التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

ما ولاهم عن قبلتهم الآة ١٤٢ :

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢))

اللغة :

تقدم الكلام عن معنى السفه في الآية ١٣٠ : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ). وقال ابن عربي في تفسيره : ان كل من لم يدرك حقيقة دين الإسلام فهو سفيه ، لأنه خفيف العقل .. والقبلة مأخوذة من الاستقبال ، وهي كل جهة يستقبلها الإنسان .. وولاه عنه صرفه عنه.

الاعراب :

من الناس متعلق بمحذوف حال من السفهاء ، لأن الظرف والمجرور بعد المعرفة يتعلق بالحال ، وبعد النكرة بالصفة. وما استفهام إنكاري ، ومحلها الرفع بالابتداء ، وخبرها جملة ولاهم ، والضمير في (هم) عائد على النبي (ص) والمسلمين.

المعنى :

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها). كان الأنبياء السابقون يصلون الى بيت المقدس ، وقد صلى النبي (ص) اليه بأمر الله أمدا غير قصير ، ولكنه (ص) كان يتمنى لو يحول الله القبلة الى الكعبة ، وحقق الله تعالى أمنيته ، كما يأتي قريبا.

والمراد بالسفهاء اليهود ، لأنهم هم الذين عابوا على المسلمين رجوعهم في الصلاة عن بيت المقدس الى الكعبة ، ولفظة (سيقول) تدل بظاهرها على اعلام

٢٢١

الله سبحانه نبيه الأكرم بقول السفهاء قبل وقوعه منهم ، وصدوره عنهم ، أما قول من قال بأن لفظة (سيقول) وان كان ظاهرها الاستقبال ، ولكن المراد منها الماضي ، وان الله خاطب بها رسوله بعد ان قال السفهاء ، لا قبل أن يقولوا ، وجاءت بصيغة المستقبل ايحاء بأن ما قالوه كان مقدرا ومترقبا ، أما هذا القول فانه تأويل للظاهر من غير دليل يدل عليه ، أو ضرورة تدعو اليه.

وعلى كل ، فلقد أمر الله سبحانه رسوله الأعظم محمدا (ص) أن يجيب هؤلاء السفهاء بأن (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). أي ان الجهات كلها لله ، والكعبة وبيت المقدس اليه سواء. ولكن الحكمة والمصلحة تارة تستدعي أن يهدي من يشاء من عباده الى بيت المقدس ، وتارة الى الكعبة.

لما ذا الصلاة الى جهة معينة؟

وهنا سؤال يردده كثيرون ، وهو : لما ذا تجب الصلاة الى جهة معينة ، ولا تصح الا اليها ، مع العلم بأن الله سبحانه في كل مكان ، وانه قال صراحة : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)؟. الآية ١١٥ البقرة.

الجواب : أولا ان الله سبحانه قال أيضا : فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، وهذه الآية ١٤٤ من سورة البقرة تفسير وبيان للآية ١١٥ وان المراد بها التوجه الى أية جهة تكون في الصلاة المستحبة حال المشي والركوب ، وفي صلاة المتحير الذي يجهل القبلة ، والمراد بآية ١٤٤ الاتجاه في الصلاة الواجبة ، وتقدم بيان ذلك مفصلا في الآية ١١٥.

ثانيا : ان صحة الصلاة تتوقف على وجود الأمر بها من الله سبحانه ، وعلى هذا الأصل لا بد أن ننظر : هل تعلق الأمر بالصلاة الى أية جهة أردنا ، أو الى جهة خاصة ، فان كان الأول صحت الصلاة الى أية جهة تكون. وان كان الثاني فلا تصح الا إلى الجهة المأمور بها ، سواء أكانت الكعبة أو بيت المقدس ، أو غيرهما .. وبكلمة ان امتثال الأمر شيء ، ووجود الله في كل مكان شيء آخر .. ان العبادة من الأمور «التوقيفية» على تعبير الفقهاء ، أي تتوقف على بيان الله

٢٢٢

لها بلسان نبيّه ، ولا مجال فيها للظنون والاحتمالات ، ولا لأي شيء الا النص الصريح الصحيح .. وقد أمر الله المسلمين أولا أن يصلوا الى بيت المقدس ، فلو صلوا الى الكعبة لم يقبل منهم ، ثم أمرهم أن يتحولوا الى الكعبة ، ولو صلوا الى بيت المقدس بعد هذا لم يقبل منهم مع انهما له ومنه .. ذلك ان معيار صحة الصلاة موافقتها للأمر بجميع أجزائها وشروطها ، كما ان معيار فسادها مخالفة الأمر.

جعلناكم أمة وسطاً الآة ١٤٣ :

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣))

اللغة :

الوسط بسكون السين ظرف ، تقول جلست وسط القوم ، والوسط بفتح السين الخير ، قال الرسول الأعظم (ص) : خير الأمور أوسطها ، وقال : عليكم بالنمط الأوسط ، ويأتي الوسط بمعنى العدل ، تقول : فلان وسط أو متوسط في أخلاقه ، أي معتدل فيها ، والعدل والخير متقاربان ، والمراد بالوسط هنا ان الله سبحانه جعل دين المسلمين معتدلا في العقيدة والأخلاق ، أما العقيدة فلا شرك فيها ولا الحاد ، بل توحيد ، وأما الأخلاق فلا مادية فقط ، ولا روحية فقط ، بل من هذه وتلك بشرط التعادل والتكامل. وعقب الإنسان في

٢٢٣

اللغة نسله ، وأيضا يطلق على مؤخر القدم ، وقد استعير هنا لمن يكفر بالله ورسوله ، لأن المنقلب على عقبه يترك ما بين يديه ، ويدبر عنه ، وحيث أن تارك الايمان هو بمنزلة المدبر عما بين يديه ، فوصف بذلك.

الإعراب :

كذلك الكاف بمعنى مثل ، ومحلها النصب نعتا لمصدر محذوف متصيد من جعلناكم ، والتقدير جعلناكم جعلا مثل ذلك .. وذلك اشارة الى الهداية ، ويأتي التوضيح عند التعرض للمعنى ، وجعلنا تحتاج الى مفعولين : والمفعول الأول هنا القبلة ، والثاني محذوف ، وهو الجهة ، والتي صفة للجهة ، والتقدير وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها إلا لنعلم .. وان كانت : (ان) مخففة من الثقيلة لا عمل لها. قال صاحب المغني : تهمل كثيرا ، وتعمل قليلا ، وكبيرة خبر كان ، ودخلت اللام على كبيرة للفرق وعدم اللبس بين «ان» المخففة المهملة ، وبين «ان» النافية.

المعنى :

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). هذه الجملة بيان لقوله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، ووجه البيان ان الله سبحانه قد أنعم على أتباع محمد (ص) بالهداية ، وأبرز مظهر لهذه الهداية انه جعلهم في الدين معتدلين متوسطين بين الافراط الذي هو الزيادة ، كتعدد الآلهة ، وبين التفريط الذي هو النقص ، كالالحاد .. هذا من جهة العقيدة ، واما الاعتدال في الأخلاق فقد جمع لهم في تعاليمه وتوجيهاته بين حق الروح ، وحق الجسد ، فلا روحانية مقترة ، ولا مادية مسرفة ، بل تعادل وتوازن بينهما.

وقد استدل البعض بقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ، استدل به على حجة الإجماع ، وهو استدلال في غير محله ، لأن الآية لم ترد لبيان الإجماع ، وانه حجة ، أو ليس بحجة ..

٢٢٤

وقال آخرون : ان قوله سبحانه هذا يدل على ان كل مسلم عادل بطبيعته .. وهذا القول باطل من الأساس ، لأن العدالة من الموضوعات التي لا تثبت إلا بالحس أو البينة.

التكامل والتعادل في الإسلام :

لما كان الإنسان مكوّنا من جسم ترابي فان ، ومن سر إلهي خالد ، وهو الروح ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي). ولما كان لكل منهما مطالب وحاجات ، لذلك جاءت تشريعات الإسلام وتوجيهاته على أساس الأمرين وتنظيمهما معا دون أن يطغى أحدهما على الآخر. وبكلمة : للإنسان جزءان ، فإهمال أحدهما إهمال له بالذات.

لقد حرم الإسلام الرهبانية ، وإرهاق النفس بالقضاء على الطبيعة ، كما حرم الخبائث والإسراف في الشهوات ، والترف على حساب الغير .. وأحل زينة الحياة ومتعها من الأكل الطيب ، واللبس الطيب ، وما اليهما .. ومن يستعرض آيات القرآن يجد ان الدنيا كلها خلقت من أجل حياة راضية مرضية عند الجميع ، وان الانكماش عنها انكماش عن الدين ، كما ان التكالب على احتكارها وحرمان الغير فساد في الأرض ، وخطر على المجتمع كله .. وأفضل الأرزاق كلها عند الإسلام ما كان بكدّ اليمين ، وعرق الجبين.

قال انس : كنا مع رسول الله (ص) في سفر ، ومنا الصائم ، ومنا المفطر ، فنزلنا منزلا في يوم حار ، فسقط الصائمون ، وقام المفطرون بخدمتهم. فقال رسول الله (ص) : ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله.

هذا هو الوسط والعدل الذي يرتكز عليه الإسلام ، ويدعو اليه ، لا عبادة تقعد بك عن السعي والعمل ، ولا شراسة في التكالب تصرفك عن الله وعبادته.

(لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). ان معاني الكلمات المفردة واضحة ، وكذا المعنى العام للمركب منها .. ولكن الاشكال والغموض في تعيين ما نشهد به نحن المسلمين على غيرنا .. أي شيء هو؟. ان الرسول يشهد غدا على من خالف منا بأنه لم يعمل بالإسلام وأحكامه ، فهل نشهد نحن

٢٢٥

يوم القيامة على غير المسلمين بأنهم خالفوا الكتاب والسنة؟ .. وقد تعددت أقوال المفسرين في ذلك ، وتضاربت ، ولم تركن نفسي الى شيء منها.

والذي أميل اليه ان علماء المسلمين خاصة مكلفون دينا بأن يبلغوا رسالة محمد (ص) على وجهها للناس ، سواء منهم المسلم الجاهل ، وغير المسلم .. فمن قام بهذا الواجب المقدس من العلماء يصبح شاهدا على من بلغه الرسالة ولم يعمل بها ، ومن أهمل من العلماء ولم يبلغ فان محمدا (ص) يشهد عليه غدا أمام الله أنه قد خان الرسالة بعد ان عرفها وحملها ..

وللتوضيح نضرب هذا المثل : رجل عنده مال ، وله ولد لم يبلغ الرشد بعد ، وحين شعر صاحب المال بدنو أجله أوصى جارا له يثق بدينه أن ينفق من المال على تربية ولده وتعليمه ، فان فعل ، ونجح الولد كما أراد الوالد فذاك ، وان اهتم الوصي بشأن الولد ، ولكنه تمرد ورفض التعليم كان الوصي شاهدا على الولد ، وان أهمل الوصي وقصر في الوصية كان الوالد شاهدا على الوصي ، والوصي مسؤولا أمام الله والوالد.

وهكذا نحن العلماء مسؤولون أمام الله ورسوله عن بث الدعوة الاسلامية بين أهل الأديان بالحكمة والموعظة الحسنة ، وعن تعليم الأحكام لمن يجهلها من المسلمين .. ومن قصّر في هذا الواجب شهد عليه غدا سيد الكونين شهادة صريحة واضحة بين يدي العزيز الجبار .. والويل كل الويل لمن يشهد عليه رسول الله ، ويحكم عليه الله .. هذا إذا أهمل ولم يبشر ، فكيف إذا أساء وكان هو السبب الباعث على التشكيك في الدين وأهله.

(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ). بعد ان أمر الله نبيه الأكرم بالتحول من بيت المقدس الى الكعبة ارتاب بعض أتباع الرسول (ص) وقالوا : مرة هاهنا ومرة هاهنا ، واستغل اليهود موقف هؤلاء الجهلة ، وأخذوا يشككونهم بالنبي. وقد كان اليهود ، وما زالوا ، ولن يزالوا أبدا ودائما أرباب فتن وفساد ، وأداة مكر وخداع بطبيعتهم وفطرتهم ، يخلقون المشاكل ويضعون العقبات في طريق كل مخلص ، ويحولون المجتمعات ان استطاعوا الى جحيم .. وهكذا يلتقي أعداء الحق دائما وفي كل عصر مع ضعاف العقول ، ويتخذون منهم أداة للكيد والتخريب والفوضى .. وقد

٢٢٦

وصف الإمام علي هؤلاء أبلغ وصف بقوله : «همج رعاع ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا الى ركن وثيق».

وأخبر الله نبيه العظيم بأن الذين شككوا وارتابوا ليسوا بمؤمنين في واقعهم ، بل كان ايمانهم زائفا لا أصيلا ، ولقد محصناهم بالبلاء ، ليظهروا على حقيقتهم لك ولغيرك. (وان كانت ـ القبلة الجديدة ـ لكبيرة الا على الذين هدى الله). وهم أهل الإيمان المستقر الأصيل ، لا أهل الايمان المستعار المموه.

وتسأل : ان الله سبحانه يعلم الشيء قبل وقوعه ، فما هو الوجه في قوله لنعلم من يتبع الرسول؟.

الجواب : ان المراد ليظهر الطائع والعاصي ، ويتميز لدى الناس كل بما هو فيه وعليه .. وقال أكثر المفسرين ان علم الله بالنسبة الى الحادث على قسمين : علم به قبل إيجاده ، وهو في عالم الغيب ، وعلم به بعد إيجاده ، وهو في عالم الشهادة ، والمراد بالعلم هنا الثاني دون الأول ، أي ان الله يريد أن يعلم به حال وجوده ، كما علم به حال عدمه .. وهذا تحذلق ولعب بالألفاظ .. فان علم الله واحد ، وعالم الغيب بالنسبة اليه ، تماما كعالم الشهادة.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). هذه بشارة من الله لمن ثبت على إيمانه مع الرسول الأعظم (ص) في السراء والضراء ، ولم يرتب في أمر من أوامره ، ولا نهي من نواهيه .. وقال أكثر المفسرين ، أو الكثير منهم : ان السبب لنزول هذه الآية ان جماعة من الأصحاب صلوا مع النبي (ص) الى القبلة الأولى ، ثم ماتوا قبل التحول الى الثانية ، فسئل الرسول عن صحة صلاتهم؟ فقال الله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ).

ونحن لا نعتمد روايات أسباب النزول إلا القليل البالغ حد اليقين أو الاطمئنان ، لأن العلماء لم يهتموا بغربلتها وتمحيصها ، كما فعلوا بأحاديث الأحكام ، فبقيت على سقمها وعللها.

٢٢٧

قد نرى تقلب وجهك في السماء الآة ١٤٤ ـ ١٤٥ :

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥))

اللغة :

يطلق الشطر ، ويراد به القسم من الشيء ، وقيل : إذا أطلق يفهم منه النصف ، فإذا قلت : شطرته شطرين معناه انك جعلته نصفين متعادلين ، وأيضا يراد بالشطر الجهة والنحو ، وهذا المعنى هو المقصود هنا.

الإعراب :

قد إذا دخلت على المضارع أفادت التقليل في كلام المخلوق ، وهي دائما تفيد التحقق والثبوت إذا وردت في كلام الخالق. وحيث وإذ لا تجزمان الا مع (ما) ، فإذا اقترنت ما بإحدى اللفظتين فإنها تجزم فعلين ، أحدهما فعل الشرط ، والآخر جوابه ، وكنتم في محل جزم فعل الشرط ، وفولوا جواب. ولئن اللام للقسم ، أي تالله لئن ، وان شرطية ، وكل من اللام وان يحتاج الى جواب ، وقوله تعالى : (ما تبعوا) جواب القسم ، ومن أجل هذا دخلت عليه (ما) ، أما جواب ان فمحذوف دل عليه جواب القسم الموجود. وشطر منصوب على الظرف.

٢٢٨

المعنى :

قال صاحب مجمع البيان : «روي عن الإمام جعفر الصادق (ع) انه قال : تحولت القبلة الى الكعبة بعد ما صلى النبي (ص) بمكة ثلاث عشرة سنة الى بيت المقدس ، وبعد مهاجرته الى المدينة صلى الى بيت المقدس سبعة أشهر ، ثم وجهه الله الى الكعبة ، وذلك ان اليهود كانوا يعيرون رسول الله (ص) ، ويقولون له : أنت تابع لنا ، تصلي الى قبلتنا ، فاغتم رسول الله (ص) من ذلك غما شديدا ، وخرج في جوف الليل ينظر الى آفاق السماء ، ينتظر من الله تعالى أمرا في ذلك ، فلما أصبح وحضر وقت الظهر كان في مسجد بني سالم ، وصلى فيه من الظهر ركعتين ، فنزل عليه جبريل (ع) فأخذ بعضديه ، وحوله الى الكعبة ، وأنزل عليه : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فصلى ركعتين الى بيت المقدس ، وركعتين الى الكعبة».

(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). وصف المسجد بالحرام ، حيث يجب تقديسه ، ويحرم هتكه ، والكعبة جزء من المسجد الحرام ، وهو جزء من الحرم الذي يشمل مكة وضواحيها المحددة في كتب الفقه ، باب الحج ، مسألة محرمات الإحرام ، والصيد في الحرم.

والمعروف من طريقة القرآن الكريم ان كل تكليف شرعي موجه بظاهره لرسول الله (ص) يدخل فيه عموم المكلفين ، مثل : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) ـ هود ١١٤». ولا يختص التكليف به وحده إلا مع القرينة ، كقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) ـ الاسراء ٧٩». فان لفظة لك تدل على ان هذا التكليف لا يشمل سواه .. وأيضا من طريقة القرآن ان التكليف الموجه الى المكلفين يدخل فيه محمد (ص) دون أدنى فرق من هذه الجهة بينه وبين غيره ، وعليه فان الأمة داخلة في قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

(وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). أي أينما كنتم في بحر أو بر أو سهل أو جبل في الشرق أو في الغرب فعليكم أن تستقبلوا المسجد الحرام بمقدم البدن ، ولا يجوز أن تستدبروه في الصلاة ، أو تضعوه على اليمين أو الشمال ..

٢٢٩

وعلى هذا تختلف قبلة المسلمين باختلاف الأقطار ، فقد تكون بالنسبة إلى أهل قطر في الغرب ، والى غيرهم في الشرق ، ومن أجل هذا اهتم المسلمون بأمر القبلة ، ووضعوا علما خاصا يسمى بعلم «سمت القبلة» بخلاف النصارى الذين يلتزمون دائما جهة الشرق ، واليهود جهة الغرب أينما كانوا ، حتى ولو استلزم ذلك ادبارهم لبيت المقدس.

وتسأل : إذا كانت الأمة تدخل في خطاب التكليف الموجه للرسول ، وخطاب التكليف للأمة يشمل الرسول ، فلما ذا الجمع بين الخطابين في آية واحدة ، وموضوع واحد ، وبدون فاصل أيضا ، حيث قال جل من قائل : فولّ ـ يا محمد ـ وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيثما كنتم ـ أيها المسلمون ـ فولّوا وجوهكم شطره؟.

الجواب : ان التحول كان من الحوادث العظيمة في الإسلام ، كما انه جاء وفقا لرغبة الرسول الأعظم (ص) فأراد الله سبحانه أن ينبه الى ذلك ويؤكده بالتكرار ..

هذا ، الى ان التكليف هو بالأصالة لمحمد (ص) لأنه جاء مراعاة لرغبته ، وبالتبع لأمته.

متى يجب استقبال اهل القبلة؟

الكعبة قبلة لمن هو داخل المسجد الحرام الذي تقع الكعبة فيه ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، أي لأهل مكة وضواحيها ، والحرم أو الجهة التي هو فيها قبلة لأهل المشرق والمغرب.

ويجب استقبال القبلة في الصلاة اليومية ، وركعات الاحتياط ، والأجزاء المنسية من الصلاة ، وسجدتي السهو ، ولكل صلاة واجبة بما في ذلك ركعتا الطواف ، والصلاة على الميت ، ويجب الاستقبال أيضا بالميت عند احتضاره ودفنه ، وأيضا عند الذبح والنحر .. أما الصلاة المستحبة فيجب الاستقبال بها حال الاستقرار ، ولا يجب حال المشي والركوب.

٢٣٠

اهل القبلة :

أهل القبلة ، وأهل القرآن ، وأهل الشهادتين ، والمسلمون ألفاظ تترادف على معنى واحد ، أما اسم المحمديين فقد اخترعه لنا ، وأطلقه علينا أعداء الإسلام ، يقصدون بذلك اننا أتباع شخص ، لا أهل دين سماوي ، تماما كالبوذيين أتباع بوذا ، والزرادشتيين أتباع زرادشت.

ومهما يكن ، فان الغرض من هذه الفقرة التنبيه على ان الأمة الاسلامية على اختلاف بلادها ، وألوانها ، وألسنتها تجمعها وتوحد بينها أصول واحدة هي أعز وأغلى من حياتها ، لأن المسلمين جميعا يستهينون بالحياة من أجل تلك الأصول ، ولا يستهينون بها من أجل الحياة ، ومن تلك الأصول الايمان بالله وكتابه ، وبمحمد (ص) وسنته ، والصلاة الى القبلة .. فمن كفّر من يصلي الى القبلة ، وأخرجه من عداد المسلمين فقد أضعف قوة الإسلام ، وشتت كلمة المسلمين ، وأعان أعداء الدين على الدين ، من حيث يريد ، أو لا يريد.

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ). المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى ، لا خصوص اليهود ـ كما قيل ـ لأن اللفظ عام ، ولا دليل على التخصيص .. واختلف المفسرون في ضمير (انه) هل يعود الى الرسول ، أو الى المسجد الحرام ، وسبب الاختلاف انه قد تقدم ذكر الرسول في قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ). وأيضا تقدم ذكر المسجد الحرام ، ونميل نحن الى إعادته الى المسجد ، لأنه أقرب لفظا الى الضمير ، والضمير يعود الى الأقرب ، وعليه يكون المعنى ان أهل الكتاب يعلمون حق العلم بأن ابراهيم (ع) أبا الأنبياء وكبيرهم هو الذي رفع قواعد البيت ، ولكنهم رفضوه لا لشيء الا لأنه في يد العرب ، وهم سدنته وحماته ، ولو لم يكن في يد العرب لكان اليهود والنصارى أسبق الناس اليه ، وأكثرهم تقديسا له.

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ). فضلا عن اتباع ملتك ، فأعرض عنهم ، حيث لا تجدي معهم حجة ولا منطق بعد ان أعماهم الجهل والتعصب.

(وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ). ربما طمع بعض أهل الكتاب ان يعود النبي (ص)

٢٣١

الى القبلة التي كان عليها .. فحسم الله طمعهم بقوله : وما أنت بتابع قبلتهم ، كما حسم أمل النبي (ص) باتباع قبلته بقوله : ما تبعوا قبلتك.

(وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ). اليهود يصلون الى المغرب ، والنصارى الى المشرق ، ولا تترك طائفة ما هي عليه ، وتتبع الأخرى ، فكيف يتبعون قبلتك يا محمد؟ .. بل ان بين فرق اليهود بعضها مع بعض ، وبين فرق النصارى كذلك أكثر مما بينهم وبين المسلمين .. والمذابح التي حصلت بين الكاثوليك وبين البروتستانت لا مثيل لفظاعتها في جميع العصور.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ). ومحال أن يتبع النبي (ص) أهواءهم ، لأنه معصوم .. ولكن الغرض من هذا النهي أن يتشدد النبي (ص) في معاملته مع اليهود ، ويتصلب في موقفه منهم ، إذ لا خير في مهادنتهم ، ولا أمل في سلمهم ، ولا تجدي أية محاولة لردعهم عن الكيد والفساد ، لأنهم جبلوا على الشر ، ومعاندة الحق ، والاساءة لمن أحسن اليهم ، وقد مر الكلام في ذلك عند تفسير الآية ١٢٠ فقرة «أعداء الدين والمبدأ».

الإسلام وأهل الأديان المتعصبون :

من المعقول جدا أن يختلف العلماء من كل نوع وصنف في مسألة غير دينية ، وبعد التذاكر والتدارس يتفقون على ما كانوا فيه مختلفين ـ ولقد وقع هذا بالفعل ـ أما إذا اختلف العلماء من أديان شتى في مسألة دينية فاتفاقهم بحكم المحال ، حتى ولو قام ألف دليل ودليل ، وقد ثبت عند علماء النفس ان تحول الناس عن كيانهم أيسر بكثير من تحولهم عن دينهم .. ذلك ان أكثر الناس يعتمد دينهم على التعصب لدين الآباء والأجداد .. وما عرف عن دين من الأديان انه نعى على تقليد الآباء غير الإسلام .. فلقد استند في تثبيت أصوله الى العقل وحده. ومن استعرض آيات القرآن ، والأحاديث النبوية يرى انها تهتم بمتابعة العقل بقدر ما تهتم بالايمان بالله ، لأن هذا الايمان لا ينفك أبدا عن الهداية بنور العقل السليم.

٢٣٢

يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الآة ١٤٦ ـ ١٤٧ :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧))

اللغة :

الامتراء الشك.

الإعراب :

الحق خبر مبتدأ محذوف ، تقديره هو الحق ، ومن ربك متعلق بالحال المحذوف ، والنون في لا تكونن نون التوكيد ، يؤكد بها الأمر والنهي.

المعنى :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ). أي ان الكثير من علماء اليهود والنصارى على معرفة صحيحة وجلية بنبوة محمد (ص) ، تماما كمعرفتهم بأبنائهم التي لا شك فيها ، ولا ريب ، لأن التوراة والإنجيل بشّرا به ، وذكراه بنعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره .. قال تعالى في الآية ١٥٧ من الاعراف : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ). وفي الآية ٦ من الصف : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ).

كان عبد الله بن سلام من أحبار اليهود ، ثم أسلم ، وقال فيما قال : أنا أعلم بنبوة محمد مني بابني .. فقيل له : ولمه؟ قال اني لا أشك في محمد أنه نبيّ ، أما ولدي فلعل والدته قد خانت.

٢٣٣

(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). أجل ، يكتمونه حتى ولو قرأوا اسم محمد (ص) في اللوح المحفوظ حرصا على الرئاسة الدنيوية ، والمصالح الشخصية .. ولا يختص العناد للحق باليهود والنصارى ، لأن السبب عام ، والباعث واحد ، وقد رأينا بعض الشيوخ ينكر فضل زميله بغيا وحسدا.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ). النبي (ص) لا يشك أبدا فيما جاءه من ربه ، ومحال ان يشك ، والله سبحانه يعلم ان نبيه الأكرم لا يشك .. وانما الغرض بيان ان ما أنزل عليه (ص) غير قابل للشك والريب إطلاقا ، فإذا ما أنكره منكر ، وجحده جاحد فما ذاك إلا تعصبا وعنادا.

بيني وبين مبشر :

في ١٥ / ٧ / ١٩٦٣ زارني في بيتي مستشرق ايطالي يتقن الحديث بالعربية ، ويبشر بالمسيحية ، وجرى بيني وبينه محاورات شفاها وكتابة ، وقال لي فيما قال : ان القرآن يعترف صراحة بالإنجيل ، فلما ذا ينكره المسلمون؟.

فأجبته بأن القرآن يعترف بالإنجيل الذي بشّر بنبوة محمد (ص) ، كما نطقت الآية ٦ من الصف : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ، والآية ١٥٧ من الاعراف : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ). ثم ان القرآن يقول : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). وانجيلكم يقول : ان عيسى إله ، فكيف تريدون منا أن نؤمن به ، وفي نفس الوقت نؤمن بالقرآن؟.

وإذا كان النصارى يمنعون التناقض والتهافت بحكم العقل فقط ، ويجيزونه في الدين والعقيدة فان المسلمين يرونه محالا وممتنعا في العقل وفي الدين وفي كل شيء ، لأن أصول الدين الأساسية ترتكز عندهم على العقل وحده.

ولكل وجهة الآة ١٤٨ ـ ١٥٢ :

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ

٢٣٤

اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢))

الاعراب :

لكل متعلق بمحذوف خبر مقدم ، ووجهة مبتدأ مؤخر ، والمضاف اليه محذوف تقديره لكل فريق أو واحد ، وهو موليها مبتدأ وخبر ، والخيرات منصوب بنزع الخافض تقديره الى الخيرات ، وما في قوله كما أرسلنا مصدرية ، والمصدر المنسك مجرور بالكاف متعلق بمحذوف صفة لرسول ، لأنه وقع بعد النكرة ، وجملة يتلو صفة لرسول ، ومثلها يزكيكم ويعلمكم.

المعنى :

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها). لما ذكر الله القبلة التي أمر المسلمين بالتوجه اليها ، وهي الكعبة ، وذكر تصميم كل من اليهود والنصارى على اتباع قبلتهم ،

٢٣٥

وتمسكهم بها بيّن ان السر لهذا التصميم والإصرار هو ان كل فريق قد اختار لنفسه جهة يتجه اليها ، لا يفارقها أبدا ، وان كان فسادها بينا كالشمس ، فقوله : (لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) أشبه بقوله : كل حزب بما لديهم فرحون.

هذا ما فهمته من ظاهر اللفظ ، وقد تعددت في تفسيره الأقوال أنهاها صاحب مجمع البيان الى أربعة.

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). أي دعوا أهل الكتاب والمشركين المعاندين ، واتجاهاتهم ، وإصرارهم على ضلالهم ، وانصرفوا الى عمل الخير ، والمبادرة اليه ، فان مرجعكم غدا اليه سبحانه ، فيثيب المحق المحسن ، ويعاقب المبطل المسيء .. وعلى حد تعبير المفسرين ان قوله تعالى : (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ) ، هو وعد بالثواب لأهل الطاعة ، ووعيد بالعقاب لأهل المعصية. أما قوله : ان الله على كل شيء قدير بعد هذا الوعد والوعيد فهو دليل وتعليل لإمكان الإتيان بالخلق وبعثهم بعد الموت.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

وتسأل : كرر الله الأمر هنا باستقبال المسجد الحرام ثلاث مرات ، وفي الآية ١٤٥ مرتين ، فالمجموع خمس مرات دون فاصل طويل .. فما هو الوجه؟.

الجواب : ذكر صاحب المجمع في ذلك ثلاثة أقوال ، والرازي خمسة ، ومنها الجواب التقليدي الموروث ، وهو ان التكرار للتأكيد والاهتمام .. ولم تركن النفس الى شيء من تلك الأقوال .. وليس لدي شيء سوى ان التكرار هنا قد يكون لمناسبة خاصة استدعاها المقام آنذاك ، وقد خفيت علينا ، وما أكثر المناسبات والملابسات التي لا تدخل تحت ضابط وحساب .. ومعلوم ان موارد الآيات وبواعثها منها خاص ومنها عام .. وليس لأحد أن يستنبط ويتأول من غير أصل ويعتمد على الحدس والظن.

(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ). قال كثير من المفسرين : ان النبي (ص) حين كان يصلي الى بيت المقدس قال المشركون العرب : كيف يدعي محمد انه على دين ابراهيم ، ولا يصلي الى الكعبة التي كان يصلي اليها ابراهيم وإسماعيل؟. وان أهل الكتاب قالوا : ان الموجود في كتبنا ان النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل يصلي الى الكعبة ، لا الى بيت المقدس ،

٢٣٦

فكيف نعترف بنبوته؟. فكان لكل من المشركين وأهل الكتاب حجة يتذرع بها في زعمه .. فحول الله نبيه الى الكعبة ، وجعلها قبلة دائمة للنبي ولجميع المسلمين الى يوم الدين ، كي لا يبقى لهؤلاء ، ولا لأولئك ما يحتجون به.

وظاهر الجملة يدل على ان الصلاة الى الكعبة تدفع حجة المعترضين من الناس ، أما من هم المعترضون من الناس فلم تتعرض الآية لبيانهم .. ومن الجائز أن يكون الوجه في قطع حجة المعترضين ان الكعبة بناها وصلى اليها ابراهيم (ع) ، وهو محل وفاق بين الجميع ، ومحمد (ص) على سنته.

(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ). أي لا حجة عليك لواحد من الناس إذا صليت الا للمبطل المعاند الذي لا يستند في اعتراضه وطعنه الى برهان عقلي ، ولا هدى سماوي ، بل لمجرد التعصب والتعنت.

(فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي). أي لا تخافوا في الحق لومة لائم ، فأنا وحدي أملك لكم النفع والضر. وقال ابن عربي في تفسيره : «معنى اخشوني اعرفوا عظمتي لئلا يعظم الكافر عندكم ، قال علي أمير المؤمنين (ع) : عظم الخالق في أنفسهم ، فصغر ما دونه في أعينهم».

(وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). أي أنعمت عليكم بالإسلام ، وأتممت النعمة باعطائي إياكم قبلة مستقلة توحد كلمتكم ، وتجمع شملكم ، وتتجه اليها شعوب العالم من أقطار الأرض على اختلاف ألوانها وألسنتها ..

أواصر الأمة الاسلامية :

قال عالم مدقق : تربط الأمة الاسلامية ثلاث أواصر : إله واحد ، وكتاب واحد ، وقبلة واحدة ، يفد اليها المسلمون من أقطار الأرض كل عام ، ليعبدوا هذا الإله الواحد بتلك الشريعة الواحدة على أرض واحدة ، هي أرض الوطن الروحي .. وهكذا تجسدت وحدة العقيدة ، ووحدة الشريعة ، ووحدة الوطن الأعلى ، ليذكر المسلمون انهم وان تفرقت أقطارهم ، واختلفت أنسابهم وألسنتهم وألوانهم تجمعهم جامعة الدين والله والوطن .. وانه إذا جد الجد وجب ان يضحي كل فريق منهم بمصالحه الخاصة في سبيل هذه المصلحة المشتركة.

٢٣٧

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ). للعلماء كلام كثير وطويل في معنى الحكمة .. والذي نفهمه نحن ان كل ما وضع في مكانه اللائق به من قول أو فعل فهو من الحكمة .. وعلى أية حال ، فان المعنى العام لهذه الآية ان الله سبحانه قد أنعم بالقبلة على العرب ، كما أنعم عليهم من قبل بمحمد (ص) ، فهو منهم وفيهم ، وقد أنشأهم خلقا جديدا ، فطهرهم من أرجاس الشرك ، ومساوئ الأخلاق ، وأصبحوا بفضله أصحاب دين سماوي ، وشريعة إلهية ، أساسها العدل والمساواة ، كما أصبحت لهم دولة بسطت جناحيها على نصف المعمورة ، حتى لغتهم عظمت وارتفع شأنها بالقرآن وبلاغته.

وليس من شك انه لو لا محمد وآل محمد لم يكن للعرب تاريخ ، ولا تراث ، ولا شيء سوى الوثنية وقذارتها ، والجاهلية وحميتها ، ووأد البنات تخلصا من نفقتها ، بل ان محمدا العربي (ص) هو النعمة الكبرى على البشرية كلها ، فلقد تقدمت بفضله تقدما هائلا وسريعا في ميدان العلم والحضارة ، واعترف بهذه الحقيقة ، وسجلها المنصفون من علماء الغرب ، ونقلنا طرفا منها في كتاب «الإسلام والعقل».

ومن أجل النعم الجلى التي أنعم الله بها على العرب دعاهم الى ذكره وشكره ، وحذرهم من كفران النعم والإحسان بقوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ). أي اذكروني بالطاعة أذكركم بالأجر والثواب ، واشكروني على نعمة الإسلام ، وبعثة محمد (ص) الذي هو منكم وفيكم ، ولا تكفروا بمخالفة الله ورسوله .. وفي الآية ٧ من سورة ابراهيم : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). وقال أمير المؤمنين (ع) : ما كان الله ليفتح باب الشكر ، ويغلق عنكم باب الاجابة. وقال : أفيضوا في ذكر الله فانه أحسن الذكر ، وارغبوا فيما وعد المتقين فان وعده أصدق الوعد.

شكر المنعم :

من بديهيات العقل الأولية ان الشكر لله واجب على كل بالغ عاقل ، حتى

٢٣٨

ولو لم تنزل آية أو ترد رواية بوجوب شكره ، لأنه جل وعز هو الخالق الرازق ، ومعنى شكره تعالى بعد الاعتقاد بأنه المبدئ والمعيد ، وانه على كل شيء قدير ان نطيع أمره ونهيه ، ونفوض الأمور اليه وحده.

هذا ، بالنسبة اليه سبحانه ، أما إذا أحسن انسان لإنسان مثله بشيء مادي أو أدبي فهل على من أحسن اليه ان يشكر صاحب الإحسان ، بحيث إذا لم يشكره بنحو من الانحاء يكون عاصيا مستحقا للعقاب؟.

ليس من شك ان شكر الإنسان المحسن على إحسانه راجح في نفسه ، بل هو من شعار الطيبين الصالحين ، أما الوجوب وعدم جواز الترك فلا دليل عليه ، وكل ما ورد في شكر المنعم ـ غير الله والنبي وأهل بيته ـ فمحمول على الاستحباب تماما كقول الإمام أمير المؤمنين (ع) : «إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه». فان العفو عمن أساء اليك غير واجب قطعا ، ولكنه مستحب اجماعا .. أما الكلمة التي تتردد كثيرا على الألسن ، وهي : «من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق» فإنها حكم أخلاقي لا الزامي .. والا فأية ملازمة بين شكر الخالق ، وشكر المخلوق؟.

أجل ، ان انكار النعمة ، وقولك لمن أحسن اليك : لم تحسن ، محرم ـ لأنه كذب ، وبالأولى تحريم الاساءة اليه ، لأنها حرام بذاتها ، حتى لغير المحسن .. ولكن وجوب الشكر شيء ، وحرمة الكذب والاساءة شيء آخر.

استعينوا بالصبر والصلاة الآة ١٥٣ ـ ١٥٧ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ

٢٣٩

قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))

الإعراب :

يا أيها أي منادى ، والهاء للتنبيه ، والذين عطف بيان لأي ، لأنها من الأسماء المبهمة التي تحتاج الى بيان ، إما بالمضاف اليه مثل أي الرجلين ، أو بالوصف والبدلية ، وأموات خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم أموات. ولنبلونكم اللام واقعة في جواب قسم محذوف ، والنون للتوكيد ، ومن الخوف متعلق بمحذوف صفة لشيء.

الصبر :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). جاء في تفسير المنار : «ان الصبر ذكر في القرآن سبعين مرة .. وهذا يدل على عظم أمره ، وقد جعل التواصي به في سورة العصر مقرونا بالتواصي بالحق ، إذ لا بد للداعي الى الحق منه».

واشتط صاحب البحر المحيط ، حيث قال : ان الصبر والصلاة ركنا الإسلام .. وذهل عن حديث : بني الإسلام على خمس (١) .. وليس الصبر منها ، كما ذهل عن ان التكاليف الاسلامية منها مولوية الزامية يلحظ فيها الصدور من الأعلى الى الأدنى ، ويحاسب المكلف ويعاقب غدا على مخالفتها ، كالأمر بالصلاة ووفاء الدين ، وما اليهما .. ومنها تكاليف ارشادية وردت لمجرد النصيحة أشبه بالأمر من المساوي ، لا يعاقب المكلف على تركها ، كالأمر بالنظافة ، وغسل اليد قبل الأكل ، والنهي عن إدخال الطعام على الطعام ، ونحو ذلك .. والأمر بالصبر من هذا النوع يراد به مجرد الإرشاد والنصيحة ، وأين هذا من أركان الدين التي يستوجب تركها الخروج عن الدين؟

__________________

(١) وهذا هو الحديث : بني الإسلام على خمس : شهادة ان لا اله الا الله ، وان محمدا رسول الله ، واقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع اليه سبيلا.

٢٤٠