التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

لا يظلم أحدا ، وحكيم لا يفعل عبثا ، كيف وهو القائل : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) ـ الرعد ٨». أي بنظام وسبب ، لا بالصدفة والفوضى ، حتى المال الحرام ، والسلطان القائم على الظلم والاستبداد لهما أسبابهما الاجتماعية من نظام جائر ، ومجتمع فاسد ، وجهل قاتل ، وما اليه.

وتسأل : هل يستند سلطان الجور ، والثراء المغتصب الى مشيئة الله؟.

الجواب : كلا ، لأن الله سبحانه قد حرم الظلم ، والغصب؟!. أجل ، انه تعالى لا يتدخل بإرادته التكوينية في الأمور الاجتماعية على طريقة (كن فيكون). انه سبحانه لا يردع الظالم عن ظلمه بقوة قاهرة ، وانما ينهاه بارادة التشريع والإرشاد ، ويحذره من الظلم ، ويتوعده عليه ، فإذا خالف عاقبه يوم الجزاء الأكبر .. ولو شاء أن يمنعه لفعل ، ولكنه يترك الأمور تجري على أسبابها وسننها .. وربما كان هذا هو الوجه المسوغ لنسبة التمليك اليه بوجه عام ، وعليه يكون معنى يؤتي الملك من يشاء انه سبحانه لو أراد أن يمنع الملك بقوة قاهرة عمن لا يستحقه لفعل ، ولم يصل الملك الى الظالم برغم وجود أسبابه العادية.

وكيف كان ، فان ثراء المرء وسلطانه يأتيان نتيجة للمجتمع الذي يعيش فيه ، أما نسبتهما الى مشيئة الله مباشرة ، وبدون توسط سبب من الأسباب الخارجية فخطأ محض.

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ). التابوت هو الصندوق الذي كان موسى يضع التوراة فيه ، وكان الله قد رفعه الى السماء بعد وفاة موسى سخطا على بني إسرائيل ـ كما قيل ـ (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ). أي تسكن اليه نفوسكم ، وتطمئن به قلوبكم ، حيث كان للتابوت شأن ديني عظيم عند بني إسرائيل.

(وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ). لم يبين الله البقية ما هي؟. وآل موسى وهارون هم الأنبياء الذين توارثوا التابوت. (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ). أي بمعجزة خارقة للعادة.

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي

٣٨١

وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ). روي ان طالوت قال لبني إسرائيل : لا يخرج معي الى الجهاد شيخ ولا مريض ، ولا من بنى بناء لم يفرغ منه ، ولا صاحب تجارة مشتغل بها ، ولا رجل تزوج امرأة لم يبن بها ، فاجتمع جماعة ممن وصف ، وكان الوقت قيظا شديد الحر ، وسلكوا مفازة لا ماء فيها ، ولما شكوا قلة الماء قال طالوت لهم : الله سيختبر حالكم في الطاعة والمعصية بنهر تمرون عليه ، فمن شرب منه فليس من أشياعي المؤمنين الا أن يتناول قليلا ، وهو غرفة تؤخذ باليد. (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ). قيل : كان عدد هؤلاء المؤمنين ٣١٣ على عدد أهل بدر .. ولقد كان ، وما زال ، ولن يزال الطيبون المخلصون أندر من كل نادر.

(فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ). سار طالوت هو والذين أطاعوه فيما ندبهم اليه بعد أن تخطوا النهر ، حتى التقوا بجالوت وجنوده ، ولما شاهدوا كثرة عدوهم انقسموا فريقين : فريق قال : لا طاقة لنا بمحاربتهم ، وفريق قال : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) الذين ثبتوا وجاهدوا وضحوا من أجل حياة أفضل ، وهي أن يعيشوا أحرارا في وطن حر ، ومكتفين في مجتمع لا جائع فيه ، وعلماء في بلد العلم والحضارة ، أما الصبر على الذلة والمسكنة فانه رجس من عمل الشيطان.

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ). لما رأى المؤمنون القلة في جانبهم ، والكثرة في جانب عدوهم لجأوا اليه سبحانه داعين متضرعين بإخلاص ، فاستجاب لهم (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) ونصر الله المؤمنين على الكافرين ، وحقق بفضله ورحمته ظن من قال : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ).

(وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ). أي ان الله سبحانه منح داود الملك ، لأنه تولى منصب طالوت بعد وفاته ، والحكمة اشارة الى الزبور ، قال تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) ـ النساء ١٦٣». وعلمه صنع الدروع ، قال تعالى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) ـ الأنبياء ٨٠».

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ

٣٨٢

عَلَى الْعالَمِينَ). تشير الآية الكريمة الى ان أي مجتمع لا تقوم فيه هيئة قوية رادعة لا بد أن تسوده الفوضى والانحلال .. وان العقل والشرع من غير قوة تنفيذية لا يحققان الأمن والنظام ، قال الإمام علي (ع) : «السلطان وزعة الله في أرضه ..» ولكن طالما أفسد السلطان الأرض وأهلها .. وعلى الرغم من ذلك لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). لقد تلى الله آياته على نبيه الكريم ، وتلاها النبي علينا ، لنتدبر حقيقتها ، ونتخذها دستورا في مقاصدنا ، وجميع أفعالنا ، لنحيا حياة طيبة هادئة .. (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) ـ الأنبياء ٤٥».

٣٨٣
٣٨٤

الجزء الثالث

سورة البقرة

(تتمه)

٣٨٥
٣٨٦

تفضيل الرسل الآة ٢٥٣ :

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣))

الإعراب :

درجات منصوب بنزع الخافض ، والتقدير رفع بعضهم الى درجات.

المعنى :

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ). خاطب الله نبيه محمدا (ص) في آخر الآية السابقة بقوله : (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وعقبه من غير فاصل بقوله : (تِلْكَ الرُّسُلُ) وعليه يتعين أن يكون المراد بالرسل جميع الرسل الذين منهم محمد ، لا جماعة خاصة منهم ، كما قال كثير من المفسرين ، ومع العلم بأن الأنبياء جميعا مستوون في أصل النبوة ، واختيار الله لهم لتبليغ رسالته ، وهداية خلقه فإنهم يتفاوتون في الخصائص ، وعلى الأصح ان بعض الأنبياء اشتهر ببعض الخصائص دون بعض لأن الله سبحانه قد نعته بها في كتابه .. فإبراهيم اشتهر بأنه خليل الله ، لقوله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) ـ النساء ١٢٤». واشتهر موسى بأنه كليم الله ، لقوله سبحانه : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) النساء ١٦٤». واشتهر عيسى بروح الله ، لقوله : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) ـ النساء ١٧٠». واشتهر محمد

٣٨٧

بخاتم النبيين ، لقوله عز وجل : (رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) ـ الأحزاب ٤٠».

وقد ذكر الله سبحانه بعض الأنبياء المفضلين ، أو بعض الخصائص لبعض الأنبياء بقوله : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ). وهو موسى بن عمران بالاتفاق. (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ).

قال صاحب تفسير المنار : ذهب جمهور المفسرين الى أن المراد به نبينا .. وقال الرازي: أجمعت الأمة على ان محمدا أفضل الأنبياء ، واستدل على ذلك بتسعة عشر دليلا .. منها ان علي بن أبي طالب ظهر من بعيد ، فقال النبي (ص) : هذا سيد العرب ، فقالت عائشة : ألست أنت سيد العرب؟. فقال : أنا سيد العالمين ، وهو سيد العرب.

وخير ما يستدل به على أفضلية الرسول على جميع الأنبياء والمصلحين شريعته في سعتها وسماحتها وانسانيتها (١).

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ). البينات هنا الدلائل التي تظهر الحق ، كإحياء الموتى ، وشفاء المرضى ، وخلق الطير من الطين ، وما اليه .. والمراد بروح القدس هنا الروح الطيبة المقدسة ، ومر تفسيرها في الآية ٨٧.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ). أي ان الرسل بعد أن جاءوا بالبينات ، واوضحوا الحقائق بالدلائل والبراهين اختلف أقوامهم من بعدهم (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ).

وتسأل : ان قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) يدل على ان الإنسان مسير غير مخير .. وان في تكرار هذه الجملة تأكيدا لنسبة الاقتتال الى مشيئته سبحانه؟.

__________________

(١) تكلموا كثيرا عن سبب انحلال المسلمين ، وضعف الإسلام في نفوسهم ، وألفوا في ذلك العديد من الكتب ، وذكروا لذلك أكثر من سبب ، والذي نراه نحن ان السبب الأول والأخير هو إهمال الشريعة الإسلامية دراسة وعملا ، وقد أدرك الاستعمار هذه الحقيقة ، وعمل منذ وضع أقدامه في بلاد المسلمين على تنحية الشريعة الإسلامية عن المدارس ودور المحاكم ، وأحل محلها الشرائع الوضعية والاجنبية ، وبهذا أبعد المسلمين عن دينهم ، وقرآنهم وسنة نبيهم .. وربما تعرضنا لذلك بصورة أوسع حين تدعو الحاجة.

٣٨٨

الجواب : ان الله سبحانه منح القدرة للعبد ، وبيّن له الخير والشر ، ونهاه عن هذا ، وأمره بذاك ، قال عز من قائل : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) فإذا سلك طريق الالفة والمحبة صح أن ينسب سلوكه هذا الى العبد ، لأنه صدر عنه بإرادته واختياره ، وفضّله على طريق الشقاق والنزاع ، وأيضا يصح أن ينسب الى الله ، لأنه أقدره عليه ، وأمره به ، أما إذا سلك طريق البغض والتناحر فان هذا السلوك ينسب اليه وحده ، ولا ينسب الى الله ، لأن العبد قد فعله برضاه وفضّله على طريق الاتفاق ، ولا تجوز إطلاقا نسبته الى الله ، لأنه نهاه عنه.

وان قال قائل : لما ذا أقدر الله العبد على الشر والتفرقة ، وكان ينبغي أن يرغمه ويلجئه الى عمل الخير والوفاق ، ولا يمكّنه من الشر والاختلاف إطلاقا؟. قلنا في جوابه : لو فعل الله هذا لم يبق للإنسان من فضل ، ولم تتصف أفعاله بخير أو بشر ، ولا بحسن أو قبح ، لأن هذا الوصف منوط بارادة الإنسان واختياره ، بل لو ألجأه الله سبحانه إلجاء الى الفعل لم يبق من فرق بين الإنسان وبين الجماد ، ولا بينه وبين ريشة في مهب الريح .. ومن أجل هذا ، من أجل أن تبقى للإنسان انسانيته لم يشأ الله أن يكره الناس على الوفاق ، ولو شاء ما اقتتلوا.

واختصارا ان الاقتتال الذي حصل بين الناس لم يقع مخالفا لمشيئة الله التكوينية المعبر عنها (بكن فيكون). وانما وقع مخالفا لمشيئته التشريعية التي هي عبارة عن مجرد البيان والإرشاد ، وقد شاءت حكمته جل جلاله ان يمنح الإنسان الاستعداد الكافي لعمل الخير والشر معا ، ليختار هو بنفسه لنفسه الهدى والخير ، ويصبح باختياره إنسانا يفترق عن الجماد والحيوان.

الانفاق الآة ٢٥٤ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))

٣٨٩

الإعراب :

لا بيع فيه قرأ البعض بالفتح على أن تكون لا عاملة عمل ان ، والأكثر بالرفع مبتدأ ، وفيه متعلق بمحذوف خبر ، والجملة صفة ليوم.

المعنى :

حث الله سبحانه على بذل المال في أساليب شتى ، وسبق تفسير قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) الآية ٢٤٥ وغيرها ، وأيضا يأتي نظير ذلك ، وفي هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) حث على الإنفاق مع الاشارة إلى أن ما في يد الناس من مال هو من عطائه سبحانه ، وان غدا تفلت منهم الفرصة ، وعلى المؤمن العاقل أن يغتنم قبل فوات الأوان.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ). المراد بالبيع هنا الفدية بالمال من النار ، وبالخلة المودة التي تستدعي التساهل والتسامح ، وبالشفاعة التوسط للخلاص من العذاب .. والقصد ان الإنسان يجيء غدا وحده أعزل من كل شيء إلا من العمل الصالح. وتفيد هذه الآية نفس المعنى الذي تفيده الآية ٤٨ من هذه السورة : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). وتكلمنا عن الشفاعة عند تفسير هذه الآية ، فقرة الشفاعة.

(وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم بترك العمل الصالح الذي ينجيهم من العذاب ، ومن فعل فعلهم يكون ماله مالهم .. وتجمل الاشارة الى أن الظلم والكفر يتواردان في الاستعمال على معنى واحد ، فتارة يستعمل الكفر في الظلم ، كما في الآية ١٣ من سورة لقمان : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). وقوله هنا : والكافرون هم الظالمون. وتارة يستعمل الظلم في الكفر ، كما في الآية ٣٣ ـ الانعام : (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

آة الكرسيي ٢٥٥ :

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي

٣٩٠

السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥))

اللغة :

القيوم مبالغة في القائم ، والسنة النعاس ، أي فتور يسبق النوم ، وآده يؤوده إذا أثقله وأجهده.

الاعراب :

الله مبتدأ ، ولا إله لا نافية للجنس ، وإله اسمها ، وخبرها محذوف تقديره موجود ، وهو بدل من إله على المحل ، لأن اسم لا محله الرفع ، والجملة خبر للمبتدإ المتقدم.

المعنى :

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ). قال الفيلسوف الإلهي الشهير بالملا صدرا : لفظ الجلالة «الله» يدل بذاته على توحيد الذات والصفات معا ، أما دلالته على توحيد الذات فلأن هذا الاسم الأعظم لا يطلق على غيره تعالى لا حقيقة ولا مجازا ، قال سبحانه : (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) ـ مريم ٦٥». واما دلالته على توحيد الصفات فلأن هذا الإسلام يدل على الذات الجامعة لكل صفات الكمال والجلال بخلاف سائر الأسماء كالعالم والقادر والخالق فان آحادها لا تدل إلا على آحاد المعاني من العلم أو القدرة أو الفعل.

٣٩١

وتسأل : ان صفات الكمال والجلال كثيرة ، ومتغايرة بحسب مفاهيمها ، فكيف يصح القول بتوحيدها ، مع هذا التعدد والتغاير؟!.

الجواب : إذا قلت : هذا رجل عالم ، فهم منه وجود شيئين : صفة وموصوف ، موضوع ومحمول ، وكل منهما غير الآخر في حقيقته ، لأن الرجولة غير العلم ، والعلم غير الرجولة .. هذا بالنسبة الى المخلوق ، أما بالنسبة الى الخالق فليس إلا الوجود القدسي ، وهذا الوجود هو نفسه العلم ، وهو نفسه القدرة ، وهو نفسه الحكمة .. فلا صفة وموصوف ، ولا موضوع ومحمول ، بل شيء واحد فقط لا غير .. وهذا الوجود القدسي لا مجانس له ، ولا شبيه له ، لأنه واجب بالذات ، ولا يجب غيره إلا به.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) قيل معناه لا معبود بحق إلا هو ، ولكن المفهوم لا أحد يجمع صفات الالوهية الا هو ، وكيف كان فان المعنيين متلازمان.

(الْحَيُّ الْقَيُّومُ). إذا نسبت الحياة الى غير الله سبحانه يكون معناها النمو والحركة والاحساس والإدراك ، وإذا نسبتها اليه جل جلاله فيراد بها العلم والقدرة .. والقيوم مبالغة في القائم ، وهو في اللغة غير القاعد والنائم ، والمراد به هنا قيامه تعالى على كل موجود بخلقه وتدبيره : (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ـ طه ٥٠».

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ـ الفرقان ٢». قال الملا صدرا : (فقوله : الحي دل على كونه عالما قادرا ، وقوله : القيوم دل على كونه قائما بذاته ، مقوما لغيره ، فالوصفان متوافقان في المعنى قوة وفعلا ، متداخلان في المفهوم كلا أو بعضا). يريد ان القيمومة لا تنفك عن الحياة ، كما ان الحياة بمعنى القدرة والعلم لا تنفك عن القيمومة.

الله وسنن الطبيعة :

وتسأل : هل معنى قيام الله على تدبير الأشياء ان جميع الظواهر الطبيعية ، حتى الجزئيات منها هو الذي يتولى أمر تدبيرها مباشرة بنفسه ، ومن غير توسط أي سبب من الأسباب المادية ، كما يظهر من الآية ١٣ ـ ١٤ من سورة المؤمنون :

٣٩٢

(ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). فان المتبادر الى الفهم من هذه الآية ان الله سبحانه قد تدخل تدخلا مباشرا ومستمرا لنقل النطفة من طور الى طور ، مع العلم بأن النظرية العلمية تقول : ان النطفة تنمو وتتطور وفقا لقوانين طبيعية معينة؟.

ولا بد في الجواب من التمييز بين حادثة خارقة للطبيعة ، كإحياء الموتى ، وإيجاد شيء من لا شيء ، وبين حادثة تأتي وفقا لقوانين الطبيعة ، مثل كسوف الشمس ، وخسوف القمر ، وما اليهما .. فما كان من النوع الأول يسند اليه سبحانه مباشرة ، وبلا واسطة ، وما كان من النوع الثاني يسند الى الأسباب الطبيعية مباشرة ، واليه تعالى بواسطتها ، لأنه هو الذي أوجد الطبيعة بما فيها من قوى وعناصر ، وهذه العناصر تتفاعل ، وتأخذ مجراها في ظواهر الكون .. وعليه يكون خلقه لهذه الظواهر ، ومنها تطور النطفة ، هو خلقه لأسبابها. (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي يجريه من خلال السنن والقوانين الطبيعية ، ولو كان هو الذي يتولى خلقها مباشرة وبلا واسطة لما وجدت الأسباب والمسببات.

وبهذا يتبين معنا ان من يؤمن بأن كل حادثة طبيعية تستند الى الله مباشرة ، وبلا توسط سبب من الأسباب المحسوسة التي اكتشفها العلم ، ويمكن أن يكتشفها ، فهو جاهل مخطئ في إيمانه .. ولو صح إيمانه هذا لم يجب العمل لشيء ، ولا كان للعلم من جدوى ، ولا للمخترعات وتقدم الانسانية من أثر .. كما ان من يعتقد ان الطبيعة هي كل شيء ، وانها السبب الأول والأخير ، ولا شيء وراءها فهو أيضا جاهل مخطئ في اعتقاده ، والا لم يكن للنظام عين ولا أثر ، ولسادت الفوضى والاضطراب ، وتكون النتيجة لا علم ولا حياة. وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٢١ من هذه السورة ، فقرة التوحيد.

(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ). السنة النعاس ، وهو الفتور الذي يتقدم النوم .. لما بيّن سبحانه انه الحي القيوم أكد ذلك بأنه تعالى لا يمنعه نوم ولا سهو ولا شيء عن تدبير خلقه على الوجه الأتم الأكمل ، لأن ذلك يتنافى مع عظمته

٣٩٣

واستغنائه عن كل شيء .. قال الإمام علي (ع) مخاطبا ربه : «لسنا نعلم كنه عظمتك الا انّا نعلم انك حي قيوم لا تأخذك سنة ولا نوم ، لم ينته اليك نظر ، ولم يدركك بصر ، أدركت الأبصار ، وأحصيت الأعمال ، وأخذت بالنواصي والاقدام».

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). المراد بما فيهما الكون كله ، لا يخرج منه شيء عن سلطانه وتدبيره .. سئل الإمام علي (ع) عن معنى لا حول ولا قوة الا بالله؟. فقال : انّا لا نملك مع الله شيئا ، ولا نملك الا ما ملكنا ، فمتى ملّكنا ما هو أملك به منا كلفنا ، ومتى أخذه منا وضع تكليفه عنا.

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ). جاء بصيغة الاستفهام ، ومعناه النفي والإنكار ، أي لا يشفع أحد عنده الا بأمره .. وهذا رد وإبطال لقول المشركين بأن الأصنام تقربهم الى الله زلفى ، قال تعالى حكاية عنهم : (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ـ يونس ١٨». وتكلمنا عن الشفاعة عند تفسير الآية ٤٨. وقال بعض العارفين : ان الناس غدا على أصناف : منهم السابقون ، وهم المقربون ، ومنهم أصحاب اليمين ، وهم سعداء ناجون ، ومنهم أصحاب الشمال ، وهم أشقياء معاقبون ، ومنهم أهل العفو ، وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وهؤلاء تقبل الشفاعة فيهم ، لقوله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ـ التوبة ١٠٣».

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ). المعنى ان الله سبحانه يعلم من عباده ما كان ويكون من خير وشر ، ويعلم الشافع والمشفوع له ، ومن يستحق العفو والثواب ، أو العذاب والعقاب ، وما دام الأمر كذلك فلا يبقى مجال للشفاعة إلا بأمره تعالى ضمن الحدود التي يرتضيها.

(وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ). الضمير في لا يحيطون راجع الى جميع العباد بما فيهم الملائكة والأنبياء ، والمراد من العلم المعلوم ، كالخلق بمعنى المخلوق ، والأكل بمعنى المأكول .. والمعنى واضح ، وان شئت زيادة في التوضيح فاقرأ الآية ٢٦ من سورة الجنّ: (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ

٣٩٤

أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ») والآية ٣٢ من البقرة : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا).

(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ). كثرت أقوال المفسرين وتضاربت في معنى الكرسي ، وبعض هذه الأقوال قول على الله من غير علم ، وخيرها قولان : الأول انه كناية عن عظمة الله وقدرته. الثاني ان المراد بالكرسي العلم ، أي ان علمه سبحانه أحاط بكل شيء والسياق يرجح هذا المعنى.

(وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). أي لا يثقله ولا يشق عليه حفظ السموات والأرض ، وتدبير ما فيهما ، كيف؟ وخلق الذبابة والكون بالنسبة اليه سواء ، ما دام سبحانه إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون.

شيء من لا شيء :

فاعل الشيء على نوعين : الأول من نوع المادة. الثاني منزه عنها ، ويفترقان من وجوه:

١ ـ ان الفاعل المادي يحتاج الى حركة وآلة دون الثاني.

٢ ـ ان المادي يناله التعب والاعياء دون الثاني.

٣ ـ يستحيل على المادي أن يوجد شيئا من لا شيء ، ولا يستحيل ذلك عمن تنزه عن المادة .. ومن هنا يتبين ان قياس الخالق على المخلوق الذي يعجز عن إيجاد شيء من لا شيء قياس مع الفارق .. وكيف يصح قياس الغني عن كل شيء ، ويفتقر اليه كل شيء ، ويقول للشيء كن فيكون ، كيف يصح قياس هذا القادر على العاجز المفتقر الى كل شيء.

لا اكراه في الدين الآة ٢٥٦ ـ ٢٥٧ :

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ

٣٩٥

عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))

اللغة :

الرشد اصابة الواقع ، ويستعمل في كل خير ، والمراد به هنا الايمان ، والغي ضد الرشد ، والمراد به في الآية الكفر ، لأن الكلام في الدين. والطاغوت مصدر بمعنى الطغيان ، مثل الملكوت والرحموت ، ويقع على الواحد والجماعة ، والمذكر والمؤنث ، والعروة من الدلو المقبض الذي يمسك به الآخذ ، ومن الثوب مدخل الزر ، والوثقى مؤنثة الأوثق ، وهو الأشد والأحكم ، والانفصام الانقطاع والانصداع.

المعنى :

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ). لو نظرنا الى هذه الكلمة مستقلة عن السياق لفهمنا منها ان الله سبحانه لم يشرع حكما فيه شائبة الإكراه ، وان ما يكره عليه الإنسان من أقوال أو أفعال لا يترتب عليه أي شيء في نظر الشرع لا في الدنيا ، ولا في الآخرة .. ولكن قوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) الذي هو تعليل لعدم الإكراه يعين ان في هنا بمعنى على ، أي الإكراه على الدين ، مثل (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ـ طه ٧١». أي على جذوع النخل .. وعليه يكون المعنى ان الإسلام لا يلزم أحدا باعتناقه قسرا واجبارا ، وانما يلزم الجاحد بالحجة والبرهان فقط : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ـ الكهف ٢٩» : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) ـ يونس ٩».

وتسأل : ان الدين لا يمكن أن يتعلق به إكراه ، لأنه من شئون القلب

٣٩٦

الخارجة عن القدرة ، تماما كالتصورات الذهنية ، وانما يتعلق الإكراه بالأقوال والأفعال التي يمكن صدورها عن ارادة القائل والفاعل .. اذن ، ما هو الوجه المسوغ للنهي عن الإكراه على الدين؟.

الجواب : ان قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ). جاء بصيغة الاخبار فان كان هو المراد فلا يتجه السؤال من الأساس ، حيث يكون المعنى ان الدين هو الاعتقاد ، وهو أمر يرجع الى الاقتناع الذي لا إكراه عليه .. وان كان المراد به الإنشاء والنهي عن الإكراه في الدين يكون المعنى ايها المسلمون لا تكرهوا أحدا على قول : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله بعد أن قامت الدلائل والبينات على التوحيد والنبوة.

ولكن يتولد من هذا الجواب سؤال جديد ، وهو ان هذا لا يجتمع مع قول الرسول الأعظم (ص) : «أمرت ان أقاتل الناس ، حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فان قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم».

وجوابه : ان الإسلام أجاز القتال لأسباب : منها الدفاع عن النفس ، قال تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ـ البقرة ١٩٠». ومنها البغي قال تعالى : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) ـ الحجرات ـ ٩». ومنها اظهار الإسلام ، ولو باللسان من المعاندين له وللمسلمين ، لمصلحة تعود على الجميع ، لا على المسلمين وحدهم ، وهذه المصلحة يقدرها المعصوم ، أو نائبه ، ولا يجوز لأي مسلم كائنا من كان أن يقاتل من أجل النطق بكلمة الإسلام ، أو انتشارها إلا بأمر المعصوم ، أو من ينوب عنه ، وهو الحاكم المجتهد العادل ، وعلى هذه الصورة وحدها يحمل حديث : «أمرت أن أقاتل الناس». أي اني أقاتلهم حين أرى أنا أو من يقوم مقامي ان مصلحة الانسانية تحتم القتال من أجل كلمة لا إله إلا الله ، وفيما عدا ذلك لا يجوز لأحد كائنا من كان ان يكره أحدا على قول لا إله إلا الله .. وتجمل الاشارة الى ان القتال دفاعا عن النفس ، أو عن الدين والحق لا يتوقف على اذن الحاكم ولا غيره. وتقدم الكلام عن ذلك في تفسير الآية ١٩٣ ، فقرة الإسلام حرب على الظلم والفساد.

(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ). لقد بين الله سبحانه الحق بأوضح بيان ،

٣٩٧

وأقوى برهان ، حتى لم يبق حجة لكافر ، ولا عذرا لمعتذر .. ومن عرف طريق الرشد والحق عرف طريق الغي والباطل ، إذ لا شيء بعد الحق الا الضلال.

قال الملا صدرا ما توضيحه : ان معنى تبيين الرشد من الغي هو تمييز الحق من الباطل ، والايمان من الكفر بالأدلة والبراهين ، مع تفهمها وتدبرها ، أما من يعتقد بالحق عن تقليد فلا فرق بينه وبين الحيوان إلا الاعتقاد .. أجل ، ان من يقتدي بالصالحين عن صدق نية ، وصفاء طوية يناله نصيب مما ينالونه غدا.

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها). تعددت الأقوال في تفسير الطاغوت ، وقد أنهاها بعض المفسرين الى تسعة ، منها ان المراد به الشيطان ، ومنها الدنيا الدنية ، وأقربها الى الفهم ، ودلالة اللفظ تفسير الشيخ محمد عبده ، وهو ان الطاغوت ما تكون عبادته والايمان به سببا للطغيان والخروج عن الحق ، والمراد من الاستمساك بالعروة الوثقى السير على الصراط المستقيم الذي لا يضل سالكه ، تماما كالمتعلق بعروة هي أوثق العرى وأحكمها ، والمراد بلا انفصام لها قوتها وعدم انقطاعها ، ومحصل المعنى ان الايمان بالله عروة وثيقة متينة لا تنقطع أبدا ، وان المتمسك بها لا يضل طريق النجاة ، وفي صحيح مسلم ان رسول الله قال : اني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ، وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا ، حتى يردا عليّ الحوض. ورواه الترمذي أيضا.

ولكن في زماننا ترك الأمران معا ، واليه أشار الإمام علي (ع) بقوله : يأتي على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلا رسمه ، ومن الإسلام إلا اسمه.

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). يسمع كلمة التوحيد من المؤمنين ، وقول الكفر من الكافرين ، ويعلم ما في قلب الاثنين ، ويجزي كلا بأعماله.

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ). اختلف المفسرون في المراد من هذه الآية اختلافا كبيرا ، وتولد من بعض الأقوال إشكالات عقائدية ، حتى قال الملا صدرا : ان في المقام اشكالا عظيما يعسر حله على ذوي الافهام ، وقال الشيخ محمد عبده : ان بعض التفاسير هي من تفسير العوام

٣٩٨

الذين لا يفهمون أساليب اللغة العالية ، أو تفسير الأعاجم الذين هم أجدر بعدم الفهم.

أما السبب لاختلاف المفسرين ، وما تولد منه من الإشكالات فهو انهم فهموا من الآية ان الله سبحانه يتولى ويدبر أمور المؤمنين دون غيرهم ، لا ان المؤمنين هم الذين يتخذونه وليا لهم دون غيره ، والفرق كبير بين المعنيين ، ومن هنا ورد الاشكال على فهم المفسرين بأن ولاية الله وعنايته تشمل جميع الخلائق على نسق واحد ، لا المؤمنين فقط.

وكيف كان ، فان أقوال المفسرين ، أو أكثرهم لا تلتئم مع السياق ، وان المعنى السليم الذي لا ترد عليه أية شبهة ، ويلتئم مع قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) الخ هو ان المؤمنين لا يتخذون لهم وليا من دون الله ، ولا يجعلون لأحد سلطانا عليهم الا له وحده .. اليه يلجئون ، وبكتابه وسنة نبيه يهتدون في عقائدهم ، وجميع أقوالهم وأفعالهم ، ولا يثقون بأهل الضلالة والطغيان ، مهما علت منزلتهم .. على العكس من الكافرين الذين يتخذون الطاغوت أولياء لهم من دون الله.

وليس من شك ان من آمن بالله ، وصمم على طاعته والاهتداء بآياته وبيناته عن صدق واخلاص فانه يسلم بتوفيق الله وعنايته من ظلمة البدع والضلالات ، والأهواء والجهالات ، ويستضيء بنور المعرفة الحقة ، والايمان الصحيح ، وهذا هو معنى يخرجهم من الظلمات الى النور.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ). قال الرازي : «الطاغوت مصدر كالملكوت ، ويقع على المفرد والجمع» وعليه فلا يرد السؤال ، أو الاشكال بأن المناسب أن يلائم بين لفظه ولفظ الأولياء ، فيقول : أولياؤهم الطواغيت ، أو وليهم الطاغوت. والمعنى ان الكافرين يتخذون أهل الضلالة والطغيان أولياء لهم من دون الله ، فيأتمرون بأمرهم ، وينتهون بنهيهم ، وهؤلاء يسيرون بهم في طريق المهالك ، ويخرجونهم من نور العقل والفطرة الى ظلمات الكفر والبدع.

٣٩٩

الخلود في النار :

نص القرآن الكريم في أكثر من آية على ان نوعا من العصاة مخلدون في النار ، وبين ان من هذا النوع من كفر بالله وكذب بآياته ، قال جلت كلمته : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ـ البقرة ٣٩.» ومن قتل مؤمنا متعمدا ، قال جل جلاله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) ـ النساء ٩٢». (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) ـ النساء ١٣». ومن أحاطت به خطيئته : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ـ البقرة ٨١».

وليس من شك ان الله بموجب عدله لا يعذب الا من يستحق العذاب ، وان عذابه يختلف شدة وضعفا على حسب الجريمة والمعصية ، فجريمة من سعى في الأرض فسادا ، وأهلك الحرث والنسل غير جريمة من سرق درهما ، أو استغاب منافسا له في المهنة ، ومع هذا لنا أن نتساءل : ان في خلود الإنسان في النار الى ما لا نهاية ، تقذف رأسه بشرر كالقصر ، وتلهب ظهره بمقامع من حديد ، وتملأ جوفه بماء الصديد ، ثم لا يقضى عليه فيستريح ، ولا يخفف عنه فيسترد بعض أنفاسه ، وهو على ما هو من الضعف تؤلمه البقة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة ، كما قال علي أمير المؤمنين (ع) ، نتساءل : هل هذا الأليم العظيم من العذاب لهذا العاجز الضعيف يلتئم مع ذات الله التي هي محض الخير والرحمة ، والكرم والامتنان ، واللطف والإحسان؟ .. ومن المعقول أن يعذب الى حين ، أو يحرم إطلاقا من النعيم .. أما هكذا أبدا كلما نضجت جلودهم بدّلهم جلودا غيرها ، دون انقطاع وبلا فترة استراحة ، أما هكذا أبدا ودائما فمحل تساؤل.

وإذا قال قائل : وأي عذاب مهما كان نوعه ، وطال أمده يكثر على قاتل الحسين بن علي (ع) ، أو على من ألقى قنبلة ذرية أو هيدروجينية على شعب فأفناه بكامله ، أو على من سن سنة سيئة طال أمدها ، وكثرت مفاسدها؟

قلنا في جوابه : أجل ، لا يكثر على من ذكرت أي أليم من العذاب ، ولكن ليس كل العصاة «يزيد» ، ولا كل القنابل ذرية وهيدروجينية ، ولا كل السنن

٤٠٠