التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

عدة الوفاة الآة ٢٣٤ ـ ٢٣٥ :

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥))

اللغة :

أصل التوفي أخذ الشيء كاملا وافيا ، ومن مات فقد استوفى عمره ، والتربص الانتظار ، والتعريض التلويح من غير تصريح ، والخطبة بكسر الخاء طلب الرجل المرأة للزواج ، والكتاب بمعنى المكتوب ، والمراد به هنا المفروض.

الاعراب :

الذين مبتدأ ، ويتربصن الجملة خبر ، وحذف الظرف ، وهو بعدهم لظهوره ، وعشرا بالتأنيث تغليبا لليالي على الأيام ، منكم متعلق بمحذوف حال ، وكذا فيما عرضتم ، والمصدر من ان تقولوا في موضع نصب على انه بدل من سرا.

٣٦١

المعنى :

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً). اتفق الفقهاء كافة على ان عدة المتوفى عنها زوجها ، وهي غير حامل ، أربعة أشهر وعشرة أيام ، كبيرة كانت أو صغيرة ، آيسة أو غير آيسة ، دخل بها الزوج أو لم يدخل ، واستدلوا على ذلك بهذه الآية.

أما إذا كانت حاملا فقالت المذاهب الأربعة السنية : ان عدتها تنقضي بوضع الحمل ، ولو بعد وفاة الزوج بلحظة ، بحيث يحل لها أن تتزوج ، ولو قبل الدفن ، لقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

وقال فقهاء الإمامية : ان عدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل ، والأربعة أشهر وعشرة أيام ، فان مضت الأربعة والعشرة قبل الوضع اعتدت بالوضع ، وان وضعت قبل مضي الأربعة والعشرة اعتدت بالأربعة والعشرة ، واستدلوا على ذلك بضرورة الجمع بين آية (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً). وآية (أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ). فالآية الأولى جعلت العدة أربعة وعشرة ، وهي تشمل الحامل وغير الحامل ، والآية الثانية جعلت عدة الحامل وضع الحمل ، وهي تشمل المطلقة ، ومن توفي عنها الزوج ، فيحصل التنافي بين ظاهر الآيتين في المرأة الحامل التي تضع قبل أربعة أشهر وعشرة أيام ، فبموجب الآية الثانية تنتهي العدة ، لأنها وضعت الحمل ، وبموجب الآية الأولى لا تنتهي ، لأن الأربعة والعشرة لم تنته.

وأيضا يحصل التنافي إذا مضت الأربعة والعشرة ، ولم تضع الحمل ، فبموجب الآية الأولى تنتهي العدة ، لأن مدة الأربعة والعشرة مضت ، وبموجب الآية الثانية لم تنته ، لأنها لم تضع الحمل ، وكلام القرآن واحد يجب أن يلائم بعضه بعضا ، وإذا عطفنا احدى الآيتين على الأخرى ، وجمعناهما في كلام واحد هكذا (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)(وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ، إذا جمعنا الآيتين في كلام واحد يكون المعنى ان عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام لغير الحامل ، وللحامل التي

٣٦٢

تضع قبل مضي الأربعة والعشرة ، وتكون عدة الوفاة للحامل التي تضع بعد مضي الأربعة والعشرة وضع الحمل.

وإذا قال قائل : كيف جعل الامامية عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين من وضع الحمل والأربعة والعشرة مع ان آية : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) صريحة بأن الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل ، إذا قال هذا قائل أجابه الامامية كيف قالت المذاهب السنية الأربعة : ان عدة الحامل المتوفى عنها زوجها سنتان إذا استمر الحمل طوال هذه المدة ـ على مذهبهم ـ مع ان آية (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) صريحة بأن العدة أربعة وعشرة ، وإذا قال قائل منهم : عملا بأولات الأحمال قال قائل من الإمامية : عملا بآية والذين يتوفون .. اذن لا مجال للعمل بالآيتين إلا القول بأبعد الأجلين.

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي إذا انقضت عدة الوفاة فلا إثم عليكم أيها المسلمون أن تفعل المرأة ما كان محظورا عليها أيام العدة من التزيّن والتعرض للخطّاب على الوجه المعروف شرعا وعرفا ، وانما خاطب الله المسلمين المصلحين لأن عليهم من باب النهي عن المنكر أن يمنعوا المرأة إذا تجاوزت الحدود الشرعية.

واتفق الفقهاء قولا واحدا على ان المعتدة عدة وفاة يجب عليها أن تجتنب كل ما يحسنها ، ويرغّب في النظر اليها ، ويدعو الى اشتهائها ، وتعيين ذلك يعود الى أهل العرف.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ). حرم الله سبحانه الزواج أثناء العدة ، أية عدة تكون ، بل حرم على الرجل أن يخطب المرأة صراحة أيام عدتها ، حتى ولو كانت عدة وفاة ، أو عدة الطلاق البائن .. روأباح سبحانه التلويح بالخطبة ، دون التصريح في غير عدة الطلاق الرجعي ، لأن المطلقة الرجعية لا تزال في عصمة المطلق.

(أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ). كل ما يخطر في البال ، ويعزم عليه القلب لا جناح فيه عند الله سبحانه ، لأنه غير مقدور ، وانما المقدور هو الآثار واللواحق ، فإذا عزم الرجل على الزواج من المعتدة فهو غير آثم ، ولكن إذا صرح بعزمه

٣٦٣

هذا ، فخطبها أو أبدى لها ما يكنّ صراحة فهو آثم ، لأن العزم غير مقدور ، والتصريح مقدور .. وقد جاء في الحديث : إذا حسدت فلا تبغ ، فنهى عن البغي الذي هو أثر من آثار الحسد ، ولم ينه عن الحسد بالذات ، لأنه غير مقدور.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) في أنفسكم ، ولذا أباح لكم التلويح ، ولو حرم عليكم التلويح والتصريح لشق ذلك عليكم. (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا). رحتى التلويح بالزواج أثناء العدة الرجعية أو غيرها لا يجوز في الخلوة ، لأن الخلوة بين الرجل والمرأة تجر الى ما لا يرضي الله ، وفي الحديث ما اختلى رجل وامرأة الا وكان الشيطان ثالثا لهما .. بخاصة إذا كانت مرغوبة لمن اختلى بها .. اللهم الا أن يكون الرجل على يقين بأن الخلوة لا تؤدي به الى الحرام في القول ، ولا في الفعل ، وعندها يجوز له أن يقول لها في السر ما لا يستنكر عند المهذبين في العلانية ، وإلى هذا الاستثناء أشار سبحانه بقوله : (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً).

(وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) عزما باتا قطعيا ، أو لا تنشئوا عقد الزواج (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) بانقضاء العدة.

الزواج في العدة :

وبعد أن اتفق المسلمون جميعا على ان العقد والخطبة الصريحة أثناء العدة من المحرمات ، وان العقد باطل قطعا ، ولا أثر له إطلاقا ، بعد هذا الاتفاق اختلفوا فيما بينهم : هل تحرم المرأة حرمة مؤبدة على من كان قد عقد عليها أثناء العدة ، أو يجوز له ان يستأنف العقد عليها والزواج منها بعد انقضاء العدة؟. رقال الحنفية والشافعية : لا مانع من تزويجه بها ثانية. (بداية المجتهد). روقال الإمامية : إذا عقد عليها ، مع علمه بالعدة والحرمة حرمت عليه مؤبدا ، سواء ادخل أم لم يدخل ، وإذا عقد عليها جاهلا بالعدة والحرمة فلا تحرم مؤبدا الا إذا دخل ، وله استئناف العقد بعد العدة إذا لم يدخل.

هذا حكم العقد أثناء العدة ، أما مجرد الخطبة فلا أثر لها إلا من حيث الإثم فقط ، ومن طريف ما قرأته في هذا الباب ما جاء في احكام القرآن لأبي بكر

٣٦٤

الأندلسي المالكي ، حيث قال : إذا خطبها أثناء العدة ، ثم عقد عليها بعد العدة فيجب عل يه أن يطلقها طلقة واحدة تورعا ، ثم يستأنف خطبتها والعقد عليها.

الطلاق قبل الدخول الآة ٢٣٦ ـ ٢٣٧ :

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧))

اللغة :

الجناح يطلق على الإثم ، وعلى المسئولية ، وهي المراد في الآية ، والفريضة هنا المهر. والمراد بالمتعة العطية ، والموسع الذي يكون في سعة لغناه ، والمقتر الذي يكون في ضيق لفقره.

الاعراب :

ما لم تمسوهن ما مصدرية ظرفية ، والتقدير مدة المسيس ، ومتاعا منصوب على المصدر ، أي متعوهن متاعا ، وأو هنا بمعنى الا ان. وحقا صفة لمتاعا ، أي متاعا واجبا ، وفنصف ما فرضتم نصف مبتدأ خبره محذوف ، أي فلهن نصف ، وان تعفوا في موضع رفع بالابتداء ، وخبره أقرب ، والتقدير العفو أقرب للتقوى.

٣٦٥

المعنى :

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً). لا جناح عليكم ، أي لا يلزمكم ، وأو معناها هنا الا ان كقولك : لألزمنك أو تقضيني حقي ، أي الا ان تقضيني ، ومحصل المعنى ان من عقد على امرأة ، ولم يسم لها مهرا في متن العقد ، ثم طلقها قبل الدخول فلا مهر لها ، وانما تستحق عليه المتعة ، وهي عبارة عن منحة يقدمها المطلق لمطلقته ، ويراعى فيها حال الزواج يسرا وعسرا ، فالغني يقدم لها قلادة بألف ـ مثلا ـ والمتوسط سوارا ب ٥٠٠ ، والفقير ثوبا ب ٢٠ ، أو أقل يسيرا أو أكثر ، والى هذا أشار تعالى بقوله : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون الى أنفسهم بطاعة الله سبحانه.

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ). أما إذا عقد عليها وذكر لها مهرا في متن العقد ، ثم طلقها قبل المسيس فلها نصف المهر المسمى بالاتفاق. (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ). أي لا يجوز أن يمنعها عن نصف المهر ، أو عن شيء منه إلا إذا سمحت عن طيب نفس (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ). الذي بيده عقد النكاح هو الزوج ، والمراد ان المطلقة قبل الدخول لا تستحق أكثر من نصف المهر المسمى إلا أن يتكرم الزوج ويتفضل عليها بالجميع ، أو بما زاد عن النصف فالأمر اليه. (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى). هذا خطاب لكل من الرجل والمرأة ، وحث لهما على التساهل والتسامح.

الصلاة الوسطى الآة ٢٣٨ ـ ٢٣٩ :

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩))

٣٦٦

اللغة :

لفظ الوسطى يطلق على المتوسطة مؤنثة أوسط بين شيئين أو أشياء ، ويطلق على الفضلى مؤنثة أفضل من الفضيلة ، والمراد بالقنوت هنا مناجاة الله سبحانه ، والتوجه اليه بذكره ودعائه ، والمراد بالرجال هنا جمع راجل ، وهو الماشي ، والركبان جمع راكب.

الإعراب :

قانتين حال من الواو في قوموا ، ورجالا حال ، أي فصلّوا راجلين ، وكما علمكم ما مصدرية متعلق باذكروا ، أي اذكروا الله كتعليمه إياكم ، وما لم تكونوا ما موصول في محل نصب مفعول ثان لعلمكم.

المعنى :

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ). هي الصلوات الخمس ، والمحافظة عليها تكون بتأديتها في أوقاتها وعلى وجهها. (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى). ذكرها سبحانه بالخصوص بعد العموم للتنبيه الى أهميتها ، كأهمية جبريل وميكال بين الملائكة ، حيث خصهما بالذكر بعد أن جمعهما مع سائر الملائكة في قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) ـ البقرة ٩٨».

واختلفوا في تعيين الصلاة الوسطى : ما هي؟. وتعددت الأقوال فيها الى ثمانية عشر قولا ، كما نقل عن نيل الأوطار .. والأكثر الأشهر على انها صلاة العصر ، وفي ذلك رواية .. وقيل : انها سميت الوسطى لأنها بين صلاتي الليل ، وهما المغرب والعشاء ، وصلاتي النهار ، وهما الصبح والظهر ، أما سبب تخصيصها بالذكر فلأنها تقع وقت اشتغال الناس في الغالب.

ونقل صاحب تفسير المنار عن استاذه الشيخ محمد عبده انه قال : لو لا الإجماع على تفسير الوسطى بالواحدة من الخمس ، لا الخمس بكاملها لفسرها بجميع الصلوات دون استثناء ، وان المراد بالوسطى الفضلى مؤنثة الأفضل من الفضل

٣٦٧

والفضيلة ، لا المتوسطة مؤنثة الأوسط بين شيئين ، وان الله سبحانه حث واهتم بالصلاة الفضلى ، وهي التي يحضر فيها القلب ، وتتجه بها النفس خالصة الى الله وذكره وتدبر كلامه ، لا صلاة المراءين أو الغافلين.

وهذا أحسن ما قرأته في تفسير هذه الآية ، ويؤيده قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ).

(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ). أي داعين الله في صلاتكم بخشوع مستشعرين هيبته وعظمته ، منصرفين عما يشغل القلب عن التوجه اليه سبحانه.

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً). ان الصلاة لا تسقط بحال ، فان تعذر الإتيان ببعض أفعالها أتى المكلف بما تيسر ، فان تعذرت جميع الأفعال صلى بالنطق والإيماء ، فان تعذرا استحضر صورة الصلاة في قلبه .. وأشار سبحانه بقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ) الى ان المكلف قد يأتي عليه وقت الصلاة ، وهو في ميدان القتال ، أو وهو فار من عدو لا يستطيع مقاومته ، وما الى ذلك من العوارض التي لا يستطيع معها تأدية الصلاة على وجهها .. فان عرض شيء من هذا صلى المكلف كيفما تيسر ماشيا أو راكبا الى القبلة أو غيرها.

قال صاحب مجمع البيان : صلاة الخوف من العدو ركعتان في السفر والحضر الا المغرب فإنها ثلاث ركعات ، ويروى ان عليا (ع) صلى ليلة الهرير خمس صلوات بالإيماء ، وقيل بالتكبير ، وان النبي (ص) صلى يوم الأحزاب بالإيماء.

(فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ). أي إذا زال الخوف صلوا صلاة المختار الآمن على الطريقة التي علمكم إياها من قبل.

ترك الصلاة يؤدي الى الكفر :

تكلمنا عن الصلاة في تفسير ما تقدم من آياتها ، والآن نعطف هذه الفقرة على ما سبق ، وربما عطفنا على هذه ما تدعو اليه المناسبة فيما يأتي :

لقد أثبتت التجارب ان ترك الصلاة كثيرا ما يؤدي من حيث العمل الى مظاهر الكفر ولوازمه وآثاره من ان الكافر لا يبالي بارتكاب المحرمات والمنكرات ، كذلك تارك الصلاة يرتكب المحرم والمنكر بلا اكتراث ، وحيثما تجد الكفر تجد الفحش

٣٦٨

والفسق والفجور .. وهذه بعينها من آثار ترك الصلاة ، وليس أدل على هذه الحقيقة من انتشار الفساد في هذا العصر الذي نعيش فيه .. فما هذه الحانات ، ومواخير الدعارة ، وبيوت القمار في بلادنا نحن المسلمين ، وما هذا التفرنج والتبرج في فتياتنا ، وهذا الفساد والانحلال في أخلاق أبنائنا الا نتيجة لترك الصلاة بدليل ان هذه الموبقات لم يكن لها عين ولا أثر حين كانت الصلاة معروفة مألوفة عند الأبناء والبنات .. وبهذا نجد تفسير الحديث الشريف : «العهد بيننا وبينكم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر».

ولا يجديه قوله : أنا مسلم ، ولا كلمة : لا إله إلا الله ، واشهد ان محمدا رسول الله ، ما دامت أعماله أعمال الكافر الملحد.

ان الملحد لا يخجل ولا يحس بوخز الضمير ، لترك الصلاة ، ويعلن ذلك على الملأ ، لأنه لا يدين بها وبمن أوجبها ، وكذلك أكثر شباب هذا العصر يجاهرون بترك الصلاة دون مبالاة ، بل يسخرون منها ومن المصلين .. اذن ، لا فرق بينهم وبين الملحدين.

وبالمناسبة ننقل هذه العظة البالغة عن كتاب الإسلام خواطر وسوانح للفرنسي الكونت هنري دي كاستري ، قال : «قمت برحلة على الخيل في جوف الصحراء بولاية حوران ، وكان معي ثلاثون فارسا يتسابقون جميعا الى خدمتي ، وبينما نحن نسير إذ بصوت ينادي جاء وقت العصر ، فما أسرع أن ترجلت الفرسان ، واصطفوا جماعة للصلاة ، وكنت أسمعهم يكررون بصوت مرتفع : الله أكبر ، الله أكبر. فكان هذا الاسم الإلهي يأخذ مني مأخذا أعظم مما أخذه في ذهني درس علم الكلام ، وكنت أشعر بحرج لا سبب له إلا الحياء والاحساس بأن أولئك الفرسان الذين كانوا يعظمون من شأني قبل لحظة يشعرون الآن ، وهم في صلاتهم أنهم أرفع مني مقاما ، وأعز نفسا ، ولو اني أطعت نفسي لصحت فيهم : أنا أيضا أعتقد بالله ، وأعرف الصلاة .. فما أجمل منظر أولئك القوم في صلاتهم ، وخيولهم بجانبهم ، أرسنتها على الأرض ، وهي هادئة كأنها خاشعة للصلاة ، تلك هي الخيل التي كان يحبها رسول الله (ص) حبا ذهب به إلى أن يمسح خياشيمها بطرف إزاره .. لقد وقفت جانبا أنظر الى المصلين ، وأرى نفسي

٣٦٩

وحيدا تلوح عليّ سمات عدم الايمان ، كأنني من الكلاب أمام الذين يكررون الى ربهم صلوات خاشعة ، تصدر عن قلوب ، ملئت صدقا وإيمانا».

والذين يتوفون منكم الآة ٢٤٠ ـ ٢٤٢ :

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))

الإعراب :

وصية نصب على المصدر ، والتقدير يوصون وصية ، والجملة خبر الذين ، ويجوز رفع وصية على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي فعليهم وصية ، ومتاعا منصوب على المصدر ، أي متعوهن متاعا ، أو جعل الله لهن ذلك متاعا وغير إخراج منصوب على الحال من أزواجهم ، وحقا مفعول مطلق ، أي حقّ حقا.

المعنى :

كانت العادة عند العرب قبل الإسلام ان الرجل إذا مات لم يكن لامرأته من ميراثه شيء إلا النفقة حولا كاملا ، على شريطة أن تعتد في بيت الميت ، فان خرجت قبل الحول سقطت نفقتها ، وهذه الآية اقرار وإمضاء صريح لما كان عليه العرب في حكم من مات زوجها ، وقد حصل هذا الإمضاء في أول الإسلام.

واتفق المفسرون والفقهاء قولا واحدا على نسخ هذه الآية بآيتين : الأولى التي حددت عدة الوفاة بأربعة أشهر وعشرة أيام ، وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ

٣٧٠

يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) ـ البقرة ٢٣٣». والثانية التي جعلت للزوجة نصيبا من تركة زوجها ، وهي قوله سبحانه : (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) ـ النساء ١٢». وعليه ، فان المرأة تنفق على نفسها من نصيبها.

ومع العلم بأن هذه الآية منسوخة قطعا نشرع بتفسيرها كما فعل المفسرون : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ). اي يشرفون على الموت ، من باب تسمية الشيء باسم ما يؤول اليه. (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ). كان يجب ـ قبل النسخ ـ على الذين تظهر لهم أمارات الموت أن يوصوا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولا كاملا بالنفقة والسكنى. (غير إخراج). أي انما تجب لهن النفقة حولا إذا أردن الاقامة في دار الميت ، أما إذا خرجن من تلقائهن فتسقط النفقة ، والى هذا أشار سبحانه بقوله : (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ). انكم غير مسؤولين عن نفقتهن ، ما دمتم لم تخرجوهن قبل الحول .. وبكلمة تجب النفقة لهن بالاقامة الاختيارية الى الحول ، فان خرجن قبله سقط الوجوب.

(فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ). إذا خرجت المرأة من دار الميت فلها ن تترك الحداد ، وتتزين ، وتتعرض للخطّاب ضمن الحدود الشرعية .. والمفهوم من هذا ان التي مات زوجها كانت مخيرة بين الاقامة في بيته حولا ، وتستحق النفقة بذلك ، وبين أن تخرج منه ، ولا شيء لها ، ولا سبيل لأحد عليها.

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). المراد بالمتاع المنحة يعطيها المطلق لمطلقته ، مع مراعاة حاله عسرا ويسرا ، كما سبق في الآية ٢٣٦. ولفظ المطلقات عام يشمل كل مطلقة ، وهي على أربعة أقسام :

١ ـ مطلقة مدخول بها ، وقد فرض لها مهر معين في متن العقد ، وهذه لها كل المهر المفروض. قال تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) ـ البقرة ٢٩».

٢ ـ مطلقة غير مدخول بها ، وقد فرض لها مهر معين ، ولها نصف المهر المفروض. قال سبحانه : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) ـ البقرة ٢٣٧».

٣٧١

٣ ـ مطلقة مدخول بها ، ولم يفرض لها مهر ، ولها مهر المثل بإجماع المسلمين كافة.

٤ ـ مطلقة غير مدخول بها ، ولم يفرض لها شيء في متن العقد ، وهذه لا مهر لها ، وانما لها المتعة ، قال جل جلاله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) ـ البقرة ٢٣٦».

ونستخلص من مجموع الأدلة ان المتعة تجب للمطلقة غير المدخول بها ، ولم يفرض لها مهر فحسب ، أما غيرها فلا تجب لها المتعة ، بل يترك الأمر للمطلق ، ان شاء منحها ، وان شاء منعها ، وقيل : يستحب أن يمنحها. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). أي تعملون ، لأن من لا يتعظ ويعمل بآيات الله وأحكامه بمنزلة من لا عقل له.

حذر الموت الآة ٢٤٣ ـ ٢٤٤ :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤))

اللغة :

ألوف على وزن فعول من أمثلة المبالغة ، ولذا قيل : انها تفيد معنى زائدا على معنى آلاف ، وانها تطلق على ما زاد على العشرة ، وما نقص عنها يقال فيه آلاف ، لا ألوف.

٣٧٢

الإعراب :

وهم ألوف جملة حالية ، وحذر الموت مفعول من أجله.

المعنى :

لقد أطال المفسرون الكلام حول هذه الآية ، وقال أكثرهم : انها تشير إلى قصة تاريخية ، وسودوا الصفحات في تصوير هذه القصة .. فبعضهم قال بما يتلخص : ان قوما من بني إسرائيل أمروا بجهاد عدوهم ، فخافوا الموت بالقتال ، فخرجوا من ديارهم فرارا من الموت ، فأماتهم الله ليعرّفهم انه لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم ليعتبروا ويستوفوا ما بقي من أعمارهم .. ومن أطرف ما قرأته في تفسيرها ان أحد المفسرين قال : ان الموت نوعان : موت عقوبة ، وهو الذي يحيا الميت بعده في هذه الدنيا ، وموت أجل ، وهو الذي لا حياة بعده إلا في الآخرة.

وقال آخرون : فروا من مرض الطاعون ، لا من جهاد عدوهم.

وفسر محيي الدين بن عربي الآية تفسيرا صوفيا على طريقته ، حيث قال : ان الله أماتهم بالجهل ، وأحياهم بالعلم والعقل.

وحمل الشيخ محمد عبده الآية ـ كما في تفسير المنار ـ على انها تمثيل للاعتبار والعظة ، وليست اشارة الى قصة واقعة حقيقة ، وان الهدف من هذه الاشارة هو بيان سنة الله في الأمم ، وان الأمة التي تجاهد ، وتستميت في الدفاع عن حقها تحيا حياة طيبة ، وان الأمة التي تجبن وتستسلم للظلم تحيا حياة الذل والهوان ، فقوله تعالى : (مُوتُوا). أي عيشوا بالاستعباد والاضطهاد ، لجبنكم ، لأن مثل هذا العيش موت لا حياة ، وقوله : (ثُمَّ أَحْياهُمْ). أي عاشوا عيش الحرية والكرامة لجهادهم ودفاعهم عن حقهم.

هذا تلخيص موجز جدا لرأي الشيخ محمد عبده الذي شرحه بكلام طويل ، وهو ـ كما ترى ـ من وحي وعيه النير ، ورسالته الاصلاحية ، لا من وحي دلالة اللفظ. ان رأيه هذا صحيح في ذاته ، وانساني من غير شك ، ولكنه بعيد

٣٧٣

عن مدلول اللفظ ، وقد يظن انه أقرب من قول أكثر المفسرين من هذه الجهة لأن قولهم يعتمد الروايات الاسرائيلية ، والأساطير التي لا سند لها ، ولا تمت الى الحياة بسبب ، وقوله يهدف الى الترغيب في مقاومة الظلم ، والتضحية من أجل الحرية والكرامة ، شأن الموجه المصلح.

وكيف كان ، فان الآية تحتمل معاني شتى .. ومن ثم كثرت فيها الأقوال ، ولا شيء في لفظها يدل على صحة قول بالذات .. أجل ، ان قول الشيخ عبده هو أرجح الأقوال جميعا ، للاعتبار من جهة ، كما أشرنا ، ويساعد عليه السياق من جهة أخرى ، أما الاعتبار فواضح ، واما السياق فقوله تعالى بعد هذه الآية بلا فاصل : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

من ذا الذي يقرض الله الآة ٢٤٥ :

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))

الاعراب :

من اسم استفهام ، والمراد بها هنا الطلب ، ومحلها الرفع بالابتداء ، وذا خبر ، والذي بدل ، وقرضا مفعول مطلق ، ويجوز أن يكون مفعولا به بمعنى المال المقرض ، وفيضاعفه منصوب بأن مضمرة ، ويجوز الرفع عطفا على يقرض ، وأضعافا حال من الهاء في يضاعفه ، ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا بمعنى المضاعفة.

المعنى :

بعد أن أمر الله سبحانه في الآية السابقة بالقتال دفاعا عن الحق حث في هذه

٣٧٤

الآية على بذل المال لتجهيز المجاهدين ، لأن القتال كما يحتاج الى الرجال فانه يحتاج الى المال ، ومن يقرأ عن ميزانية الحروب اليوم للدول الكبرى فلا بد أن تذهله الأرقام .. فلقد بلغت عند بعض الدول الغربية أكثر من أربعمائة الف مليون ولكن هذه الميزانية الضخمة خصصت للاعتداء وسيطرة الظلم ، وفرض الارادة على الشعوب ، والتحكم في مصيرها ومقدراتها .. أما الجهاد الذي حث الله عليه في كتابه فهو الجهاد من أجل احقاق الحق ، والتحصن من عدوان المعتدين.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً). هذا في واقعه أمر بالإنفاق والبذل ، وجيء به بصيغة الاستفهام عن الاقراض ، ليحرك أريحية المؤمنين ، ويملأ القلوب بالعطف ، حتى يسهل عليها البذل ابتغاء مرضاة الله .. وقوله سبحانه : (قَرْضاً حَسَناً) اشارة الى أن المال المبذول يجب أن يكون من الحلال لا من الحرام ، وأن يبذل عن رضا وبقصد التقرب اليه سبحانه ، وأن يصادف موقعه.

ومتى تمت هذه الشروط بكاملها (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً). قال الإمام جعفر الصادق (ع) : لما نزلت الآية ٨٤ من سورة القصص : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قال رسول الله : رب زدني ، فأنزل الله من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، فقال رسول الله : رب زدني ، فأنزل الله سبحانه : فيضاعفه له أضعافا كثيرة. والكثير عند الله لا يبلغه الإحصاء.

(وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ). أي يضيق ويوسع ، والمراد ان الله سبحانه لم يحث عباده على البذل ، لحاجة منه اليهم .. كلا ، فانه الغني ، وهم الفقراء ، وانما الغرض هو إرشادهم وهدايتهم الى عمل الخير. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). فيجازى المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته.

قصة طالوت الآة ٢٤٦ ـ ٢٥٢ :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ

٣٧٥

لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ

٣٧٦

قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢))

قدمنا في تفسير الآية ٢ ان القرآن كتاب هدى ودين ، وأخلاق وشريعة ، لا كتاب قصص وتاريخ ، وفلسفة وعلوم طبيعية ، وانه سبحانه إذا أشار الى حادثة تاريخية فإنما يشير اليها للعبرة والموعظة ، ويكتفي منها بمحل الشاهد ، وموضع الفائدة ، ولا يأتي بها مفصلة من جميع جهاتها ، وقد جاء التنبيه الى ذلك في العديد من الآيات منها : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) ـ يوسف ١١١». ومنها : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ـ آل عمران ١٣٧. إلى غير ذلك من الآيات .. قال الشيخ محمد عبده :

«ان محاولة جعل قصص القرآن ككتب التاريخ بإدخال ما يروون فيها على انه بيان لها هي مخالفة لسنة القرآن ، وصرف للقلوب عن موعظته ، واضاعة لمقصده وحكمته ، فالواجب أن نفهم ما فيه ، ونعمل أفكارنا في استخراج العبر منه ، وننزع من نفوسنا ما ذمه وقبحه ، ونحملها على التحلي بما مدحه واستحسنه».

وقد أشار سبحانه الى قصة طالوت في الآية ٢٤٦ ـ ٢٥٢ ، ونذكرها نحن كما دلت عليها ألفاظ هذه الآيات ، ثم نشير الى موضع العبرة والعظة.

٣٧٧

كان لموسى (ع) بعد موته خلفاء من الأنبياء يقيمون أمر الله في بني إسرائيل الواحدتلو الآخر ، ومن هؤلاء الخلفاء نبي ذكره القرآن ، ولم يسمه ، ولكنه كان في عهد داود (ع) ، كما يستفاد من الآيات ، وقال كثير من المفسرين : انه صمويل ، وفي ذات يوم أتاه جماعة من بني إسرائيل ، وقالوا له : أقم علينا أميرا نصدر عن رأيه في تدبير الحرب ، ونقاتل معه في سبيل الله ، فقال لهم نبيهم ـ وكان قد سبر أحوالهم ـ اني أتوقع تخاذلكم إذا كتب عليكم القتال ، ودعيتم الى الجهاد.

قالوا : كيف نتخاذل ، وقد أخرجنا العدو من ديارنا ، وحال بيننا وبين أبنائنا؟!. فاستخار الله نبيهم فيمن يصلح للقيادة ، فأوحى الله سبحانه : اني قد اخترت عليهم طالوت ملكا ، وقيل انه سمي طالوت لطوله ، ولما أخبرهم النبي بأن الله قد اختار طالوت ، قالوا : كيف يكون له الملك علينا ، وهو غير عريق النسب ، وفارغ اليد من المال؟!.

فقال النبي : ان زعامة الجيش لا تحتاج الى نسب ونشب ، وانما تحتاج الى الشجاعة ، والمعرفة بتصريف الأمور ، والله سبحانه قد منح طالوت الكفاءة العلمية والخلقية ، والقدرة الجسمية ، وسائر مؤهلات الزعامة والرئاسة .. فقالوا : نريد معجزة تدل على مكانته هذه .. قال : آية ذلك أن يعود إليكم التابوت ، تأتيكم به الملائكة بأمر الله تعالى .. قيل : ان هذا التابوت كان فيه بقية ألواح موسى وعصاه ، وثيابه وشيء من التوراة ، وكان قد سلبهم إياه الفلسطينيون في بعض المعارك الحربية .. وقيل : بل رفعه الله الى السماء بعد وفاة موسى .. ولما جاء التابوت بمعجزة من الله سبحانه صحت عندهم العلامة ، وأقروا لطالوت بالسلطان والقيادة.

وقادهم طالوت الى جهاد عدوهم ، وأخبرهم بأنهم سيمرون على نهر يمتحن به اخلاص المخلصين منهم ، فمن كان صابرا محتسبا فلا ينهل منه الا بمقدار ما يأخذه باليد ، فمن امتثل فهو المخلص الذي يوثق به ، أما الذي ينهل ، حتى يرتوي فلا معول عليه في الحرب والجهاد ، ولما مروا على النهر عصوا كعادتهم ، وشربوا الا نفرا قليلا ثبتوا على الصدق والايمان.

٣٧٨

ولما التقى الجمعان : بنو إسرائيل بقيادة طالوت ، والفلسطينيون بقيادة جالوت خاف أكثر الاسرائيليين ، وقالوا لطالوت : لا طاقة لنا بجالوت وجنوده. وقال المؤمنون القليلون منهم الذين لم يشربوا من النهر : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، ودعوا الله سبحانه أن يمنحهم الصبر والثبات ، والنصر على العدو ، فاستجاب لهم ربهم بعد أن علم منهم العزم والصدق في النية ، وقتل داود جالوت ، وانهزم العدو شر هزيمة ، وصار لداود بقتل جالوت من الصيت والسمعة ما ورث به ملك بني إسرائيل. وآتاه الله بعد ذلك النبوة ، وأنزل عليه الزبور ، وعلمه صنعة الدروع ، وعلوم الدين ، وفصل الخطاب كما قال تعالى : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ).

هذا ملخص ما دلت عليه الآيات الكريمة ، أما زواج داود ببنت طالوت ، ومحاولة هذا الغدر بزوج ابنته ، ومقلاع داود وأحجاره ، وقصته مع السبع والدب ، أما هذه وما اليها مما جاء في كتب التفاسير فلا سند لها الا الاسرائيليات.

أما العبرة من الاشارة الى هذه القصة وتدبرها فهي ان الذي تجب له القيادة من يتمتع بالكفاءة العلمية والخلقية ، لا صاحب الحسب والنسب ، والجاه والمال ، وان النصر والغلبة تكون بالصبر والايمان ، لا بكثرة العدد ، وان السبيل الى معرفة الطيب والخبيث هي التجربة والابتلاء.

وبعد تلخيص القصة ، والعبرة بها نشرع بتفسير الجمل والكلمات :

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى). ألم تر خطاب في ظاهره موجه الى النبي ، وفي المعنى الى جميع السامعين .. وهذه الصيغة يخاطب بها العالم بالقصة ، وغير العالم بها ، فتقول له : ألم تر إلى فلان أي شيء فعل ، وأنت تريد أن تعرفه بما فعل ، والملأ اسم جمع ، لا واحد له من لفظه ، كالقوم والجيش والرهط. (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ). قيل : ان النبي الذي قالوا له هذا القول هو صمويل.

٣٧٩

(قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا). هل هنا للتقرير ، وعسيتم بالفتح ، ومعناها المقاربة ، والمراد بها التوقع ، أي هل الأمر كما أتوقعه أنا منكم من التخاذل وترك القتال إذا فرض عليكم؟! (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا). أنكروا أن يكون لهم أي داع لترك الجهاد ، وبينوا السبب الذي يدعوهم للقتال ، وهو طردهم من ديارهم ، وبعدهم عن أبنائهم.

(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ). وأكثر الناس على هذا الوصف ، يقررون ويصممون على الاقدام والعمل ، حتى إذ جد الجد تواروا في جحورهم ، وأبلغ ما قيل في ذلك كلمة لسيد الشهداء الحسين بن علي (ع) : الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم ، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون.

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ). هذا المنطق لا يختص ببني إسرائيل ، فلقد كان الناس ، وما زال أكثرهم يزعمون ان المناصب العالية يجب أن تكون لأهل المال والجاه : (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) ـ الفرقان ٤١».

(قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ). أي ان الرئاسة لا تكون بالمال والنسب ، بل بالعلم والإخلاص ، والمراد ببسطة الجسم السلامة من الأمراض ، لأن المرض يمنع من القيام بواجبات الرئاسة ، وقيل : ان طالوت كان أطول من الرجل المعتاد بمقدار ذراع اليد.

مشيئة الله وسلطان الجور :

(وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ). ان الله سبحانه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير .. ما في ذلك ريب ، ولكنه جلت حكمته عادل

٣٨٠