب لها مخرجا يكون من الكافرين ، بل العكس هو الصحيح ، فلقد طلب ابراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ، وهو داعية الايمان والإيقان .. هذا الى أن طلب المزيد من العلم بقدرة الله من صميم الايمان ، وبهذا يتبين خطأ من قال: ان الذي مر على القرية كان كافرا ، لا لشيء الا لأنه قال : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها).

٤٠٦

كلا ، ليس هذا إنكارا ، ولكن مشهد الخراب العنيف جعله في حيرة ، وعجز عن ادراك السبيل التي بها يعود أهل القرية الى الحياة.

(فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ). موتا حقيقيا ، لا مجازيا ، إذ لا موجب للتأويل. (ثُمَّ بَعَثَهُ). كما كان ، ولا يكثر شيء على من يقول للكون بمن فيه ، وما فيه : كن فيكون. ولا شيء أعجب وأغرب ممن قاس الخالق على المخلوق في قدرته .. ولا أدري : ما هو الوجه والقاسم المشترك المصحح للقياس.

حساب القبر :

(قالَ كَمْ لَبِثْتَ). هذا سؤال على وجه التقرير ، دون الاستفهام. (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). ولو لا الإجماع والاخبار لأمكن القول بأنه لا حساب في القبر ، ولا سؤال إلا يوم الحشر ، استنادا الى هذه الآية ، والى الآية ٥٥ من سورة الروم : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ). ولا سبب لقسم المجرمين ، وغفلتهم عن الأمد الذي مر على موتهم الا عدم الحياة ، لأن الاحساس بالزمن لا يكون الا مع الحياة والوعي.

وقال الشيخ المفيد في كتاب أوائل المقالات ، فصل «القول في أحوال المكلفين من رعايا الأئمة بعد الوفاة» : «ان الناس في ذلك على أربع طبقات : الأولى عرفت الحق وعملت به ، وهذه تحيا وتسعد بعد الموت ، وقبل النشر. الطبقة الثانية : عرفت الحق ، ولم تعمل به عنادا ، وهذه أيضا تحيا ، ولكن في العذاب والشقاء. الطبقة الثالثة : اقترفت الآثام والمعاصي تهاونا ، لا عنادا واستحلالا للحرام ، وهذه مشكوك في حياتها بعد الموت ، وقبل النشر. الطبقة الرابعة : المقصرون عن الطاعة من غير عناد ، والمستضعفون من سائر الناس ، وهؤلاء لا يحيون ، بل يبقون في عالم الأموات الى يوم النشر».

وأخذ الشيخ المفيد هذا التقسيم من روايات عن أهل البيت (ع) ، منها : «لا يعذّب في القبر كل ميت ، وانما يعذب من محض الكفر محضا ، وينعم من محض الإيمان محضا ، وما سوى هذين يلهى عنه ولا يسأل عن شيء الى يوم البعث والنشور». وقد تكلمنا عن ذلك مفصلا في كتاب فلسفة المبدأ

٤٠٧

والمعاد ، فصل «بين الدنيا والآخرة» وفصل «حساب القبر».

(قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ). قال لم يتسنه بالإفراد ، دون التثنية ، لأن الطعام والشراب من فصيلة واحدة ، من حيث سرعة الفساد اليهما ، ومعنى لم يتسنه لم يتغير بمرور السنين ، بل بقي على حاله ، وهذه معجزة إلهية ، لأن الطعام والشراب يسرع اليهما الفساد ، وأخشى أن يقول من يحاول تطبيق القرآن على العلم الحديث : انهما كانا في ثلاثة ..

(وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ). كيف صار رميما ، مع بقاء طعامك وشرابك على حالهما ، وهذا أبلغ في المعجزة ، واظهار المقدرة في خرق العوائد ، لأن الجو واحد ، والظروف واحدة ، فلو كانت هي المؤثرة لأسرع البلى الى الطعام والشراب قبل أن يسرع الى الحمار ، لأنه أقوى منهما على البقاء ، فموته هو مع بقائهما مائة سنة على ما كانا عليه من أصدق الدلائل على ان الله لا يعجزه شيء على الإطلاق.

وقيل : ان الحمار بقي حيا طوال المائة عام بلا طعام ولا شراب .. وعلى الحالين فان الله سبحانه قد فعل ذلك ليزيل تعجب عزير ، واستبعاده لإحياء أهل القرية ، وأيضا ليجعله آية على وجود البعث عند من علم بحاله من أهل عصره ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ).

(وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً). اختلفوا في هذه العظام : هل هي عظام عزير ، أو عظام حماره؟. وقال قائل : انها عظام صاحب الحمار ، وان الله سبحانه أحيا أولا عينيه ، لينظر الى بقية جسده كيف يتجمع ويحيا .. وهذا قول على الله بلا علم ، والأرجح انها عظام الحمار ، لقول صاحبه : لبثت يوما أو بعض يوم. إذ لو كان قد رأى عظامه هو رميما لتنبه الى طول الأمد.

وننشزها بالزاي ، أي نرفعها ، ونركّب بعضها ببعض ، كساها سبحانه لحما ، تماما كما بدأ أول خلقه يعيده ، قال الإمام علي (ع) : ليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من شأنها واختراعها.

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). قال هذا بعد أن مر بالتجربة الشخصية التي لا تقبل الشك ، وكيف يشك ، وقد شاهد بالعيان معاجز ثلاثا : الأولى إعادته الى الحياة بعد الموت. الثانية : احياء حماره. الثالثة : بقاء طعامه مائة عام.

٤٠٨

والعبرة التي نستخلصها من هذه القصة ان العاقل لا ينبغي له أن ينكر ما يعجز عقله عن إدراكه ، أو لا يتفق مع ما قرأه في كتاب أو صحيفة ، أو سمعه من أستاذ ، بل ينبغي أن يتحفظ ، حتى فيما يراه مخالفا لقوانين الطبيعة .. فلقد أثبت العلم انه لا قوانين لها مطلقة ونهائية.

ليطمئن قلبي الآة ٢٦٠ :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠))

اللغة :

فصرهن ، أي اضممهن واجمعهن.

الاعراب :

إذ ظرف بمعنى وقت ، والعامل محذوف تقديره اذكر ، وكيف في محل نصب على الحال ، والعامل تحيي ، وليطمئن في محل نصب بأن مضمرة ، والمصدر المنسبك مجرور باللام ، متعلق بمحذوف ، والتقدير سألتك للاطمئنان ، وسعيا مفعول مطلق ليأتينك ، أو حال بمعنى ساعيات.

المعنى :

معنى الآية واضح ، ولكن المفسرين يريدون أن يوجدوا سببا للكلام على كل

٤٠٩

حال ، ولذلك تساءلوا عن السبب الذي دعا ابراهيم (ع) الى هذا السؤال ، مع العلم بأنه مؤمن بالبعث ايمانا لا يشوبه شك ، ثم اختلفوا في جوابه على اثني عشر قولا ، ذكرها الرازي ، ولا وجه لبحثهم من الأساس ، لأن الايمان بالغيب لا يتنافى مع طلب المشاهدة بالعيان ، فان كل من آمن بالله وملائكته ، وبما جاء في كتبه من أخبار الغيب ، كل المؤمنين من أكبر كبير الى أصغر صغير يتمنون أن يشاهدوا بالعيان ما آمنوا به عن طريق الغيب والوحي الا علي بن أبي طالب الذي قال : «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا».

وكيف كان ، فان خليل الرحمن (ص) آمن بالبعث ايمانا غيبيا عن طريق الوحي كغيره من الأنبياء والصديقين ، ثم أحب أن يشاهد الحادثة بعينه بعد أن شاهدها بقلبه وعقله ، وبذلك تتم لديه جميع طرق المعرفة قلبا وعقلا وتجربة.

وقد أجاب الله سؤله ، وأمره أن يأخذ أربعة من الطير ، ويضمها اليه ، ثم يقطّعها أجزاء ، ويفرقها أشلاء ، ويجعل على كل جبل منهن جزءا ، ثم يدعوهن اليه ، فيأتينه سعيا بإذن الله. وامتثل ابراهيم أمر ربه ، فعادت الأشلاء الى مكانها ، ورجعت الحياة اليها ، وسعت اليه بقدرة الله.

والذي ننتهي اليه من هذه الآية ان طلب الكشف عن سر الخلق أو البعث ينشأ تارة عن الشك والتردد ، وهذا يتنافى مع الايمان بقدرة الله والثقة بوحيه وأنبيائه ، وتارة ينشأ عن حب الاطلاع والمعرفة الحسية ، مع الايمان بقدرة الخالق ، والثقة بأنبيائه ، حتى ولو لم ير كيف يحيي الله الموتى ، كما هو الشأن في ايمان ابراهيم ، وهذا الطلب لا يضر بالايمان في شيء ، ولكنه صعب المنال ، بل ومحال ان يتحقق لراغب إلا إذا كان نبيا كإبراهيم الذي لا يزعزع إيمانه بقدرة الله شيء ، حتى ولو لم يستجب الله لسؤله ، وعلى هذا فمن اشترط التجربة والمشاهدة لإيمانه بالبعث فهو كافر من الأساس ، ولو كان مؤمنا بقدرة الله حقا لكان في غنى عن هذا الشرط ، لأن قدرته تعالى لا يعجزها شيء في السموات ولا في الأرض.

٤١٠

حبة انبتت سبع سنابل الآة ٢٦١ ـ ٢٦٣ :

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣))

الاعراب :

مثل الذين مثل مبتدأ ، والمضاف محذوف ، أي مثل صدقات الذين ، لأن اسم العين لا يخبر عنه باسم المعنى ، وكمثل حبة الكاف زائدة ، ومثل خبر ، والذين الثانية مبتدأ خبره جملة لهم أجرهم.

المعنى :

من تتبع آيات القرآن ، وتدبر معانيها يجد انها تهتم بأصول ثلاثة : بث الدعوة الاسلامية ، والجهاد ، وانفاق المال في سبيل الله ، ذلك ان لهذه الأصول أعظم الأثر في تدعيم الإسلام وانتشاره ، ولذا حث عليها بشتى أساليب الترغيب والترهيب ، وتقدم العديد من آيات الحث على الجهاد وبذل المال ، ويأتي كثير غيرها ، وأمامنا الآن أكثر من عشر آيات في البذل والإنفاق .. منها تعد المنفق بالتعويض سبعمائة ضعف ، أو تزيد ، ومنها تنهاه عن اتباع الصدقة بالمن والأذى ، ومنها تأمره أن يكون العطاء خالصا لوجه الله ومنها أن يكون من طيب الكسب وحلاله ،

٤١١

لا من خبيثه وحرامه ، إلى غير ذلك (١).

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ). تساءل المفسرون : كيف ضرب الله مثلا بحبة تنتج هذا الانتاج ، مع العلم بأنه لا وجود لها؟ وبعضهم أجاب بأن المثال كناية عن الكثرة ، لا تعبيرا عن الواقع ، وقال آخر : انه مجرد فرض أريد منه أن العاقل إذا علم ان بذرته تعود عليه بسبعمائة ضعف يقدم ولا يحجم.

وليس من شك ان المفسرين استبعدوا هذا المثال ، لأنهم قاسوا الزراعة من حيث هي على الزراعة في العصر الذي عاشوا فيه ، حيث لا وسيلة اليها سوى الثور والحمار ، والمعول والمسحاة ، ولو كانوا في هذا العصر لم يروا في مثال الله أية غرابة بعد ان دخل العلم الى كل شيء ، واستعملت أدواته في الزراعة ، وفي كل مظهر من مظاهر الحياة.

هذا وان عطاء ربك لا ينضب ، ولا تحصيه كثرة ، ولا يضيق على من يرتضي من عباده ، فالسبعمائة ضعف ليست حدا أعلى لفضله وعطائه ، ولذا قال : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ). وكما تقبل ال ٧٠٠ ضعف الزيادة فإنها تقبل النقصان أيضا .. حيث يراعى حال الباذل ، ومورد الشيء المبذول .. فرب درهم واحد ممن يحتاج اليه يكون أعظم أجرا عند الله من ألف ممن هو في غنى عنها .. وأيضا درهم واحد يبذل في إعلاء شأن الحق ، والتربية على الدين والأخلاق ، أو يبذل في إسعاد الناس ، وخلاصهم من الظلم والفقر ، هذا الدرهم الواحد الذي يبقى أثره ، ويدوم نفعه زمنا طويلا أفضل مليون مرة من ألوف تعطى لمن ينفقها على ترف أبنائه ، وأزواج بناته.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ

__________________

(١) قال بعض المفسرين الجدد : ان هذه الآيات «تضع النظام الاقتصادي» .. والحقيقة انها أبعد ما تكون عنه ، لأن النظام الاقتصادي يرتكز أولا وقبل كل شيء على تحديد وسائل الانتاج ، وتعيين أربابها ، وهذه الآيات وغيرها لم تتعرض لشيء من ذلك .. وإنما حثت الأغنياء أن يبذلوا من أموالهم في سبيل الله.

٤١٢

أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ). للمن معان في اللغة ، منها الانعام ، يقال : أنعم الله عليك ، أي منّ عليك. ويقال : الله المنان ، أي المنعم ، ومنها القطع ، قال تعالى : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع ، ومنها اظهار الصنيعة والفضل ، وهو المراد هنا ، قال صاحب مجمع البيان : المنّ أن تقول له : ألم أعطك؟ ألم احسن اليك؟ والأذى أن تقول : أراحني الله منك ، ومن ابتلائي بك.

والمعنى ان الإنفاق والبذل الذي يعوضه الله أضعافا هو الذي يتجه لله وحده ، لا للشهرة والمظاهر ، ولا يخدش شعور انسان ، لأن هذا يكدر الصنيعة ، وينغص النعمة ، ويبطل الثواب.

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً). القول المعروف هو الكلام الذي تقبله القلوب ، ولا تنكره ، والمراد بالمغفرة هنا أن يتسامح المسئول مع السائل إذا ألحّ بالسؤال ، أو فاه بالبذاءة والوقاحة إذا ردّ بغير مقصوده ، كما هو شأن بعض السائلين .. والمعنى ان مقابلة السائل بكلمة طيبة ، والصبر عليه أفضل عند الله من العطاء مع الإيذاء بسوء المقابلة .. وفي الحديث عن النبي (ص) انه قال : «إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته ، حتى يفرغ منها ، ثم ردوا عليه بوقار ولين ، إما بذل يسير ، واما رد جميل».

(وَاللهُ غَنِيٌّ). عن جميع الصدقات والطاعات ، ونحن الفقراء الى عنايته ولطفه وثوابه.

(حَلِيمٌ). لا يعاجل بالعقوبة في هذه الحياة ، وانما يؤخر العاصي ليوم لا ريب فيه.

لا تبطلوا صدقاتكم الآة ٢٦٤ ـ ٢٦٥ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا

٤١٣

كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥))

اللغة :

الرئاء المراءاة ، أي تري الناس انك تفعل الخير ، وانك من أهله ، والصفوان الحجر الأملس ، والوابل المطر الشديد ، والوبال سوء العاقبة ، والصلد من الأرض ما لا ينبت شيئا لصلابته ، والربوة بتثليث الراء الرابية ، وأكلها أي ما يؤكل منها ، والطل الندى والمطر الخفيف.

الاعراب :

الكاف في قوله : كالذي اسم بمعنى مثل ، ومحله النصب على الحال من الواو في لا تبطلوا ، ورئاء الناس مفعول من أجله لينفق ، والكاف في كمثل زائدة ، وعليه تراب مبتدأ وخبر ، والجملة في محل جر صفة لصفوان ، وصلدا حال من الهاء في تركه ، وهو مؤوّل بيابس ، وابتغاء مرضاة الله مفعول من أجله ، وتثبيتا معطوف عليه ، وضعفين حال من أكلها ، وفطلّ فاعل لفعل محذوف ، والتقدير فيصيبها طل.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). بيّن سبحانه فيما سبق أن ترك المن

٤١٤

والأذى شرط لحصول الأجر والثواب على البذل والإنفاق ، وان عدم الصدقة ، مع قول معروف خير منها مع المن والأذى ، وان من يبذل بلا من وأذى يضاعف له الأجر والثواب بلا حد وحساب ، وضرب لذلك مثلا بحبة عادت على الزارع ب ٧٠٠ ضعف .. بعد أن بيّن هذا كله ضرب في هذه الآية مثلا لأصحاب المن والأذى بالمنافق المرائي الذي ينفق ماله طلبا لثناء الناس وحمدهم ، لا ابتغاء مرضاة الله وثوابه.

وقوله تعالى : (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) المراد به أن عمل المرائي ، وعمل الكافر سواء ، لأن كلا منهما لم يبتغ وجه الله ، ومن هنا تواتر الحديث في ان الرياء شرك خفي.

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا). الضمير في مثله يعود الى المرائي .. لقد شبه الله أولا المانّ المؤذي بالمنافق المرائي ، ثم شبه هذا بصفوان عليه تراب ، وبديهة ان شبيه الشبيه شبيه ، كصديق الصديق ، وعليه يكون كل من المانّ المؤذي والمنافق المرائي كالصفوان ، أي الحجر الصلب الأملس ، يغطيه تراب خفيف يحجب صلابته ، فأصابه مطر غزير ذهب بالتراب .. وهكذا صدقة المؤذي والمرائي ، تماما كالتراب على الحجر الأملس ، والأذى والرياء كالمطر الذي ذهب بالتراب .. وقوله تعالى :(لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ) معناه كما انه لا أحد من الخلق يقدر على رد ذلك التراب الذي اجتاحته السيول كذلك لا يقدر المراءون والمؤذون على رد صدقاتهم .. والغرض انهم لا ينتفعون بها في الدنيا ، لأنها ذهبت من أيديهم ، ولا في الآخرة ، حيث أفسدها الأذى والرياء.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ). المراد بالهداية هنا ثواب الآخرة بقرينة السياق ، لأن الكلام في ثواب الله ، والمراد بالكافرين من عمل لغير وجه الله ، فلقد جاء في الحديث الشريف : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين كانوا يعبدون الناس؟ قوموا خذوا أجوركم ممن عملتم له ، فاني لا أقبل عملا خالطه شيء من الدنيا وأهلها».

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ). بعد أن ضرب

٤١٥

الله مثلا لصدقة المراءين والمؤذين ضرب مثلا في هذه الآية لصدقة المخلصين ، كما هو شأنه عز وجل في المقابلة بين الضدين ، وإذا كانت صدقة أولئك كصفوان عليه تراب فان صدقة هؤلاء كجنة في مرتفع من الأرض ، عميقة التربة ، لا يخشى عليها من السيول ، كما هي حال حفنة التراب على الحجر الأملس ، وهذه الجنة تثمر في السنة مثلي ما يثمر غيرها في المعتاد ، ولا تمحل إطلاقا ، لجودة تربتها ، ويكفيها القليل من الري ، حتى الندى ، لرطوبة ثراها ، واعتدال جوها ، وهذا هو معنى قوله : فآتت أكلها ـ أي ثمرها ـ ضعفين فان لم يصبها وابل ـ مطر غزير ـ فطل ، وهو الندى.

أما قوله : «ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم» فانه اشارة الى أمرين : الأول ان المؤمنين يطلبون مرضاة الله من الإنفاق. الثاني ان هذا الإنفاق كان بدافع من أنفسهم ، لا بدافع خارجي : وقيل : تثبيتا من أنفسهم معناه انهم يجاهدون أنفسهم ، ويمرنونها على الطاعة بالبذل .. وهذا المعنى يصح إذا كانت من هنا بمعنى اللام ، كقوله تعالى .. (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) أي لخطاياهم ، وكقول الفرزدق في الإمام زين العابدين : يغضي حياء ويغضى من مهابته.

وبعد ، فان في هاتين الآيتين من معجزة البلاغة ما لا تجدها في غير كلامه جلت عظمته .. فقد شبه أولا صدقة الأذى بصدقة الرياء ، وشبه هذه بالتراب على الصفوان يذهب مع الريح والأمطار ، ثم ذكر في مقابل هذه الصدقة الخاسرة الصدقة الرابحة ، وهي صدقة الايمان ، وانها كبستان خصب التربة ، يهب الخيرات على الدوام وفي كل عام ، سواء أجادت السماء بالمطر الغزير ، أو الخفيف.

أيود أحدكم الآة ٢٦٦ :

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦))

٤١٦

اللغة :

الاعصار ريح عاصفة تستدير في الأرض ، ثم تنعكس منها الى السماء حاملة الغبار ، فتكون كهيئة العمود ، وتسمى «الزوبعة».

الإعراب :

أيود الهمزة للنفي والإنكار ، أي لا يود ، وله فيها من كل الثمرات له متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف ، أي رزق ومن كل الثمرات متعلق بمحذوف صفة للرزق ، ويجوز أن يتعلق بالرزق ، ونظير هذا المبتدأ المحذوف قول الشاعر العربي : «كأنك من جمال بني اقيش» أي كأنك جمل من جمال بني اقيش.

المعنى :

هذه الآية تصلح مثلا لكل من عمل عملا صالحا ، وأتبعه بما يذهب بأجره وثوابه ، كالمن والأذى ، أو الرياء والنفاق ، والكفر والشرك ، فحال كل واحد من هؤلاء ، ومن اليهم حال من كانت له جنة ينتفع بها هو ومن يعول ، فأصابتها جائحة أودت بها ، وهو أحوج ما يكون اليها لشيخوخته ، وضعف ذريته ، وعجزهم عن القيام بشأنه وشأنهم ، ولا مورد له غير هذه الجنة.

ووجه التمثيل ان من يفعل الخير ويفسده يأتي يوم القيامة ، وهو أشد ما يكون حاجة الى ثواب ما عمل ، ولكنه يجد عمله هباء منثورا حيث لم يقصد به وجه الله ، ويصبح عاجزا لا يقدر على شيء ، تماما كالشيخ الذي احترقت جنته بعد أن أقعده الكبر عن الكسب ، وله أولاد ضعفاء يلحون عليه بطلب أقواتهم ... وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ).

وقال المفسرون : انما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما أحسن الفواكه نفعا وطعما ومنظرا .. وجاء جوابهم من وحي العصر الذي عاشوا فيه ، حيث

٤١٧

لا خوخ ولا تفاح ولا إجاص ولا برتقال .. ولو كانوا في هذا العصر لقالوا : انما خصهما بالذكر لأنهما كانا خير الفواكه يومذاك ، وبهذا يتبين معنا ان الحكم على الأشياء الطبيعية يجب أن يكون نسبيا مقيدا بالزمان والمكان.

وتسأل : ألا يتنافى التخصيص في قوله تعالى : (جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) مع التعميم في قوله : (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ)؟.

الجواب : من الجائز ان أشجار النخيل والأعناب هي الكثرة الغالبة في الجنة .. ويجوز أيضا أن يكون المراد بالثمرات المنافع ، ويكون المعنى ان صاحب الجنة متمتع بجميع منافعها وفوائدها.

الانفاق من الطيبات الآة ٢٦٧ ـ ٢٦٨ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨))

اللغة :

المراد بالطيب هنا الجيد ، وبالخبيث الرديء ، والتيمم القصد والعمد ، ومعنى الغموض الخفاء ، والمراد به في الآية التساهل والتسامح ، يقال : أغمض فلان عن حقه إذا سامح وتساهل ، والفحشاء والفحش التجاوز عن الحد ، والمراد بالفحشاء هنا البخل.

٤١٨

الإعراب :

ان تغمضوا المصدر المنسبك من ان وصلتها في موضع نصب مفعول من أجله لآخذيه ، والتقدير لستم بآخذيه إلا لاغماضكم.

المعنى :

بعد ان حث الله سبحانه في الآيات السابقة على الصدقة ، وبين ما يجب أن يتصف به المتصدق من الإخلاص لله في صدقته ، والبعد عن الرياء ، والمنّ والأذى ، بعد هذا أشار هنا الى صفة الصدقة ، وانها ينبغي أن تكون من جيد المال ، لا من رديئه ، وبذلك تكمل الصدقة من سائر جهاتها ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ). لو نظرنا الى ظاهر هذه الآية صارفين النظر عما جاء في السنة النبوية من بيان الواجبات المالية ، وتحديد نوعها ومقدارها ومصرفها ـ لو نظرنا الى الآية من حيث هي لاستفدنا منها ان في كل مال يكسبه الإنسان حقا لله ، يجب أن ينفق في سبيل مرضاته سبحانه ، على شريطة أن يكون الإنفاق من جيد ما يملك ، لا من رديئه ، وأصرح من هذه الآية قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ـ آل عمران ٩٢».

وهذا الإنفاق يجب في كل مال سواء أكان مصدره الصناعة أو التجارة أو الزراعة أو الهدية أو الإرث أو الغوص أو المعدن ، أو أي شيء آخر .. هذا ما تدل عليه ألفاظ الآية ، لأن الإنفاق جاء بصيغة الأمر ، وهو يدل على الوجوب وقوله : (مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) يشمل جميع المكاسب ، وقوله : (مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يشمل النبات والمعدن والبترول ، ولكن السنة النبوية ـ وهي تفسير وبيان للقرآن ، بخاصة ما يتصل بآيات الأحكام الشرعية ـ قد حددت الواجب المالي زكاة كان أو خمسا ، أو نذورات أو كفارات ، وبينت المقدار والمصرف .. وقد تعرض الفقهاء لكل ذلك بالتفصيل في باب الزكاة والخمس والكفارات والنذورات .. وعليه تكون الآية واردة لمجرد تشريع الإنفاق ورجحانه ، تماما كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).

٤١٩

(وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ). أي لا تقصدوا الرديء من أموالكم فتنفقوا منه .. وقيل في سبب نزول الآية : ان بعض المسلمين كانوا يأتون بصدقتهم من حشف التمر ، أي رديئه ، وهذه الجملة ، وهي لا تيمموا الخبيث تأكيد للجملة الأولى ، وهي أنفقوا من طيبات ، ومجمل المعنى : أنفقوا من الجيد دون الرديء.

وأفتى الفقهاء في من يملك نوعا من المال ، بعضه جيد ، وبعضه رديء ، أفتوا بأنه لا يجوز لهذا أن يخرج حق الله من القسم الرديء ، وعليه أن يخرجه من وسط الجيد ، وان اختار الأعلى فأفضل ، وبالأولى أن لا يكفي الرديء إذا كان جميع المال جيدا .. أجل ، يجوز الإخراج من الرديء إذا كان المال كله كذلك ، لأن الحق يتعلق بالعين الخارجية ، لا بالذمة.

(وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ). ان المنصف يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به .. فإذا كان له مال جيد على غيره فلا يقبل الرديء بدلا عنه الا إذا أغمض وتنازل ، اذن يلزمه ـ والحال هذه ـ إذا كان عليه مال جيد أن لا يدفع الرديء بدلا عنه الا إذا أغمض صاحب الحق وتسامح ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ). فهذا حجة بالغة على من يتصدق بالرديء ، مع انه لا يستوفيه بدلا عن الجيد الا إذا تساهل هو وتسامح ، قال الإمام علي (ع) : كما تدين تدان.

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ). معنى وعد الشيطان بالفقر ان يحرض بالوسوسة على الحرص والشح والتكالب ، وان يخوف من الإنفاق بأنه يؤدي الى الفقر وسوء الحال ، ومعنى أمره بالفحشاء أن يغري بوسوسته بارتكاب المعاصي ، وترك الطاعات ، ومنها البخل والشح.

(وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً). لقد وعد الله سبحانه من ينفق الجيد من ماله ابتغاء مرضاته سبحانه ، وعد هذا في كتابه وعلى لسان نبيه بأمرين : الأول أن يكفر عنه الكثير من الخطايا ، قال تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) ـ التوبة ١٠٤». الثاني أن يخلف على المنفق خيرا مما أنفق ، قال تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ـ سبأ ٣٩».

٤٢٠