التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

من شك ان هذا يتحقق من غير المقلد للمجتهد ، وقوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) يشعر بأن الأب إذا كان على هدى ، وقلده الابن صح عمله .. فالعبرة ، اذن ، بالمطابقة وكفى.

٦ ـ التقليد في أصول الدين والعقيدة ، كمعرفه الله وصفاته ، ونبوة محمد وعصمته ، والبعث والنشر .. وقد منع أكثر علماء السنة والشيعة هذا النوع من التقليد ، وقالوا بعدم جوازه ، لأن التقليد قبول الشيء بلا دليل ، وهذا هو الجهل بعينه ، أي ان القائل بوجود الله تقليدا ، تماما كمن يجهل وجوده من الأساس .. وقال هؤلاء : انما أجزنا التقليد في الفروع والمسائل العملية دون الأصول العقائدية ، لأن المطلوب في الفروع مجرد العمل على مقتضى قول المجتهد وهذا ممكن بذاته ، بخلاف الأصول العقائدية فان المطلوب فيها العلم والاعتقاد .. والعلم لا يجتمع مع التقليد ، لأنه جهل محض ، والاعتقاد خارج عن الاختيار والارادة ، فلا يتعلق التكليف به.

وقال المحققون من السنة والشيعة : إذا أعقب التقليد تصديق جازم مطابق للواقع صح ، لأنه هو المطلوب ، والاجتهاد ليس شرطا ولا جزءا من الايمان والتصديق ، وانما هو وسيلة ، لا غاية.

وهذا هو الحق ، لأن العبرة في اصول العقائد بالايمان الصحيح المطابق ، ومن أجل هذا قبل النبي (ص) اسلام كل من آمن به ، واطمأنت نفسه لصدقه ونبوته ، دون أن يجتهد ويستعمل النظر .. أما الآيات التي وردت في ذم اتباع الآباء فان سياقها يدل على ان المراد منها التقليد في الباطل والضلال ، لا في الحق والهداية .. وتظهر هذه الحقيقة لكل من أمعن الفكر في قوله تعالى : (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ). وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا). وقوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ). فان المفهوم من هذه الآيات ان آباءهم إذا كانوا على الهدى الذي نزل على الرسول جاز اتباعهم ، لأن المطلوب هو اتباع ما انزل الله ، فإذا اتبعوه فقد امتثلوا وأطاعوا ، ولا يسألون بعد الطاعة عن شيء.

واختصارا ان كل من اتبع قول الله والرسول فقد اتبع الحق الثابت بالدليل ،

٢٦١

سواء أكان على علم من هذا الدليل ، أو لم يكن. ويكفي ان يعلم اجمالا بأن هناك دليلا صحيحا يعرفه أهل الاجتهاد والاختصاص ، بل من اتبع الحق دون أن يعلم انه حق فلا يعاقب على ترك التعلم ، وان لم يستأهل المدح والثواب. ويشعر بذلك قوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) ـ لقمان ١٤» فان المستفاد منه أيضا ان جاهداك على ان تؤمن بالله ، وأطعت من غير علم فلا بأس عليك.

وقد تعرضنا لتقليد الأئمة الأربعة عند تفسير الآية ١٦٧ من هذه السورة ، فقرة «تقليد الأئمة الأربعة» ، فراجع.

كمثل الذي ينعق الآة ١٧١ :

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١))

اللغة :

نعق بمعنى صاح ، والدعاء والنداء بمعنى واحد ، والبعض فرّق بينهما بأن الدعاء للقريب ، والنداء للبعيد.

الإعراب :

دعاء مفعول يسمع ، وصمّ خبر مبتدأ محذوف.

المعنى :

ضرب الله في هذه الآية مثلا من الكفار الذين تعصبوا لدين الآباء .. فشبههم بالبهائم ، وشبّه من يدعوهم الى الحق بالراعي ، فكما ان البهائم لا تعقل شيئا

٢٦٢

من كلام الراعي ، وانما تسمع صوتا تقبل أو تدبر عند سماعه بعد التمرين والتعويد كذلك الكفار لا يعرفون الحق الذي يدعوهم اليه الداعي ، ولا النفع الذي يترتب على العمل بموجبه .. وانهم في ذلك تماما كالأطرش ، وان كانوا يسمعون ، وكالأخرس ، وان كانوا يتكلمون ، وكالأعمى ، وان كانوا يبصرون.

وفي القرآن العديد من الآيات لا تفرق بين الأصم الذي لا يسمع إطلاقا ، وبين من يسمع الحق ولا يعمل بموجبه .. منها هذه الآية : (لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً).

ومنها قوله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) ـ الانعام ٣٦». ومنها : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ـ الانفال ٢١».

وتسأل : ان ظاهر الآية يدل على ان الله سبحانه شبّه الكفار براعي البهائم ، لا بالبهائم ، لأنه قال : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع. وبديهة ان الذي ينعق هو الراعي ، وما لا يسمع البهائم ، وعليه يكون الكفار كالراعي الذي يصيح بالبهائم ، لا كالبهائم ، كما قلت في تفسير الآية؟.

الجواب : ان في الكلام حذفا تدل عليه قرينة الحال ، والتقدير ان مثل من يدعو الذين كفروا الى الحق كمثل الذي ينعق بما لا يسمع.

كلوا من طيبات الآة ١٧٢ ـ ١٧٣ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣))

٢٦٣

المعنى :

بعد أن خاطب الله سبحانه الجميع بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) أعاد الخطاب ثانية لخصوص المؤمنين بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ليبين لهم ان الايمان الصحيح لا يكون بحرمان النفس ، والامتناع عن الطيبات ، كما يفعل بعض الرهبان والقسيسين وغيرهم فانه سبحانه قد أحل لنا التمتع بالحياة ، والنعم الجسدية ، وأمرنا بالشكر عليها ، ومعنى شكرها أن نستعملها في الوجه الذي ينبغي استعمالها فيه. قال أمير المؤمنين (ع) : «أقلّ ما يلزمكم لله ان لا تستعينوا بنعمه على معاصيه». وعسى أن يتعظ بهذه الحكمة البالغة أهل الجاه والثراء ، ولا يستغلوهما في الملذات المحرمة ، وفي الكبر والطغيان.

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ). وليس من شك ان المراد بالحرمة هنا حرمة الفعل ، وهو الأكل ، لا حرمة الأعيان ، لأن الأعيان لا يمكن وصفها بحل ولا بحرمة.

وبعد ان ذكر الله سبحانه في الآية السابقة الحلال مما يؤكل ذكر في هذه الآية أربعة أنواع مما يحرم أكله .. الأول : الميتة ، وهي كل حيوان مات من غير تذكية شرعية. الثاني : الدم ، والمراد به الدم المسفوح أي المتميز عن اللحم ، لأن ما يختلط باللحم معفو عنه. الثالث : الخنزير لحمه وشحمه وجميع أجزائه خلافا لداود الظاهري الذي قال : يحرم لحم الخنزير دون شحمه عملا بظاهر اللفظ ، وانما ذكر اللحم بالخصوص ، لأنه أظهر الأجزاء التي ينتفع بها. الرابع : ما أهلّ به لغير الله ، وهو ما ذكر عليه حين الذبح غير اسم الله تعالى ، سواء أذبح للأصنام ، أو لغيرها.

والحكمة في تحريم الأنواع الثلاثة الأولى صحية محض يعرفها الأطباء ، وأهل الاختصاص ، أما حكمة المنع عمّا ذكر غير اسم الله عليه فدينية صرف تهدف الى صيانة التوحيد والتنزيه عن الشرك.

وتسأل : ان ظاهر الآية يدل على انه لا يحرم من المأكولات سوى هذه الأربعة ، لأن (انما) تفيد الحصر ، وكل حصر يتضمن جملتين : الأولى تفيد

٢٦٤

اثبات ما يتناوله الخطاب ، وهو هنا تحريم الأشياء الأربعة ، والثانية تفيد النفي ، وهو هنا عدم تحريم ما عدا الأربعة ، مع العلم بأن هناك مأكولات أخرى محرمة ، كالكلاب ، والحيوانات المفترسة ، والحشرات ، وبعض أنواع السمك ، ومحرمات الذبيحة ، والتفصيل في كتب الفقه ، ومنها الجزء الرابع من كتابنا فقه الإمام جعفر الصادق (ع).

الجواب : أجل ، ان الظاهر يدل على ذلك ، ولكنه متروك في العمل بعد قيام الإجماع ، وثبوت السنة النبوية .. وليست هذه هي الآية الوحيدة التي يترك ظاهرها بالإجماع.

وتجمل الاشارة الى انه يجب ذكر الله تعالى حين الذبح ، فمن تركه عامدا حرمت الذبيحة ، سواء أكان الترك عن علم بالوجوب أو جهل به .. أجل لو نسي الذابح ذكر الله لم تحرم الذبيحة .. ويكفي من الذكر قول : الله أكبر ، أو الحمد لله ، أو بسم الله ، أو لا إله الا الله ، وما أشبه.

المضطر وحكمه :

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ). المضطر هو الذي يخاف التلف على نفسه لو لم يتناول المحرم ، أو يخشى حدوث مرض ، أو زيادته ، أو يخاف الضرر والأذى على نفس محترمة ، كالحامل تخاف على حملها ، والمرضعة على رضيعها ، أو أكرهه قوي على أكل أو شرب المحرم ، بحيث إذا لم يفعل أوذي في نفسه ، أو في ماله ، أو في عرضه ـ كل هذه ، وما اليها من المسوغات لتناول المحرم ولكن بمقدار ما يرتفع به الضرر. ومن هنا اشتهر بين الفقهاء الضرورة تقدر بقدرها ، ويدل عليه قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ). فالباغي من يرتكب الحرام من غير ضرورة ، والعادي من يتجاوز مقدار الحاجة.

٢٦٥

ان الذين يكتمون ما انزل الله الآة ١٧٤ ـ ١٧٦ :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))

الاعراب :

أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار : أولئك مبتدأ ، وما بعدها خبر ، والجملة من المبتدأ والخبر خبر ان. وأولئك الذين اشتروا الضلالة : أولئك بدل من أولئك الأولى ، وما أصبرهم ما للتعجب في محل رفع بالابتداء ، واصبر فعل ماض فيه ضمير مستتر يعود على ما ، والجملة خبر لما تماما كقولك ما أحسن زيدا. وذلك مبتدأ ، وتسبك ان وما بعدها بمصدر مجرور بالباء متعلق بمحذوف خبر ذلك ، والتقدير ذلك حاصل بكون الله نزل الكتاب.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ). قيل : ان هذه الآية نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا وصف محمد (ص) ونبوته ، ومهما كان سبب النزول فان المراد كل من عرف شيئا من الحق وكتمه بالتأويل والتحريف لمنفعته الشخصية ، يهوديا كان أو نصرانيا ، أو مسلما ، لأن اللفظ عام ، والعبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص سبب النزول.

٢٦٦

وقد هدد الله سبحانه هذا الضال المضل في العديد من الآيات : منها ما تقدم في الآية ١٤٦ و ١٥٩ ، وما يأتي في سورة آل عمران ، والنساء ، والمائدة ، ومنها هذه الآية ، وكلها غضب ووعيد بأشد العذاب والعقاب ، لأن الحق يجب تقديسه وإعلانه بكل وسيلة ، ودفع الشبهات عنه ، وتحدي من يتحداه ، وتنفيذه بقوة السلاح ، والتضحية في سبيله بكل عزيز ، إذ لا قوام للدين ، ولا للنظام ، ولا للحياة الا به.

(ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ). أي ما يوجب العذاب في النار ، فهو من باب اطلاق المسبب ، وهو النار ، على السبب ، وهو أكل الحرام .. وذكر البطون ، مع العلم بأن الأكل لا يكون الا في البطن ، للاشارة الى انه لا همّ لهم الا امتلاء بطونهم.

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ). كناية عن اعراضه عنهم ، وغضبه عليهم. (وَلا يُزَكِّيهِمْ) من الذنوب بالمغفرة. (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى). الضلالة اتباع الهوى ، والهدى اتباع كتاب الله ، وشراء الضلالة بالهدى أن يؤثر الباطل على الحق ، والهوى على الهدى.

(فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ). ليس هذا اخبارا عن صبرهم على النار ، ولا تعجبا من صبرهم عليها ، لأن التعجب منشأه الجهل بالسبب ، وهو ممتنع في حقه تعالى ، وانما القصد تصوير أقدامهم وجرأتهم على الله بترك أحكامه وحدوده ، واتباعهم الباطل والضلال ، القصد تصوير حالهم هذه ، وتمثيل مآلهم الذي لا يمكن الصبر عليه بحال ، قال الرازي : لما أقدموا على ما يوجب النار صاروا كالراضين بعذاب الله ، والصابرين عليه .. فهو كما تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان : ما أصبرك على القيد والسجن؟.

وتسأل : هذا حال من عرف الحق وكتمه ، فما هو حال من لم يعرف شيئا مما أنزل الله ، ومع ذلك يقول : هذا حلال ، وذاك حرام ، ولا مستند له الا الوهم والخيال؟.

الجواب : ان هذا أسوأ حالا ممن عرف الحق وكتمه ، لأنه قد أقام نفسه مقام الله جل وعلا ، واتخذ منها مصدرا للتشريع ، والتحليل والتحريم.

٢٦٧

التجاذب بين الحق والباطل :

نقل صاحب المنار في تفسيره عن الشيخ محمد عبده انه قال في تفسير هذه الآية : «ان في المسلمين من كتم ما أنزل الله بالتحريف والتأويل ، تماما كما فعل اليهود بكتمان وصف الرسول ، وهؤلاء المسلمون يشعرون بجاذبين متعاكسين : جاذب الحق الذي عرفوه ، وجاذب الباطل الذي ألفوه ، ذاك يحدث لهم هزة وتأثيرا ، وهذا يحدث لهم استكبارا ونفورا ، وقد غلب عقولهم ما عرفوا ، وغلب قلوبهم ما ألفوا ، فثبتوا على ما حرفوا ، وصاروا الى حرب عوان بين العقل والوجدان ، يتصورون الخطر الآجل ، فينتغص عليهم التلذذ بالعاجل ، ويتذوقون حلاوة ما هم فيه ، فيؤثرونه على ما سيصيرون اليه .. أليس هذا الشعور بخذل الحق ، ونصر الباطل نارا تشب في الضلوع؟. أليس ما يأكلونه من ثمن الحق ضريعا لا يسمن ، ولا يغني من جوع؟».

وهذا صحيح بالنسبة إلى بعض الأفراد الذين يحسون بوخز الضمير وتأنيبه ، وهم يقترفون الذنوب .. ولكن بعض الأفراد قد ألفوا الباطل ، واعتادوه ، حتى أصبح طبيعة ثانية لهم ، ويشعرون من أعماقهم بالعداء لكل ما فيه رائحة الحق والانسانية .. والآن أكتب هذه الكلمات في شهر حزيران سنة ١٩٦٧ ، وفي هذا الشهر المشئوم تغلب الاسرائيليون على بعض أطراف البلاد العربية بمعاونة بريطانيا وأمريكا ، وأخرجوا أهلها من ديارهم ، وشردوا أكثر من مائتين وخمسين ألفا ، وحرقوا الألوف من الرجال والنساء والأطفال بقنابل النابالم. وقد بارك هذه الفضائح كثيرون ، وطربوا لها ، وتمنوا لو ان إسرائيل استمرت في طغيانها الى غير حد .. ان الهوى عندهم قد طغى على العقل والوجدان ، حتى لم يبق لهما عينا ولا أثرا فصار من فقدوهما تماما كالبهائم ، وقد وصف الله هؤلاء بأنهم قوم لا يعقلون ، ولا يفقهون ، وبأنهم كالانعام ، بل أضل سبيلا.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ). ذلك اشارة الى العذاب الذي سينزل بالذين يكتمون الحق ، وقوله (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ) بيان لسبب العذاب ، وهو جرأتهم على مخالفة الحق الذي جاء في كتاب الله.

(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ). اختلف المفسرون في

٢٦٨

المراد بقوله تعالى : (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ). فذهب أكثرهم ـ على ما في مجمع البيان ـ إلى أنهم الكفار ، ووجه الاختلاف ان منهم من قال : ان القرآن سحر ، ومنهم من قال : هو رجز ، وقال آخرون : أساطير الأولين. وقال بعض المفسرين : بل المراد المسلمون ، فإنهم بعد أن اتفقوا على ان القرآن من عند الله اختلفوا في تفسيره وتأويله ، وتشعبوا الى فرق وشيع ، وكان عليهم أن تكون كلمتهم واحدة بعد ان كان قرآنهم واحدا.

ويجوز أن يكون المراد الكفار ، ولكن ، لا لأن بعضهم قال : ان القرآن سحر ، وآخر قال : انه رجز ، بل لأنهم السبب الوحيد للخلاف والشقاق ، وعدم جمع الكلمة على الحق بينهم وبين من آمن بالقرآن.

وآتى المال على حبه الآة ١٧٧ :

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧))

اللغة :

كل عمل من أعمال الخير فهو بر ، وقبل ظرف مكان بمعنى الناحية والجهة ، وابن السبيل المسافر في غير معصية ، فيذهب ماله ، ولا يستطيع العودة الى أهله

٢٦٩

ووطنه ، والبأساء الفقر ، والضراء كل ما يضر الإنسان من مرض ، أو فقد عزيز ، وما اليه. والبأس شدة القتال.

الاعراب :

البر منصوب خبر ليس مقدم ، وان مع صلتها اسم ليس ، ويجوز العكس ، فترفع البر اسما ، وتنصب الصلة خبرا ، وكلمة البر الثانية اسم لكن ، وخبرها محذوف ، والتقدير ولكن البر بر من آمن بالله ، لأن اسم المعنى لا يخبر عنه باسم العين ، وآتى بمعنى أعطى ، والمال مفعول ثان مقدم ، وذوي القربى مفعول أول مؤخر ، وعلى حبه متعلق بمحذوف حال من ضمير آتى ، والموفون بعهدهم خبر مبتدأ محذوف ، أي هم الموفون ، أو معطوف على من آمن بالله ، والصابرين مفعول لفعل محذوف ، والتقدير أعني الصابرين ، كما في مجمع البيان وغيره من التفاسير ، وأولئك الذين صدقوا أولئك مبتدأ ، وخبره الذين.

المعنى :

ذكر الله سبحانه في هذه الآية أمورا اعتبرها أركانا للبر والتقوى والصدق في الايمان ، ومن هذه الأمور ما يتعلق بالعقيدة ، ومنها ما يتعلق ببذل المال ، ومنها بالعبادة ، ومنها بالأخلاق ، وقبل أن يشير الى كل صنف منها مهد بقوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ). هذا خطاب عام يشمل الجميع ، حتى ولو كان سبب النزول خاصا ، لأن العبرة بعموم اللفظ ، لا بسبب النزول ، والمراد بالخطاب توجيه المؤمنين والمصلين إلى أن مجرد الصلاة الى ناحية معينة ليس هو الخير المقصود من الدين ، لأن الصلاة انما شرعت لاقبال المصلي على الله ، والاعراض عمن سواه. وبعد هذا التمهيد شرع ببيان أصول العقيدة التي هي من أركان البر ، وحصرها بخمسة أمور تضمنها قوله تعالى :

(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ). الايمان بالله هو الأساس لعمل البر ، والباعث على طاعة الله في جميع ما أمر به ،

٢٧٠

ونهى عنه ، والايمان بالملائكة ايمان بالوحي المنزل على الأنبياء ، وانكار الملائكة انكار للوحي والنبوة : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) ـ الشعراء ١٩٤). والايمان بالكتاب ايمان بالقرآن ، والايمان بالنبيين ايمان بشرائعهم .. وترجع هذه الأمور الخمسة الى ثلاثة : الايمان بالله والنبوة واليوم الآخر ، لأن الايمان بالنبي يتضمن الايمان بالملائكة والكتاب. ثم أشار سبحانه الى التكاليف المالية بقوله :

(وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ). قيل : ان الضمير في حبه عائد الى الله تعالى ، حيث تقدم اسمه جل وعلا في قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). ويكون المعنى ان المعطي أعطى المال لوجه الله. وقيل : بل يعود الضمير على المال ، ويجري مجرى قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). وقوله :(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ). وهذا هو الأظهر ، لأن الضمير يعود الى الأقرب ، دون الأبعد. ثم ان المراد بإيتاء المال هنا غير الزكاة الواجبة ، لأنه تعالى عطف عليه إيتاء الزكاة ، والعطف يقتضي التغاير.

وذكرت الآية من الذين ينبغي اعطاؤهم المال ستة أصناف :

١ ـ ذوو القربى ، وهم قرابة صاحب المال ، لأنهم أحق الناس بالبر والصلة ، قال تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) ـ النور ٢٢). وتجب نفقة القريب على قريبه إذا كان من الآباء والأبناء ، مع عجزه عن الإنفاق على نفسه وقدرة الآخر عليه ، وما عدا ذلك يكون إيتاء ذوي القربى مستحبا لا واجبا عند الفقهاء(١).

٢ ـ اليتامى الذين لا مال لهم ، ولا كفيل يعولهم ، فيجب على أهل اليسار كفالتهم وكفايتهم ، مع عدم وجود بيت مال للمسلمين.

٣ ـ المساكين ، وهم أهل الحاجة الذين لا يمدون للناس يد المذلة.

__________________

(١) قال الحنفية : تجب نفقة للقريب على قريبه إذا كانت القرابة موجبة لحرمة الزواج. وقال الحنابلة : يشترط أن يكون المنفق وارثا للمنفق عليه. وقال المالكية : لا تجب النفقة إلا على الأبوين والأولاد من الصلب فقط دون بقية الفروع والأصول. وقال الامامية والشافعية : تجب نفقة على الآباء وان علوا ، والأبناء وان نزلوا دون غيرهم من الأقارب.

٢٧١

٤ ـ ابن السبيل ، وهو الذي انقطع في السفر ، ولا يستطيع العودة الى وطنه من غير عون.

٥ ـ السائلون الذين يمدون الى الناس كف المذلة ، وهذا السؤال محرم شرعا الا لضرورة ملحة ، تماما كأكل الميتة في رأينا ، ويكفي دليلا على تحريمه انه ذل وهوان ، والاهانة محرمة من حيث هي ، سواء أصدرت من الغير ، أم من النفس ، وفي الحديث : «لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي» والمرة بكسر الميم القوة ، والسوي سليم الجسم ، والمراد به القادر على الكسب.

٦ ـ في الرقاب ، أي شراء العبيد ، ثم عتقهم وتحريرهم من العبودية ، ولا مورد لهذا الصنف اليوم بعد أن الغي الرق.

وتجمل الاشارة الى ان هذه الأصناف الستة ذكرها الله سبحانه على سبيل المثال ، دون الحصر .. فان هناك أمورا كثيرة يحسن فيها بذل المال كإنشاء المدارس ، ودور الأيتام ، والمصحات ، والدفاع عن الدين والوطن ، وسائر المشاريع العامة.

وإذا توقفت صيانة النفس المحترمة على بذل المال وجب بذله على المستطيع ، لأن هذه الصيانة واجبة ، وما لا يتم الواجب الا به فهو واجب.

وأشار تعالى الى الركن العبادي للبر بقوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ). والصلاة تزكية للنفس ، والصوم تزكية للبدن ، والزكاة تزكية للمال.

وأشار الى الركن الأخلاقي بقوله سبحانه : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا). والعهد الذي يجب الوفاء به على قسمين : الأول ما يكون بين العبد وربه ، مثل اليمين والنذر والعهد بالشروط المذكورة في كتب الفقه ، وفصلنا ذلك في الجزء الخامس من كتاب «فقه الإمام جعفر الصادق».

النوع الثاني من العهد الذي يجب الوفاء به المعاملات التي تجري بين الناس ، كالبيع والاجارة والدين ، وما الى ذلك .. والمؤمن البار يفي بجميع التزاماته ، حتى ولو لم يكن عليه اثباتات وسندات ترغمه على الوفاء وأداء الحق .. أما الوعد فلا يجب الوفاء به شرعا ، بل يستحب عند الفقهاء.

ومن الأخلاق الحميدة التي هي من أركان البر الصبر في الشدائد المشار اليه بقوله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ). والبأساء الفقر ،

٢٧٢

والضراء المرض ، وما اليه ، وحين البأس شدة الحرب ، وليس القصد من الصبر على الفقر والمرض الرضا بهما .. كلا ، فان الإسلام قد أوجب السعي جهد المستطاع للتخلص من الفقر والمرض والجهل ، ومن كل ما يعوق الحياة عن التقدم ، وانما القصد ان لا ينهار الإنسان أمام الشدائد ، وان يتماسك ويتمالك ويعمل بروية وثبات للتخلص مما ألمّ به من النوازل .. وقال بعض المفسرين : انما خص الله هذه الثلاث بالذكر ، مع ان الصبر محمود في جميع الأحوال ، لأن هذه الثلاث أشد البلاءات جميعا ، فمن صبر فيها كان في غيرها أصبر.

(أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). أولئك اشارة الى الذين استجمعوا كل هذه الخصال من أصول العقيدة ، وبذل المال وتأدية العبادة لله ، والأخلاق الحميدة ، وانهم الصادقون في ايمانهم ، المتقون بأفعالهم لغضب الله وعذابه ، أما الذين يقولون بأفواههم آمنّا ، ولا ينفقون ما يحبون ، ويفون بما يلتزمون ، ويصبرون في الشدائد ، أما هؤلاء فهم أبعد الناس عن البر وأهله.

البارّ في مفهوم القرآن :

تعرضت هذه الآية لخمسة أمور : أولها أصول العقيدة ، وثانيها التكاليف المالية ، وثالثها العبادة ، ورابعها الوفاء بالعهد ، وخامسها الصبر في الشدائد ، والأخيران من شئون الأخلاق.

وبديهة ان العبادة كالصلاة والصوم أثر من آثار الايمان بالله ، وعلامة من علاماته التي لا تنفك عنه ، لأن من لا يعترف بوجود الله لا يتعبد له .. أما بذل المال والوفاء بالعهد والصبر في الشدائد فتكون من المؤمن والجاحد ، فان أكثر المؤمنين بالله أو الكثير منهم يقولون ما لا يفعلون ، ويبخلون بالقليل ، حتى على أنفسهم ، وينهارون جزعا أمام كل فاجعة ونازلة .. وقد يضحي الجاحد بالغالي والثمين في سبيل العدالة والانسانية ، ويثبت في الشدائد ، ويصدق في جميع أقواله وأفعاله .. اذن ، لا تلازم بحسب الظاهر بين الايمان والخلق الحميد ، ولا بين الكفر والخلق الذميم أما في الواقع فلا ايمان بلا تقوى.

ولكن هذه الآية : (لَيْسَ الْبِرَّ) الخ .. قد اعتبرت الايمان والأخلاق الحميدة

٢٧٣

كلا لا يتجزأ ، ووحدة لا تنفصم بالنسبة الى البر والخير ، فلا الايمان بالله وحده يجعل الإنسان من الأبرار ، ولا الأخلاق من غير ايمان تجعله كذلك ، بل لا بد من الايمان والأخلاق والتعبد لله .. وعليه فالبارّ في مفهوم القرآن هو المؤمن المتعبد الوفي الكريم الصابر.

القصاص في القتلى الآة ١٧٨ ـ ١٧٩ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

المعنى :

صنف فقهاء الشريعة الاسلامية العقوبات إلى ثلاثة أصناف : الأول الحدود ، كقطع يد السارق ، ورجم الزاني المتزوج ، وجلد شارب الخمر ، ويأتي التفصيل في محله ان شاء الله. الصنف الثاني الديات ، وهي العقوبات المالية. الصنف الثالث القصاص ، وهو ان يستوفي المجني عليه عمدا ، أو وليه من الجاني بمثل ما جنى من قتل ، أو قطع عضو ، أو جرح. أما الضرب فلا قصاص فيه ، وعقد الفقهاء لكل واحد من هذه الأصناف بابا مستقلا ، وهذه الآية تدخل في باب القصاص.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى). كانوا في الجاهلية يسيرون على شريعة الغاب والفوضى فيقتلون لأتفه الأسباب ظلما وعدوانا ، ويقتص

٢٧٤

أولياء القتيل من الأبرياء ، لا من الجاني نفسه ، فإذا قتل رجل عادي مثله قتل أولياء القتيل عددا كبيرا من ذوي القاتل ، وإذا قتلت امرأة مثلها أخذوا مكانها رجلا من أسرتها أو قبيلتها ، وربما قتلوا عشرة بواحد ، وأدى هذا الظلم الى الحروب الطاحنة بين القبائل ، وإبادة الكثير منها ، ووراثة العداء والأحقاد بين الأبناء والأحفاد .. فشرع الله القصاص ، وهو بمفهومه يفيد المساواة ، والوقوع على الجاني نفسه أيا كان دون غيره من الأبرياء ، ودون زيادة أو نقصان خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية ، وأن يكون القتل عمدا ، ولا قصاص في قتل الخطأ وشبه العمد (١).

وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ـ المائدة ٤٥». وقوله : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) ـ الاسراء ٣٣». وقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ـ الشورى ٤٠». وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ـ البقرة ١٩٤».

(الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى). المعنى واضح لا يحتاج الى شرح وتفسير ، وهو اعتبار المساواة في القصاص بين القاتل والمقتول في الحرية والعبودية والأنوثة.

وتسأل : ان المفهوم من سياق اللفظ ان الحر لا يقتل بالعبد ، وان الرجل لا يقتل بالمرأة ، أي ان الحر إذا قتل عبدا لا يقتل به ، وإذا قتل الرجل امرأة لا يقتل بها ، فهل هذا محل وفاق بين الفقهاء؟.

الجواب : ان الآية تعرضت لصور ثلاث فقط ، وهي حر يقتل حرا ، وعبد يقتل عبدا ، وامرأة تقتل امرأة ولم تتعرض للصور الباقية ، وهي أربع : حر يقتل عبدا ، وعبد يقتل حرا ، ورجل يقتل امرأة ، وامرأة تقتل رجلا ..

__________________

(١) قتل العمد ان يقصد الفعل والقتل كمن طعن آخر بسكين قاصدا نفس الطعن والقتل أيضا ، أو قصد الفعل القاتل فقط ، أي قصد طعنه في قلبه ، ولكنه لم يقصد قتله ، فان هذا من قتل العمد. والخطأ المحض أن يكون مخطئا في قصده وفعله ، كمن رمى حيوانا فأصاب إنسانا فان الإنسان غير مقصود لا بالرمي ولا بالقتل. وشبه العمد أن يكون عامدا في فعله مخطئا في قصده ، كمن ضرب صبيا للتأديب فمات ، فان الضرب مقصود ، والموت غير مقصود ، وفي قتل الخطأ وشبه العمد تتعين الدية ، ولا يجوز القصاص بحال.

٢٧٥

وقد دلت الآية بمنطوقها ان القصاص مشروع في الصور الثلاث الأولى ، وهي محل وفاق بين الفقهاء ، لأن صريح القرآن لا خلاف فيه .. والآية لم تنف أو تثبت القصاص في الصور الأخرى لا منطوقا ولا مفهوما ، وعليه فلا بد من الرجوع الى دليل آخر من سنة أو اجماع.

وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال مالك والشافعي وابن حنبل : ان الحر لا يقتل بالعبد. وقال أبو حنيفة : بل يقتل الحر بعبد غيره ، ولا يقتل بعبده. واتفق الأربعة على ان الرجل يقتل بالمرأة ، وبالعكس. وقال الإمامية : إذا قتل الحر عبدا لا يقتل به ، بل يضرب ضربا شديدا ، ويغرّم دية العبد ، وإذا قتلت المرأة رجلا عمدا كان ولي المقتول بالخيار بين أن يأخذ منها الدية ان رضيت هي ، وبين أن يقتلها ، فان اختار القتل فلا يغرم أهلها شيئا .. وإذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين أن يأخذ الدية ان رضي القاتل ، وبين ان يقتله الولي على أن يدفع لورثة القاتل نصف دية الرجل ٥٠٠ دينار.

(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ). الضميران في له وأخيه يعودان الى القاتل ، أما لفظة شيء فإنها تدل على ان ولي الدم إذا عفا عن شيء يتعلق بالقاتل ، كالعفو عن قتله ، والرضا بأخذ الدية فينبغي ان يقابل القاتل هذا العفو بالمعروف ، وقيل : ان لفظة شيء تشعر بأن الورثة إذا تعددوا ، وعفا واحد منهم عن القاتل سقط القصاص ، حتى ولو أصر بقية ورثة المقتول على القتل ، ومهما يكن ، فان الله سبحانه جعل لولي الدم حق القصاص من قاتل العمد ، وليس له أن يلزم القاتل بالدية إذا قدم نفسه للقتل ، ولا للقاتل أن يلزم ولي المقتول بأخذ الدية إذا أصر على القتل قصاصا .. ولهما معا أن يتفقا ويصطلحا على مبلغ من المال بمقدار الدية ، أو أقل ، أو أكثر عوضا عن القصاص ، فإذا تم مثل هذا الاتفاق أصبح لازما ، ولا يجوز العدول عنه ، وعلى ولي المقتول أن يطالب القاتل ببدل الصلح بالمعروف ، فلا يشدد ويضيق في الطلب ، أو يطلب أكثر من حقه ، وعلى القاتل أن يؤدي المال بإحسان ، وبلا مطل وبخس وأذى.

(ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ). أي ان الحكمة من تشريع الدية بدلا عن القصاص هي التخفيف عنكم ، والرحمة بكم. (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ

٢٧٦

أَلِيمٌ). كان بعض أهل الجاهلية إذا عفوا وأخذوا الدية ، ثم ظفروا بعد ذلك بالقاتل قتلوه ، وجمعوا بين القتل وأخذ الدية ، فنهى الله عن هذا الاعتداء ، وتوعد فاعله بالعذاب الأليم. وقال جماعة من المفسرين : يتحتم على الحاكم أن يقتل من قتل القاتل بعد العفو عنه ، حتى ولو بذل الدية ، ورضي بها ولي المقتول .. وهذا القول مجرد استحسان لا تدل الآية عليه من قريب ولا بعيد.

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ). هذا تعليل لشرعية القصاص ، وبيان للحكمة منه ، وان فيه صيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض ، فان من علم انه إذا قتل يقتل يرتدع خوفا على نفسه من الهلاك ، أما دفع المال فليس بالرادع الكافي عن القتل ، فان الكثير من الناس يبذلون الأموال الطائلة للانتقام من أعدائهم.

وقد أطال المفسرون الكلام في بيان وجوه البلاغة في هذه الآية ، والمقارنة بينها وبين قول من قال : القتل أنفى للقتل ، وذكر بعضهم ستة أوجه لأفضلية الآية ، وزاد الألوسي عليه في تفسيره ، حتى أنهاها ١٣ وجها ، وزاد على الألوسي من جاء بعده ، وكل هذه الوجوه أو جلها ترجع الى مباحث الألفاظ.

الوصية للوالدين الآة ١٨٠ ـ ١٨٢ :

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

اللغة :

الخير ضد الشر ، والمراد به هنا المال ، وقيل : ان كل آية في القرآن فيها

٢٧٧

لفظة خير فالمقصود به المال (١) من ذلك : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) ـ العاديات ٨. (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) ـ النور ٣٣. (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) ـ هود ٨٣ والمعروف ما يستحسنه أهل العرف ، والجنف الخطأ.

الإعراب :

الوصية نائب فاعل كتب ، وحقا منصوب على المصدر ، تقديره أحق حقا ، ومن موص متعلق بمحذوف حال من جنفا ، وجاز أن يكون صاحب الحال نكرة لأن الحال مقدم عليه لفظا ، والضمير في بدّله وسمعه ويبدلونه عائد الى الإيصاء ، أما في إثمه فيعود على التبديل ، وهو مصدر مفهوم من بدّله.

المعنى :

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) هذه الآية من آيات الأحكام ، وتدخل في باب الوصية ، وقد كثرت وتضاربت حولها أقوال الفقهاء والمفسرين .. من ذلك ان من كان عنده مال وظهرت له دلائل الموت وعلاماته فيجب عليه أن يوصي بشيء من ماله للوالدين والأقربين ، حتى ولو كانوا وراثا ، فيجمع لهم بين الميراث والوصية بالمال ، ومنها ان الوصية تجب للقريب إذا كان غير وارث ، ومنها ان الوصية للأقرباء مستحبة ، وليست بواجبة ، ومنها أن يوصي لورثته بحقهم وأنصبتهم من الميراث ، فالآية تجري مجرى قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، ومنها ان الوصية للاقارب انما تجب إذا كان المال كثيرا ، ومنها ان الآية منسوخة بآية المواريث ، الى غير ذلك من الأقوال التي لا تعتمد على أساس.

__________________

(١) وجدت هذا القول في بعض ما لدي من كتب التفسير ، وترده الآية ١٠٦ من هذه السورة : «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها» حيث أطلقت لفظ الخير على الاية ، لا على المال.

٢٧٨

الوصية للوارث :

اختلف السنة والشيعة في صحة الوصية للوارث ، وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على انها لا تصح معتمدين على حديث : «لا وصية لوارث».

واتفق فقهاء الشيعة الامامية على صحة الوصية لوارث وغيره ، لعدم ثبوت هذا الحديث عندهم ، ولأن الأدلة الدالة على صحة الوصية وجوازها تشمل بعمومها الوصية للوارث .. بالاضافة الى روايات خاصة عن أهل البيت (ع) ، وأقوى الأدلة كلها على صحة الوصية للوارث هذه الآية ، قال العلامة الحلي في كتاب التذكرة :

«الوصية للوارث صحيحة عند علمائنا كافة ، سواء أجاز الوارث أو لا ، لقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ـ فأوجب الله الوصية للوالدين اللذين هما أقرب الناس الى الميت ، ثم قال تأكيدا للوجوب : حقا على المتقين ، وهو يعطي عدم اتقاء من لا يعتقد ذلك ، ثم ثنى التأكيد بقوله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) ، ثم أكد هذه الجملة بقوله : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، وهذه الآية نص في الباب».

وتسأل : ان الشيعة قالوا بجواز الوصية للوالدين والأقربين ، ولم يقولوا بوجوبها مع ان الآية صريحة في الوجوب ، لأن معنى كتب فرض ، وعلى هذا فان الشيعة قد خالفوا ظاهر الآية ، كما خالفها السنة القائلون بعدم صحة الوصية للوارث.

الجواب : من المتفق عليه بين المسلمين كافة ان استخراج الحكم الشرعي من القرآن لا يجوز إلا بعد النظر الى السنة النبوية ، بل والبحث عن الإجماع أيضا ، فإذا لم يكن سنة ولا اجماع في موضوع الآية جاز الاعتماد على ظاهرها ، وقد ثبت في السنة ، وقام الإجماع على ان الوصية للأقرباء ليست بواجبة .. اذن ، فلا بد من حمل الآية على استحباب الوصية لهم دون الوجوب ، ويكون معنى : حقا على المتقين ، ان هذا الاستحباب ثابت حقا ، لأن معنى الحق هو الثبوت.

٢٧٩

والمراد من المعروف بالآية أن يكون الشيء الموصى به مناسبا بحال الموصي والموصى له ، فلا يستنكر ويستهجن لقلته ، ولا يبلغ حدا من الكثرة يضر بالوارث ، كما لو تجاوز عن ثلث التركة ، فلقد جاء في الحديث : «ان الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم».

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ). أي بدّل الإيصاء وحرفه ، وهو عالم به.

(فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ). أي ان اثم التبديل والتحريف يقع على من بدّل وحرّف ، وارثا كان أو وليا أو حاكما أو وصيا أو شاهدا .. وفي هذا دليل على ان من اقترف ذنبا فان وباله عليه وحده لا على غيره ، فإذا أوصى الميت بما عليه من حق لله أو للناس ، وأوصى في تنفيذه الى من اعتقد صدقه وأمانته ، ثم قصر الوصي أو خان فلا اثم على الميت وانما الآثم المسئول هو الوصي وحده. قال الرازي : ان العلماء استدلوا بهذه الآية على ان الطفل لا يعذب بكفر أبيه .. وهذا من بديهيات العقل التي أقرها القرآن بشتى الأساليب ، منها : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ). الجنف الخطأ ، والإثم تعمد الظلم. وهذه الآية استثناء من الحكم السابق ، أي ان المبدل للوصية آثم الا إذا زل الوصي في وصيته ، فعندها يجوز للوصي أو للولي أو الحاكم أن يبدل الوصية من الباطل الى الحق ، فالمحرّم هو تبديل الحق الى الباطل ، لا تبديل الباطل الى الحق.

هذا ما ذكره المفسرون في معنى الآية ، وهو صحيح في نفسه .. ولكن الذي نفهمه من سياق الآية ، وقربه صاحب مجمع البيان : ان الإنسان إذا ظهرت له دلائل الموت ، وأراد أن يوصي بأشياء فيها حيف ، مثل أن يعطي بعضا ويحرم بعضا .. وحضر هذه الوصية من حضر من العقلاء والمؤمنين فلا إثم على الحاضر أن يشير على الموصي بالحق ، وأن يرده الى الصواب ، ويصلح بينه وبين الورثة ، كي يكون الجميع على رضا ووفاق ، ولا يحدث بينهم التشاجر والتطاحن بعد موت الموصي.

٢٨٠