التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

في رجل يجني في غير الحرم ، ثم يلجأ الى الحرم قال : لا يقام عليه الحد ، ولا يطعم ، ولا يسقى ، ولا يكلم ، فإنه إذا فعل به ذلك يوشك أن يخرج ، فيقام عليه الحد ، وان جنى في الحرم جناية أقيم عليه الحد في الحرم ، لأنه لم ير للحرم حرمة».

وقال أبو حنيفة : لا يجوز قتل من التجأ الى الحرم ، واستدل بقوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً).

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى). واتخذوا بكسر الخاء ، وهو أمر بالصلاة في مقام ابراهيم ، لأن معنى مصلى مكان الصلاة .. وقد أجمع الفقهاء على أنه يستحب الإتيان بركعتي الطواف فيه مع الإمكان ، والمفهوم من مقام ابراهيم المقام المعروف الموجود الآن في المسجد ، أما قول من قال : ان المراد به المسجد بكامله فيحتاج الى دليل.

(وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). أن في قوله تعالى : (أَنْ طَهِّرا) مفسرة لعهدنا ، فهي بمعنى أي ، ولا محل لها من الاعراب ، والمعنى وصينا ابراهيم وإسماعيل بأن يحترما البيت ، ويبعدا عنه كل ما لا يليق به من الأصنام والنجاسات والأوساخ واللغو والرفث والفسوق والجدال ، ونحو هذه ، وأن يأمرا الناس بذلك ، و (لِلطَّائِفِينَ) الذين يدورون حول البيت ، و (الْعاكِفِينَ) أو المعتكفين من أقاموا في المسجد ولازموه ، أو جاوروه للعبادة ، و (الرُّكَّعِ السُّجُودِ) هم المصلون ، جمع راكع وساجد.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً). هذا دعاء ورجاء من ابراهيم الى الله أن يجعل مكة المكرمة من الأمكنة الآمنة ، أي يأمن أهلها من الغزاة والجبابرة ، ومن الزلازل والعواصف ، ونحو ذلك .. وقال جماعة من المفسرين : ان الله قد استجاب دعاء ابراهيم ، حيث لم يقصد أحد مكة بسوء إلا قصم الله ظهره ، ومن تعدى عليها لم يطل زمن تعديه.

(وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). لما بنى ابراهيم البيت في أرض مقفرة لا ماء فيها ولا كلأ دعا الله سبحانه لهذه الأرض بالأمن والأمان ، وبأن تجبى اليها الأرزاق ، ولم يعين نوعها ، ولا أرضها ، إذ المهم وصول الرزق كيف كان ، ومن أين كان .. وقد استجاب الله دعوة ابراهيم ،

٢٠١

فجبي الرزق الى مكة من شتى الأنواع والأقطار ، وكانت ممرا للقوافل ، ومقرا للتجارة .. وإلى هذا أشارت الآية ٥٧ من القصص : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ). وانما خص ابراهيم طلب الرزق للمؤمنين فقط ، لأن الله كان قد أعلمه ان في ذريته قوما ظالمين ، وانه سبحانه لا يعهد بالإمامة الى من ظلم.

(قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً). أي قال الله لإبراهيم : اني أرزق أيضا الكافرين ، وبالأولى الفاسقين ، لأن الرزق شيء ، والامامة شيء آخر ، فان الإمامة سلطة دينية وزمنية ، وهذه تستدعي الإيمان والعدالة ، بل العصمة : أما الرزق فيكون للبر والفاجر ، تماما كالماء والهواء .. والذنوب والمعاصي لا تأثير لها في الأعمار والأرزاق في هذه الحياة ، وانما يظهر تأثيرها غدا يوم القيامة ، حيث يلاقي العصاة جزاء أعمالهم.

واذ يرفع ابراهيم القواعد الآة ١٢٧ ـ ١٢٩ :

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩))

تاريخ الكعبة :

اختلف المفسرون والمؤرخون في تاريخ الكعبة : هل كانت قبل ابراهيم (ع) ثم عرض لها الخراب ، فجددها هو وولده إسماعيل بأمر الله تعالى ، أو ان

٢٠٢

تاريخ بنائها وانشائها يبتدئ بإبراهيم؟.

ذهب أكثر أهل التفسير والتاريخ من المسلمين الى انها أسبق بكثير من ابراهيم ، وقال البعض : بل ولدت الكعبة على يد ابراهيم (ع) ، وتوقف آخرون ، ولم يحكموا بشيء ، وقالوا : الله أعلم. ونحن مع هؤلاء .. ذلك ان العقل لا مجال له في هذا الباب سلبا ولا إيجابا ، والطريق الى معرفته ينحصر بالآثار والحفريات ، أو بآية قرآنية ، أو سنة قطعية.

ولم أطلع على أقوال الباحثين في الآثار والحفريات ، والقرآن لم يحدد صراحة تاريخ البناء ، وكل ما جاء فيه ان ابراهيم وولده إسماعيل قد باشرا بناء البيت ، وتعاونا معا على إقامته ، وهذا أعم من عدم وجوده إطلاقا من قبل ، أو كان موجودا ، ولكن عرض له الخراب والدمار ، ثم جدده ابراهيم وولده إسماعيل.

والسنة القطعية منتفية ، والأخبار الواردة في هذا الباب كلها آحاد ، والخبر الواحد حجة في الأحكام الشرعية فقط (١) ، أو فيها وفي موضوعاتها على قول ، أما في العقائد ، والمسائل التاريخية ، والموضوعات الخارجية البحتة فليس بحجة الا مع قرينة توجب ركون النفس واطمئنانها ، وعندها يكون الخبر بحكم السنة القطعية.

ومهما يكن ، فنحن غير مسؤولين أمام الله سبحانه ، ولا مكلفين بمعرفة تاريخ بناء الكعبة ، وزمن انشائها وولادتها ، وانها : هل هي جزء من الجنة ، أو قطعة من الأرض؟. وان آدم والأنبياء من بعده قد حجوا اليها ، أو لا؟. وانها عند الطوفان : هل ارتفعت الى السماء ، ثم نزلت بعده الى الأرض؟. وان الحجر الأسود : هل جاء به جبريل من السماء ، أو صحبه آدم معه من الجنة ، أو تمخض عنه جبل أبي قبيس؟. وانه : هل اسودّ من ملامسة المذنبين؟. الى غير ذلك مما لا سند له الا خبر واحد ، أو قصّاص مخرف.

__________________

(١) أغرب ما قرأت في هذا الباب قول السيد الطباطبائي في تفسير الميزان ج ١ ص ١٩٦ : «ان عدم صحة أسانيد الأخبار لا يوجب طرحها ما لم تخالف العقل أو النقل الصحيح» .. ومن المعلومات البديهية ان عدم مخالفة العقل والنقل الثابت شرط لما ثبت صحته من الاخبار سندا ، لا لما لم يثبت منها ، فان عدم ثبوت صحة السند كاف لطرح الخبر ، من غير اضافة شرط آخر .. والا لزم العمل بكل خبر غير صحيح إلا إذا خالف العقل أو النقل الثابت .. وفساده ظاهر بالبديهة.

٢٠٣

نحن غير مسؤولين عن شيء من هذه الأشياء ، ولا مكلفين بمعرفتها وجوبا ولا استحبابا ، ولا عقلا ولا شرعا .. ولا فائدة في بحثها دينية ولا دنيوية ، وقد عاشت هذه الأبحاث وما اليها حينا من الدهر ، ثم ذهبت مع الريح .. ومن أراد إحياءها فانه تماما كمن يحاول إرجاع عقارب الساعة الى الوراء.

ان الشيء الذي نسأل عنه ، ونطالب به ـ فيما يعود الى الكعبة ـ هو قصدها للحج والعمرة من استطاع الى ذلك سبيلا ، واحترامها وتقديسها ، والمحافظة عليها ، والذب عنها بالنفس والنفيس اقتداء بالرسول الأعظم وأهل بيته (ص) ، وأصحابه والتابعين والعلماء وجميع المسلمين .. فإنهم يؤمنون ايمانا لا تشوبه شائبة بأن تعظيم بيت الله تعظيم لله ، والحرص عليه حرص على حرمات الله ، والذب عنه ذب عن دين الله .. قال أمير المؤمنين(ع) :

«فرض الله عليكم حج بيته الحرام الذي جعله قبلة للأنام يردونه ورود الانعام ، ويألهون ـ أي يفزعون ـ اليه ولوه الحمام ، جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته ، وإذعانهم لعزته .. جعله سبحانه للإسلام علما ، وللعائذين حرما».

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا). هذا دعاء من ابراهيم وإسماعيل أن يثيبهما الله على هذا العمل ، لأن معنى القبول عند الله هو الثواب على العمل الذي يقبله ، كما ان عدم الثواب على العمل معناه رده ورفضه ، ولا تفكيك بموجب كرم الله وجوده ، وليس من شك ان الله قد قبل دعاءهما ، وأجزل لهما الثواب على هذه الطاعة ، لأنه هو الذي فتح باب الدعاء ، وما كان ليفتح على عبد باب الدعاء ، بخاصة المتقي ، ويغلق عنه باب الاجابة ، كما قال أمير المؤمنين (ع).

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ). المسلم ، والمسلّم ، والمستسلم بمعنى واحد ، وهو الذي يذعن وينقاد ، والمراد به هنا من أخلص لله في عقيدته وأعماله ، وليس من شك ان السعيد الحميد هو الذي يسلم لله جل وعز جميع أموره وشئونه.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) وقد استجاب الله دعاءهما ، وجعل في ذريتهما ملايين الملايين من المسلمين.

٢٠٤

الشيعة وأجداد النبي :

اختص الشيعة من دون جميع الطوائف الاسلامية ، اختصوا بالقول : ان آباء محمد وأجداده ، وأمهاته وجداته كانوا جميعا موحدين ، ما أشرك أحدهم بالله شيئا ، وان محمدا منذ الخليقة كان ينتقل من الأصلاب الطاهرة الى الأرحام المطهرة حتى ساعة ولادته(ص).

قال شيخ الشيعة الشهير بالمفيد في شرح عقائد الصدوق طبعة ١٣٧١ ه‍ ص ٦٧ : «ان آباء النبي (ص) من أبيه الى آدم كانوا موحدين على الإيمان بالله ، وعليه إجماعنا. قال الله تعالى مخاطبا نبيه محمدا : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) ـ الشعراء ٢١٩». وقال الرسول الأعظم (ص) : ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات ، حتى أخرجني الله تعالى في عالمكم هذا .. فدل قول النبي على ان آباءه كلهم كانوا مؤمنين ، إذ لو كان بعضهم كافرا لما استحق الوصف بالطهارة ، لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ، فحكم على الكفار بالنجاسة ، فلما قضى رسول الله (ص) بطهارة آبائه كلهم ووصفهم بذلك دل على انهم كانوا مؤمنين».

(وَأَرِنا مَناسِكَنا). أي علمنا مناسك الحج ، وغيرها من العبادات.

(وَتُبْ عَلَيْنا). وليس من الضروري أن يلازم طلب المغفرة وجود الذنب ، بخاصة إذا كان الطلب من الأنبياء والأوصياء ، لأن هؤلاء الكرام يرون أنفسهم مقصرين في حق الله مهما اجتهدوا في العبادة لله ، وأخلصوا لجلاله ، لأنهم أدرى الناس بعظمته ، وبأن عبادة الإنسان بالغة ما بلغت فلن تفي ببعض الحق لتلك العظمة التي لا بداية لها ، ولا نهاية.

(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ). واستجاب الله هذه الدعوة بخاتم النبيين وسيد المرسلين ، فلقد جاء في أحاديث السنة والشيعة ان النبي قال : «انا دعوة إبراهيم ، وبشارة عيسى» .. وفي سورة الجمعة : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) .. وقال أمير المؤمنين (ع) : «بعث الله محمدا (ص) وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ، ولا يدعي نبوة ولا وحيا».

٢٠٥

البشارة بالمهدي المنتظر :

وكما بشر الأنبياء بمحمد (ص) فقد بشر هو بالمهدي المنتظر من ولده ، ووضعت أنا كتابا في ذلك ، أسميته «المهدي المنتظر والعقل» نقلت فيه أحاديث كثيرة من طرق السنة والشيعة ، ونفدت نسخ الكتاب ، فأعادت «دار العلم للملايين» طبعه مع كتاب الله والعقل. الآخرة والعقل. والنبوة والعقل ، وجمعت الأربعة في كتاب واحد باسم «الإسلام والعقل» ، واجمع ما قرأته في هذا الباب كتاب : «منتخب الأثر في ال إمام الثاني عشر» للسيد لطف الله الصافي ، بلغ أكثر من خمسمائة صفحة بالقطع الكبير ، وهو أفضل المصادر إطلاقا .. وبعد أن طبع كتاب «المهدي المنتظر والعقل» اطلعت على كلام طويل لمحيي الدين الشهير بابن عربي حول المهدي أنقل طرفا منه فيما يلي :

قال في الجزء الثالث من الفتوحات المكية طبعة دار الكتب العربية ص ٣٢٧ وما بعدها :

«ان لله خليفة يخرج ، وقد امتلأت الأرض جورا وظلما ، فيملأها قسطا وعدلا .. وهذا الخليفة من عترة رسول الله (ص) من ولد فاطمة (ع) يواطئ اسمه اسم جده رسول الله .. يبايع بين الركن والمقام ، يشبه رسول الله في خلقه .. وهو أجلى الجبهة ، أقنى الأنف .. يؤم الناس بسنة رسول الله (ص) .. وقال عنه جده النبي يقفو أثري لا يخطئ ، وهذه هي العصمة».

ومن يرغب عن ملة ابراهيم الآة ١٣٠ ـ ١٣٤ :

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ

٢٠٦

إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤))

اللغة :

أصل السفه الاستخفاف والاستهتار ، وكل من تصرف في نفسه أو ماله تصرفا مضرا به ، وخارجا عما هو مألوف عند العقلاء فهو سفيه مستهتر ، ولكن ضرر السفيه يختص به وحده. والاصطفاء الاختيار والانتقاء ، والمراد بحضور الموت حضور دلائله وشواهده.

الاعراب :

من يرغب استفهام ، يتضمن النفي والاستنكار ، أي لا أحد يرغب ، والذي يدل على ان من معناها النفي وجود الا بعدها ، ومن سفه من اسم موصول في محل رفع بدل كل من كل من الضمير المستتر في يرغب ، ويجوز نصب من على الاستثناء ، ولفظ نفسه منصوب على التمييز ، مثل فان طبن لكم عن شيء نفسا ، ويجوز أن يكون مفعولا لسفه المخففة على أن يراد بها سفّه المشددة ، أي صيّر نفسه سفيها ، (وإذ حضر) إذ ظرف متعلق بشهداء ، و (إذ قال) إذ متعلق بحضر ، وما تعبدون (ما) استفهام مفعول لتعبدون ، وابراهيم وإسماعيل واسحق بدل من آبائك ، ويقال له بدل مفصل من مجمل.

المعنى :

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ). هذا توبيخ من الله

٢٠٧

لليهود والنصارى ومشركي العرب الذين لم يؤمنوا بمحمد ، وسر التوبيخ والتقريع ان اليهود يفتخرون بنسبتهم الى إسرائيل ، وإسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن ابراهيم ، والنصارى يفتخرون بعيسى ، وعيسى يتصل نسبه من جانب الأم باسرائيل أيضا ، أما مشركو العرب فسائرهم عدنانيون يرجعون بنسبهم الى إسماعيل بن ابراهيم ، بالاضافة الى انهم نالوا الخير في الجاهلية ببركة البيت الذي بناه ابراهيم .. فالكل ـ اذن ـ يفتخرون بإبراهيم ، وملة ابراهيم ، والمعلوم ان محمدا (ص) من نسل ابراهيم ، وعلى ملة ابراهيم ، وعليه فمن كفر بمحمد وملته فقد كفر بإبراهيم وملته .. وليس من شك ان من يكفر بمصدر عزه وافتخاره فهو سفيه ، تماما كمن تصرف في نفسه تصرفا يودي به الى الهلاك.

(وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا). أي جعلناه صافيا خالصا من الأرجاس ، على حد قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). بديهة ، لأنه في الدنيا كذلك ، فان الإسلام يربط الآخرة بأعمال الدنيا ، ولا يفصل بينهما أبدا ، فمن كان في هذه مبصرا صالحا ، فهو في تلك كذلك ، ومن كان في الدنيا أعمى شقيا فهو في الآخرة أعمى وأشقى.

(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ). وتسأل : متى طلب الله الإسلام من ابراهيم؟ هل طلبه منه قبل النبوة ، أو بعدها؟ والأول غير ممكن ، لأن الله لا يطلب بطريق الوحي ممن ليس بنبي ، والثاني تحصيل حاصل ، لأن الله لا ينزل الوحي على انسان إلا بعد أن يسلم.

والجواب : ان قوله تعالى : (أسلم قال أسلمت) كناية عن ان ابراهيم هو من صفوة الصفوة ، وانه أهل للنبوة والرسالة .. ذلك انه استجاب لجميع أوامر الله ونواهيه ، وقام بأعباء النبوة والرسالة على أتم الوجوه وأكملها ، فالمقصود بالآية مجرد الثناء على ابراهيم ، لإخلاصه وطاعته وانقياده ، وفي الوقت نفسه توبيخ لليهود والنصارى والمشركين الذين يفتخرون بإبراهيم ، ثم يعصون ويتمردون على من جاء لإحياء ملة ابراهيم ، ونشر سنته وعقيدته.

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ). الضمير في (بها) يعود الى ملة ابراهيم.

٢٠٨

(فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). أي أثبتوا على الإسلام ، حتى الموت ، كي تبعثوا عليه ، وتقابلوا الله به.

حق الولد على الوالد :

وتشعر هذه الآية بأن الوالد مسؤول عن تربية ولده وإرشاده الى دين الحق ، قال الإمام زين العابدين (ع) : «أما حق ولدك فان تعلم انه منك ، ومضاف اليك في عاجل الدنيا بخيره وشره ، وانك مسؤول عنه من حسن الأدب ، والدلالة على ربه عز وجل ، والمعونة له على طاعته ، فاعمل في أمره عمل من يعلم انه مثاب على الإحسان اليه ، معاقب على الاساءة اليه».

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ). حضره الموت معناه احتضر ، ونزلت به أمارات الموت. قال صاحب مجمع البيان : ان اليهود زعموا ان يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية .. فأبطل الله هذا الزعم بقوله لهم : انكم لم تشهدوا يعقوب عند موته ، فكيف تدعون عليه الأباطيل؟. والحقيقة أن يعقوب قال لبنيه في تلك اللحظة : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي)؟.

وتسأل : ان (ما) تستعمل لغير العاقل ، فكيف استعملت هنا في المعبود الحق؟.

الجواب : ان الناس آنذاك كانوا يعبدون الأصنام فنزّل السؤال على معبود الناس ، لا على معبود الحق ، وعليه تكون (ما) بمعنى أي شيء تعبدون؟.

(قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) .. وتسأل : ان يعقوب هو ابن اسحق ، وإسماعيل عمه أخو أبيه ، فكيف صح إدخال إسماعيل مع الآباء؟.

الجواب : ان العم بمنزلة الأب ، لأنه أخوه ، ويعظم كما يعظم ، وفي الحديث الشريف ان رسول الله (ص) قال : «ردوا عليّ أبي» يعني عمه العباس.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ). هذه الآية تشير الى مبدأ عام ، وهو ان نتائج الأعمال وآثارها تعود غدا على العامل وحده ، لا ينتفع بها من ينتسب اليه ، ان تكن خيرا ، كما لا يتضرر بها غيره ان تكن شرا ، وقرر الإسلام هذا المبدأ بأساليب شتى ، منها الآية ١٦٤ من سورة الانعام :

٢٠٩

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ومنها الآية ٣٩ من سورة النجم : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) .. ومنها قول الرسول الأعظم (ص) لوحيدته فاطمة : يا فاطمة اعملي ، ولا تقولي : اني ابنة محمد ، فاني لا أغني عنك من الله شيئا .. وأمثال ذلك .. والتبسط في هذا الموضوع ان دل على شيء فإنما يدل على اننا حتى اليوم نجهل أوضح الواضحات ، وأظهر البديهيات.

وقالوا كونوا هوداً او نصارى الاة ١٣٥ ـ ١٣٨ :

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨))

اللغة :

الحنيف هو المائل عن الأديان الباطلة الى دين الحق ، ومعنى هذا في النتيجة ان الحنيف هو المستقيم ، وقيل للأعرج : أحنف ، تفاؤلا بالسلامة ، كما قيل للديغ : سليم ، وللبادية المهلكة مفازة. والأسباط واحدها سبط ، وسبط الرجل حفيده ولد ولده ، والأسباط من بني إسرائيل اثنا عشر سبطا من اثني عشر ابنا ليعقوب ، وهم بمنزلة القبائل العربية من ولد إسماعيل. والشقاق المنازعة

٢١٠

مأخوذ من الشق ، وهو الجانب ، أي ان كل واحد أصبح في شق غير شق صاحبه ، وصبغة مأخوذة من الصبغ ، قال صاحب مجمع البحرين : ان النصارى كانوا إذا ولد لهم مولود غمسوه في ماء أصفر ، يسمونه المعمودية ، ويعتبرون ذلك تطهيرا له ، وهو بمنزلة الختان عند المسلمين ، فقال الله سبحانه : التطهير هو صبغة الله ، أي ان المطهر الحقيقي للعقول والقلوب هو الدين الحق.

الإعراب :

تهتدوا مجزوم بجواب الأمر ، وهو كونوا ، لان فيه معنى الشرط ، أي إن تكونوا على اليهودية والنصرانية تهتدوا ، ولفظ ملة منصوب بفعل محذوف ، أي نتبع ملة ابراهيم ، وحنيفا حال من ابراهيم ، ولفظ صبغة الله منصوب على المصدر ، أي صبغنا صبغة الله ، وصبغة من قوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) تمييز محول عن المبتدأ ، أي ومن صبغته أحسن من صبغة الله.

المعنى :

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا). الضمير في قالوا يعود الى أهل الكتاب ، والمعنى قال اليهود ، كونوا يهودا تهتدوا ، لأن الهداية بزعمهم تنحصر بهم وحدهم ، وقال النصارى مثل قول اليهود .. وقال الله لنبيه الأكرم محمد (ص) : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ، أي لا نتبع اليهودية ، ولا النصرانية ، بل نتبع ملة ابراهيم. وقد ذكرنا في تفسير الآية ١١١ ـ ١١٣ ما يلقي ضوءا على هذه الادعاءات وما اليها.

المنطق الجدلي :

وربّ قائل يقول : اليهود قالوا : نحن المحقون فقط ، والنصارى قالوا : بل نحن فقط .. ومحمد (ص) قال : بل ابراهيم هو المحق لا اليهود ولا النصارى. وكل هذه الأقوال مصادرات وادعاءات بظاهرها ، وإذا صح لليهود

٢١١

والنصارى أن يستعملوا هذا النحو من المنطق الباطل ، فانه لا يصح نسبة مثله الى الله ورسوله ، فما هو الوجه؟.

الجواب : ان الغرض من قوله : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) هو النقض على اليهود وافحامهم ، لا اثبات الحقيقة بالذات ، ويجوز للإنسان أن ينقض على خصمه بشيء لم يكن حجة في نفسه ، بل حجة عند الخصم فقط ، أو ينقض عليه بمثل ما هو حجة عنده ، كالنقض على النصارى بآدم الذي لا أب له ، حيث قالوا : المسيح رب ، لأنه من غير أب ، فينقض عليهم بأن آدم من غير أب ، فينبغي أن يكون ربا أيضا ، مع انكم تنفون عنه الربوبية .. ويسمى هذا النوع من المنطق بالمنطق الجدلي ، ووجه النقض على اليهود والنصارى ، وافحامهم فيما نحن فيه :

ان اليهود والنصارى مختلفون دينا وعقيدة ، وكل طائفة تكفّر الأخرى ، وهم في الوقت نفسه متفقون على صحة دين ابراهيم ، وبديهة ان ابراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ، بل كان (حنيفا ـ أي موحدا ـ وما كان من المشركين). أي لم يكن ابراهيم يهوديا ، لأنه لم يقل : عزير ابن الله ، ولا جعل لله شبيها كما زعم اليهود بأن الله شيخ أبيض الرأس واللحية ، ولم يكن نصرانيا ، لأنه لم يقل المسيح ابن الله ، لأن ذلك هو الشرك واقعا .. وما دام كل من اليهود والنصارى يعترفون بدين ابراهيم فيلزمهم أن يكونوا موحدين ، بل ويحجوا أيضا الى بيت الله الحرام ، تماما كما كان يعتقد ويفعل ابراهيم ، وكما اعتقد وفعل محمد ، مع العلم بأنهم لم يوحدوا ولم يحجوا ، فاذن هم كاذبون بنسبتهم الى دين ابراهيم ، ومحمد (ص) هو الصادق الأمين على دين الله ، وملة ابراهيم.

وبتعبير ثان ان الأخذ بالمتفق عليه ، وهو دين التوحيد الذي كان عليه ابراهيم ، وعليه الآن محمد أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، وهو اليهودية المشبهة ، والنصرانية المثلثة.

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ). الخطاب للمسلمين. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا). وهو القرآن. (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ). وهي صحف إبراهيم ، وقيل : انها عشر. (وإسماعيل وإسحاق). هما ولدا ابراهيم ، وإسماعيل أكبر من اسحق ، وأمه هاجر ، وأم اسحق سارة. ويعقوب ، ابن اسحق ، والصحف لم تنزل اليهم جميعا ، وانما

٢١٢

أنزلت الى ابراهيم فقط ، ولكن صحّت نسبة الانزال الى الجميع بالنظر الى أنهم متعبدون بها ، وداعون اليها ، تماما كما يصح لنا نحن المسلمين أن نقول : انزل القرآن إلينا ، لأننا نؤمن ونعمل به ، وندعو اليه.

(والأسباط). هم حفدة يعقوب من أبنائه الاثني عشر ، وهم بمنزلة القبائل العربية من ذرية إسماعيل ، وفي الأسباط أنبياء كثيرون كداود ، وسليمان ، ويحيى ، وزكريا ، وأيضا فيهم المؤمنون الذين تعبدوا بصحف ابراهيم (ع). (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى). التوراة والإنجيل ، (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ). كالزبور المنزلة على داود ، (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ). أي نؤمن بالجميع ، سواء من كان له كتاب يؤثر ، أو لم يكن ، ولسنا كاليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض ، بل الجميع عندنا سواء ، من حيث الاعتراف بنبوتهم .. وبديهة ان الايمان بجميع الأنبياء انما يجب بنحو الإجمال ، ولسنا مكلفين بالتفاصيل إلا بعد البيان من كتاب أو سنة.

(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). أي معترفون له بالوحدانية ، ومخلصون في العبودية. (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا). أي فان آمنوا ايمانا صحيحا ، وهو التوحيد الخالص من شوائب الشرك ، واعترفوا بجميع الأنبياء بما فيهم محمد ، تماما كما آمن المسلمون بجميع الأنبياء دون استثناء فعندها يكونون مهتدين .. وليس المراد أن يؤمنوا بدين مثل دين الإسلام، إذ لا مثيل للإسلام إطلاقا.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ). كل من عاند الحق فقد شق العصا ، وبدد الشمل. (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) إذ لا يحيق المكر السيء إلا بأهله.

والكلمة الجامعة باختصار لكل ما قدمناه هي ان الإسلام يرفض التعصب ، ويدعو للتعاون على أساس الخير والعدل ، ويعترف بالحق أينما كان ويكون ، ويدعو أتباعه أن يفتحوا قلوبهم للناس ، كل الناس في مودة واخلاص.

(صبغة الله) وهي دين الحق الذي يطهّر القلوب والعقول من الأقذار والأكدار ، لا الغمس بالماء الأصفر ، كما تفعل النصارى ، ولا غير ذلك. قال محيي الدين ابن عربي في تفسيره :

«ان كل ذي اعتقاد ومذهب باطنه مصبوغ بصبغ اعتقاده ، ودينه ومذهبه ، فالمتعبدون بالملل المتفرقة مصبوغون بصبغ نيتهم ، والمتمذهبون بصبغ إمامهم وقائدهم ،

٢١٣

والحكماء بصبغ عقولهم ، وأهل البدع والأهواء المتفرقة بصبغ أهوائهم ، والموحدون بصبغة الله خاصة التي لا صبغ أحسن منها ، ولا صبغ بعدها».

قل اتحاجوننا في الله الآة ١٣٩ ـ ١٤١ :

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١))

المعنى :

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ). سبق في تفسير الآية ٩٢ ـ ٩٦ فقرة «المصلحة هي السبب ، لا الجنسية» ان اليهود عارضوا النبي حرصا على مصالحهم ، وعلى المال الذي كانوا يجمعونه من بذل العرض وإباحته ، ومن الربا والغش ، والخمر والميسر ، وما اليه مما حرمه الإسلام ، وقد برروا المعارضة بأسباب لا تمت الى الواقع بشبه. من تلك الأسباب ما قاله المفسرون في تفسير هذه الآية من ان اليهود قالوا للنبي (ص) : انك لست نبيا ، لأن الله لا يرسل الأنبياء الا من اليهود. وبالمناسبة يزعم اليهود ان الله لهم وحدهم وانه إله قبيلة ، وليس إله العالم.

وأيضا أنكر زعماء النصارى ، وصناديد قريش نبوة محمد (ص) خوفا على مكانتهم ومصالحهم ، وتذرعوا بالأباطيل كما تذرع اليهود ، حيث قال النصارى

٢١٤

ـ كما جاء في التفاسير ـ : لو أرسل الله نبيا لكان منا لا من العرب ، أما صناديد قريش فقالوا : لو أرسله من العرب لاختاره من الطبقة الثرية القوية ، كما أشارت الآية ٣١ من الزخرف : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (١). والآية ٨ من الفرقان : (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها).

وكل شيء يقبل الخصام والحجاج ، حتى وجود الله الا شيئا واحدا فانه لا يقبل النقاش أبدا عند المعترفين بوجود الله ، ألا وهو تخصيص رحمة الله وانعامه على فرد دون فرد : «أم يقسمون رحمة ربك» .. ولذا أمر الله نبيه محمدا (ص) أن يقول للذين استنكروا انعام الله عليه بالنبوة أن يقول لهم : أتحاجوننا في الله ، وأنتم تعلمون انه تعالى أعلم بمن يصلح للرسالة ، وبمن لا يصلح لها ، فلا تعترضوا على ربكم .. وان علينا وعليكم التسليم لحكمه ، لا المجادلة في ارادته واختياره ، وهذا معنى قوله تعالى : (هُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ).

(لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ). هذا تماما كقوله سبحانه : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين). أي ان خصامكم في اختيار الله وانعامه عليّ تعود آثاره عليكم وحدكم ، تماما كما يعود ضرر الكفر على الكافر ، ونفع الايمان على المؤمن. (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) من دونكم ، لأنكم تتحكمون على الله ، وتريدونه أن ينزل على رغبتكم ، أما نحن فنفوّض الأمر كلّه اليه ، ونستسلم لحكمه.

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى. هذا عطف على أتحاجوننا في الله ، والمعنى بأي الأمرين تتشبثون؟. أفي قولكم بأن الله لا يرسل من العرب نبيا ، أم بدين ابراهيم وبنيه وحفدته؟. فان تشبثتم بالأول فان الله أعلم حيث يجعل رسالته ، وان تشبثتم بالثاني فان ابراهيم كان حنيفا مسلما لا يهوديا ولا نصرانيا ، لأن اليهودية والنصرانية حدثتا بعده وبعد بنيه والأسباط .. فعلى كلا التقديرين قولكم باطل لا مبرر له .. ويرشدنا القرآن في هذه المحاورة الى الأسلوب الذي ينبغي أن نتبعه مع الخصم ، وان نعتمد في حصاره وافحامه على منطق العقل الذي يقتنع به ويتسالم عليه جميع العقلاء.

__________________

(١) المراد بالقريتين مكة والطائف ، والرجل الذي عنوه في مكة الوليد بن المغيرة ، وفي الطائف عروة بن مسعود.

٢١٥

(قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ). قدمنا ان كلا من اليهود والنصارى قالوا : نحن أولى بالنبوة .. فأمر الله نبيه الكريم أن يرد عليهم بقوله : أأنتم أعلم حيث يجعل رسالته ، أم هو؟ .. ان الرسول لله ومن الله ، ومع هذا تريدون أنتم أن تختاروه؟ وهل أنتم أوصياء عليه؟ تعالى الله علوا كبيرا .. وهل أجهل وأسخف ممن يقول لك : أنا أعلم منك بما يعجبك ويرضيك ، وبما يغضبك ويؤذيك؟ وهل أكثر حمقا من جاهل لا يعرف شيئا يقول لمن اخترع سفينة الفضاء ـ مثلا ـ أنا أعرف بها منك؟ .. ولست أعرف قولا أبلغ في التجهيل والتقريع من قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) .. نستغفره ونعوذ به مما يقول ويفعل المبطلون.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ). من الله متعلق بشهادة ، أو بمحذوف صفة للشهادة ، تقديره شهادة كائنة من الله .. ومعنى الكلام ان عندكم يا معشر اليهود والنصارى شهادة من الله قرأتموها في التوراة والإنجيل ، وهي ان الله سبحانه سيبعث نبيا عربيا من أبناء إسماعيل (ع) ، ومع ذلك كتمتم الشهادة ، وتجرأتم على الله بتحريف كتابه تعصبا للباطل ، وعنادا للحق ، فاستوجبتم اللعنة والعذاب.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ). هذه الآية تقدم ذكرها بالحرف الواحد برقم ١٣٤ .. وردت هناك لبيان ان اخلاص ابراهيم (ص) وعظمته لا تجدي اليهود والنصارى شيئا ، وجاءت هذه الآية هنا لبيان ان أعمال اليهود والنصارى تباين عقيدة ابراهيم وعمله .. اذن دعواهم بأنهم على ملة ابراهيم كذب وافتراء ، وتكلمنا عند تفسير الآية ٤٨ عن التكرار في القرآن.

الشهادة :

يجب على كل بالغ عاقل أن يستجيب ويلبي إذا دعي الى تحمل الشهادة ، ولا يسوغ له رفضها من غير عذر ، قال تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) ـ البقرة ٢٨٢». وقال الإمام جعفر الصادق (ع) : إذا دعاك الرجل لتشهد على دين أو حق فلا يسعك أن تتقاعس عنه.

ووجوب تحملها يستدعي وجوب أدائها ، وتحريم كتمانها ، قال تعالى : (وَلا

٢١٦

تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ـ البقرة ٢٨٣. وقال : ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده .. وقال الإمام الصادق (ع) : من كان في عنقه شهادة فلا يأبى إذا دعي لإقامتها ، وليقمها ، ولينصح فيها ، ولا تأخذه فيها لومة لائم.

أجل ، يجوز له أن يتخلف عن أداء الشهادة مع خوف الضرر على نفسه ، أو على غيره من الابرياء ، لأنه لا ضرر في الإسلام بالاضافة الى الإجماع ، وأحاديث خاصة.

مخلصون وكفى :

نعى الإسلام على المبطلين ، وحاجّهم بالعقل والضمير ، ونصحهم بالحسنى ، وأمرهم بالمعروف ، ولكنه لم يجعل لأحد سبيلا عليهم بغير الموعظة الحسنة إلا إذا تجاوزوا الحدود ، واعتدوا وضللوا الأبرياء والبسطاء عن الحق بالافتراءات والدعايات الكاذبة ، فان فعلوا شيئا من هذا وجب ردعهم وتأديبهم ، وقد بيّن الله ذلك في العديد من آياته : منها الآية ١٩٣ من البقرة : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ). ومنها ١٠٥ من النساء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .. ومنها ما نحن فيه : (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) .. أجل مخلصون لا أقل ولا أكثر ـ ان استقام التعبير بالأكثر ـ.

٢١٧
٢١٨

الجزء الثاني

في

سورة البقرة

٢١٩
٢٢٠