التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

ثم ان الصبر لا يحمد لذاته ، ومن حيث هو ، وانما يحمد ويحسن إذا كان وسيلة لغاية نبيلة ، كالصبر في الجهاد المقدس ، والصبر على الفقر والعوز من أجل العلم وتحصيله ، والصبر على المكاره من أجل العيال. وتربية الأطفال ، أو لاغاثة ملهوف ، والصبر على كلمة من سفيه دفعا للشر ، أو على فقد عزيز لا يرده الجزع والهلع ، بل يزداد المصاب تفاقما ، قال أمير المؤمنين (ع) : من عظّم صغار المصائب ابتلاه الله بكبارها ، اي ان تفاقم الجزع يوقع الرجل المصاب في ما هو أشد وأعظم .. وقيل لبزرجمهر : ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ، ولا تفرح بما هو آت؟ .. فقال : ان الفائت لا يتلافى بالعبرة ، والآتي لا يستدام بالحبرة .. وقال آخر : لا أقول لشيء كان ليته لم يكن ، ولا لشيء لم يكن ليته كان ..

وقد يكون الصبر قبيحا مذموما ، كالصبر على الجوع مع القدرة على العمل ، وعلى الاضطهاد .. ففي هذه الحال يحسن الصبر في كفاح الظالم ونضاله.

وتسأل : ما هي المناسبة بين الصلاة والصبر ، حتى قرنا معا في آية واحدة؟. الجواب : ان معنى الصبر توطين النفس على احتمال المكاره ، ويحتاج هذا الى الثقة بالله ، والايمان بأنه «مع الصابرين» .. وليس من شك ان الصلاة تؤكد هذه الثقة ، وتثبت هذا الايمان .. بالاضافة الى ان مناجاة الله سبحانه تخفف من وطأة المصاب.

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ ، وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ). ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). ومعلوم ان كل من يفارق هذه الحياة يرجع الى ربه لا محالة صالحا كان أو طالحا ، شهيدا أو غير شهيد ، سوى ان الصالح ينتقل من حياة أدنى الى حياة أعلى ، والطالح بالعكس .. وخص الشهيد بالذكر اما للتنبيه على مكانته عند الله ترغيبا في الاستشهاد ، واما لما نقل عن ابن عباس من ان الآية نزلت فيمن قتلوا يوم بدر ، وهم ١٤ من المهاجرين ، و ٨ من الأنصار ، فقيل مات فلان وفلان ، فنزلت الآية : ولا تقولوا الخ .. وهذا غير بعيد ، لأنّ لا تقولوا أموات ، تشعر بذلك.

ومهما يكن ، فان الذي يجب أن نؤمن به هو ان من استشهد دفاعا عن

٢٤١

الإسلام ، أو عن أي شيء ينطبق عليه الحق والعدل والانسانية فانه ينتقل من عالم الشهادة الى عالم الغيب ، ويحيا هناك حياة طيبة ، وانه يمتاز عند الله عمن مات حتف امه ، قال أمير المؤمنين (ع) : والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على فراش .. أما حقيقة حياة الشهيد بعد الموت ، وما هو الرزق الذي يتنعم به فأمر لا نعرفه ، ولا نبحث عنه ، لأننا غير مكلفين بمعرفته.

ثمن الجنة :

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). ما اتبع الحق واحد الا دفع ثمنه من نفسه ، أو أهله ، أو ماله ، وكلما عظم الحق عظم الثمن المرير ، ولو لا هذا لم يكن لأنصار الحق من فضل ، ولاتّبع الناس ، كل الناس الحق .. وبهذا نجد تفسير الحديث الشريف : «البلاء موكل بالمؤمن .. وان أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الذين يلونهم الأمثل فالأمثل» .. وأيضا بلاء الأنبياء يأتي على قدر منزلتهم ، قال الرسول الأعظم (ص) : ما اوذي نبي بمثل ما أوذيت. وقال أمير المؤمنين (ع) ان الحق ثقيل مريء ، والباطل خفيف ووبيء .. وكفى شاهدا قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) ـ البقرة ٢١٤.

وتدل هذه الآية على ان الجنة محرمة إلا على من ضحى في سبيل الله ، ولا تنحصر التضحية في ميدان القتال ، وجهاد أهل الشرك والكفر ، بل إن أيّ مكروه يتحمله الإنسان من أجل الدفاع عن الحق والعدل لهو تضحية في سبيل الله ، وثمن لدخول الجنة ، حتى ولو كان الدفاع بكلمة يجابه بها مبطلا ، ويناصر محقا.

بعد أن باشرت بكتابة التفسير تكوّن عندي يقين لا يشوبه ريب بأن الجنة محرمة إلا على من أوذي ، وتحمل صابرا ، ولو شيئا من الضغط والبلاء في سبيل الحق والعدل ، وعلى الأقل أن يكبح نفسه عما تميل اليه من المحرمات ، أو يحملها على بذل ما لا تجود به طوعا ، أو يجهد نفسه من أجل غيره ، ولو

٢٤٢

كان الغير والدا ، أو ولدا. والمعيار أن يتحمل المشاق بصبر في سبيل مرضاة الله سبحانه ، اما ان يدخل الجنة على «البارد المستريح» كما يقول أهل جبل عامل فبعيد كل البعد.

(الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ). ومعنى انا لله الاعتراف له بالملك والعبودية ، ومعنى انا اليه راجعون الإقرار بالبعث بعد الموت.

ثم ان التمحيص بالبلاء هو المحك الذي يظهر الإنسان على حقيقته ، فالمؤمن العاقل لا يخرج عن دينه عند نزول المصيبة ، ولا يتفوه بكلمة الكفر والسفه والجهل ، بل يصبر ولا يذهب البلاء بعقله وإيمانه ، أما ضعيف العقل والايمان فيستولي عليه الشيطان ، ويذهب به كل مذهب من الكفر والشتم والبذاءة ، وينحدر الى هوة الرذالة والسفالة ، وخير ما قيل في ذلك قول سيد الشهداء الحسين بن علي يوم الطفّ : الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم ، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون.

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ). الصلاة من الله التكريم وعلو المنزلة ، ورحمته تعالى لعبيده الرفق بهم ، والهداية الى خيرهم ، والانعام عليهم.

وفي الحديث : ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع الى أمر الله بقوله : إنا لله وانا اليه راجعون ، اللهم عندك احتسب مصيبتي ، فأجرني فيها وعوضني خيرا منها ، إلا آجره الله عليها وعوضه خيرا منها.

أنواع أجر الصابرين :

ذكر بعض المفسرين ان الله سبحانه أعطى للصابرين ثمانية أنواع من الأجر والكرامة.

١ ـ المحبة ، قال تعالى : (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) ـ آل عمران ١٤٦.

٢ ـ النصر ، قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ـ البقرة ١٥٣.

٣ ـ غرفات الجنة : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا) ـ الفرقان ٧٥.

٤ ـ الأجر الجزيل : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) ـ الزمر ١٠.

٢٤٣

٥ ـ البشارة : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ـ البقرة ٥٥.

٦ و ٧ ـ الصلاة والرحمة : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) ـ البقرة ١٥٧.

٨ ـ الهداية : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) ـ البقرة ١٥٧.

الصفا والمروة الآة ١٥٨ :

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨))

اللغة :

الصفا والمروة جبلان صغيران ، وبالأصح ربوتان بمكة ، قريبتان من الكعبة ، يسعى بينهما الحاج والمعتمر .. والشعائر جمع شعيرة ، وهي العلامة ، مأخوذة من الإشعار بمعنى الاعلام. والجناح بضم الجيم الميل ، تقول جنح اليه ، أي مال اليه ، والمراد به هنا الإثم. والتطوع ما تبرعت به تلقائيا دون أن يكون واجبا عليك.

الاعراب :

جناح اسم لا النافية للجنس ، والمصدر المنسبك من أن يطوف مجرور بفي المحذوفة ، والمجرور متعلق بمحذوف خبر لا ، وخيرا صفة لمفعول مطلق محذوف تقديره تطوعا خيرا ، أو منصوب بنزع الخافض تقديره تطوع بخير.

المعنى :

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ). العبادة على أقسام شكلا وتوقيتا ، وبالنظر الى التوقيت منها ما يجب في كل يوم ، وهي الصلاة ، ومنها في كل سنة ،

٢٤٤

وهو صوم رمضان ، ومنها في العمر مرة ، وهو الحج للمستطيع ، والحج أحد الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام ، وهي : شهادة ان لا إله إلا الله ، وان محمدا رسول الله ، واقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت ..

والعمرة عادة كالحج ، ولكن لا وقوف فيها بعرفة ، ولا مبيت بالمزدلفة ، ولا رمي أحجار وجمار في منى ، ويأتي التفصيل في الآية ١٩٦ وما بعدها من هذه السورة ، وبقية السور التي تشير الى شيء من ذلك. وتجمل الاشارة الى ان العبادة بشتى أنواعها بما فيها أعمال الحج لا مجال فيها للاجتهاد ، ولا للتعليلات وغيرها ، وانما يقتصر فيها على نص الكتاب والسنة فقط ، وكل ما يتعدى ذلك لم يأذن الله به.

والذي تعرضت له هذه الآية ، ودل ظاهرها عليه هو ان الصفا والمروة من الأماكن التي يتعبد الإنسان فيهما لله بالطواف بهما ، وهذا الطواف المشار اليه بقوله سبحانه : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ان هذا الطواف هو المعروف بالسعي بين الصفا والمروة .. أما كيفية السعي وعدد أشواطه ، والابتداء بالصفا فيأتي بيانه في موضعه ان شاء الله تعالى.

وتسأل : ان السعي بين الصفا والمروة في حجة الإسلام واجب بالإجماع ، مع ان التعبير بعدم الجناح لا يفيد الا مجرد جواز الفعل ، وعدم الإثم فيه ، وهذا أعم من الوجوب والاستحباب والاباحة ، والعام لا يدل على الخاص؟.

الجواب : ان قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) لم يرد لبيان حكم السعي ، وانه فرض أو غير فرض ، وانما ورد لبيان ان السعي مشروع ، وان الإسلام يجيزه ويقره .. أما معرفة حكمه ، وهل هو فرض أو ندب فيستفاد من دليل آخر ، وقد تواترت السنة النبوية ، وأجمع المسلمون على وجوب السعي في حجة الإسلام.

وجاء في مجمع البيان : «ان الإمام جعفر الصادق (ع) قال : كان المسلمون يرون ان الصفا والمروة مما ابتدع أهل الجاهلية ، فأنزل الله هذه الآية». أي ان الله سبحانه نفى هذا الوهم ، وبيّن ان الصفا والمروة من الإسلام في الصميم ..

٢٤٥

وإذا تطوّف المشركون بهما تقربا الى الأوثان فان المسلمين يسعون بينهما طاعة لله ، وامتثالا لأمره.

(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ). أي من تبرع بالسعي بين الصفا والمروة بعد ما أدى الواجب الذي عليه فان الله يجزيه بالإحسان على إحسانه .. والشاكر من صفات الله ، ومعنى شكر الله لعبده المطيع انه راض عنه ، ويثيبه على شكره وطاعته.

ان الذين يكتمون ما أنزلنا الآة ١٥٩ ـ ١٦٢ :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢))

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ). ظاهر هذه الآية انها مستأنفة لا ترتبط بما قبلها .. ومحصل المراد منها ان كل من علم بحكم من أحكام الدين الذي جاء بيانه في كتاب الله ، أو في سنة رسول الله ، أو في حكم العقل وكتمه فهو ملعون عند الله وأهل السماء والأرض .. وقد أشار الله الى حكم العقل بلفظه

٢٤٦

«الهدى» .. قال صاحب مجمع البيان : البينات هي الأدلة الشرعية ، والهدى الدلائل العقلية ..

ولا يختص اللعن على الكتمان بأهل الكتاب فقط ، بل يشمل كل من كتم الحق ، لأمور :

١ ـ ان اللفظ لم يقيد بشيء.

٢ ـ لو افترض ان مورد نزول الآية ما فعله أهل الكتاب من تحريف التوراة والإنجيل فان المورد لا يخصص الوارد على حد تعبير الفقهاء ، وهم يعنون بذلك ان الحادثة الخاصة لا تقتضي تخصيص اللفظ العام.

٣ ـ قد ثبت في علم الأصول ان ترتب الحكم على الوصف مشعر بأن الوصف علة له ، وقد ترتبت اللعنة هنا على الكتمان من حيث هو ، فيكون عاما لكل كتمان.

وجاء في الحديث : من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار .. واتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن تعليم الجاهل احكام دينه الضرورية واجب كفاية على كل عارف بها ، فان فعل البعض سقط عن الكل ، وان ترك الكل استحقوا جميعا العقاب.

ومعنى اللعن من الله سبحانه طرد الملعون من رحمته ، ومعناه من الملائكة والناس الدعاء عليه بالطرد من رحمة الله.

قبح العقاب بلا بيان :

ان مسؤولية البالغ العاقل أمام الله سبحانه تقاس بوصول التكليف اليه ، ومعرفته به ، ولا أثر لمجرد التكليف في نفسه ، ولبيانه إذا لم يصل الى المكلف .. فان عدم وصول البيان تماما كعدمه من الأساس .. أجل ، يجب على المكلف أن يبحث وينقب عن البيان ودليل الحكم في مظان وجوده ، ويسأل عنه أهل الاختصاص في الدين والشرع .. ولا يجوز له أن يقصر ويهمل ، ثم يعتذر بالجهل ، لأن المقصر تماما كالعامد ، بل هو هو ، لأنه تعمد عدم البحث والدرس .. فإذا

٢٤٧

بحث مجدا ، ولم يظفر بشيء فهو غير مسؤول ، حتى ولو كان البيان موجودا في الواقع.

وهذه الحقيقة من أولى البديهيات العقلية ، وأي عاقل يعاتب غيره على أمر يجهله من غير تقصير! وقد أجمع الفقهاء كلمة واحدة على هذا المبدأ ، وأقره الشرع في العديد من الآيات والروايات ، فمن الآيات ما نحن بصددها : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ). والآية ١٥ من الاسراء : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). ومن الروايات قول الرسول الأعظم (ص) : (رفع عن أمتي ما لا يعلمون) وسنعود الى الموضوع كلما وصلنا إلى آية تشعر به.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا). أي ان الذين يكتمون الحق ملعونون إلا من تاب وندم على ما فرط ، وأصلح سريرته بالإخلاص في توبته عازما على عدم العودة الى المعصية ، وان يبين صراحة ما كان قد كتمه من قبل .. فان مجرد ندم السارق لا يكفي في توبته ما لم يرجع الحق إلى أهله.

(فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). التواب من صفات الله تعالى ، ومعناه القابل توبة من تاب ، وهو مبالغة في القبول ، واقترن الرحيم بالتواب للتنبيه على ان السبب في قبول التوبة عمن أساء هو رحمته تعالى بعباده.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). حتى من كفر بالله وجحده يقبل الله توبته إذا تاب وأناب ، ويغفر له ، ويرحمه ، ولا يعذب إلا من مات مصرا على الكفر والمعصية ، لأنه ، والحال هذه ، مستحق للعنة أهل السماء والأرض.

وتسأل : كيف قال الله سبحانه : والناس أجمعين ، مع العلم بأن في الناس من لا يلعن الكافر ، بخاصة أهل دينه الذين هم على شاكلته؟.

الجواب : ان القصد من قوله : (وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ان من مات على الكفر هو أهل ومحل للعنة أهل الأرض والسماء ، سواء ألعنوه بالفعل أم لم يلعنوه ، حتى ولو كانوا كفارا مثله فهو أهل للعنتهم .. وقد جاء في القرآن الكريم ان الكفار غدا يلعن بعضهم بعضا : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ـ العنكبوت ٢٥».

(خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ). ومعنى الخلود

٢٤٨

في اللعنة الخلود في أثرها ، وهو النار ، وقال الرازي : «معنى لا ينظرون انهم إذا استمهلوا لا يمهلون ، وإذا استغاثوا لا يغاثون ، ويقال لهم : اخسأوا ولا تكلمون .. نعوذ بالله».

حكم اللعن في الشريعة :

لعن الغير محرم ، ومن الكبائر ، لأنه أثم وعدوان ، تماما كالتعدي على الأموال ، وفي الحديث : «ان اللعنة إذا خرجت من صاحبها ترددت ، فان وجدت مساغا ، وإلا رجعت على صاحبها .. وقد خرج عن هذا المبدأ أصناف أجازت الشريعة لعنهم ، وهم :

١ ـ الكافر ، والآيات كثيرة في ذلك ، ومنها الآية التي نحن بصددها ، أما الأحاديث فقد تجاوزت حد التواتر ، منها ما جاء في كتاب أحكام القرآن للقاضي أبي بكر المعافري ، فقد ذكر عند تفسير الآية ١٦١ من سورة البقرة ان النبي (ص) قال : اللهم ان عمرو بن العاص هجاني ، وقد علم اني لست بشاعر ، فلعنه.

٢ ـ الظالم ، مسلما كان ، أو غير مسلم ، لقوله تعالى : (لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ـ الاعراف ٤٣.

٣ ـ من كذب على الله ورسوله ، قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ـ هود ١٨ .. ومن الكذب على الله سبحانه الحكم بغير ما أنزل.

٤ ـ من يسعى في الأرض فسادا.

٥ ـ من يفتن بين الناس ، ويثير النعرات والحزازات.

أما لعن غير هؤلاء فمحلّ إشكال ونظر .. أجل ، من تجاهر بمعصية غير مكترث تجوز غيبته فيما تجاهر به خاصة .. وبديهة ان جواز الغيبة شيء ، وجواز اللعن شيء آخر .. أما ما يستعمله العوام من لعن الحيوان ، وما اليه فهو من اللغو الذي يجمل تركه.

٢٤٩

والهكم إله واحد الآة ١٦٣ ـ ١٦٤ :

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤))

الإعراب :

إلهكم مبتدأ خبره إله ، وواحد صفة لإله ، ولا إله مبني على الفتح اسم لا النافية للجنس ، وخبرها محذوف تقديره لا إله موجود إلا هو ، والجملة خبر ثان ، وهو بدل من اسم لا ، ورفع تبعا للمحل ، وقيل هو بدل من الضمير المستتر في الخبر المحذوف ، وهو موجود ، والرحمن الرحيم خبر ثالث لإلهكم ، أو لمبتدأ محذوف تقديره هو الرحمن الرحيم.

المعنى :

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). قال أمير المؤمنين (ع) في وصيته لولده الحسن (ع) : (واعلم يا بني لو كان لربك شريك لأتتك رسله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته) ويأتي الكلام على نفي الشريك في تفسير قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) ـ الاسراء ٤٢». وقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ـ الأنبياء ٢٢». وقوله : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) ـ المؤمنون ٩١».

٢٥٠

السماء :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). ان في السماء من النجوم ما يفوق على حبات الرمل عددا ، وان أصغر نجم لهو أكبر حجما من الأرض بأكثر من مليون مرة ، وان كل مجموعة من النجوم تؤلف مدينة عظمى ، اسمها المجرة ، تضم أكثر من مائة مليون نجمة ، وان عدد هذه المدن أكثر من مليوني مدينة تبعد الواحدة عن الأخرى مسافة رسالة لا سلكية تصل بعد ثلاثة ملايين من السنين ، أي ان نسبة هذه المدن بمجموعها الى الفضاء الخالي ، تماما كنسبة ذبابة تائهة في الكرة الأرضية ، وكل هذه النجوم والمجرات تسير بتوازن وانتظام .. هذا مثال من ملايين الملايين على قدرة الله وعظمته ، اكتشفها العلم الحديث .. وما زالت الآية الكريمة تخاطب العلماء المكتشفين ، وتقول لهم : وما أوتيتم من العلم الا قليلا.

الأرض :

الأرض كرة معلقة في الهواء ، تدور حول نفسها مرة واحدة كل ٢٤ ساعة ، فيكون تعاقب الليل والنهار ، وتسبح حول الشمس مرة كل عام ، فيكون تعاقب الفصول الأربعة ، ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة ، ويحفظ هذا الغلاف من الغازات درجة الحرارة المناسبة للحياة ، ويحمل بخار الماء من المحيطات الى مسافات بعيدة داخل القارات ، حيث يتكاثف المطر.

ثم لو كان قطر الأرض أصغر مما هو عليه لعجزت عن الاحتفاظ بالتوازن ، ولصارت درجة الحرارة بالغة حد الموت ، ولو كان قطرها أكبر مما هو لزادت جاذبيتها للأجسام ، وتؤثر هذه الزيادة أبلغ الأثر في الحياة على سطح الأرض.

ولو بعدت الأرض عن الشمس أكثر من المسافة الحالية لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس ، ولو قربت منها أكثر مما هي الآن لزادت الحرارة ، وفي كلتا الحالتين تتعذر الحياة على الأرض.

فكروية الأرض ، والفراغ الذي يحيط بها ، ودورانها حول الشمس ، واحاطتها بالغلاف الجوي ، ووضعها في مكانها الخاص ، وكون قطرها بهذا

٢٥١

المقدار الخاص ، كل أولئك تهيئ للإنسان أسباب الحياة على الأرض ، ولو فقد وصف واحد من هذه الأوصاف ، كما لو كانت الأرض مسطحة ، أو أصغر ، أو أكبر ، أو أبعد أو أقرب الى الشمس ، أو فقد الغلاف لاستحال أن يكون الإنسان ابن الأرض بشهادة العلماء ، وليس من المعقول ان هذا النظام العجيب مجرد مصادفة .. بل بحكمة حكيم ، وتدبير مدبر.

وجود الله :

ذكرنا عند تفسير الآية ٢١ ـ ٢٢ من هذه السورة الادلة على وجود المدبر الحكيم ، ومن هذه الأدلة الدليل المعروف بالدليل الغائي ، وان النظام الدقيق المحكم بين الاجرام السماوية والعوالم الأرضية لا يمكن أن يكون وليد الصدفة ، ولا تفسير مقنع له إلا وجود قادر حكيم. وقد اعتمد القرآن هذا الدليل ، وأشار اليه في العديد من الآيات ، منها هذه الآية. وبمناسبتها نعود الى الاستدلال على وجود الله ، ولكن بأسلوب غير الأسلوب الذي اتبعناه عند تفسير الآية ٢١ ، وقبل كل شيء نمهد بما يلي :

ان الماديين يحصرون سبب العلم والمعرفة بالمشاهدة والتجربة ، فكل ما تؤمن به عن طريق التجربة فهو علم ، وكل ما تعتقده عن غير هذا الطريق فلا يسمونه علما ، ويسمونه عقيدة .. فالعلم والاعتقاد في اصطلاحهم مختلفان في مصدرهما ، ومتى استعان المرء بالتأمل والتجربة على صحة ما يعتقد يصبح المعتقد علما.

وعلى أساسهم هذا يكون الايمان بوجود الله عقيدة لا علما ، وكذا الايمان بعدم وجوده عقيدة لا علم ، لأن كلا منهما لا يستند الى التجربة والاختبار ، وتكون المقارنة بينهما مقارنة بين عقيدة وعقيدة .. وبكلمة ان كل ما يتصل بالله سبحانه من الاعتراف أو الإنكار فهو من شئون الغيب ، فإذا كان المؤمن بوجود الله مؤمنا بالغيب ، لأنه لم يستند الى التجربة ، فكذا من كفر به لم يستند الى التجربة ، بل الى الغيب ، فاذن هما سواء في ذلك.

وبعد هذا التمهيد نعرض قول الماديين الجاحدين لوجود الله ، وقول المؤمنين بالله ، ونترك الخيار للقارئ.

٢٥٢

قال الجاحدون : ان وجود الكون ، وما فيه من نظام وانسجام ، والإنسان وما فيه من شعور وعقل ـ كل ذلك وما اليه لا يخضع لضابط ، ولا لمنطق ، وانما جاء وليد الصدفة ، فالكون وجد صدفة ثم حصل الترتيب ، والنظام صدفة ، وكل شيء أخذ محله اللائق به صدفة ، والمادة هي التي أعطت الحياة والعقل ، والسمع والبصر ، وبكلمة ان المادة العمياء هي الإله القادر على كل شيء ، ولكن جاءتها القدرة والحكمة والتدبير عن طريق الصدفة.

أما المؤمنون بوجود الله فيقولون : ان الكون ونظامه قد انبثق عن قصد وتصميم ، وحكمة وتدبير من إله قادر حكيم.

والآن أيها القارئ الق على نفسك هذا السؤال : ما هو مصدر الكون ، والنظام والتدبير فيه؟ هل هو الصدفة كما يقول الجاحدون ، أو القصد والتدبير كما يقول المؤمنون؟ الق هذا السؤال على نفسك أيها القارئ ، ثم أجب عنه بوحي من عقلك .. أما «فولتر» الشهير فقد أجاب عن هذا السؤال بقوله : «ان فكرة وجود الله فرض ضروري ، لأن الفكرة المضادة حماقات».

أيهما أسبق : الليل أو النهار؟

اختلف العلماء : هل النور سابق على الظلمة ، أو الظلمة سابقة على النور في الوجود ، وعلى الأول يكون النهار سابقا على الليل ، وتكون ليلة اليوم هي الليلة التي تأتي بعد النهار ، وعلى الثاني يكون الليل سابقا على النهار ، وتكون ليلة اليوم هي الليلة التي تأتي قبل النهار ، وذهب الأوائل الى هذا القول ، فليلة الجمعة عندهم ـ مثلا ـ هي التي تدخل قبل فجر الجمعة ، وهكذا سائر ليالي الأيام ، ومما استدلوا به قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) ـ يس ٣٧.

يتخذ من دون الله انداداً الآة ١٦٥ الى ١٦٧

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ

٢٥٣

آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))

اللغة :

دون ظرف مكان ، تقول : قعد فلان دون زيد ، أي في مكان منحط عن مكانه ، ويستعمل لفظ دون بمعنى رديء ، وبمعنى غير مجازا ، وهذا هو المراد من قوله تعالى من دون الله ، أي من غير الله. والأنداد جمع ند ، وهو النظير والمماثل ، تقول : عامله معاملة الند للند ، أي النظير للنظير ، والمراد بالأنداد هنا بعض المخلوقات التي ينسب اليها جماعة من الناس ما لله من خصائص ، كالنفع والضر ، والقدرة الخارقة ، والعلم بالغيب ، وما الى ذلك.

الإعراب :

كحب الله الكاف بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق محذوف ، تقديره يحبونهم حبا مثل حب الله ، وأشد خبر الذين آمنوا ، وحبا تمييز ، وان القوة لله بفتح همزة أن ، والمصدر المنسبك منها ومما بعدها مفعول يرى ، وجميعا حال ، وان الله شديد العذاب عطف على ان القوة لله ، والتقدير لو يرى الذين ظلموا قوة الله ، وشدة عذابه ، وجواب لو يرى محذوف دلّ عليه سياق الكلام ، والتقدير لعلموا ان الله لا شريك له ولا ند.

٢٥٤

المعنى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ). أي ان بعض الناس يشركون بالله ، لأنهم قد جعلوا له نظراء في بعض خصائصه ، كالنفع والضرر .. وعن الإمام الباقر (ع) انه قال : الأنداد الذين اتخذوهم ، وأحبوهم كحب الله هم أئمة الظلمة ، وأشياعهم.

وقيل : ان معنى حب الله سبحانه هو حب الكمال : لأنه الكمال المطلق. وقيل : بل هو العلم بعظمته وقدرته وحكمته. وقيل : الايمان بأنه المبدئ المعيد ، وان كل شيء في يده .. ونحن على الطريقة التي التزمناها من اختيار المعنى الملائم الواضح القريب الى كل فهم ، وعلى هذا الأساس نقول : ان الذي يحب الله هو الذي يخالف هواه ، ويطيع مولاه ، كما قال الإمام الصادق (ع) في تعريف من يؤخذ الدين عنه ، وبكلمة : ان معنى حبك لله ان تترك ما تريد لما يريد ، كما ان معنى محبة الرسول (ص) العمل بسنته ، أما حب الله لعبده فاجزال الثواب له ، وجاء في الحديث : «سأعطي الراية غدا الى رجل ـ وهو علي بن أبي طالب ـ يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله». أي ان عليا يطيع الله ، والله يجزل له الثواب ، والرسول يكرمه ويقدمه.

وبعد ، فان كل من يؤثر طاعة المخلوق على طاعة الخالق فقد اتخذ من دون الله أندادا ، من حيث يريد ، أو لا يريد.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ). لأنهم لا يشركون أحدا في طاعته ، والثقة به ، والتوكل عليه ، أما غير المؤمنين فيثقون بالعديد من الأنداد ، ويشركونهم مع الله في الطاعة ، وطلب الخير ، ودفع الشر.

(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً). أي لو علم المشركون الذين ظلموا أنفسهم ان لا سلطان في يوم الحق والفصل لأحد سوى الله ، وانه وحده يستقل بعذاب العاصين ، وثواب الطائعين ـ لو علموا ذلك لأيقنوا ان الذي يستقل غدا في شئون الآخرة هو وحده الذي يدبر هذا العالم .. فجواب لو محذوف دل عليه سياق الكلام.

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ).

٢٥٥

ما زال الكلام في الذين اتخذوا أندادا من دون الله ، وهؤلاء هم المرءوسون والتابعون ، والأنداد هم الرؤساء والمتبوعون .. وغدا إذا انكشف الغطاء تبرأ الرئيس من المرءوس ، والمتبوع من التابع ، لشدة ما وقع به من العذاب ، وتقطعت الروابط والعلاقات بين الاثنين ، قال صاحب مجمع البيان : «يزول بينهم كل سبب يمكن التعلق به من مودة وقرابة ومنزلة وحلف وعهد ، وما إلى ذلك مما كانوا ينتفعون به في هذه الدنيا ، وذلك غاية الإياس». وتجري هذه الآية مجرى قوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) ـ الأعراف ٣٧».

(وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا). يتمنى غدا كل عاص ان يعود الى الدنيا ليصلح ما كان أفسد ، بخاصة التابع لأهل البغي والضلال ، ليتبرأ من المتبوع المضل ، ولا شيء أبعد من هذه الأمنية ، بل هي حسرة تحرق النفس ، تماما كما تحرق النار الجسد .. وهكذا تكون الحسرات ثمرة لاتباع الهوى والتفريط.

وظاهر لفظ الآية يدل على انها مختصة بالكفار ، ولكن السبب الموجب للحكم يشمل كل من اتبع وناصر أهل الجور والفساد ، ومن اعتقد ان غير الله ينفع ويضر ، ومن أخذ دينه عن أهل الجهل والضلال ، ان هذه الآية تشمل هؤلاء جميعا ، حتى من نطق بكلمة التوحيد ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة .. اللهم الا الجاهل القاصر الذي يعجز عن معرفة الحقيقة ، وادراك ما تدركه العقول السليمة.

التقليد والأئمة الأربعة :

جاء في تفسير المنار نقلا عن الشيخ محمد عبده ان الأئمة الأربعة : أبا حنيفة ومالكا والشافعي وابن حنبل نهوا عن تقليدهم والأخذ بأقوالهم ، وانهم قد أمروا بتركها لكتاب الله وسنة رسوله ، وبعد ان نقل قول كل إمام في ذلك قال : ولكن الكرخي ـ هو أحد فقهاء الحنفية ـ صرح قائلا بأن الأصل قول الحنفية ،

٢٥٦

فان وافقته نصوص الكتاب والسنة فذاك ، والا وجب تأويل نصوص القرآن والسنة النبوية على وفق قول الحنفية.

ومعنى هذا ان قول الحنفية حاكم ومقدم على القرآن والسنة ، وهما محكومان له ، وهذا القول هو الكفر بعينه ، وأي كفر أعظم من طرح قول الله ورسوله بقول أبي حنيفة وأصحابه؟ وأي فرق بين من يقول هذا ، وبين من أشار الله اليهم بقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا). وقد بحثنا التقليد بصورة أوسع عند تفسير الآية ١٧٠ من هذه السورة فقرة «التقليد وأصول العقيدة» ، فراجع.

هذا ، الى ان العمل بأقوال الأئمة الأربعة عمل بلا اجتهاد ولا تقليد ، لأن الأربعة قد منعوا من تقليدهم والعمل بأقوالهم.

كلوا مما في الأرض الآة ١٦٨ ـ ١٧٠ :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠))

اللغة :

الحلال كل ما لم يثبت النهي عنه في الشريعة ، والحرام ما ثبت النهي عنه ، والطيب هو الحسن ، تقول : حياة طيبة ، وكلمة طيبة ، أي حسنة ، ومأكول طيب أي حسن ، والمراد بالطيب هنا ما تميل النفس اليه وتستلذه على شريطة ان

٢٥٧

لا يكون منهيا عنه .. والسوء كل ما تسوء عاقبته ، والفحشاء من الفحش ، وهو قبح المنظر ، ثم استعمل في كل قبيح من قول أو فعل.

الاعراب :

حلالا حال من الموصول المجرور بمن ، وهو قوله : (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) ، وطيبا صفة لحلال ، وألفينا لم تتعد هنا الى مفعولين ، لأنها بمعنى وجدنا.

المعنى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً). هذا الخطاب عام لجميع الناس ، سواء منهم من حرّم على نفسه بعض الأطعمة ، أو لم يحرّم ، وسواء منهم المؤمن والكافر ، لأن الكافر يحرم من نعيم الآخرة ، لا من متاع الدنيا ، وفي الحديث القدسي : «أنا أخلق ، ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري». ولما كان المأكول منه حلال ومنه حرام ، فقد أباح الله الأول دون الثاني ، وكل ما لم ينه الشرع عنه فهو حلال : جاء في الحديث : «ان الله سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله بكم». وقد يحرم بالعارض الشيء الذي هو حلال بالأصل ، كالمال المأخوذ بالربا والغش والرشوة والسرقة.

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ). بعد أن أباح الله للناس الحلال حذرهم من التعدي الى الحرام ، وعبّر عن هذا التحذير بالنهي عن اتباع الشيطان ووسوسته التي تزين للإنسان ما لا يحل له .. وكل خاطر يغري بارتكاب الحرام ، كالخمر والزنا والكذب والرياء ، أو يحذر من فعل الواجب ، كالخوف من الفقر إذا أدّى ما عليه من حق ، أو من الضرر إذا جاهد او قال الحق ، كل ذلك وما اليه هو من وحي الشيطان .. وقد حكى الله عن الشيطان قوله : (لَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ). وقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) ـ الأعراف ١٥».

(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). هذا

٢٥٨

بيان للآثار والنتائج التي تترتب على اتباع دعوة الشيطان وخطواته ، وهي أمور ثلاثة : السوء ، وهو كل فعل تسوء عاقبته ، والفحشاء ، وهي أقبح أنواع المعاصي ، والقول على الله بغير علم من أن له أندادا وأولادا ، ومن تحليل الحرام ، وتحريم الحلال ، ومنه العمل بالرأي والقياس والاستحسان لاستخراج الأحكام الشرعية.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا). الضمير في (لهم) يعود على كل من قلد الغير بلا حجة ودليل ، وترك قول الله والرسول بقول الآباء ، والمراد بما انزل الله كل ما قامت عليه الدلائل والبراهين ، وآمنت به العقول السليمة.

(أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ). الهمزة للتوبيخ ، والواو للحال ، والمعنى أيتبعون الآباء حال كونهم لا يعقلون شيئا من أمور الدين .. فليس المراد من قوله (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) نفي العقل والفهم عنهم في كل شيء ، وان كان الظاهر يعطي ذلك ، بل المراد نفي التعقل في أمور الدين فقط ، لأن الكلام في خصوص الأمور الدينية. وسنشير في الفقرة التالية الى ان هذه الآية تدل على قبح التقليد في الضلال ، أما التقليد في الهدى فانه من القدوة الحسنة.

التقليد وأصول العقائد :

ان التقليد كفكرة ، ومن حيث هو ، لا يذم ولا يمدح ، ولا يحكم عليه بحسن ولا بقبح بوجه عام ، بل يختلف باختلاف أنواعه التالية :

١ ـ التقليد الذي يرجع الى العدوى النفسية ، والغريزة التي تشاهد في الإنسان ، والحيوان على السواء ، من ذلك صياح الديكة حين تسمع صوت أحدها ، ونهيق الأحمرة حين ينهق واحد منها .. وكذلك الحال بالنسبة الى الإنسان ، يصفق واحد للخطيب ، فيقلده الآخرون من غير شعور ، حتى ولو لم يفهموا شيئا مما أراد ، وينظر شخص الى جهة معينة ، فيصوب النظر اليها كل من يراه من غير قصد ، وهذا النوع من التقليد لا يوصف بحسن ولا بقبح ، لأنه خارج عن دائرة الشعور والارادة.

٢٥٩

٢ ـ ما جرت عليه العادة في طريقة المحاورات والمجاملات ، وفي كيفية اللباس ، وما الى ذلك مما تستدعيه الحياة الاجتماعية ، ويشترك فيه الكبير والصغير ، والعالم والجاهل ، وهذا النوع من التقليد يوصف بالحسن والقبح تبعا لما يراه الناس.

٣ ـ تقليد الجاهل للعالم في الشؤون الدنيوية ، كالطب والهندسة ، والزراعة والصناعة ، وما اليها من الرجوع الى أهل الخبرة والاختصاص ، وهذا التقليد حسن ، بل هو ضرورة لازمة تفرضها الحياة الاجتماعية ، ولولاه لاختل النظام ، وتعطلت الأعمال ، إذ ليس في مقدور الإنسان أن يعلم كل شيء ، ويحيط بكل ما يحتاج اليه ، وقد كان الإنسان وما زال بحاجة الى التعاون ، وتبادل الخدمات.

٤ ـ تقليد المجتهد لمجتهد مثله في الأمور الدينية ، فانه مذموم عقلا وعرفا ، ومحرّم شرعا ، لأن ما علمه هو حكم الله في حقه ، فلا يجوز تركه بقول غيره .. وأي عاقل كفؤ تقوم الحجة لديه فينكرها بحجة سواه؟ .. وأي عالم يرغب عن قول الله ورسوله المعصوم الى قول من يخطئ ويصيب؟.

٥ ـ تقليد الجاهل للمجتهد العادل في المسائل الدينية الفرعية ، كأحكام العبادات ، والحلال والحرام ، والطهارة والنجاسة ، وصحة المعاملات ، وما اليها ، وهذا التقليد واجب عقلا وشرعا ، لأنه تقليد لمن أخذ علمه من الدليل والحجة ، تماما كتقليد المريض الجاهل بدائه ودوائه للعالم بهما .. ان الجاهل مكلف بالاحكام ، ولا طريق له الى الامتثال إلا بالرجوع الى العالم : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

أجل ، إذا صلى الجاهل وصام تبعا لآبائه ومن اليهم ، لا تقليدا للمجتهد العادل ، وطابقت عبادته الواقع صحت منه وقبلت ، لأن التقليد ليس جزءا ولا شرطا من المأمور به ، وانما هو مجرد وسيلة .. وبالأولى ان تصح معاملاته إذا وقعت على وجهها.

أما قول من قال : ان العبادة تفتقر الى نية القربة ، ونية القربة لا تتحقق إلا من المجتهد أو المقلد له .. أما هذا القول فمجرد دعوى ، لأن معنى نية القربة الإتيان بالمأمور به بدافع الأمر المتعلق به خالصا من كل شائبة دنيوية .. وليس

٢٦٠