التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

بإنشاء الكلمات فقط مع الاحتفاظ بالمضمون والمحتوى.

قيل : ان إبليس قال لله جل وعز : لا يجوز أن تعاقبني على ترك السجود لآدم.

قال سبحانه : ولم؟

قال : لو أردت السجود مني حقا لا جبرتني عليه قهرا.

قال تعالى : ومتى علمت اني لم أرد منك السجود لآدم؟ هل علمت ذلك بعد أن أمرتك وعصيت أمري ، أو قبل أن آمرك بالسجود؟

قال : بعد أن أمرتني.

قال عظمت كلمته : اذن لزمتك الحجة ، لأنك خالفت وامتنعت قبل أن تعلم بأني أردت غير ما أظهرت .. هذا ، ولو ألجأتك الى السجود قهرا لم يبق من داع للأمر به إطلاقا.

وتجد في منطق إبليس هذا صورة واضحة لمن يلقي جميع التبعات والمسئوليات على العناية الإلهية .. ان الله سبحانه لا يعامل المكلفين بارادة الخلق والتكوين ، وعلى طريقة «كن فيكون» وانما يعاملهم بالإرشاد ، وارادة الطلب والتشريع التي يعبر عنها بالأمر والنهي.

وقيل : ان إبليس التقى ذات يوم بمحمد (ص) ، فقال له : ان الله نعتك بالمرشد الهادي ، ووصفني بالمضلل الغاوي .. وكل من الهداية والغواية في يده ، وليس في يدك ويدي شيء.

قال الرسول الأعظم (ص) : كلا ، ان في يدي بيان الباطل والزجر عنه ، والوعيد عليه ، وفي يدك الخداع والنفاق والإغراء بالباطل ، وفي يد الإنسان القدرة والتمييز والاختيار ، فمن أحسن الاختيار فلنفسه ، ومن أساء فعليها.

وقيل : انه جاء الى عيسى (ع) ، وقال له : ألا تزعم ان لك مكانا عليا عند الله؟ فألق بنفسك من شاهق لنرى : هل ينقذك من الهلاك؟

قال السيد المسيح : ان لله ان يمتحن عبده ، وليس للعبد أن يمتحن ربه.

وقيل : انه قصد نوحا بعد أن غرق الناس ، وجف الماء ، وقال له يا نبي الله ان لك عندي يدا ، وأريد مكافأتك عليها.

٢١

قال نوح (ع) : استغفر الله أن يكون لي على مثلك يد (١).

قال إبليس : هو ما أقول لك.

قال نوح : ما هي يدي عليك؟

قال إبليس : دعوت على قومك بالهلاك ، فهلكوا ، وقد كنت من قبل مشغولا ليل نهار في اغوائهم ، وتضليلهم .. وأنا الآن بعد هلاكهم في اجازة ، لا أجد من أغويه.

قال نوح : بماذا تكافئني؟

قال : أنصحك أن لا تغضب ، فما غضب انسان الا وهان عليّ انقياده ، ولا تحكم بين اثنين ، فإذا فعلت كنت ثالثا لكما ، ولا تخل بامرأة والا أغريتك بها ، وأغريتها بك.

ويشعر هذا المنطق الشيطاني ان إبليس من أنصار الحرب ، وانه يبارك الأسلحة الجهنمية.

وقيل : مرّ رسول الله (ص) وأصحابه برجل ، يركع ويسجد ، ويتضرع ، فقالوا : يا رسول الله ما أحسن صلاة هذا العابد!

قال : هذا الذي أخرج أباكم من الجنة.

وتهدف هذه النادرة ، أو الأسطورة الى ان الإنسان ينبغي له ألا يغتر ، وينخدع بمظاهر الزهد والتعبد.

وقيل : ان موسى (ع) كان ذاهبا يناجي ربه ، فالتقى صدفة بإبليس ، فقال له : الى أين يا كليم الله؟

قال : ذاهب الى ربي أتلقى كلمات منه .. وأنا على استعداد ان أتوسط لك لديه سبحانه ، كي يعفو عنك إذا وعدتني بالإقلاع عن غيك وضلالك.

قال إبليس : أنا لا استشفع بك ولا بسواك اليه .. بل هو عليه ـ استغفر الله ـ أن يطلب مرضاتي.

قال له موسى : قبحت من كافر لعين.

قال إبليس : ولم يا كليم الله؟ وأي ذنب لي؟ لقد طلب مني السجود لآدم ،

__________________

(١) قيل لعالم صالح : ان فلانا يثني عليك ، وكان فلان هذا معروفا بالفسق والفجور ، فقال العبد الصالح : لا بد اني اقترفت سيئة ، والا فان مثله لا يثني على مثلي.

٢٢

وأنا من شدة اخلاصي له لا أسجد لسواه .. ومتى كان الإخلاص ذنبا؟

قال موسى : ان هذه مغالطات ، وتلاعب بالألفاظ لا يغني عنك فتيلا ، وسترى ما ذا سيحل بك غدا.

قال إبليس : وأنت أيضا سترى ما ذا سأفعل غدا ..

قال موسى : وما أنت بفاعل؟

قال إبليس : أطالب الله بوعده ، وأحتج بقوله : «ان رحمتي وسعت كل شيء» وأنا شيء ، فوجب أن تتسع لي رحمته .. وإذا كنت أنا لا شيء فاللاشيء لا يحاسب ولا يعاقب.

قال موسى : ان رحمة الله تتسع لمن فيه الأهلية والقابلية لها ، وأنت بعيد عنها كل البعد.

قال إبليس : اذن اسلك سبيلا آخر.

قال موسى : وأي سبيل تسلك؟

قال إبليس : أدعو من اتبعني من الغاوين ، وأطلب منه تعالى أن يدعو هو من اتبعه من المؤمنين ، ونجري الانتخاب والاقتراع ، وعندها يعرف من الفائز الحائز على أكثرية الأصوات ، وإذا ألغى الانتخاب قمت مع جمعي بمظاهرة صاخبة حتى أبلغ ما أريد.

وهذه الاسطورة تهدف إلى أن أهل الباطل أكثر من أهل الحق عددا ، لأن الحق ثقيل ، والباطل خفيف ، كما قال أمير المؤمنين (ع) ، وان على العاقل أن لا يتخذ من منطق الأكثرية مقياسا للحق ، ولا من منطق الأقلية ميزانا للباطل ، كقاعدة كلية ، ومبدأ عام ، فلقد جاء في نهج البلاغة : «ان الفرقة أهل الباطل وان كثروا ، والجماعة أهل الحق وإن قلوا».

وجاء في القرآن الكريم : وأكثرهم للحق كارهون ، وفي آية ثانية : ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وفي ثالثة : لا يشكرون ، وفي رابعة : لا يعقلون ، وفي خامسة : لا يؤمنون .. وفي رواية إذا اجتمع أعوان إبليس ملأوا الخافقين.

ولهذه النصوص وغيرها كثير وكثير قال الشيعة : ان خليفة الرسول ، تماما كالنبي يختاره الله ، ويستخلفه على عباده ، لا من اختاره الناس ، وبايعوه ، وقدموه لأنفسهم وعلى أنفسهم .. ان هذا ملك على الناس ، وليس بخليفة لرسول الله .. أما المرجع الديني الأول عند الشيعة فهو الذي يتحلى بالصفات التي نص

٢٣

عليها صاحب الشريعة الأصيل ، لا من ينتخبه الناس للدين ، ولا من يعينه الحاكم الدنيوي بمرسوم .. كيف؟ .. وهل لأرباب الشهوات والأهواء ان يؤتمنوا على دين الله؟ .. اذن فليختاروا وينتخبوا الرسل والأنبياء ، ويفرضوهم على الله فرضا ، ويلجئوه الى الاعتراف بهم الجاء .. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ..

والنتيجة المنطقية ان خليفة الرسول لا يكون ، ولن يكون إلا بالنص عليه من الرسول بالذات ، وان المرجع الأكبر في الدين من نص عليه بالصفات .. فمن تصدى لمنصب الخلافة بلا نص على اسمه ، أو تصدى لمنصب المرجعية بلا نص على صفاته فهو مفتر على الله ورسوله .. وقد خاب من افترى.

وبعد ، فان القضية ، أية قضية ، سواء أكانت في الخلافة ، أو في المرجعية ، أو غيرها لا تصدق إلا إذا كانت انعكاسا عن الواقع ، وان التلاعب بالألفاظ لا يجعل المبطل محقا ، ولا المحق مبطلا ، ولا غير المعقول معقولا .. وان دلت المقدرة على التبرير بالأقوال ، لا بالحق والواقع ، ان دلت هذه المقدرة على شيء فإنما تدل على ان صاحبها تلميذ ناجح لإبليس في تمويه الحقائق ، وتغطيتها بالطلاء المغشوش المزيف.

البسملة ، وتحديد الإسلام بكلمة واحدة :

(بسم الله الرحمن الرحيم)

هذه الكلمة المقدسة شعار مختص بالمسلمين ، يستفتحون بها أقوالهم وأعمالهم ، وتأتي من حيث الدلالة على الإسلام بالمرتبة الثانية من كلمة الشهادتين : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله. أما غير المسلمين فيستفتحون باسمك اللهم ، وباسمه تعالى ، أو باسم المبدئ المعيد ، أو باسم الأب والابن وروح القدس ونحو ذلك.

وتحذف الهمزة من لفظة (اسم) نطقا وخطا في البسملة ، وتكتب هكذا : بسم الله الرحمن الرحيم ، لكثرة الاستعمال ، وتحذف الهمزة نطقا ، لا خطا في غير البسملة ، نحو سبح باسم ربك الأعلى ، واقسم باسم الله.

ولفظ الجلالة (الله) علم للمعبود الحق الذي يوصف بجميع صفات الجلال والكمال ، ولا يوصف به شيء .. وقيل : ان لله اسما هو الاسم الأعظم ، وان

٢٤

الذي يعرفه تفيض عليه الخيرات ، وتقع على يده المعجزات .. ونحن نؤمن ونعتقد بأن كل اسم لله هو الاسم الأعظم ، أي انه عظيم ، لأن التفضيل لا يصح إطلاقا ، لعدم وجود طرف ثان تسوغ معه المفاضلة ... وبكلمة ان المفاضلة تستدعي المشاركة وزيادة .. والذي ليس كمثله شيء لا يشاركه أحد في شيء.

والرحمن في الأصل وصف مشتق من الرحمة ، ومعناها بالنسبة اليه تعالى الإحسان ، وبالنسبة إلى غيره معناها رقة القلب ، ثم شاع استعمال الرحمن في الذات القدسية ، حتى صار من أسماء الله الحسنى ، قال تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). وعلى هذا فلك ان تعرب لفظة الرحمن صفة لله بالنظر الى الأصل ، ولك أن تجعلها بدلا بالنظر الى النقل.

الرحيم أيضا وصف مشتق من الرحمة ، بمعنى الإحسان بالنسبة اليه جل وعز. وفرّق أكثر المفسرين ، أو الكثير منهم ، بين لفظة الرحمن ، ولفظة الرحيم بأن الرحمن مشتق من الرحمة الشاملة للمؤمن والكافر ، والرحيم من الرحمة الخاصة بالمؤمن ، وفرعوا على ذلك ان تقول : يا رحمن الدنيا والآخرة ، وان تقول : يا رحيم الآخرة فقط دون الدنيا .. أما أنا فأقول : يا رحمن يا رحيم الدنيا والآخرة : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) ـ الزخرف ٣٢».

ومعنى (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) بجملة انك قد ابتدأت عملك مستعينا بالله الذي وسعت رحمته كل شيء مسجلا على نفسك ان ما تفعله هو باسم الله ، لا باسمك أنت ، ولا باسم أحد سواه ، تماما كما يقول موظف الدولة للرعايا : باسم الدولة عليكم كذا وكذا .. وان عملك الذي باشرت هو حلال لا شائبة فيه لما حرم الله .. فان كان حراما ، وفعلته باسم الله فقد عصيت مرتين في آن واحد ، وفعل واحد : مرة لأنه حرام بذاته ، ومرة لأنك كذبت في نسبته الى الله .. تعالى علوا كبيرا.

والبسملة جزء من السورة عند الشيعة الإمامية .. وقد أوجبوا الجهر بها فيما يجب الجهر فيه بالقراءة ، كصلاة الصبح ، وأوليي المغرب والعشاء ، ويستحب الجهر بها فيما يخافت فيه بالقراءة ، كأوليي الظهر والعصر ، ويجوز الإخفات.

وقال الحنفية والمالكية : يجوز ترك البسملة في الصلاة كلية ، لأنها ليست جزءا من السورة .. وقال الشافعية والحنابلة : بل هي جزء لا تترك بحال ، سوى ان الحنابلة قالوا : يخفت بها إطلاقا ، وقال الشافعية : يجهر بها في الصبح ، واوليي العشاءين ، وما عدا ذلك إخفات .. ويتفق قول الشافعية والحنابلة مع قول الإمامية.

٢٥

وتجمل الاشارة الى أن اسم الله سبحانه وصفاته تتألف من هذه الحروف ، وتلفظ وتكتب كغيرها من الكلمات ، ومع هذا لها قدسية وأحكام خاصة بها ، فلا يجوز أن يكتب شيء منها على ورق ، أو غيره ، أو بمداد ، أو قلم نجس ، وأيضا لا يجوز مسها الا للمطهرين.

وأفتى فقهاء الإمامية بكفر وارتداد «من ألقى المصحف عامدا عالما في القاذورات والقمامة ، أو ضربه برجله ، أو مزقه اهانة وإعراضا ، ونحو ذلك مما يدل على الاستهزاء بالشرع والشارع».

وقال قائل : ان سورة الفاتحة تضمنت جميع معاني القرآن دون استثناء ، وان البسملة تضمنت جميع معاني الفاتحة ، وان الباء من البسملة تضمنت جميع معاني البسملة ، وبالتالي تكون الباء من بسم الله الرحمن الرحيم فيها معاني القرآن بكامله.

وهذا القائل أشبه بمن يحاول أن يدخل الكون بأرضه وسمائه في البيضة دون أن تكبر البيضة ، أو يصغر الكون ..

تحديد الإسلام بكلمة واحدة :

قرأت في جريدة الجمهورية المصرية تاريخ ٢١ نيسان سنة ١٩٦٧ كلمة قال كاتبها ضياء الريس : انه قرأ مقالا في مجلة أدبية لكاتب عربي شهير ، قال فيه : انه ـ أي الكاتب ـ حين كان عضوا في البعثة العلمية بالنكلترا اشتبك في نقاش حاد مع انكليزية مثقفة حول الإسلام والمسيحية ، فقالت الانكليزية ـ متحدية جميع المسلمين بشخص الكاتب المسلم ـ اني ألخص مبادئ المسيحية كلها بكلمة واحدة ، وهي المحبة ، فهل تستطيع أنت ـ أيها المسلم ـ ان تأتي بكلمة تجمع مبادئ الإسلام؟ فأجابها الكاتب المسلم : أجل ، انها كلمة التوحيد.

وبعد ان نقل الريس هذا الحوار قال : لم يكن الجواب موفقا ، وذكر أسبابا وجيهة وصحيحة تدعم حكمه على الكاتب بعدم التوفيق ، وبعد ان انتهى الريس من حكمه وأسبابه الموجبة قال : لو وجه الي هذا السؤال لأجبت بأن هذه الكلمة هي الرحمة ، واستدل على صحة جوابه هذا بالعديد من الآيات والروايات مبتدئا ببسم الله الرحمن الرحيم .. الى وما أرسلناك الا رحمة للعالمين .. الخ

وصدق الريس في قوله : ان الكاتب لم يكن موفقا في جوابه .. ولكن الريس أيضا لم يكن موفقا في اختياره كلمة الرحمة ، لأنه لم يزد شيئا على ما قالته الانكليزية ، حيث أخذ كلمة المحبة منها ، وترجمها الى كلمة الرحمة ، وعلى هذا لا يكون للإسلام أية ميزة على المسيحية.

٢٦

ولو كنت حاضرا مع البعثة العلمية بانكلترا لأجبت بكلمة «الاستقامة» فإنها الكلمة الجامعة المانعة الشاملة للاستقامة في العقيدة بما فيها التوحيد والتنزيه عن الشبيه ، وأيضا تشمل الاستقامة في الأعمال والأخلاق والأحكام وجميع التعاليم بما فيها الرحمة والمحبة والتعاون. ان الرحمة من مبادئ الإسلام ، وليست الإسلام بكامله ، كما ان التوحيد أصل من أصوله ، لا أصوله بأجمعها.

وبما ان الاستقامة تجمع المحبة والرحمة والتوحيد ، وسائر الأصول الحقة ، والأعمال الخيرية ، والأخلاق الكريمة المستقيمة ، وبما انها المقياس الصحيح للفضيلة والكمال الذي يبلغ بالإنسان الى سعادة الدنيا والآخرة .. لذلك كله أمرنا أن نكرر في صلاتنا صباح مساء : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) .. وقال عز من قائل مخاطبا نبيه الأكرم (ص) : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ، وَمَنْ تابَ مَعَكَ ، وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ـ هود ١١٣». وقال : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ـ فصلت ٣٠».

ولا شيء أدل على ان الاستقامة هي الكل في الكل من قول إبليس اللعين : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ).

وجاء في الحديث الشريف : «قال سفيان الثقفي : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا اسأل عنه أحدا بعدك. قال رسول الله : قل : آمنت بالله ، ثم استقم».

واختصارا ان معنى الاستقامة أن نقف عند حدود الله ، ولا ننحرف عن الحق الى الباطل ، وعن الهداية الى الضلال ، وان نسير بعقيدتنا وعاطفتنا ، وجميع أقوالنا وأفعالنا على الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

٢٧
٢٨

الجزء الأوّل

في

سورة الحمد وسورة البقرة

٢٩
٣٠

الفاتحة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

النزول :

اختلفوا في مكان نزولها ، فقيل : في مكة المكرمة. وقيل : بل في المدينة. وقال ثالث : نزلت مرتين : في مكة أولا ، وفي المدينة ثانية تأكيدا لأهميتها ، ومبالغة في تشريفها. وأكثر المفسرين على انها نزلت في مكة.

وهذا الخلاف عقيم لا فائدة له ، لأن هذه السورة الكريمة لا تحتوي على آية يختلف معناها باختلاف النزول.

٣١

الأسماء :

ذكروا لها أسماء عديدة ، أشهرها :

١ ـ الفاتحة ، لأنها أول سورة في كتابة المصاحف ، ولوجوب قراءتها في أول الصلاة .. هذا الى ان التعليم على وجه العموم كان يفتتح أول ما يفتتح بها ايام زمان.

٢ ـ الحمد ، لأنه أول لفظها.

٣ ـ أمّ الكتاب ، وأمّ القرآن ، لأنها متقدمة على غيرها من السور ، ولو كتابة .. تقدم الأم على أبنائها ، ولأنها اشتملت على أصلين : ذكر الربوبية والعبودية ، وعليهما ترتكز تعاليم القرآن.

٤ ـ السبع المثاني ، لأنها سبع آيات ، وبقراءتها يثنى في الصلاة ، أو لأنها جمعت بين ذكر الربوبية والعبودية.

ومنهما يكن ، فان التسمية تصح لأدنى شبه.

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ :

هذه الجملة إخبار بمعنى الإنشاء ، لأن المتكلم قصد احداث الحمد لله ، لا الأخبار عن ثبوت الحمد لله .. وهي تلقين وتعليم من الله لعباده : كيف يحمدونه أي قولوا يا عبادي: الحمد لله.

ومعنى الحمد لله الثناء عليه سبحانه بقصد التعظيم والتبجيل على كل حال ، حتى على الضراء ، قال أمير المؤمنين (ع) في بعض خطب النهج : «نحمده على آلائه ، كما نحمده على بلائه».

ومحمد وأحمد ومحمود وحامد وحميد وحمدان أسماء مأخوذة من الحمد .. وقد يأتي الحمد وصفا للشيء الذي ترضى عنه ، قال تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) ـ الاسراء ٧٩» .. وقالوا : حمد السوق من ربح .. وعند الصباح يحمد القوم السرى.

٣٢

ولفظ الرب يطلق على السيد والمالك ، وكل من المعنيين يصح ارادته هنا ، ولكن معنى الخالق هو المتبادر من لفظ هذه الآية الكريمة.

والعالمين جمع عالم بفتح اللام ، والعالم يطلق على نوع خاص من الكائنات ، فيقال : عالم الجماد ، وعالم النبات ، وعالم الحيوان ، وعالم الإنسان ، ولا يطلق لفظ عالم على المفرد ، لأنه اسم للجمع .. والمراد بالعالمين هنا كل ما عدا الله سبحانه ، فيعم جميع الكائنات .. وقد يطلق على جميع أصناف الناس ، كقوله : (هُدىً لِلْعالَمِينَ) ـ آل عمران ٩٦» .. وإذا صح جمع العالمين بالياء نصبا وجرا فينبغي أن يصح جمعه بالواو رفعا ، فيقال : العالمون .. وقال أبو حيان الأندلسي في تفسير البحر المحيط : انه شاذ.

ومعنى رب العالمين خالق كل شيء ومدبره ، ولفظ رب بدل كل من لفظ الجلالة ، ويشعر بالعلية ، أي اني أحمد الله ، لأنه رب العالمين.

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:

مر الكلام عن لفظ الرحمن والرحيم في فصل البسملة.

ومن أقوال أمير المؤمنين (ع) في وصف الله جل وعز قوله : «لا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تلهيه رحمة عن عقاب» .. والذي فهمته من هاتين الجملتين ان غضب الله على العاصين ، وعقابهم غدا ـ لا يمنعه عن رحمتهم في هذه الحياة التي يتمتعون بنعيمها ، ويتقلبون في ملذاتها ، وان رحمته غدا للمؤمنين لا تدفع عنهم البلاء والأسواء في هذه الحياة.

مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ:

للفظ الدين معان شتى ، منها المكافأة والجزاء ، مثل كما «تدين تدان». وهذا المعنى يناسب المقام ، حيث تجازى في ذاك اليوم كل نفس بما كسبت .. وقرئ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) بالألف ، كما تقول : فلان مالك هذا البستان بمعنى الاختصاص .. وقرئ «ملك يوم الدين» بكسر اللام ، كما تقول : ملك اليونان بمعنى الحكم والسلطة ، والقراءتان متواترتان ، والأولى أكثر استعمالا.

والمعنى المنساق إلى الذهن واحد على كلتا القراءتين ، وهو ان كل شيء بيد الله وحده اليوم وغدا ، فهو رب العالمين ، ورب يوم الدين ، والغرض التخويف من المعصية ، والترغيب في الطاعة.

٣٣

وعلى القراءة الأولى يكون «مالك» وصفا ، وعلى القراءة الثانية يكون «ملك» بدلا.

وفي نهج البلاغة : إنّا لا نملك مع الله شيئا ، ولا نملك الا ما ملّكنا ، فمتى ملّكنا ما هو أملك به منا كلّفنا ، ومتى أخذه منا وضع تكليفه عنا.

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ :

إياك ضمير منفصل ، ومحله النصب مفعولا للفعل الذي بعده ، وقدم للحصر والاختصاص .. والمعنى نعبدك ، ولا نعبد سواك ، ونستعين بك ، لا بغيرك ، وخاطب العبد ربه بضمير المفرد إخلاصا في التوحيد ، وتنزيها عن الشريك ، ومن أجل هذا لا يخاطب الواحد القهار بصيغة الجمع .. أما ضمير نحن في نعبد ونستعين فللمتكلم ومن معه ، لا للتعظيم.

وتتحقق العبادة بالصوم والصلاة ، والحج والزكاة لوجه الله تعالى ، وأيضا تتحقق بكل عمل انساني يسد حاجة من حاجات الناس ، فلقد جاء في الحديث : «أهل المعروف بالدنيا أهل معروف في الآخرة .. خير الناس أنفع الناس للناس».

وليس معنى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ان الله أهل للعبادة وكفى ، بل تدل الآية أيضا على ان الإنسان مخلوق كريم حرره الله من العبودية والخضوع إطلاقا إلا للحق الذي يعلو على كل شيء ، ولا يعلو عليه شيء .. وبديهة ان الحرية التي لا يحدها الحق تنعكس الى فوضى .. ومما قرأته في هذا الباب قول جان بول سارتر : «ان التحرر الحقيقي ان يلتزم الإنسان بوضع نفسه وحريته في خدمة الآخرين» (١).

__________________

(١) معنى الوجودية التي كان يقول بها سارتر ان كل فرد من افراد الإنسان هو في عزلة واستقلال عن غيره ، وانه لا شيء بالنسبة اليه إلا وجوده وحده ، ولا يتحقق له وجود إلا إذا انطلق مع حريته ، دون قيد أو شرط ... أما الدين والمبادئ والمعايير والمقاييس فكلام فارغ ، فلا خير إلا خير الفرد نفسه ، ولا شر إلا شره بالذات ... ويستدل سارتر على ذلك بأن الإنسان أتى من عالم مجهول ، ويذهب إلى عالم مجهول وانه وجد قبل القوانين العقلية والدينية ، ومن استسلم لدين من الأديان ، أو لمبدإ من المبادئ فقد قيد نفسه ، وتنازل عن حريته ، وبالتالي عن وجوده .. ثم عدل سارتر عن فلسفته هذه ، واعتنق «حرية أعظم ، وهي الحرية من أجل الملايين ، وان الإنسان يكسب نفسه حينما يضعها في خدمة الآخرين ، وان الإنسان الحقيقي هو الذي يلتزم بهذا المبدأ» .. وبعد أن كان سارتر يتكلم عن الفرد ويدافع عنه أصبح يتكلم عن الشعوب ويدافع عنها.

٣٤

وقيل : ان اثنين كانا يتنزهان في حديقة ، ومع أحدهما قضيب يلعب به ، فمس طرف القضيب أنف الآخر ، ولما اعترض هذا قال صاحب القضيب : أنا حر ، فقال له صاحبه : لحريتك حد ينتهي عند أنفي.

ولا أعدو الحقيقة إذا حددت الحرية بالايمان بالله ، والتعبد له وحده لأن من تعبد للحق دون سواه فقد تحرر من الباطل ومن تحرر من عبادة الحق فقد عبد الباطل حتما ، والتفكيك محال إلا عند فوضوي ، لا يؤمن بحلال ولا بحرام ، ولا بشيء على الإطلاق إلا بنفسه وحدها لا شريك لها.

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ :

الصراط في اللغة الطريق المحسوس ، وفيه قراءتان بالسين والصاد ، والسين هي الأصل ، والمستقيم المعتدل الذي لا عوج فيه وهو صفة للصراط ، والمراد بالصفة والموصوف هنا الحق.

وليس المراد بالهداية مجرد العلم ، بل العلم مع التوفيق الى العمل ، فمن دعا لك بالهداية فقد دعا لك بالخير كل الخير ، ومن دعا لك بالعلم فقد دعا لك ببعض الخير .. والغريب ان أكثر الناس يثقل عليهم الدعاء بالهداية ، بخاصة العلماء والكبراء مع العلم بأن الرسول الأعظم (ص) كان يكرر الدعاء بها ليل نهار في صلواته وغيرها.

ولست أعرف هداية وتوفيقا أفضل وأعظم من أن يكتشف الإنسان عيوب نفسه بنفسه ، ويشعر بالتأنيب ووخز الضمير من أجلها .. وبهذا الشعور يمكن النجاة والخلاص ، أعاذنا الله من الغرور وأسوائه.

صراط الذن :

جاء في بعض الروايات ان المغضوب عليهم هم اليهود ، والضالين هم النصارى ، ولكن لفظ الآية عام لا تخصيص فيه ، ولا استثناء ، فكل مطيع تشمله نعمة الله ورحمته ، وكل عاص ضال ومغضوب عليه.

٣٥

ومهما يكن ، فان الغرض من هذه الآية ، ومن سورة الفاتحة بكاملها ان يقف العبد بين يدي سيده مؤمنا موحدا ، وشاكرا حامدا ، ومخلصا وداعيا ان يوفقه لمرضاته علما وعملا.

وكل انسان واجد عند خالقه ما قدم من عمل ، أما الأقوال فلا أثر لها إلا ان تقرّب من طاعة ، أو تبعد عن معصية.

٣٦

سورة البقرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢))

فواتح بعض السور ، والقرآن والعلم الحديث :

قال صاحب مجمع البيان هي مدنية كلها الا قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ).

الم :

اختلفوا فيما هو المقصود منها ، ومن فواتح بعض السور ، مثل الر ، وكهيعص ، وحم ، وما اليها .. فقيل : هو من علم الغيب الذي لم يظهر الله عليه أحدا.

ويلاحظ بأن الله سبحانه لا يخاطب الناس بأشياء لا يريد أن يعرفوها ويطلعوا عليها .. كيف ، والغيب هو السرّ المكنون؟! بالاضافة إلى انه قد ندد بالذين لا يتدبرون القرآن في الآية ٢٤ من سورة محمد : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها).

وقيل : ان هذه الفواتح أسماء للسورة وقيل : بل هي أسماء لله. وقيل : بل لمحمد (ص). وقيل غير ذلك.

وأقرب الأقوال إلى الواقع والفهم ان الله سبحانه بعد أن تحدى بالقرآن الجاحدين والمعاندين وعجزوا عن الإتيان بمثله ، أو بعشر سور مثله ، أو بسورة

٣٧

واحدة ، بعد هذا أشار بذكر هذه الحروف (الم) ونحوها إلى ان هذا الكتاب المعجز مؤلف من جنس هذه الحروف التي هي في متناول الأطفال والجهال .. فعجزكم ـ اذن ـ دليل قاطع على ان هناك سرا ولا تفسير لهذا السر الا ان هذا القرآن من وحي السماء ، لا من صنع الأرض.

ذلِكَ الْكِتابُ الآية ٢ :

ذلك اسم اشارة ، ومحله الرفع بالابتداء ، والكاف للتعظيم ، لا للبعد ، كقولك : أنا ذلك الرجل .. والمراد بالكتاب القرآن. وبنفي الريب عنه انه كتاب حق وصدق .. وعجزهم عن صياغة مثله يستدعي ان لا يرتابوا فيه إطلاقا لو كانوا طلاب حقيقة.

القرآن والعلم الحديث :

قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فيه دلالة واضحة على ان القرآن لا يلتمس فيه علم التاريخ ، ولا الفلسفة ، ولا العلوم الطبيعية والرياضية ، وما اليها ، وانما يلتمس فيه هداية الإنسان ، وإرشاده الى صلاحه وسعادته في الدارين .. وبكلمة ان القرآن كتاب دين وأخلاق وعقيدة وشريعة.

وتسأل : وما ذا أنت صانع بالآيات الكونية : «والشمس تجري لمستقر». والقمر قدرناه منازل .. وما إلى ذلك من عشرات الآيات؟.

الجواب : لم يكن الغرض من هذه الآيات ان يبين الله لنا ما في الطبيعة من حقائق علمية ، كلا ، فان ذلك موكول الى عقل الإنسان وتجاربه ، وانما الهدف الأول من ذكرها أن نسترشد بالكون ونظامه الى وجود الله سبحانه ، وانه لا شيء من هذه الكائنات وجد صدفة ، ومن غير قصد كما يزعم الماديون ، بل وجد بارادة عليمة حكيمة ، وقد بين الله ذلك صراحة في قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ـ ٥٣ حم السجدة». أي سنكشف للكافرين بالله عن تدبير الكون وأحكامه ما يعلمون معه انهم على ضلال ..

٣٨

ان القرآن حين يدعو الى النظر في الكون فانه يقول بلسان مبين ان دلائل الكون أصدق حجة ، وأقوى دلالة على وجود الله من كل شيء ، حتى من الدور والتسلسل. قال بعض الحكماء : ان لله كتابين : كتابا يتلوه اللسان ، وكتابا يتلوه العقل ، وهو الكون.

أجل ، ان القرآن حث على دراسة العلوم الطبيعية ، وكل علم يعود على الانسانية بالخير والهناء ، ولكن حثه على العلم شيء ، وكونه كتابا في العلوم شيء آخر.

وأيضا لا يشك عارف بالقرآن وآياته ان معانيه لا تحصيها كثرة ، ولا يحيط بها عقل بالغا ما بلغ من العظمة ، وانما يدرك منها كل عالم ما تتسع له مؤهلاته ومواهبه ، وهي عميقة إلى أبعد الحدود ، فإذا اكتشف عالم معنى منها فانه يكتشف طرفا من أطرافه ، وجهة من جهاته يستعين بها على معرفة بعض ما يحويه الكون .. ولكن هذا شيء ، والحقائق العلمية التي يستنتجها الاخصائيون في مختبراتهم شيء آخر.

«ملحوظة» : اني ما مضيت في تفسير القرآن إلا قليلا ، حتى أيقنت ان أي مفسر لا يأتي بجديد لم يسبق اليه ، ولو بفكرة واحدة في التفسير كله يخالف فيها من تقدمه من أهل التفسير ، ان هذا المفسر لا يملك عقلا واعيا ، وانما يملك عقلا قارئا يرتسم فيه ما يقرأه لغيره دون محاكمة ، أو تقليم وتطعيم ، تماما كما يرتسم الشيء في المرآة على ما هو من لون وحجم .. وأيضا اكتشفت من تفسيري للقرآن ان معانيه لا يدركها ، ولن يدركها على حقيقتها إلا المؤمن حقا الذي اختلط الإيمان بدمه ولحمه .. وانسجم مع أهداف القرآن انسجاما كاملا. وهنا يكمن السر في قول الإمام أمير المؤمنين : ذلك القرآن الصامت ، وأنا القرآن الناطق.

ومما يعزز ويؤيد ان القرآن أولا وقبل شيء هو كتاب هدى ودين وشريعة وأخلاق وانه أنزل لأجل هذه الغاية قوله تعالى :

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).

وقوله : (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) .. وكفى دليلا على ذلك قول الرسول الأعظم (ص) انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وقال الإمام

٣٩

أمير المؤمنين (ع) في الخطبة ١٧٤ من خطب النهج : «ان في القرآن شفاء من أكبر الداء ، وهو الكفر والنفاق ، والغي والضلال». وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) ـ ٨٢ الأسرى» .. وعسى أن يتعظ بقول الإمام (ع) من يطلب الشفاء لأوجاعه الجسمية بتلاوة هذه الآية إلا أن يضيف اليها (روشتة) الطبيب.

وتسأل مرة ثانية وما ذا تقول بهذه الآية : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ـ ٣٨ الانعام». حيث دلت بظاهرها على أن في القرآن جميع العلوم؟.

الجواب : ان عموم كل شيء بحسبه ، فإذا قلت : هذا البيت فيه كل شيء فهم منه ان فيه ما تدعو اليه حاجة المقيم فيه من مؤنة وأثاث .. وإذا قلت عن كتاب فقهي : فيه كل شيء. فهم منه جميع المسائل الفقهية .. والقرآن كتاب دين ، وعليه يكون معنى ما فرطنا في الكتاب من شيء يتصل بخير الإنسان وهدايته.

سؤال ثالث : وما قولك في هذه الكتب التي تحمل اسم القرآن والعلم الحديث ، والإسلام والطب الحديث ، وما الى هذا؟.

الجواب : أولا ان كل من يحاول الملاءمة بين مستكشفات العلم قديما كان أو حديثا ، وبين القرآن الكريم فانه يحاول المحال .. ذلك ان علم الإنسان محدود بطاقته العقلية ، والقرآن من علم الله الذي لا حد له .. فكيف تصح الملاءمة بين المحدود ، وغير المحدود؟.

ثانيا : ان علم الإنسان عرضة للخطأ ، لأنه عبارة عن نظريات وفروض تخطئ وتصيب. وكم رأينا العلماء يجمعون على نظرية ، وانها صحيحة مائة بالمائة ثم اكتشفوا ، أو من جاء بعدهم من العلماء انها خطأ مائة بالمائة .. والقرآن معصوم عن الخطأ .. فكيف تصح الملاءمة بين ما هو عرضة للخطأ ، وبين المعصوم عنه؟ ثم هل نستمر في تأويل نصوص القرآن ، ونحملها ما لا تتحمل كلما نسخت أو عدلت فروض العلم ونظرياته؟

أجل ، لا بأس أن نستعين بما يكتشفه العلم من حقائق على فهم بعض الآيات ، على شريطة أن لا نجعلها مقياسا لصدق القرآن وصحته ، بل وسيلة

٤٠