التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

كل يعزز دينه :

وتسأل : ان كلا من أهل الأديان والأحزاب يدعي انه هو المحق ، وغيره المبطل ، تماما كما ادعت اليهود والنصارى ومشركو العرب ، فكيف يتهيأ لنا ان نعرف الكاذب من الصادق؟.

وقبل الجواب نمهد بالاشارة الى هذه الحقيقة ، وهي : كل من يدعي الحق لا بد أن يكون واحدا من اثنين ، اما ان يجزم مسبقا منذ البداية برأيه ، ويصر عليه ، ولا يحتمل فيه الخطأ ، ولا يصغي الى بينة العكس أيا كان نوعها ، واما أن يكون مجردا للحق يبحث عنه ويمحص وينقب جهده ، حتى إذا رأى ما اعتقد انه الدليل اعتمده عازما على ان الحق إذا تبين في الجانب الآخر تبعه وعدل عن رأيه ، لأنه ينشد الحكمة أينما كانت وتكون .. ولا بد أن نفصل بين هذين لأن الأول لا سبيل الى اقناعه بالحجة ومنطق العقل ، بل لا دواء له الا الاعراض عنه ، والثاني يسهل معه التفاهم ، وكلنا يعلم ان هناك قضايا واضحة بذاتها لا يختلف فيها اثنان ، مثل الرخاء سعادة وهناء ، والفقر بلاء وشقاء ، والحب خير من البغض ، والتعاون أفضل من التنازع ، والسلم أعود من الحرب ، والعلم نور ، والجهل ظلام ، والعدل حق ، والجور باطل ، وان الشيء الواحد لا يتصف بصفة ونقيضها ، وما الى ذلك من الحقائق الانسانية البديهية.

إذا تمهد هذا ، وكنا على علم منه ، ثم ادعى مدع انه هو المحق دون سواه قسنا قوله بتلك الحقائق المتسالم عليها ، وتحاكمنا اليها ، فان اتفق معها فهو حق ، وان ناقضها ، واستدعى قوله الضرر والشر فهو باطل .. وبهذا يتبين معنا ان قول من قال : «كل يعزز دينه يا ليت شعري ما الصحيح؟.» ان هذا القول لئيم وخطير ، يهدف الى اشاعة الفوضى والجهل ، ولو صدق لوجب أقفال المعاهد والمعابد والمحاكم ، حيث لا قيم عقلية ، ولا قانونية ، ولا أخلاقية.

والذي يهون الخطب ان قول : «يا ليت شعري ما الصحيح» كلام شعري جاء من وحي العاطفة التي تستمد منطقها من اللامنطق .. وصدق الله العظيم حيث يقول : «والشعراء يتبعهم الغاوون ، ألم تر انهم في كل واد يهيمون ، وانهم يقولون ما لا يفعلون».

١٨١

منع مساجد الله الآة ١١٤ :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤))

الاعراب :

اتفقوا على ان المصدر المنسبك من أن والفعل الذي دخلت عليه محله النصب ، ثم اختلفوا في اعرابه على أربعة أقوال ذكرها الرازي وأبو حيان الأندلسي ، وأظهرها ـ كما نرى ـ ان المصدر منصوب بنزع الخافض ، والتقدير منع من ذكر الله فيها ، كما تقول منعه من كذا ، وخائفين حال من الواو في يدخلوها.

المعنى :

هذه الآية من الآيات التي تعددت الأقوال في تفسيرها ، وظاهرها يدل على التهديد والوعيد لمن لا يحترم المساجد ، أو مطلق المعابد ، ويمنع من عمارتها ، أو من التعبد فيها لله ، أو يعمل على هدمها ، أو إهمالها ، أو تعطيل الشعائر الدينية فيها .. وان الواجب الإلهي والانساني يفرض على كل انسان أن يقدس المعابد ، ويدخلها معظما لها ، وخاشعا لجلالها ، وخائفا من عقاب الله راجيا لثوابه ، لا مستهترا ومستخفا ، لأنها انشئت لهذه الغاية ، ثم بيّن سبحانه ان من تعرّض بسوء للمعابد فان الله سبحانه يهينه ويذله في هذه الحياة ، ويعذبه غدا بعذابه الأكبر.

وبالاختصار ان الآية بحسب ظاهرها مجرد بيان ان من يفعل كذا يفعل الله به كذا وعليه فهي قضية كلية لا تستدعي وجود واقعة خاصة قد حدثت في

١٨٢

الماضي ، أو في زمن الخطاب ، أو منتظرة الحدوث .. ولكن المفسرين قالوا : انها اشارة الى حادثة خاصة ، ثم اختلفوا فيما بينهم : هل الحادثة المشار اليها قد وقعت قبل بعثة محمد (ص) ، أو بعد البعثة؟ ثم ان الفريق الذين قالوا : انها إخبار عن شيء وقع قبل البعثة اختلفوا فيما بينهم أيضا في تعيين ذاك الشيء الذي وقع ، فمنهم من قال : ان الآية تخبر عما وقع من تيطس الروماني ، إذ دخل بيت المقدس بعد موت المسيح بنحو سبعين سنة ، وخربها ، حتى لم يبق حجرا على حجر ، وهدم هيكل سليمان ، وأحرق بعض نسخ التوراة ، وكان المسيح قد أنذر اليهود بذلك ، وقيل : ان تيطس خرب بيت المقدس بتحريض المسيحيين انتقاما من اليهود.

ومن القائلين بأنها إخبار عما وقع قال : انها تخبر عما صنعه بخت نصر البابلي من تخريب بيت المقدس ، وجاء في تفسير صاحب المنار ما نصه بالحرف : «ومن الغريب ان ابن جرير الطبري قال في تفسيره : ان الآية تشير الى اتحاد المسيحيين مع بخت نصر البابلي على تخريب بيت المقدس ، مع ان حادثة بخت نصر كانت قبل وجود المسيح والمسيحية بستمائة وثلاث وثلاثين سنة» (١).

وأيضا من القائلين بأن الآية اخبار عما وقع من يرى : انها نزلت في مشركي قريش ، حيث منعوا النبي وأصحابه من دخول مكة في قصة عمرة الحديبية.

أما الذين قالوا : ان الآية إخبار عن أمر منتظر الوقوع فأيضا اختلفوا فيما بينهم ، فمنهم من قال : انها اشارة الى اغارة الصليبيين على بيت المقدس وغيره من بلاد المسلمين .. ومنهم من قال : انها اخبار عما حدث من القرامطة من هدم الكعبة ، ومنع الناس من الحج ، ثم قال هذا الفريق بكلا قسميه : ان هذه الآية من معجزات القرآن ، لأنها أخبرت عن الغيب.

هذا ملخص ما قاله المفسرون .. ونحن لا نعتمد شيئا منها ، حيث لا دليل

__________________

(١) وتشاء الصدف ان اقرأ هذه السقطة للطبري في نفس اليوم الذي قرأت عنه مقالا مطولا في ملحق جريدة الجمهورية المصرية تاريخ ٥ مايو ، أيار ، سنة ١٩٦٧ ، وقد جاء فيه : «والطبري بلا شك عميد مؤرخي الإسلام .. وكتابه رئيسي في التفسير». توفي الطبري سنة ٣١٠ ه‍ أي منذ أكثر من الف وخمسين سنة ، وإذا كان هذا حال اسبق المؤرخين والمفسرين وأوثقهم ، فكيف يثق الإنسان بغيره؟ وعلى من يعتمد؟ ..

١٨٣

من العقل أو النقل تطمئن اليه النفس ، ونعتمد الظاهر من الآية التي لا يتنافى مع العقل ، ولا دليل يصرفه الى غيره من النقل ، وهو وجوب احترام المعابد ، وتحريم التعرض لها ، ومجازاة من يقصدها بسوء.

من أحكام المساجد :

يستحب بناء المساجد ، وأعمارها بذكر الله ، وتنظيفها ، واضاءتها ، ويحرم هتكها ، ودخول الجنب والحائض اليها ، ويستحب عند دخولها صلاة ركعتي التحية ، ويكره بناؤها في مكان مشرف ، لأن عليا أمير المؤمنين (ع) رأى مسجدا في مكان مشرف فقال كأنه بيعة ، أي معبد اليهود ، وفي الحديث : «تبنى المدائن شرفا ـ أي في مكان مرتفع ـ والمساجد جما» أي غير مشرفة من جمت الشاة ، وأيضا يكره اتخاذ المحاريب فيها ، لأن أمير المؤمنين (ع) كان إذا رآها قال : كأنها مذابح اليهود (١) .. والمراد بهذه المحاريب المكروهة المحاريب البارزة بروزا يضايق المصلين ، بل قال جماعة بتحريمها ، أما المحاريب في جوف فلا بأس بها ، والسيرة عليها.

ولله المشرف والمغرب الآة ١١٥ ـ ١١٧ :

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧))

__________________

(١) نقل صاحب مفتاح الكرامة عن جماعة من العلماء كراهية تعلية المساجد ، وقالوا : بل تبنى وسطا ، كما نقل عن سبعة كتب فقهية كراهية المحاريب البارزة في المساجد ، والذي أحسبه ان المسلمين لم يهتموا بضخامة المساجد ، وفخامتها إلا تنافسا مع الكنائس والبيع ، وفي قول أمير المؤمنين (ع) : (كأنه بيعة) اشارة إلى ذلك.

١٨٤

اللغة :

الشرق والمشرق معناهما واحد ، وهو مطلع الشمس والقمر ، والغرب والمغرب والمغيب بمعنى واحد أيضا ، وهو موضع الغروب ، وخص الله الشرق والغرب بالذكر دون الجنوب والشمال ، لأن الشرق والغرب يشملان الجميع ، إذ ما من مكان إلا وتشرق الشمس والقمر عليه ، أو يغيبان عنه ، ومن هنا كان تقسيم الكرة الأرضية الى الشرق والغرب فقط ، لا إليهما وإلى الجنوب والشمال. وثم في الآية بمعنى هناك. والقنوت معناه الدوام ، ثم استعمل بمعنى الطاعة والانقياد ، وهذا المعنى هو المراد هنا.

المعنى :

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). أي ان الأرض والجهات والأشياء كلها لله ، فأينما تعبدتم ، وانّى انجهتم قاصدين بالعبادة وجه الله فالله يتقبل منكم ، فمن منع من العبادة في المساجد ، فليتعبد حيث شاء ، ويتجه الى أية جهة أراد ، فان الأرض كلها مسجد ، والجهات كلها قبلة ، وقال بعض المفسرين : ان التعميم في الآية للجهة فقط دون المكان ، لقوله سبحانه (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) .. وقد ذهل هذا المفسر عن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) معللا به تعميم الجهة .. ومن المعلوم ان تعميم علة الحكم تستدعي تعميم الحكم بداهة تبعية المعلول لعلته ، والمسبب لسببه ، وبكلمة ما دامت الجهات والأماكن كلها لله فيصح التعبد له في كل مكان ، والاتجاه بالعبادة الى جميع الجهات.

وتسأل : ان ظاهر الآية يدل على ان المكلف مخير في أن يتجه بصلاته الى جميع الجهات ، ولا يتعين عليه التوجه الى خصوص الكعبة ، مع العلم بأن هذا خلاف ما أجمع عليه المسلمون؟.

الجواب : أجل ، ان ظاهر الآية يدل على ذلك ، ويشمل الصلاة المفروضة والمستحبة في جميع الحالات ، ولكن ثبت عن النبي وأهل بيته (ص) ، وبالإجماع

١٨٥

أيضا ان المفروضة لا تصح مع الإمكان إلا الى الكعبة ، وان المستحبة تصح حال المشي والركوب على الراحلة الى أية جهة تكون ، وكذلك المتحير الذي يجهل جهة الكعبة تصح منه المكتوبة حيث يتجه بها مع عجزه عن الاحتياط ، وبهذه الأحاديث والإجماع نخصص قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) نخصصها بالصلاة المستحبة حال المشي والركوب ، وبصلاة المتحير. وأيضا بالأحاديث والإجماع نخصص الآية ١٤٩ من سورة البقرة : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) نخصصها بالصلاة المكتوبة مع الاختيار ، والنافلة مع الاستقرار (١).

وبهذا يتبين الخطأ والاشتباه في قول من قال : ان قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ناسخ لقوله سبحانه : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، لأن من شروط النسخ التنافي والتعارض بين الناسخ والمنسوخ ، بحيث يرد الإثبات والنفي على موضوع واحد ، وقد عرفت ان موضوع فول وجهك شطر المسجد خصوص صلاة الفريضة والنافلة مع الاستقرار ، وان موضوع أينما تولوا فثم وجه الله ـ ما عدا ذلك.

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً). قدمنا في تفسير الآية ١١٣ ان كلا من اليهود والنصارى ومشركي العرب قالوا : انهم وحدهم على حق ، وغيرهم ليس بشيء ، أو ليس على شيء ، وعليه يكون الضمير في قوله تعالى : «وقالوا» راجعا الى هذه الطوائف الثلاث ، وقد جاء في القرآن الكريم ان اليهود قالوا : عزير ابن الله ، وان النصارى قالوا : المسيح ابن الله ، وان مشركي العرب قالوا : الملائكة بنات الله ، فلا جرم صحت هذه الحكاية عنهم جميعا.

(سبحانه) كلمة تنزيه ، وفي آية ثانية : (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ). لأن وجود الولد لله تعالى يستلزم العديد من المحاذير :

«منها» : ان التي تلد منه لا بد أن تكون من جنسه ، ليمكن الاستيلاد ، والله لا جنس له ولا ند.

و «منها» : ان الولادة تستدعي المقاربة ، والمقاربة تستدعي الجسمية ، والله ليس بجسم.

__________________

(١) انظر تفسير الآية الآتية ١٤٢ ، فقرة «لما ذا الصلاة إلى جهة معينة» فإنها متممة لهذا التفسير.

١٨٦

و «منها» : ان السبب الموجب للولد هو الاحتياج له ، والمفروض ان الله غني عن العالمين.

و «منها» : ان الذي يلد لا بد أن يكون مولودا ، والمفروض ان الله غير مولود. قال أمير المؤمنين (ع) : «لم يولد سبحانه فيكون في العز مشاركا أي يكون أبوه مشاركا له في العز ـ ولم يلد فيكون موروثا هالكا» أي يموت الأب فيرثه الابن. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

و «منها» : ان كل ما في السموات والأرض مخلوق ومملوك لله ، والمخلوق المملوك لا يكون ابنا للخالق المالك ، ولا الخالق المالك أبا للمخلوق المملوك .. وبهذا يتضح وجه الاستدلال على نفي الولد عنه تعالى في قوله : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

(كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ). أي مطيعون منقادون.

وتسأل : ان (ما) تستعمل فيما لا يعقل ، و (قانِتُونَ) تستعمل فيمن يعقل ، لأنه جمع بالواو والنون ، والمراد ب (ما) هو عين المراد ب (قانِتُونَ) فكيف صح التعبير عن الشيء الواحد بما لا يعقل تارة ، وبمن يعقل أخرى؟.

الجواب : ان الأرض والسموات تشتمل على من يعقل ، وما لا يعقل ، وقد تضمنت الآية جملتين : إحداهما أثبتت ملك الله لما حوته الأرض والسموات ، والثانية أثبتت طاعته لله .. وحين أراد الله سبحانه التعبير عن الملك غلب ما لا يعقل ، لأن الملك يتعلق به ، وحين أراد الطاعة غلب من يعقل ، لأنها لا تصدر إلا عن عقل واختيار.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). المبدع هو المخترع والمبتكر الذي لم يأخذ من غيره ، ومنه قوله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) ، وعليه يكون المعنى : إذا كان الله هو منشئ السموات والأرض ومبدعها فكيف ينسب اليه شيء مما فيهما على انه ولد له؟.

(وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). هذا كناية عن عظمة الله وقدرته ، وانه بمجرد أن يريد يتحقق المراد ، سواء لم يكن شيء فيوجده بإرادته من لا شيء ، أو كان شيئا ، وأراد تحويله الى شيء آخر ، فيتحول .. وذكرنا في تفسير الآية ٢٦ ـ ٢٧ فقرة «التكوين والتشريع» ان لله إرادتين :

١٨٧

ارادة التكوين ، وارادة التشريع ، فراجع ان شئت .. ومن ارادة التكوين قوله تعالى في الآية ٥٩ سورة آل عمران : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

لولا يكلمنا الله الآة ١١٨ ـ ١٢٠ :

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠))

اللغة :

الملة الديانة ، ومثلها النحلة ، وفي الحديث : «الكفر ملة واحدة». وجاء في تفسير روح البيان : «ان الطريقة المشروعة تسمى ملة باعتبار أن الأنبياء الذين أظهروها قد أملوها لأمتهم ، وتسمى دينا باعتبار تدين العباد بها ، وتسمى شريعة باعتبار كونها موردا للمتعطشين الى ثوابها».

الاعراب :

تأتي لو لا للامتناع ، وتدخل على جملتين : اسمية ، وأخرى فعلية ، نحو لو لا زيد لأكرمتك ، أي لو لا زيد موجود ، فخبر المبتدأ يكون في الغالب مقدرا ،

١٨٨

قال ابن مالك : «وبعد لو لا غالبا حذف الخبر». وأيضا تأتي للتحضيض ، أي للحض على الفعل ، وتختص بالدخول على المضارع أو ما في معناه ـ كما قال ابن هشام في المغني ـ مثل لو لا تستغفرون ، أي هلا تستغفرون.

المعنى :

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). ان الذين تمادوا في العتو والعناد ، قالوا لرسول الله (ص) : لن نؤمن لك ، حتى يقول الله لنا مشافهة : انك نبي ، أو يرسل إلينا ملكا يخبرنا بذلك ، أو تأتي بما نقترحه عليك من الآيات ، مثل ما حكاه الله عنهم في الآية ٩٠ وما بعدها من الاسراء : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) ـ الى قوله ـ (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ).

وقد أجاب الله عن ذلك بقوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). أي ان هذا التمادي في اقتراح الأباطيل لا يختص بمن اقترحها على رسول الله (ص). فان قوم موسى قالوا له : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً). وقالوا أيضا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ). وقالت النصارى لعيسى : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) .. وهذا هو وجه الشبه بين من اقترح على محمد (ص) ، وبين من اقترح على موسى وعيسى (ع) ، الشبه الذي أشار اليه سبحانه بقوله : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ).

والمعقول الذي تجب اجابته إذا طلب هو ان يؤيد الله رسوله بالبينات والدلائل التي لا تدع مجالا للشك في نفس من خلصت نفسه من الشوائب والكدورات ، وتجرد للحقّ لوجه الحق ، وقد فعل الله ذلك ، وبين الدليل الكافي الوافي على نبوة محمد ، أما طلب الزيادة فتعنت ومكابرة .. وبديهة ان المعاند اللجوج لا تجب اجابته .. بل يهمل ويعرض عنه .. والقوم الموقنون هم الذين يطلبون اليقين من وجهه والطريق الذي من شأنه أن يؤدي اليه.

١٨٩

المدلول ونوع الدليل :

قدمنا عند تفسير الآية ١١١ : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ان كل دعوى تحتاج الى دليل ، وان الدليل يحتاج الى دليل ، حتى ينتهي الى أصل عام واضح بذاته ، لا يختلف فيه اثنان ، ونتكلم في هذه الفقرة عن نوع الدليل :

وهو يختلف باختلاف طبيعة الشيء المتنازع عليه ، فإذا أردنا ـ مثلا ـ أن نعرف المواد التي يحتوي عليها جرم من الأجرام الطبيعية اعتمدنا التجربة والمختبر ، وإذا أردنا أن نثبت وجود مدبر حكيم وراء الكون رجعنا الى العقل ، أو معرفة حكم من أحكام الشريعة الاسلامية استندنا الى الكتاب والسنة ، أو معرفة اللغة ومداليل الألفاظ تحتم الرجوع الى العرف واصطلاح العرب الأوائل ، وإذا كان هناك مسألة قانونية رجعنا الى القانون ، أو تاريخية رجعنا الى علماء الآثار والرواة الثقات .. وهكذا تختلف نوعية الدليل باختلاف طبيعة الحادثة التي يراد إثباتها ، وليس لأحد كائنا من كان أن يقترح من عندياته نوع الدليل ، أو يطلب المزيد من الإثبات بعد أن استكمل الاستدلال جميع العناصر الموجبة لليقين والاقناع.

وعلى هذا ، فإذا قام الدليل الكافي الوافي الذي استدعته طبيعة المدلول ، ثم اقترح مقترح دليلا سواه ، أو المزيد من الاستدلال فهو مكابر لجوج يضرب بطلبه واقتراحه عرض الحائط .. وقد تحدى محمد (ص) بالقرآن المشككين والمعاندين وثبت عجزهم وخذلانهم ، وتمت الحجة عليهم ، فإذا طلبوا الزوائد بعد العجز الفاضح كان طلبهم هذا من باب العناد واللجاج ، إذ لو كان غرضهم الحق بما هو حق لاقتنعوا به ، وأذعنوا له بعد أن ظهر بأكمل صوره وأجلاها.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ). هذا تحديد لوظيفة النبي ومهمته ، وانه معلم ، لا مسيطر ، ومبين للحق ، لا مكره عليه ، فالآية تجري مجرى قوله تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ـ الكهف ٢٩». وفي الآية تسلية للنبي (ص) لئلا يضيق صدره بكفر من كفر ، وعناد من عاند.

١٩٠

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ). قال صاحب مجمع البيان :

«سأل اليهود والنصارى محمدا (ص) ان يهادنهم ، وأظهروا له انه إذا هادنهم وأمهلهم اتبعوه وآمنوا به فآيسه الله منهم ومن موافقتهم. وهذا يدل على انه لا يصح إرضاء اليهود والنصارى بحال من الأحوال ، لأنه تعالى علق رضاهم بأن يصير يهوديا أو نصرانيا ، وإذا استحال ذلك استحال ارضاؤهم».

والحقيقة ان أكثر أهل الأديان والأحزاب على هذه النزعة ، ولا خصوصية لليهود والنصارى في ذلك ، بل ان بعض الناس لا يرضى عنك الا إذا جعلت من نفسك عبدا له ، وقد استنكر القرآن الكريم هذه النزعة البغيضة ، ودعا الى التعايش الديني مع جميع أهل الأديان ، وقدس جميع الرسل والأنبياء ، وذكرهم بكل خير ، وأوجب على أتباعه الاعتراف بهم والايمان بنبوتهم ، وهذا من أقوى البواعث للتآخي بين أهل الملل والنحل ، وتعاون بعضهم مع بعض.

وعلى أية حال ، فان الله خص اليهود والنصارى بالذكر ، كي ييأس النبي ويقنط من متابعتهم له ، كما قال صاحب المجمع.

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى). قدمنا عند تفسير الآية ٢٦ : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) فقرة «الهدى والضلال» ان الهدى يطلق على معان : منها بيان الحق ، ومنها التوفيق الى الهداية وعمل الخير ، ومنها الثواب الخ .. والمراد بالهدى هنا الإسلام الذي أوحاه الله الى نبيه محمد (ص) ، وما عداه هوى ، لا هدى .. والمعنى قل يا محمد لليهود والنصارى : ان ما أنا عليه هو الحق ، وما أنتم عليه باطل وضلالة ، فكيف أترك الحق ، واتبع الضلال؟.

أعداء الدين والمبدأ :

أخبر الله جل وعز نبيه الكريم بأن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه ، حتى يتبع ملّتهم ، ومع علمه سبحانه بعصمة نبيه محمد (ص) ، وانه لن يتبع أهواءهم بحال فقد وجه اليه هذا التحذير : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

١٩١

وذكر المفسرون لصحة هذا النهي والتحذير وجهين : الأول ان المعصية ممكنة الصدور من النبي ذاتا ، ممتنعة عرضا ، أي انه يترك المعصية مع قدرته على فعلها ، والا لم يكن له فضل في تركها ، وجاء النهي والتحذير بالنظر الى ما هو ممكن بالذات ، بغض النظر عما هو ممتنع بالعرض ، أي بلحاظ العصمة.

الوجه الثاني : ان الخطاب هنا من باب «إياك أعني واسمعي يا جارة». أي هو موجه للنبي في الظاهر ، وللناس في الواقع.

وقد تصورت وجها ثالثا : وهو ان النبي ربما دار في خلده أن يتقرب من اليهود إلى حد ما .. عسى أن يهتدوا ، أو يستعين بهم على ما يبتغيه من الخير ، أو يخفف من غلوائهم ، ويكفّ بعض شرورهم .. فبين الله له ان اعداء الدين والمبدأ لا يرضيهم منك شيئا إلا أن تترك ما أنت عليه من الحق ، وتتبع ما هم عليه من ضلال .. ثم نهاه عن مهادنتهم والتقرب منهم ، لأن ذلك يساعدهم ، ويشد من عضدهم من حيث لا يريد ، وهذه التقوية والمساندة محرمة عليك يا محمد ، وعلى غيرك ، تماما كما يحرم اتّباع دينهم .. هذا ، الى أن اليهود قد جبلوا على الشر والفساد ، ومعاندة الحق وأهله ، والاساءة إلى من أحسن اليهم ، ولا تجدي معهم أية محاولة للسلم ، وكيف الأذى .. وخير الأجوبة ان لله أن يأمر وينهى المعصوم كما يأمر وينهى غير المعصوم ، بالنظر لجلاله سبحانه ، وإذا كان من فرق بين المعصوم وغيره فهو بالنسبة الى غيره تعالى لا بالنسبة اليه.

ثم ان هذا النهي والتحذير يدمغ من يتملق لأعداء الدين والوطن متذرعا انه يريد استغلالهم لمصلحة المؤمنين .. ولكن العكس هو الصحيح فان عدو الدين والمبدأ والوطن لا يسالم إلا على أساس التجارة والمساومة ، وان يكون هو الرابح دائما وشعاره الوحيد خذ ولا تعط ، فان لم تستطع فخذ أكثر مما تعطي .. ولقد بين الله جل وعز حقيقة هؤلاء التجار بأوضح بيان وأبلغه ، حيث قال : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) ـ ٩٦ البقرة».

يتلونه حق تلاوته الآة ١٢١ ـ ١٢٣ :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ

١٩٢

يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣))

الاعراب :

جملة يتلونه حال من الضمير في آتيناهم ، وحق قائم مقام المفعول المطلق ، أي يتلونه تلاوة حقا ، وهم في (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) ضمير فصل لا محل له من الاعراب عند النحاة ، مثل كان زيد هو القائم.

المعنى :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ). بعد أن بين الله لنبيه محمد (ص) ان النصارى واليهود لن يؤمنوا به ، بل لن يرضوا عنه ، حتى يتبع ملتهم استثنى الطيبين المنصفين منهم ، وهم الذين أسلموا وآمنوا بمحمد (ص) ، وعبر عنهم بالذين يتلون الكتاب حق تلاوته ، والمراد بالكتاب كل كتاب أنزله الله ، سواء في ذلك القرآن ، والتوراة والإنجيل ـ كما أنزلهما الله ـ لأنه سبحانه لم يعين كتابا خاصا ، وعدم التخصيص والتعيين دليل العموم ، ومعنى يتلونه حق تلاوته يتدبرون معانيه ، ويعملون بأوامره ونواهيه ، لا مجرد تجويد القراءة ، وضبط الكلمات ، وإخراج الحروف من مخارجها ، فان هذه ليست بشيء إذا لم يكن معها تدبر واتعاظ ، وفي الحديث الشريف : ما آمن بالقرآن من استحل محارمه.

وجملة القول ان كلا من التوراة والإنجيل قد بشر بنبوة محمد (ص) ، كما ان القرآن قد دل على صدقه ، وبالفعل قد أسلم كثير من اليهود والنصارى والمشركين الذين تدبروا الآيات ، وتجردوا للحق بما هو حق.

١٩٣

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). أي من كفر بما أنزل الله الذي يستلزم الكفر به الكفر بمحمد (ص) فهو من الخاسرين لا محالة ، لأنه تماما كمن كفر بالله .. وبديهة انه لا خسران أعظم من خسران الآخرة ونعيمها الباقي ببقاء الله سبحانه.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ). مضى تفسيرها في الآية ٤٠ ، وقد كرر الله سبحانه تذكير اليهود بنعمته في العديد من الآيات ، والغرض تقريعهم وتوبيخهم بأبلغ أسلوب وأحكمه .. ومن ذلك قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً). مرّ تفسيرها في الآية ٤٨.

بين مجتهد ومقلد :

دعا الشيخ محمد عبده الى الاجتهاد ، ونعى على أهل التقليد ، وكان له حلقة في الأزهر يفسر فيها القرآن ، وعند ما وصل الى قوله تعالى : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) قال :

«ان الذي يتلو القرآن لمجرد التلاوة مثله كمثل الحمار يحمل أسفارا ، لاحظ له من الايمان بالكتاب ، لأنه لا يفهم أسراره ، ولا يعرف هداية الله فيه ، وقراءة الألفاظ لا تفيد الهداية ، حتى ولو فهم القارئ مدلولاتها ، لأن هذا الفهم من قبيل التصور ، والتصور خيال يلوح ويتراءى ، ثم يغيب ، وانما الفهم الصحيح فهم الايمان والتصديق ممن يتدبر الكتاب مستهديا مسترشدا ملاحظا انه مخاطب بآياته ليهتدي بها ، ويسترشد بمعانيها».

فاعترض عليه بعض الشيوخ المقلدين قائلا : ان العلماء قالوا : القرآن يتعبد بتلاوته.

فأجابه الشيخ عبده : ولكن الله قال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) ـ ص ٢٩». ومن رأي الشيخ عبده ، كما في تفسير المنار : ان على كل مسلم أن يقرأ القرآن ، أو يسمعه كله ، ولو مرة واحدة في عمره.

١٩٤

لا ينال عهدي الظالمين الاة ١٢٤ :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤))

اللغة :

الابتلاء الاختبار ، والمراد به هنا التكليف ، والكلمات مفردها كلمة ، والمراد بها الأوامر والنواهي ، ومنها تكليفه بذبح ولده ، والمراد باتمهن هنا الطاعة والاستجابة ، فقد روي عن الإمام الصادق (ع) ان الله ابتلى ابراهيم بذبح ولده إسماعيل ، فعزم على ذلك.

الاعراب :

ابراهيم مفعول مقدّم ، وربه فاعل مؤخر ، والضمير عائد على ابراهيم ، وهو مؤخر لفظا متقدم رتبة ، لأن رتبة الفاعل متقدمة على رتبة المفعول ، وقال النحاة : لا يجوز تقديم الضمير لفظا ورتبة ، لأن من شأنه أن يعود على سابق اما لفظا واما رتبة ، ولا يجوز أن يعود على متأخر لفظا ورتبة.

المعنى :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ). ابراهيم الخليل (ع) أبو الأنبياء تقرّ وتعترف بنبوته الديانات السماوية الثلاث : الإسلام والمسيحية واليهودية ، ويعظمه مشركو العرب ، لانتسابهم الى ولده إسماعيل (ع) ، ولأنهم خدمة الكعبة وحماتها التي بناها ابراهيم وولده إسماعيل (١).

__________________

(١) قال صاحب البحر المحيط : ان ابراهيم هو الجد الحادي والثلاثون لمحمد ، وهو ابراهيم بن تارح بن ناجور ابن ساروغ بن ارغو بن فالغ بن عابر ، وهو هود النبي ، ومولده بأرض الأهواز.

١٩٥

بيّن الله سبحانه انه أمر ابراهيم ببعض التكاليف كذبحه ولده ـ مثلا ـ فوجده أمينا وفيا ، فمعنى أتمهن امتثل وأطاع ، وقد وصف الله ابراهيم بالوفاء في الآية ٣٧ من النجم : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى).

(قال ـ أي الله ـ اني جاعلك للناس إماما). هذه بشارة من الله لإبراهيم بالتفضل عليه بالإمامة ابتداء ، ومن غير طلب منه ، جزاء لاخلاصه ووفائه وتضحيته.

(قال ـ أي ابراهيم ـ ومن ذريتي). هذا رجاء ودعاء من ابراهيم (ع) ان يمن الله سبحانه على بعض ذريته ـ لأن من هنا للتبعيض ـ بالامامة ، كما منّ عليه .. وهنا تتجلى عاطفة الوالد للولد ، حيث طلب ابراهيم السعادة العظمى لبعض ذريته ، ولم يطلبها من الله لنفسه ، بل تفضل الله عليه بها ابتداء.

(قال ـ أي الله ـ لا ينال عهدي الظالمين). وهذا القول استجابة من الله لإبراهيم ان يتخذ أئمة من ذريته ، على شريطة أن يكونوا مثله أوفياء أتقياء لأن الهدف من الامام أن يمنع المعصية ، فكيف يكون عاصيا .. ولست أرى كلمة أدل على عدل الإمام ورحمته بالمحكومين من قول علي (ع) ، وهو خليفة المسلمين : «لقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي» .. حاكم يخاف ظلم المحكومين له ، وقوي يخشى استبداد الضعفاء به .. علي الذي لا يبالي أسقط على الموت ، أم سقط الموت عليه .. علي ، وقد أصبح مصدر القوة والسلطة يخاف من رعيته .. وكان ينبغي العكس .. كما هو المألوف المعروف .. ان هذا خارق للمعتاد ، وكل خلاله من الخوارق والمعجزات.

الإمامة وفكرة العصمة :

يطلق لفظ الإمام في اللغة على معان : منها الطريق : لأنه يقود السائر الى مقصده ، ومنها ما يقتدي الناس به في هداية ، أو ضلالة ، قال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) .. وقال في آية أخرى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ). وقد يكون الإنسان إماما إذا كان متبوعا في شيء ، ومأموما تابعا في شيء آخر .. هذا بحسب اللغة ، أما بحسب الدين والشرع فان الإمام يطلق على من يؤم الناس

١٩٦

في الصلاة إلا أنه لا يستعمل في ذلك إلا مقيدا ، فيقال إمام الجمعة والجماعة .. وإذا كان مطلقا غير مقيد فانه يستعمل في معنيين : الأول في النبي ، ومرتبته أعلى مراتب الإمامة. الثاني يستعمل في وصي النبي .. والإمام بمعنى إمامة النبوة والرسالة ، وامام الوصاية والخلافة متبوع في كل شيء غير تابع لغيره في شيء في زمن إمامته.

والإمام بمعنى النبي يفتقر الى النص من الله بواسطة الروح الأمين ، وبمعنى الوصي لا بد فيه من النص من الله سبحانه على لسان نبيه الكريم ، وشرط هذا النص أن يكون بالاسم والشخص ، لا بالصفات وصيغة العموم فقط ، كما هي الحال في المجتهد والحاكم الشرعي ، بل بالنص الخاص الذي لا يقبل التأويل ، ولا التخصيص ، ولا مجال فيه إطلاقا للبس ، أو احتمال العكس ، ومن هنا يتبين ان اطلاق لفظ الإمام من غير قيد على غير النبي ، أو غير الوصي محل توقف وتأمل ، وغير بعيد أن يكون محرما ، تماما كاطلاق لفظ وصي النبي على غير الإمام المعصوم.

ومهما يكن ، فان قول هذا الإمام نبيا كان ، أو وصيا هو قول الله ، وهداه هدى الله ، وحكمه حكم الله الذي لا يحتمل العكس .. ومن ادعى شيئا من ذلك لنفسه دون أن يثبت النص القطعي عليه بالخصوص فهو مفتر كذاب .. وخير ما قرأته في صفة الإمام قول الإمام الأعظم زين العابدين (ع) في الصحيفة السجادية : «اللهم انك أيدت دينك في كل أوان بإمام أقمته علما لعبادك ، ومنارا في بلادك بعد أن وصلت حبله بحبلك ، وجعلته الذريعة الى رضوانك ، وافترضت طاعته ، وحذرت معصيته ، وأمرت بامتثال أوامره ، والانتهاء عند نهيه ، وان لا يتقدمه متقدم ، ولا يتأخر عنه متأخر ـ أي يبقى متابعا له ـ فهو عصمة اللائذين ، وكهف المسلمين ، وعروة المؤمنين ، وبهاء رب العالمين».

هذه هي أوصاف من يختاره الله إماما لعباده .. وبديهة ان الإمامة بمعنى النبوة والوصاية تستدعي العصمة ، ولا تنفك. عنها بحال ، بل هي هي ، لأن الأعمى لا يقود أعمى مثله ، والأقذار لا تطهر أقذارا مثلها ، ومن كان عليه الحد لا يقيم على غيره الحد.

واستدل الشيعة الإمامية بقوله تعالى : (جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) على ان الإمامة

١٩٧

لا تكون الا بجعل من الله سبحانه ، ويؤيده طلب ابراهيم منه جل وعز ان يجعل أئمة من ذريته ، وإذا كانت الإمامة بالجعل منه تعالى احتاجت بحكم الطبيعة الى النص منه.

وأيضا استدل الشيعة الإمامية بقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) على وجوب العصمة للنبي والوصي ، ووجه الدلالة ان الله قد بيّن صراحة انه لا يعهد بالإمامة الى ظالم ، والظالم من ارتكب معصية في حياته مهما كان نوعها ، حتى ولو تاب بعدها ، حيث يصدق عليه هذا الاسم ، ولو آنا ما ، ومن صدق عليه كذلك فلن يكون إماما.

وتشاء الصدف والظروف أن ينشأ غير علي في حجر الشرك والرجس ، وعبادة الأصنام ، وان ينغمس في أرجاس الجاهلية الى الآذان ، وان لا ينطق بالشهادة الا بعد أن عصي عوده ، وبعد أن شبعت الأصنام منه ، ومن سجوده لها ، وشاء الله لعلي بن أبي طالب أن ينشأ في حجر النبوة والطهر ، وان يكيّفه محمد (ص) وفقا لارادة الله ، وهو طري ندي ، وان ينزل الأصنام من على عروشها ، ويلقي بها تحت أقدام محمد.

وهنا سؤال نلقيه على كل عاقل منصف ، ليجيب عنه بوحي من عقله ووجدانه ، وهو :

مال لقاصر ورثه عن أبيه ، ولا بد له من ولي يحرص ويحافظ عليه ، ودار الأمر بين ان نولي عليه رجلا لم يعص الله طرفة عين مدى حياته ، لا صغيرا ، ولا كبيرا ، وبين أن نولي عليه رجلا عصاه أمدا طويلا ، وهو بالغ عاقل ، ثم تاب وأناب ، فأيهما نختار : الأول أو الثاني؟.

ويكفي دليلا على عصمة أهل البيت (ع) شهادة الله لهم بالعصمة في الآية ٣٣ من الأحزاب : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ، وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .. وتكلمنا عن العصمة مفصلا عند تفسير الآية ٣٩ فقرة «عصمة الأنبياء». وفقرة «أهل البيت» فراجع ، وهذه الفقرة تتمة للفقرتين السابقتين.

وفكرة العصمة لا تختص بالشيعة وحدهم ، فان السنة قالوا بها ، ولكنهم جعلوها للامة ، مستندين الى حديث لم يثبت عند الشيعة ، وهو : «لا تجتمع أمتي على ضلالة» .. والمسيحيون قالوا بعصمة البابا ، والشيوعيون بعصمة ماركس

١٩٨

ولينين ، وقال القوميون السوريون بعصمة انطون سعادة ، والاخوان المسلمون بعصمة حسن البنا ، وكل من استدل بقول انسان ، واتخذ منه حجة ودليلا فقد قال بعصمته من حيث يريد أو لا يريد.

وفي الصين مئات الملايين اليوم تؤمن بعصمة ماوتسي تونغ ـ نحن الآن في سنة ١٩٦٧ ـ ويشيدون بتعاليمه ، وإذا اختلف الشيوعيون فيما بينهم وكذلك غيرهم ممن ذكرنا فإنهم يختلفون في تفسير أقوال الرؤساء والمراد منها ، لا في وجوب العمل بها ، والولاء لها ، تماما كما يختلف المسلمون في تفسير نصوص القرآن ، والمسيحيون في تفسير الإنجيل .. ومن خص العصمة بالشيعة فهو واحد من اثنين : اما جاهل مغفل ، واما مفتر متآمر.

واذا جعلنا البيت مثابة الآة ١٢٥ ـ ١٢٦ :

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦))

اللغة :

البيت بوضعه وإطلاقه يشمل كل بيت ، ولكنه أصبح علما على الكعبة المشرفة ، لكثرة استعماله فيها من غير قيد ، وثاب معناه رجع ، ومثابة اسم لمكان الرجوع ، والتاء في مثابة للمبالغة ، لا للتأنيث ، والطواف الدوران ؛ والعكوف والاعتكاف الاقامة على الشيء والملازمة له.

١٩٩

الإعراب :

رب منادى مضاف الى ياء المتكلم ، أي يا ربي ، وحذف حرف النداء ، والياء للتخفيف ووضوح المعنى ، وكسرت الباء للدلالة على ياء المتكلم المحذوفة ، ومن في قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل بعض من كل وهو أهله .. ومن في قوله : (وَمَنْ كَفَرَ) يجوز أن يكون محلها النصب على أن تكون مفعولا لفعل محذوف تقديره قال الله : وارزق أيضا من كفر ، وفأمتعه معطوف على الفعل المحذوف ، ويجوز أن تكون من هذه مرفوعة بالابتداء ، وجملة فامتعه خبر ، وجاز دخول الفاء على الخبر لشبه اسم الموصول باسم الشرط.

المعنى :

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً). وإذ جعلنا عطف على قوله : وإذ ابتلى ، والمعنى ان الله سبحانه قد جعل بيته مقصدا للناس تؤمه أفواج منهم لأداء المناسك ، وبعدها يتفرقون الى بلادهم ، ثم يرجع اليه أفواج أخرى ، وهكذا دواليك .. وأيضا جعله آمنا في الآخرة ، لأن الإنسان متى بلغه وأدى المناسك رجع الى نفسه وانقطع الى ربه وتاب اليه من ذنوبه ، وبهذا يكون البيت وسيلة للخلاص من العذاب والعقاب ، كما جعل الله بيته أمنا في الدنيا ، لأن ساكنه يأمن على نفسه ، ولا يتعرض له أحد بسوء ، وقد كان الرجل يرى في الحرم قاتل أبيه ، فيتجاهله ، وهذه عادة موروثة منذ عهد إسماعيل (ع) الى يومنا هذا.

التجاء الجاني الى الحرم :

جاء في كتاب الجواهر ، وهو أعظم مصدر لفقه الجعفرية ، ما نصه بالحرف : «لا يقام الحد إطلاقا في الحرم على من التجأ اليه ، لقوله تعالى : (مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) بل يضيق عليه في المطعم والمشرب ، ويقتصر على ما يسد الرمق ، ليخرج ويقام عليه الحد ، فقد جاءت الرواية الصحيحة عن الإمام جعفر الصادق (ع)

٢٠٠