التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

كتب عليكم الصيام الآة ١٨٣ ـ ١٨٥ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥))

الإعراب :

ذكر الرازي أربعة أقوال في اعراب (أياما معدودات). وأطال الكلام في ذلك صاحب مجمع البيان ، ثم اختار ان (أياما) ظرف متعلق بالصيام على ان تكون الكاف في (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) بمعنى مثل صفة لحال محذوف ، والتقدير كتب عليكم الصيام مفروضا مثل ما فرض على من كان قبلكم. وعدة مبتدأ محذوف الخبر ، والتقدير فعليه عدة ، وطعام بدل من فدية ، ومصدر أن تصوموا في موضع رفع بالابتداء ، وخبره خير لكم ، وشهر رمضان شهر خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم شهر رمضان ، ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية

٢٨١

والألف والنون ، وشهد منكم الشهر ، الشهر مفعول فيه ، أي في الشهر ، فليصمه ، أي يصم فيه.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). الصوم من أهم العبادات ، وهو واجب بضرورة الدين ، تماما كوجوب الصلاة والزكاة ، وفي الحديث «بني الإسلام على خمس : شهادة ان لا إله الا الله ، واقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام شهر رمضان ، وحج البيت لمن استطاع اليه سبيلا».

وأفتى الفقهاء ان من أنكر وجوب الصوم فهو مرتد يجب قتله ، ومن آمن بوجوبه ، ولكن تركه تهاونا واستخفافا عزّر بما يراه الحاكم الشرعي ، فان عاد عزر ثانية ، فان عاد قتل ، وقيل : بل يقتل في الرابعة.

والصوم عبادة قديمة افترضها الله سبحانه على من سبق من الأمم بصورة مختلفة عن صومنا نحن المسلمين كمّا وكيفا وزمنا ، فالتشبيه هنا تشبيه الفريضة بالفريضة بصرف النظر عن الصفة وعدد الأيام ، ووقتها .. فان تشبيه شيء بشيء لا يقتضي التسوية بينهما من كل وجه.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). قال كثير من المفسرين : ان هذه الجملة تشير الى الحكمة من وجوب الصوم ، وهي أن يتمرن الصائم على ضبط النفس ، وترك الشهوات المحرمة ، والصبر عنها ، فقد جاء في الحديث : «الصيام نصف الصبر». وقال الإمام أمير المؤمنين (ع) : لكل شيء زكاة ، وزكاة البدن الصيام. وقال : فرض الله الصيام ابتلاء لاخلاص الخلق .. وبديهة ان كل أوامر الله ونواهيه هي ابتلاء لاخلاص الخلق ، ولكن الصوم أشق التكاليف ، لأن فيه مغالبة النفس ، وجهادها ، وضبطها عما تميل اليه من الطعام والشراب وشهوة الجنس.

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ). هي ايام رمضان ، لأن الله لم يكتب علينا غيرها.

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ

٢٨٢

فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ). ذكر الله في هذه الآية ثلاث مسوغات للإفطار في رمضان : المرض ، والسفر ، والشيخوخة.

والمرض المسوغ للإفطار هو أن يكون الإنسان مريضا بالفعل ، وإذا صام ازداد مرضه ، بحيث تشتد آلامه ، أو تزيد أيامه ، أو كان صحيحا ، ولكن يخشى إذا هو صام أن يحدث له الصوم مرضا جديدا ، أما مجرد الضعف والهزال فلا يسوغ الإفطار ما دام محتملا ، والجسم سالما. وإذا أصر المريض على الصوم مع تحقق الضرر واقعا فسد صومه ، وعليه القضاء ، تماما كما لو أفطر بلا عذر.

وثبت عن طريق السنة والشيعة ان رسول الله (ص) قال : ليس من البر الصيام في السفر. وفي تفسير المنار انه اشتهر عن الرسول الأعظم قوله : «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر». وممن ذكر هذا الحديث ابن ماجة والطبري ، وقال الرازي : ذهب قوم من علماء الصحابة الى انه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ، ثم يصوما عدة من ايام أخر ، وهو قول ابن عباس وابن عمر ، واختيار داود بن علي الأصفهاني.

وعلى هذا يكون الإفطار في السفر عزيمة ، لا رخصة ، أي لا يجوز للمسافر أن يصوم بحال ، لعدم الأمر بالصوم ، وأقوى الأدلة كلها على ذلك ان الله سبحانه قد أوجب القضاء بنفس السفر والمرض ، حيث قال : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من ايام أخر ، ولم يقل فأفطر فعدة من ايام أخر ، وتقدير أفطر خلاف الظاهر ، والكلام لا يوجبه ، لأنه يستقيم من غير تقدير.

أما المسوغ الثالث للإفطار ، وهو الشيخوخة فقد أشار اليه سبحانه بقوله : «وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين». فقد نزل هذا الحكم في خصوص المسن الضعيف الهرم رجلا كان أو امرأة ، والطاقة اسم لمن كان قادرا على الشيء مع الشدة والمشقة ، وهذا هو المخير بين الصوم ، والإفطار مع الفدية ، وهي اطعام مسكين ، وفي ذلك روايات صحيحة عن أهل البيت (ع).

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ). أي من زاد في الإطعام على مسكين واحد ، أو اطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب فهو خير .. وله الخيار في أن يدعو المسكين المحتاج ، فيطعمه ، حتى يشبع ، أو يعطيه من الدقيق والحبوب التي يأكل منها أكثر من ٨٠٠ غرام بقليل ، ويجوز أن يعطيه الثمن

٢٨٣

دراهم على شريطة أن يقول له : اجعله ثمن وجبة لك من الطعام.

(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ). أي ان الشيخ والشيخة الضعيفين الهرمين ، وان كانا مخيرين بين الإفطار والصيام إلا ان تجشمهما الصيام أفضل عند الله من الفطر مع الفدية.

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ). قال صاحب مجمع البيان : لما خص الله الصوم بشهر رمضان بيّن ان الحكمة في ذلك ان القرآن نزل فيه ، وعليه مدار الدين والايمان .. ثم نقل صاحب المجمع عن النبي (ص) بطريق السنة والشيعة ان صحف ابراهيم (ع) نزلت لثلاث مضين من شهر رمضان ، وتوراة موسى (ع) لست مضين منه ، وإنجيل عيسى (ع) لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وزبور داود لثمان عشرة ليلة مضت من رمضان ، والقرآن نزل على محمد (ص) لأربع وعشرين منه.

وتسأل : ان قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن يدل بظاهره ان القرآن نزل بكامله في شهر رمضان ، مع العلم بأنه نزل على دفعات في مدة البعثة كلها ، وهي ثلاث وعشرون سنة؟.

الجواب : ان المراد منه ان انزاله ابتدأ في شهر رمضان ، لا انه انزل كاملا فيه ، وسميت الليلة التي أنزل فيها ليلة القدر ، أي الشرف. قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ). هذا ، الى أن لفظة القرآن تطلق على ما بين الدفتين ، وعلى بعضه ، أما قول من قال : ان الله أنزل القرآن من اللوح المحفوظ الموجود فوق السموات السبع الى سماء الدنيا جملة واحدة في ليلة القدر ، ثم أنزله على محمد (ص) بالتفريق ، أما هذا القول فلا دليل عليه.

(هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ). الفرقان هو الذي يفرق بين الحق والباطل ، والخير والشر ، وتكلمنا في تفسير الآية ٢ عن معنى الهدى ، وان القرآن لم يكن كتاب فلسفة ، أو تاريخ ، أو علوم طبيعية ، وانما هو بصائر وهدى ورحمة .. وقوله تعالى : (هُدىً لِلنَّاسِ) ، يدل على ما في القرآن من مواعظ وحكم ووعد ووعيد يفهمه جميع الناس ، ولا يختص علمه بالمجتهدين والمتخصصين.

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). أي حضر في بلده ، ولم يسافر في شهر

٢٨٤

رمضان فعليه أن يصوم أيامه ، ولا يجوز أن يفطر من غير عذر ، ويدل على ان المراد من شهد حضر قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) .. وأعاد ذكر المرض والسفر للتأكيد بأن شهر رمضان يجوز فيه الإفطار في حالات معينة ردا على المتزمتين الذين يظنون ان الإفطار لا يجوز بحال .. (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). ظاهر السياق ان هذه الجملة تعليل لجواز الإفطار حال المرض والسفر والشيخوخة ، ولكنها في الحقيقة تعليل لجميع الأحكام ، فقد جاء في الحديث : «يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا» .. ومن قال : ان الإفطار في السفر عزيمة ، لا رخصة فسر قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) بأن الله يريد منكم الإفطار في السفر والمرض ، ولا يريد منكم الصيام ، ومن قال ان الإفطار رخصة ، لا عزيمة فسره بأن الله سبحانه يريد أن تكونوا في سعة من أمركم ، وتختاروا ما هو الأيسر لكم ، فان كان الإفطار أيسر فهو أفضل ، وان كان الصيام أيسر ، كمن يسهل عليه الصيام في رمضان ، ويشق عليه القضاء فالصيام أفضل ، وليس من شك ان الاعتبار ورعاية ظاهر اللفظ يرجحان هذا المعنى على المعنى الأول .. ولو لا الروايات الصحيحة عن أهل البيت عن جدهم (ص) لجزمنا بأن الإفطار في السفر رخصة ، لا عزيمة.

(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ). هذا تعليل للقضاء الذي أوجبه الله تعالى بقوله : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي عليكم أن تقضوا الصوم بعدد الأيام التي أفطرتم فيها من رمضان بسبب المرض والسفر لتتم عدة أيام الشهر كاملة ، وتارة تكون ٣٠ يوما ، وتارة ٢٩ يوما.

(وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). أي ان الله سبحانه بيّن لنا أحكام دينه لنعظمه ونشكره. قال صاحب مجمع البيان : «المراد بقوله لتكبروا الله التكبيرات عقيب صلاة المغرب ليلة العيد ، وصلاة العشاء ، وصلاة الصبح ، وصلاة العيد على مذهبنا». يشير بالتكبيرات الى هذه الصيغة التي يرددها المصلون جماعة بعد صلاة العيد ، وهي الله أكبر الله أكبر لا إله الا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا.

٢٨٥

اجيب دعوة الداعي الآة ١٨٦ :

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦))

الإعراب :

دعان بياء المتكلم ، وقد حذفت للتخفيف ، تماما كقوله تعالى : (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) ، أي فاعبدوني.

المعنى :

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ). قيل : ان أعرابيا جاء الى النبي (ص) ، وقال له : أقريب ربنا فنناجيه ، أو بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية جوابا عن سؤال الاعرابي .. وسواء أصح هذا القول ، أم لم يصح فانه يتناسب مع الموضوع.

والدعاء من أفضل العبادات ، وقد جاء الأمر به ، والحث عليه في الكتاب والسنة ، لأنه اظهار للعبودية ، والافتقار اليه سبحانه. وقد تكلمنا عنه مطولا في كتاب «بين الله والإنسان».

وتسأل : ان ظاهر قوله تعالى : (إِذا دَعانِ) بعد قوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) تحصيل حاصل ، لأنه أشبه بقول القائل : انظر الى القاعد إذا كان قاعدا ، واصغ الى المتكلم إذا كان متكلما؟.

الجواب : ان المراد بإذا دعان الدعاء الصادر عن قلب مخلص صادق في دعائه ، لا مجرد الدعاء باللسان ، فهو أشبه بقول من قال : أكرم العالم إذا كان عالما. يريد العالم حقا وواقعا ، لا من يتسم بسمات العالم فقط.

سؤال ثان معروف ومشهور ، وهو ان الظاهر من قوله تعالى : أجيب دعوة

٢٨٦

الداعي وقوله : ادعوني استجب لكم ، ان الله يستجيب لكل من دعاه ، مع العلم بأن الإنسان يبالغ في الدعاء والتضرع فلا يجاب؟.

وأجاب المفسرون عن ذلك باجوبة شتى أنهاها بعضهم الى ست ، واتفقوا جميعا على ان المؤمن المطيع لله تستجاب دعوته دون سواه ، ويبطل هذا القول ان الله استجاب دعوة إبليس .. قال أنظرني الى يوم يبعثون قال انك من المنظرين.

ومهما يكن ، فان الجواب عن هذا السؤال يستدعي التفصيل على الوجه التالي : ١ ـ أن يطلب العبد من ربه ما يتنافى مع العادات وسنن الطبيعة ، كطلب الرزق من غير السعي ، والعلم من غير تعلم ، وما الى ذاك من إيجاد المسببات بلا أسبابها ، ودخول البيوت من حيطانها ، لا من أبوابها .. وليس هذا من الدعاء في شيء ، أو هو من دعاء الجاهل بالله وحكمته وسننه ، فان لله سنة في خلقه ، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) ـ الفتح ٢٣.

٢ ـ أن يطلب في دعائه التوفيق والهداية الى احكام الدين ، وعمل الخير ، وفعل الواجبات ، وترك المعاصي والمحرمات : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، واجتناب الشرور والآفات : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) ، وان يهيئ له الله أسباب النجاح في الرزق والعلم والصحة : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) ، على أن يعمل الداعي جاهدا مخلصا متوكلا على الله وحده .. وهذا هو مسؤول الأنبياء والصالحين ، والمقصود من دعائهم.

٣ ـ ينبغي قبل كل شيء أن نتنبه ، ولا نذهل عن هذه الحقيقة التي نراها ونشاهدها بالعيان ، وهي ان الله سبحانه يعطي من سأله ، ومن لم يسأله تحننا منه وكرما ، وانه يهب الملك لمن يشاء ، ويمنع الملك عمن يشاء ، ويذل من يشاء ، ويعز من يشاء من غير دعاء .. وعليه فليس معنى قوله تعالى : أجيب دعوة الداعي إذا دعان أنه لا يعطي إلا من دعاه ، ولا معنى قوله : ان رحمة الله قريب من المحسنين ، أن رحمة الله هذه بعيدة عن المسيئين .. كلا .. ان رحمته وسعت كل شيء ، وما كان عطاء ربك محظورا.

وتجمل الاشارة الى أنه قد جاء في بعض الروايات دعاء لوجع البطن ، وآخر لوجع الظهر ، وثالث للعين والضرس ، وما اليه .. وهذه الروايات اما موضوعة ،

٢٨٧

لأنها تخالف الواقع ، ولا تغني شيئا ، واما أن يكون القصد منها السعي في العلاج مع التوكل على الله .. قيل : ان عليا أمير المؤمنين (ع) مر بأعرابي ، وإلى جنبه ناقة جرباء ، فقال له الإمام : ألا تداويها؟ قال : بلى ، يا أمير المؤمنين ، اني أداويها. قال الإمام : وبماذا؟ قال الاعرابي : بالدعاء. قال الإمام : ضع مع الدعاء شيئا من القطران.

(فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) قال الرازي في تفسيره : يقول الله سبحانه لعبده : أنا أجيب دعاءك ، مع اني غني عنك مطلقا ، فكن أنت أيضا مجيبا دعائي ، مع انك محتاج إلي من كل الوجوه ، فما أعظم هذا الكرم!

احل لكم ليلة الصيام الآة ١٨٧ :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧))

اللغة :

ليلة الصيام هي الليلة التي يصبح المرء منها صائما ، والرفث في الأصل القول الفاحش ، والمراد به هنا الجماع ، واللباس معروف ، وهو الثوب ، والمراد به

٢٨٨

في الآية الملابسة من لابسه بمعنى خالطه ، والمراد بالخيط الأبيض الفجر ، وبالخيط الأسود الليل.

المعنى :

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ). أي يجوز للصائم أن يأتي امرأته في ليلة الصيام ، وليلة الصيام تشمل جميع ليالي رمضان ، ولا تختص بليلة دون أخرى ، ولا بجزء من الليلة دون جزء ، للإطلاق وعدم التقييد. وكنّى الله سبحانه بالرفث عن الجماع تنزيها في التعبير ، كما كنّى عنه في آيات أخر باللمس والإفضاء والدخول والغشيان والمقاربة ، قال تعالى : (لامَسْتُمُ النِّساءَ). أفضى بعضكم الى بعض. دخلتم بهن. فلما تغشاها. ولا تقربوهن حتى يطهرن. قال ابن عباس : ان الله حيي يكني بما شاء.

(هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ). قال بعض المفسرين : اللباس هنا كناية عن المعانقة. وقال الرازي : ان الربيع قال : المراد هن فراش لكم ، وأنتم لحاف لهن .. وهذا تماما كترجمة بعض المستشرقين : هن بنطلون لكم وأنتم بنطلون لهن .. والصحيح ان اللباس هنا مصدر لابس ، بمعنى خالط ، والقصد بيان حكمة الترخيص في مباشرة النساء ليلة الصيام ، وهي ان شدة المخالطة والمعاشرة بين الزوجين تجعل من العسير على الرجل أن يصبر عن امرأته.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ). الخطاب للبعض لا للكل ، ونستكشف من لفظ الخيانة والتوبة والعفو ان البعض قد صدرت عنه معصية لله ، ونستكشف نوع هذه المعصية من قوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) ، إذ المفهوم منه انه قد أحل لكم من الآن مباشرة نسائكم ، ولازم هذا ان المباشرة كانت محرمة من قبل ، ثم صارت حلالا.

وقال أكثر المفسرين : ان الله أحل للصائم في أول الشريعة أن يأكل ويشرب ويجامع في ليلة الصيام بشرط أن لا ينام ، أو يصلي صلاة العشاء ، فإذا نام في الليل أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع ، حتى تدخل الليلة التالية ، وان بعض الصحابة لم يتقيد بهذا الشرط ، وجامع امرأته بعد ان استيقظ من

٢٨٩

رقاده ، ثم ندم ، واعترف للنبي (ص) بذنبه ، فنزلت الآية ..

ومهما يكن ، فان للنفس ميولا لا يملك الإنسان كبح جماحها في كثير من الأحيان ، فيشبعها مستخفيا من الناس ، أو محرفا دين الله ، فالأفضل تحليل الشيء المرغوب ، ان كان هناك وجه للتحليل ، كي لا يتمادى الإنسان في الغي ، وتجره المعصية الأولى الى المعصية مرات ومرات ، وبالتالي الى الاستخفاف واللامبالاة بالدين واحكام الله.

(وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) من التمتع بالنساء ليلة الصيام الذي كان محرما عليكم من قبل. (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ). أي أبيح لكم الأكل والشرب ، كما أبيح لكم الجماع من أول الليل ، حتى مطلع الفجر ، وعن رسول الله (ص) : «الفجر فجران : فأما الذي كأنه ذنب السرحان ، فانه لا يحل شيئا ، ولا يحرمه ، واما المستطيل الذي يأخذ في الأفق ـ أي ينتشر فيه ـ فانه يحل الصلاة ، ويحرم الطعام».

(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ). مبدأ الصيام أول الفجر ، ومنتهاه أول الليل ، ويدخل الليل بمجرد مغيب الشمس ، ولكن مغيبها لا يعرف بمواراتها عن العيان ، بل بارتفاع الحمرة من المشرق ، لأن المشرق مطل على المغرب ، وعلى هذا تكون الحمرة المشرقية انعكاسا لنور الشمس ، وكلما أوغلت الشمس في المغيب تقلص هذا الانعكاس. أما ما نسب الى الشيعة من أنهم يؤخرون صلاة المغرب والإفطار في رمضان حتى تشتبك النجوم فهو كذب وافتراء ، فقد قيل للإمام الصادق (ع) : ان أهل العراق يؤخرون المغرب حتى تشتبك النجوم ، قال : هذا من عمل عدو الله أبي الخطاب.

(وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ). في كتب الفقه باب خاص ، اسمه باب الاعتكاف ، وفي الغالب يذكره الفقهاء بعد باب الصوم ، ومعنى الاعتكاف في الشرع أن يقيم الإنسان في المسجد الجامع ثلاثة أيام بليلتين على الأقل صائما ، على أن لا يخرج من المسجد إلا لحاجة ماسة ، ويعود بعد قضائها مباشرة ، ويحرم على المعتكف مباشرة النساء ليلا ونهارا ، حتى التقبيل واللمس بشهوة .. والنهي هنا متعلق بمباشرة النساء إطلاقا في المسجد وخارجه ، فإذا خرج المعتكف من المسجد ، وجامع ليلا ، واغتسل ، ثم رجع الى المسجد فقد

٢٩٠

ارتكب محرما ، وعليه كفارة من أفطر في شهر رمضان متعمدا : عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو اطعام ستين مسكينا.

اكل المال بالباطل الآة ١٨٨ :

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨))

المعنى :

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ). الخطاب لجميع المكلفين ، والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض ، تماما كقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، أي لا يقتل بعضكم بعضا ، وفيه اشعار بوحدة الانسانية وتكافلها ، وانها بمنزلة الجسم الواحد ، والفرد عضو من أعضائها يصيبه ما أصابها ، وبالعكس.

والمراد بالأكل مطلق التصرف في المال المأخوذ بطريق لا يقره الشرع ، ولفظة بينكم بالآية تخصصها وتقيدها بالمال المأخوذ عن طريق المعاملات المحرمة ، كالمعاوضات الربوية ، أو القائمة على محرم كالخمر والخنزير والميتة ، أو الغش والاحتيال ، وما الى ذلك مما لا يقره الشرع «ومثلها قوله تعالى في الآية ٢٨ النساء : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ). أما حرمة المال المأخوذ بالسلب والغصب والسرقة واليمين الكاذبة ، وما إلى ذاك فتستفاد من دليل آخر .. ومن أجل هذا استدل الفقهاء بالآيتين على بطلان كل معاملة حرم الله المال المأخوذ بسببها. وهذه الآية تدل دلالة صريحة وواضحة على ان الإسلام يقر الملكية الفردية.

(وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ). تدلوا عطف على لا تأكلوا ، والمراد بالإثم هنا الرشوة بقرينة السياق ، والمعنى المقصود هو النهي عن رشوة الحكام للوصول الى أكل أموال الناس.

٢٩١

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). أي لا ترتكبوا هذا الإثم وأنتم عالمون بقبحه ، وليس من شك ان الاقدام على القبيح مع العلم أقبح من الاقدام مع الشبهة .. وفي الحديث : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة». فبالأولى إذا كان عالما بالتحريم.

والرشوة من أعظم المحرمات ، حتى على الحكم بالحق ، فقد لعن الله ورسوله الراشي والمرتشي والماشي بينهما بالرشوة ، وفي رواية ان الرشوة كفر بالله العظيم ، وفي ثانية انها شرك.

حكم القاضي الفاسق :

قال الحنفية : ان حكم القاضي الفاسق نافذ ، فقد جاء في متن الكتاب المعروف بابن عابدين ج ٤ ص ٣١٢ طبعة ١٣٢٥ ه‍ باب القضاء ما نصه بالحرف : «الفاسق أهل للشهادة ، فيكون أهلا للقضاء». وفي فتح القدير ج ٥ ص ٤٥٤ باب القضاء : «الوجه تنفيذ حكم كل من ولاه سلطان ذو شوكة ، وان كان جاهلا فاسقا ، وهو ظاهر المذهب عندنا».

وأجمع الشيعة الإمامية كلمة واحدة على ان الفاسق لا يجوز أن يتولى القضاء ، وان حكمه لا ينفذ إطلاقا بالغا ما بلغ من العلم .. وتشدد جماعة من الفقهاء الإمامية ، حيث ذهبوا الى ان صاحب الحق لا يجوز له أن يرفع دعواه الى غير القاضي العادل ، حتى ولو انحصر تحصيل حقه بهذا الترافع ، بحيث لولاه لذهب هدرا وضياعا ، وإذا خالف صاحب الحق ، ورجع الى القاضي غير العادل ، وحكم له هذا بالحق فلا يجوز لصاحبه أن يأخذ الشيء المحكوم به ، وان كان حقا ، عملا بقول الإمام جعفر الصادق (ع) : «فإنما يأخذه سحتا ، وان كان حقا ثابتا له».

وقال أكثر الفقهاء الإمامية : ان لصاحب الحق أن يستعين بغير العادل للحصول على حقه إذا انحصر بالرجوع اليه ، بحيث لا يجد وسيلة سواه من غير فرق بين أن يكون الحق دينا أو عينا ، لأن دفع الضرر عن النفس جائز ، وقد يجب ، ولا يتم الا بالرجوع الى غير العادل ، كما هو المفروض ، فيكون جائزا أو

٢٩٢

واجبا ، أما الإثم والحرام فهو على من امتنع عن دفع الحق ، لا على من أخذ حقه.

حكم الحاكم لا يغير الواقع :

إذا تحاكم اثنان عند الحاكم المجتهد العادل ، وحكم لغير صاحب الحق ، لعجز هذا عن الإثبات فلا يجوز للخصم المحكوم له أن يأخذ الشيء المحكوم به ، لأن حكم الحاكم لا يغير الواقع ، وينفذ ظاهرا ، لا واقعا ، قال الرسول الأعظم (ص) : «انما انا بشر مثلكم يوحى إليّ ، وأنتم تختصمون الي ، ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض ، فاقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له شيئا من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار».

ولكن أبا حنيفة قال بعكس ذلك تماما ، فقد نقل عنه صاحب تفسير المنار عند التعرض لهذه الآية انه قال : إذا حكم القاضي بفسخ النكاح بين الزوجين اعتمادا على شهادة الزور حرم عليهما معا ان يعيشا عيشة الأزواج ، وإذا شهد شهود زور بأن فلانا عقد على فلانة ، وحكم القاضي بصحة العقد حل للرجل المحكوم له أن يدخل بها بغير عقد اكتفاء بحكم القاضي الذي يعلم انه بغير حق.

يسألونك عن الأهلة الآة ١٨٩ :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩))

اللغة :

الاهلة جمع هلال ، وهو في واقعه جرم واحد ، وانما صح الجمع بالنظر الى تعدد الأشهر ، والمواقيت جمع ميقات ، وهو الزمن المقدر المعين.

٢٩٣

الاعراب :

للناس متعلق بمحذوف صفة للمواقيت ، والباء في بأن تأتوا زائدة ، لأنها وقعت بعد النفي ، والمصدر المنسبك في موضع نصب خبر ليس.

المعنى :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ). يحتمل هذا السؤال أمرين إذا نظرنا اليه مستقلا عن جوابه : الأول أن يكون السؤال عن السبب الطبيعي لاختلاف ما يبدو أولا من دقة الهلال : ثم تمامه بدرا ، ثم يعود كما كان ، وهكذا دواليك. الاحتمال الثاني أن يكون السؤال عن الحكمة في ذلك ، لا عن السبب الطبيعي ، أما إذا نظرنا الى السؤال وجوابه معا ، وهو (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) تعين أن يكون السؤال عن الحكمة فقط ، دون السبب الطبيعي ، وهذا هو الأرجح عملا بمبدإ مطابقة الجواب للسؤال.

أما قول من قال : انهم سألوا عن السبب الطبيعي ، وان الله سبحانه أمر نبيّه أن يجيبهم ببيان الحكمة تعريضا بأن سؤالهم في غير محله ، لأنهم عاجزون عن إدراك السبب الطبيعي الذي يحتاج الى دراسة طويلة وعميقة ، ومقدمات علمية كثيرة ، وان الأجدر بهم أن يسألوا عن الحكمة والفائدة في اختلاف الاهلة ، حيث يمكنهم فهمها وهضمها ـ أما هذا القول فمجرد احتمال لا يستند إلى دليل سوى الاستحسان.

وتقول : ان الدليل موجود ، وهو قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) ، لأن معناه ان سؤالكم عن السبب الطبيعي كمن يطلب دخول البيت من ظهره ، أما سؤالكم عن الحكمة فهو كمن يطلب دخول البيت من بابه.

الجواب : أولا ان هذا اجتهاد في تأويل اللفظ ، وليس تفسيرا لظاهر اللفظ .. ثانيا لقد ثبت ان هذه الجملة نزلت في ما كان يفعله أهل الجاهلية إذا أحرموا من إتيان البيت من ظهره .. والتفصيل فيما يلي.

٢٩٤

ومهما يكن ، فان الله سبحانه أمر نبيه الأكرم (ص) أن يجيبهم بأن الحكمة من اختلاف الاهلة هي توقيت مصالحهم وأمورهم الدنيوية كالديون والإجارات ، وأمورهم الدينية كالحج والصوم. وبكلمة ان الجواب يجري مجرى قوله تعالى : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) ـ يونس ٥».

(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها). قال أكثر المفسرين : ان أهل الجاهلية كان إذا أحرم أحدهم نقب نقبا في ظهر بيته ودخل منه ، أو اتخذ سلما يصعد منه الى سطح البيت ، وان كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء ، وكان بعض المسلمين يفعل ذلك في أول الأمر ، فنزلت الآية تبين لهم ان البر هو تقوى الله ، وعمل الخير ، والتخلي عن المعاصي والرذائل ، لا بدخول البيوت من ظهورها ، وما إلى ذلك من التقاليد التي تحجب العقل عن ادراك الحقيقة ، ولا تمت إلى الدين والايمان بسبب.

وقاتلوا في سبيل الله الآة ١٩٠ ـ ١٩٣ :

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣))

اللغة :

ثقف الشيء إذا حذقه ، والمراد بالثقف هنا الوجود ، حيث ثقفتموهم أي

٢٩٥

وجدتموهم ، والفتنة الابتلاء والاختبار ، والمراد بها هنا الكفر بالله بقرينة قوله تعالى : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

الاعراب :

يقاتلوكم منصوب بأن بعد حتى ، والمصدر المنسبك مجرور بحتى متعلق بيقاتلوكم ، ومثله حتى لا تكون فتنة.

المعنى :

في مجمع البيان عن ابن عباس ان رسول الله (ص) لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة (١) وكانوا ألفا وأربعمائة ، وحين وصلوا الحديبية صدهم المشركون عن البيت الحرام ، فنحروا الهدي في الحديبية ، ثم صالحهم المشركون على أن يرجعوا ويعودوا في العام المقبل .. فلما كان العام المقبل تجهز المسلمون لقضاء العمرة ، ولكنهم خافوا ان لا تفي لهم قريش ويقاتلوهم ، وكره النبي (ص) وأصحابه قتال المشركين في الشهر الحرام في الحرم ، فأنزل الله هذه الآية ، واذن لهم بالقتال ، وقال جماعة : انها أول آية نزلت في القتال.

الإسلام حرب على الظلم والفساد :

قال بعض الجدد من الذين يغارون على الإسلام ، ويحاولون الذب عنه بكل وجه ، حتى ولو خالف منهج القرآن ، قالوا : ان الإسلام لا يجيز قتال أحد الا من أصر على القتال ، وابتدأ به ، وان الحروب الاسلامية في عهد الرسول كانت دفاعية ، لا هجومية ، واستدلوا بآيات ، منها هذه الآية : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، ومنها : وقاتلوا المشركين كما يقاتلونكم كافة .. والذي

__________________

(١) كان ذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة. وكانت الحديبية يومذاك كثيرة المياه والأشجار ، أما اليوم فصحراء جرداء على ما رأيتها سنة ١٩٦٤ م.

٢٩٦

دفعهم الى هذا القول ما يردده أعداء الإسلام من انه دين حرب ، لا دين سلام متذرعين بحروب الرسول الأعظم (ص).

والحق ان الإسلام أجاز القتال في موارد : منها الدفاع عن النفس. ومنها : قتال أهل البغي ، قال تعالى في الآية ١٠ من سورة الحجرات : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ). ومنها : القتال للقضاء على الكفر بالله ، قال تعالى في الآية ٣٠ من التوبة : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ). وقال الرسول الأعظم (ص) : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله ، فان قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم» ولكن هذا النوع من الجهاد والقتال لا يجوز الا بإذن المعصوم أو نائبه تحرزا من الفوضى.

ان جواز القتال دفاعا عن النفس لا يدل على عدم الاذن بالقتال لغاية أخرى ، كالقضاء على البغي والكفر .. ان الإسلام يجيز الحرب والقتال من أجل التدين بدين الحق والعدل ، لأن الكفر عدوان بذاته في مفهوم الإسلام ، ويحرم القتال من أجل استعباد الشعوب ، ونهب مقدراتها ، والسيطرة على أسواقها. لقد أجاز الإسلام العنف للقضاء على الجرائم والآثام ، والدفاع عن حقوق الإنسان وحريته وكرامته .. وأثار المستعمرون الحروب ، وسفكوا الدماء ، وسخروا العلم للتخريب والفناء (١) من أجل النهب والسلب ، وسيادة الظلم والعدوان .. هذا هو الجواب الصحيح الذي ينبغي أن يجاب به الذين يحاولون النيل من الإسلام ونبي الإسلام متذرعين بأنه دين القتال والسيف .. ان الإسلام ايجابي ، لا سلبي .. انه حرب على كل من لا يدين بدين الحق والعدل ، ويبغي في الأرض الفساد .. والكفر بالله ظلم وفساد في دين الإسلام وشريعته.

__________________

(١) في سنة ١٩٥٧ صدر كتاب بالولايات المتحدة ، اسمه مستقبل الطاقة الذرية ، واسم المؤلف تريتون ، جاء فيه ان التقدم العلمي خفض كثيرا سعر قتل الإنسان ، فقبل القنبلة الذرية كان قتل الرأس البشرية يكلف العديد من الجنيهات ، وبعدها أصبح يكلف جنيها واحدا ، وبعد القنبلة الهيدروجينية أصبح يكلف شلنا واحدا.

٢٩٧

ولا بد من الاشارة بهذه المناسبة الى ان فقهاء المذاهب الاسلامية كافة اتفقوا كلمة واحدة على ان كل من انتهك حرمات الله مستحلا لها ولسفك الدماء ، ونهب الأموال المحرمة بضرورة الدين فهو والكافر بالله سواء ، حتى ولو صلى وصام وحج الى بيت الله الحرام ، بل ان هذا أسوأ حالا ممن كفر وحرم سفك الدماء ونهب الأموال ، وكف أذاه عن الناس .. ان كلا منهما كافر ما في ذلك ريب ، ولكن هذا كافر كف شره وأذاه عن عباد الله وعياله ، وذاك كافر مسيء الى الله وعباده وعياله .. قال رسول الله (ص) : خير الناس أنفع الناس للناس ، وشر الناس من تخاف الناس من شره .. ومرة ثانية ان كل من أنكر حكما شرعيا ثبت بالبديهة الدينية واجماع المسلمين كافة فهو كافر بالاتفاق ، وان تولد من أبوين مسلمين ، ونطق بالشهادتين.

وقوله تعالى : (وَلا تَعْتَدُوا) أي لا تقاتلوا بدافع المنفعة الشخصية ، بل قاتلوا بدافع انساني شريف ، وقصد الذب عن الدين والحق ، ولا تقتلوا النساء والأطفال والشيوخ والمرضى ، ولا تخربوا العمار ، وتقطعوا الأشجار .. وكل هذه التعاليم وما اليها قد وردت في السنة النبوية.

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ). أي اقتلوا الكافرين في أي زمان أو مكان كانوا إلا في المسجد الحرام فان القتال فيه محرم إلا أن يبتدئوا به.

وتسأل : ان الآية الأولى أمرت بقتال من يقاتل المسلمين ، وهذه أطلقت ولم تقيد ، فهل هذه ناسخة لتلك كما قيل؟.

الجواب : لا نسخ ، ومنذ قريب أشرنا الى أن جواز القتال دفاعا عن النفس لا يدل على عدم الاذن بالقتال لغاية أخرى ، كالقضاء على الكفر والظلم ، وبكلمة إذا قلت لإنسان : أنت طيب ليس معنى قولك هذا ان غيره ليس بطيب ، فكذلك قوله تعالى : (قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ليس معناه لا تقاتلوا من لا يقاتلكم. أجل ، لو قال : لا تقاتلوا إلا من يقاتلكم لدل هذا الحصر على النفي.

(وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ). أخرج مشركو مكة النبي (ص) وأصحابه منها ، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ورسوله ، فأمر الله نبيه والمسلمين إن عادوا إلى مكة منتصرين ان يخرجوا منها من لا يؤمن بالله ورسوله ، تماما كما فعل المشركون من قبل جزاء وفاقا. وقيل : ان النبي (ص) أخرج المشركين

٢٩٨

من مكة بعد ان جاء نصر الله والفتح عملا بهذه الآية.

(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ). هذا تعليل لجواز قتل المشركين ، والمراد بالفتنة الشرك ، وعليه يكون المعنى انما جاز لكم قتل المشركين ، لأن ذنب الشرك أشد قبحا من ذنب القتل ، وفي بعض التفاسير ان الله سبحانه أراد بقوله : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ان مشركي مكة في بدء الدعوة كانوا يفتنون من أسلم عن دينه بالإيذاء والتعذيب ، والإخراج من الوطن ، ومصادرة الأموال ، وهذه الأعمال فتنة ، وهي أشد قبحا من القتل ، ومن أجل هذا جاز لكم قتلهم وإخراجهم من ديارهم .. ومهما يكن ، فان المراد من لفظ الفتنة في القرآن الكريم غير النميمة ونقل الكلام ، كما توهم الكثيرون.

(وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ). هذا شرط لجواز القتال في الحرم الشريف الذي حرم الله القتال فيه إلا إذا انتهكت حرمته بالقتال.(فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ). لأنهم ابتدأوا وانتهكوا حرمة المسجد الحرام ، والبادئ ليس بأظلم ، بل هو وحده الظالم.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ورعاية السياق تقتضي أن يكون المعنى إن كفوا عن القتال عند المسجد الحرام فكفوا عنهم واغفروا لهم ، لأن السبب الموجب لقتالهم هو ابتداؤهم بالقتال ، فإن كفوا زال السبب. وقال كثير من المفسرين : المعنى ان تابوا عن الكفر وآمنوا بالله ورسوله ، لأن الكافر لا يغفر الله له بترك القتال ، بل بترك الكفر .. وهذا تحكم على الله جل وعلا ، فانه يغفر لمن يشاء ، حتى ولو كان كافرا .. أجل ، انه تعالى لا يعذب المحسن قطعا ، لأنه عادل ، ولكنه يعفو عن المسيء ، مهما كانت الاساءة ، لأنه كريم رحيم.

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي ان الجهاد من أجل الايمان بالله ، والقضاء على الجحود واجب ما دام على وجه الأرض أثر للشرك والإلحاد ، فإذا زال الإلحاد ، وآمن الناس جميعا بالله سقط وجوب الجهاد. وتجمل الاشارة الى ان وجوب الجهاد من أجل انتشار الإسلام مشروط بإذن الإمام العادل ، ولا يجوز بحال من غير أمره. أما الجهاد دفاعا عن الدين والنفس فان وجوبه مطلق غير مقيد بشيء.

٢٩٩

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ). أي فان انتهوا عن الكفر ، وأسلموا فلا يحل قتالهم إلا بسبب موجب للقتل ، وهو واحد من ثلاثة : كفر بعد ايمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق.

الشهر الحرام الآة ١٩٤ ـ ١٩٦ :

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥))

المعنى :

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ). الأشهر الحرم أربعة : ثلاثة منها متتابعة ، وهي ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وشهر واحد فرد ، وهو رجب ، وانما سميت هذه الأشهر حرما ، لتحريم القتال فيها في الجاهلية والإسلام ، فلقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه في هذه الأشهر ، ولا يتعرض له بسوء.

وسبق عند تفسير قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ، سبق ان النبي وأصحابه أرادوا العمرة في ذي القعدة سنة ست ه. فصدهم المشركون ، ورموهم بالسهام والحجارة ، ثم اصطلحوا على أن يعود المسلمون في قابل ، ولكن خاف المسلمون أن يبدأهم المشركون بالقتال في الشهر الحرام ، فأذن الله لهم بقتال المشركين ، وبيّن ان المحظور هو الاعتداء بالقتال دون المدافعة. وعليه يكون معنى : الشهر الحرام بالشهر الحرام ، ان من استحل دمكم أيها المسلمون في هذا الشهر فاستحلوا أنتم دمه فيه.

٣٠٠