التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

١
٢

٣
٤

مقدّمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد :

فاني ألفت في العقيدة وأصولها سلسلة من ثمانية كتب صغار (١) خاطبت بها الجيل الجديد بأسلوبه ومنطقه ، هذا الجيل الذي لا يصدق شيئا إلا ما يريده ، ويتفق مع تربيته وثقافته.

وقدر الله لهذه السلسلة النجاح والتوفيق ، وأعيد طبعها مرات ، ولله الحمد ، وبديهة ان كل عمل يوافق الحكمة ، والهدف الذي يرمي اليه يكتب الله النجاح له والتوفيق .. ان التوفيق من الله ما في ذلك ريب ، ولكنه جل وعز أبى أن يجري الأمور إلا على طرقها وسننها .. ومجرد وضع الحبر على الورق ليس من سنن النجاح في شيء ، وانما السبيل الى النجاح والرواج ان يرضى القارئ عما يقرأ ، ويعجب به ، وهو لا يرضى عن أية كتابة إلا إذا كانت من أجله ، لا من أجل الكاتب ، وهذا الرضا بدوره يشجع الكاتب على المضي ، وهكذا يؤثر ويتأثر كل من القارئ والكاتب بالآخر.

وعلى أية حال ، فقد شجعني انتشار السلسلة على تأليف كتب أكبر وأوسع ، منها كتاب معالم الفلسفة الاسلامية ، والفقه على المذاهب الخمسة ، والشيعة

__________________

(١) هي الله والعقل ، والنبوة والعقل ، والآخرة والعقل ، وإمامة علي والعقل ، والمهدي المنتظر والعقل ، وعلي والقرآن ، ومفاهيم انسانية في كلمات الإمام جعفر الصادق ، وفلسفة المبدأ والمعاد.

٥

والحاكمون ، والشيعة والتشيع ، وفضائل الإمام علي ، وغيرها .. وشاء الله لهذه ما شاءه لتلك ، فدفعت بي مشيئته تعالى ، وكمال توفيقه الى تأليف موسوعة فقه الإمام جعفر الصادق في ستة أجزاء كبار ، ونفس الشيء حصل لهذه الموسوعة ، فتولاها جلت حكمته بعنايته ، تماما كما تولى أخواتها من قبل .. وأيضا نفس الشيء حصل لي ، حيث أغراني نجاح الموسوعة بما هو أضخم وأعظم ، وأعني به تفسير القرآن الكريم الذي أسميته «التفسير الكاشف».

وقد تم منه بحول الله وقوته ، وتوفيقه وفضله هذا الجزء الذي اقدم له ، وفيه تفسير سورتي الحمد والبقرة بكاملهما .. ولا أدري : هل تمتد بي الحياة الى النهاية ، وأرى نتاج ما ضحيت وقاسيت ، أو ان الأقدار قد تتصرف عكس ما رسمت وأردت؟. وإذا تم «التفسير الكاشف» كما أريد ، فهل يكتب له من الرواج ما كتب لغيره مما ألفت ونشرت؟ وفي حال تمامه ورواجه ، هل يثمر كتابا يأتي من بعده ، كما جاء هو نتاجا لموسوعة الفقه؟

أسئلة لا يعلم أجوبتها الا صاحب الكلمة الأولى ، والارادة العليا : «وما تدري نفس ما ذا تكسب غدا ، وما تدري نفس بأي أرض تموت». وإيماني بهذه الحقيقة لا يمنعني أبدا من التصميم والمضي في الجهد والعمل الدائب .. لأني أومن أيضا بأن لعزمي الجاد أثره البالغ في تحقق ما أريد .. وهذا الايمان يدفع بي الي بذل المزيد من الجهد خوفا من فوات الفرصة .. ومن أجل هذا أظل أكتب وأكتب ، وأحلم بالتمام والنجاح ، حتى الموت ؛ فهو وحده الذي يحد من نشاطي ، فأنا دائما أبذل الجهد ، ما دام الموت بعيدا عني.

وأغلى أمنية على قلبي أن يفاجئني الأجل ، وأنا أكتب داعيا الى الله والحق والعدل .. بل أسمى الرغائب لدي ان أدخل الجنة لاقرأ فيها وأكتب خالي البال ، متحررا من الأشغال ، وهموم العيال .. وكم مر بخيالي هذا السؤال ـ جاء السجع من غير قصد ـ : إذا أنعم الله بالجنة فهل أكون فيها بطالا؟ وهل يتسنى لي أن أقرأ فيها وأكتب؟ وأجيب نفسي : أجل ، ان فيها ما تلذ الأعين ، وتشتهي الأنفس ، حتى ولو اشتهت القراءة والكتابة .. ويعود السؤال ، ولكن بصيغة ثانية : ولمن أكتب؟ وأهل الجنة كلهم على غاية الكمال ..

ومعذرة من هذا الاسترسال مع القلم ، وعلى الأصح مع ذاتي في التعبير عن نفسها .. وهل أنا الا مجرد انسان يصعب عليه أن يتحرر من ذاته وينفصل عنها؟

٦

أو يصعب عليه أن يمنعها عن التعبير عما في كهوفها وقرارتها حين تجد فرصة ومنفذا لهذا التعبير.

الجيل الجديد :

كل شيء يخضع لأسبابه الواقعية ، سواء أكان ظاهرة من ظواهر الطبيعة ، كالطوفان والزلزال ، أو ظاهرة اجتماعية ، كالجهل والفقر ، أو كان شأنا من شئون القلب ، كالايمان والكفر ، ولا شيء على الإطلاق يوجد لمجرد الصدفة من غير سبب وتدبير .. مهدت بهذه الاشارة للسؤال والجواب التاليين :

لما ذا لا يهتم الجيل الجديد بالقيم الدينية ، كما كانت تهتم بها الأجيال السابقة؟ فأكثر شباب هذا الجيل قد انصرفوا عن العبادات والطقوس الدينية .. بل أثقل شيء على نفوسهم ان يسمعوا موعظة ونصيحة تمت الى الدين بسبب. حتى القيم الانسانية ، كالاخاء والمساواة ، والسلام والتعاون ، والصدق والعدل لا صدى لها في نفوسهم .. وان تحدثوا عنها وعن قداستها فإنما يقدسونها بألسنتهم لا بقلوبهم ، وبأقوالهم لا بأفعالهم .. اللهم الا في حدود منفعتهم الشخصية.

الجواب : لقد كانت الشعوب الاسلامية العربية منها وغير العربية لا تثق بمبدإ من المبادئ ، ولا بقيمة من القيم إلا إذا كان مصدرها كتاب الله جل وعز ، وسنة رسول الله (ص) .. فلا اشتراكية ، ولا وجودية ، ولا ديمقراطية ، ولا قومية ، لا شيء على الإطلاق إلا وحي السماء ، منه تستمد أصول العقيدة ، وآداب السلوك ، وعليه توضع مناهج التعليم ، ومنه تستخرج القوانين والأحكام التي يعمل بها في دور القضاء ، وتراعى في الدوائر ، وسائر التصرفات الفردية والاجتماعية.

ومن هنا كانت تعاليم الدين واضحة في أذهان الكثير من الناس ، يعرفون ما يقره الشرع ، ويأمر به ، وما يرفضه وينهى عنه. وكان الذي يعيش الدين معايشة صحيحة محل ثقة الجميع ، وموضع أمانتهم ، ومن انحرف عنها لا يأتمنونه على شيء ، ولا يثقون به في شيء .. ومعنى هذا في واقعه ان القيم الاجتماعية كانت هي القيم الدينية بالذات ، فإذا ما شذ فرد عنها ، وخرج عليها كان تماما كمن يخرج على النظام السليم ، والوضع القويم.

٧

ثم دارت الأيام ، وحدث الانقلاب الخطير بنفوذ الغرب ، وسيطرته على البلاد الاسلامية ، فاتجه أول ما اتجه الى شريعة القرآن ، ومحا أثرها من دور القضاء ، وأبدلها بالقانون الوضعي الفرنسي والانكليزي ، وألغى تعلم العقائد والأخلاق الدينية من مناهج التعليم ، وأفسح المجال للميسر والفجور ، وحانات الخمور ، ولكل ما من شأنه أن يشل العقيدة والأخلاق ، فاختفت سمات القرآن والسنة النبوية من الحياة الاجتماعية ، حتى اللغة العربية أصابها ما أصاب العقيدة والشريعة ، فكان هذا الجيل الجديد الذي لا يهتم بعقيدة ولا خلق ، وهو في الواقع نتاج للاوضاع الفاسدة التي نشأ فيها ، وربّي عليها ، فمن الطبيعي أن يكون انعكاسا لها ، ومن الخطأ ان ننظر الى الجيل مستقلا عن مجتمعه وبيئته .. وحقا ما قاله الفلاسفة : ان المعلول اظهار لعلته.

العلاج :

وتسأل : لقد وصفت الداء ، فما هو الدواء؟

والحق ان الجواب عن هذا السؤال لا ينبغي أن ينفرد به مثقف واحد ، ولا بدّ أن تمعن فيه وتتلاقى عقول كبيرة ومخلصة ، لأن الأخلاق والعادات إذا حلت في بيئة وطال عليها الأمد تصبح حقيقة واقعة تنزع إلى البقاء والاستمرار ، وليس استئصالها بالشيء اليسير .. انها تعمل في عالم النفوس تماما كما تعمل الأسباب الطبيعية في عالم الطبيعة ، ويحتاج تغييرها إلى جهد وجهاد طويل وشاق من نوع الجهد الذي بذله الرسول الأعظم (ص) لتغيير عادات أهل الجاهلية وعقائدهم .. وقد جاءت الاشارة في الأحاديث الى ذلك ، منها : «بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ». اذن ، لن يؤوب من غربته ، وتقر عيناه في عودته إلا بقائد كالنبي محمد (ص) ، واصحاب كالمهاجرين والأنصار .. وليس على الله بعزيز أن يتيح الظروف ليوم يعود فيه سلطان القرآن ، وشريعة القرآن ، وأخلاق القرآن.

ولكن علينا أن نعمل جهد المستطيع ، ولا ننتظر معجزة السماء ، والعمل الذي نستطيعه الآن ـ كما يبدو لي ـ هو :

أولا : أن نجعل للدين في المدارس مكانا مرموقا ، بخاصة لقراءة القرآن وحفظه وتفسيره ، لأنه حجر الأساس. فإذا رفض ذلك القائمون على شئون التعليم

٨

في المدارس الحكومية ـ وسيرفصون من غير جدال ـ فعلينا ان ننشىء مدارس أهلية لهذه الغاية الى جانب العلوم الزمنية الدارجة ، ننشىء هذه المدارس من الملايين التي تدفع باسم الحقوق الإلهية للمراجع وغيرهم ، ولا أعرف موردا لها خيرا من إنفاقها لإحياء التعاليم الدينية ، وانتشارها ، وتربية النشء عليها.

ثانيا : أن يؤدي كل واحد من رجال الدين مهمته بإخلاص بعد أن يؤهل نفسه لأن يكون هاديا واعيا يعرف من أين ينفذ الى قلوب الشباب وكيف يقنعهم بأن الدين مصدر القيم التي تمنحهم حياة أفضل.

ثالثا : أن نوضح الحقائق الدينية ، ونيسرها للافهام ، ونذيعها بالكتب والخطب والمقالات والنشرات ، ونثبت للجاهل والمشكك ان الإسلام بعقيدته وشريعته وأخلاقه ينبع من حاجات الإنسان الروحية والمادية ، ويضع لمشاكله الحلول السليمة ، ويهدف الى سعادته دنيا وآخرة .. وسيجد القارئ الدليل على ذلك في هذا التفسير الذي يربط الدين بالحياة بشتى مظاهرها ، ويهتم بالجانب الانساني أكثر مما يهتم ببلاغة الكلمة.

المفسر :

التفسير في اللغة الاستبانة ، وفي الاصطلاح علم يبحث فيه عن معاني ألفاظ القرآن وخصائصه.

ولا بد لهذا العلم من معدات ومؤهلات ، منها العلوم العربية بشتى أقسامها ، وعلم الفقه وأصوله ، ومنها الحديث وعلم الكلام ، ليكون المفسر على بينة مما يجوز على الله وأنبيائه ، وما يستحيل عليه وعليهم ، ومنها كما يرى البعض علم التجويد والقراءات.

وهنا شيء آخر يحتاج اليه المفسر ، وهو أهم وأعظم من كل ما ذكره المفسرون في مقدمة تفاسيرهم ، لأنه الأساس والركيزة الأولى لتفهم كلامه جل وعلا. ولم أر من أشار اليه ، وقد اكتشفته بعد أن مضيت قليلا في التفسير ، وهو ان معاني القرآن لا يدركها ، ولن يدركها على حقيقتها ، ويعرف عظمتها الا من يحسها من أعماقه ، وينسجم معها بقلبه وعقله ، ويختلط إيمانه بها بدمه

٩

ولحمه ، وهنا يكمن السر في قول الإمام أمير المؤمنين (ع) : ذاك القرآن الصامت ، وأنا القرآن الناطق.

وأيضا أيقنت ـ وأنا ماض في تفسير آي الذكر الحكيم ـ ان أي مفسر لا يأتي بجديد لم يسبق اليه ، ولو بفكرة واحدة في التفسير كله ، أيقنت ان هذا المفسر لا يملك عقلا واعيا ، وانما يملك عقلا قارئا ، يرتسم فيه ما يقرأه لغيره ، تماما كما ترتسم صورة الشيء في المرآة على ما هو من لون وحجم .. ذلك ان معاني القرآن عميقة الى أبعد الحدود ، ولا يبلغ أحد نهايتها مهما بلغت مكانته من العلم والفهم ، وانما يكتشف منها ما تسعفه معارفه ومؤهلاته ، فإذا وقف المفسر السابق عند حد من الحدود ، ثم جاء اللاحق وترسم خطاه لا يتجاوزها ، ولو بخطوة واحدة كان تماما كالأعمى يتوكأ على عكاز ، فإذا فقدها جمد في مكانه.

وقد تحصل لي الكثير من الآراء والمعتقدات غير هذا وذاك خلال التفسير ، وبالأصح إن التفسير صحح الكثير من مفاهيمي السابقة .. من ذلك اني أيقنت ـ وأنا أتدبر كلمات الله سبحانه ـ انه لا ايمان بلا تقوى ، وان الجنة حرام الا على من جاهد وضحّى في سبيل الحق ، وان ما من أصل من اصول الإسلام أو فرع من فروعه من الايمان بالله الى أصغر حكم في الشريعة ، كلها دون استثناء إلا وترتبط بالحياة ارتباطا وثيقا وقويا ، كما أيقنت وآمنت بأن أجهل الناس بحقيقة الإسلام ومراميه هم المنتمون اليه ، الى غير ذلك مما يجده القارئ في مطاوي الصفحات ، وخصصت لكثير منه فقرات مستقلة بعناوين تدل عليها.

وبالتالي ، فاني لا أعرف مهمة أشق وأصعب من مهمة المفسر لكلمات الله .. انه يتصدى للكشف عن ارادته ، جلت كلمته ، وليس هذا بالشيء اليسير .. والذي يهون الخطب ان المفسر يعبر عن فهمه وتصوره لمعاني القرآن ومقاصده ، كما هي في ذهنه ، لا كما هي في واقعها ، تماما كالفقيه المجتهد الذي يؤجر ان أصاب ، ويعذر ان أخطأ ، بل ويؤجر أيضا على نيته واجتهاده وعدم تقصيره.

دعوة القرآن :

من تتبع آي الذكر الحكيم ، وتدبر معانيها يجد وراءها مقسما مشتركا ،

١٠

وإطارا عاما يربط بين جميع قواعده ومبادئه ، وسوره وآياته ، وهذا الرابط هو الدعوة إلى أن يحيا الناس ، كل الناس ، حياة طيبة يسودها الأمن والعدل ، ويغمرها الخصب والسلام : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) ـ الأنفال ٢٣».

ولدعوة الله والرسول الى الحياة أسلوب خاص ، وركائز تقوم عليها ، أما أسلوب الدعوة فقد حدده الله سبحانه بقوله لنبيه الأكرم (ص) : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ـ النحل ١٢٥». والمراد هنا بالحكمة والموعظة الحسنة ان يخاطب القلب والعقل ، ويعرض في دعوته الى الله بدائع المخلوقات ، وعجائب الكائنات : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ـ فصلت ٥٣».

وان يحذر المشاغبين والمعاندين من سوء العاقبة والمصير ، ويضرب لهم الأمثال من الأمم السابقة ، كما فعل شعيب ، حيث قال لقومه : (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) ـ هود ٨٩». فإن أصروا على العناد تركهم وشأنهم ، حيث لا مزيد من البينات والبراهين : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) ـ آل عمران ٢٠» : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ).

أما ركائز الدعوة الى الحياة الطيبة فنذكر منها ما يلي :

١ ـ ان الإنسان لم يوجد في هذه الحياة صدفة ومن غير قصد : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) ـ النحل ٧٠».

٢ ـ ان الله سبحانه لم يترك الإنسان سدى تتحكم فيه الأهواء والنزوات ، بل اختط له طريقا سويا لا يجوز أن يتخطاه ويتعداه : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) ـ القيامة ٦». (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ الحجر ٩٢».

٣ ـ الأمن وصيانة النظام ، ومن أخل به ، وسعى في الأرض الفساد عوقب بأشد العقوبات في الدنيا ، وله في الآخرة عذاب أليم : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) ـ المائدة ٣٣».

١١

٤ ـ ان صيانة الأمن والنظام لا تتحقق ولن تتحقق إذا لم يكن كل انسان أمينا على نفسه وكرامته ، لأن المجتمع الصالح في منطق القرآن هو الذي لا يوجد فيه بذرة واحدة من بذور الفساد : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) ـ المائدة ٣٢». ذلك ان حقيقة الانسانية تقوم بكل فرد ، تماما كقيامها في جميع الأفراد ، فمن أساء الى واحد منها فقد أساء الى الانسانية بكاملها ، ومن أحسن اليه فقد أحسن اليها كذلك. وقوله تعالى : (قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) اشارة الى ان لكل فرد قدسيته الانسانية ، وانه في حرم محرم ، حتى ينتهك هو حرمة نفسه بارتكاب جريمة ترفع عنه تلك القدسية والحصانة الانسانية.

٥ ـ ان العلاقات بين الناس تقوم على أساس حصانة الكرامة وصيانتها لكل فرد من غير فرق بين الذكر والأنثى والأسود والأبيض والغني والفقير .. من أي ملة كان ويكون ، وقد أقر الله هذه الحقيقة بأوجز عبارة وأبلغها : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ـ الأسراء ٧٠». ومن استهان بمن كرمه الله سبحانه فقد استهان بالله وشريعته.

٦ ـ ان الايمان بالله ، ونبوة محمد ، واليوم الآخر ، وما إلى ذاك من الأصول والفروع ليس مجرد شعار ديني يرفعه القرآن ، بل ان لكل أصل من أصول الإسلام ، وكل حكم من أحكامه ثمرات وحقائق يجمعها الخلق الكريم ، والعمل النافع .. فلقد قرن الله الايمان به بالعمل الصالح في العديد من الآيات ، أما الإيمان بنبوة محمد (ص) فهو ايمان بالانسانية ورفاهيتها : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ـ الأنبياء ١٠٧». أما دخول الجنة فيرتبط أقوى ارتباط بالجهاد والعمل الصالح في هذه الحياة : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) ـ آل عمران ١٤٢».

وهكذا يرسم القرآن الطريق الايجابي لبلوغ مقاصده ، واستجابة الدعوة الى الحياة التي أشار اليها بقوله : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ). وهذا دليل واضح على ان أية دعوة لا تمت الى الحياة بصلة فما هي من الدين في شيء ، ومن نسبها الى الله ورسوله فقد افترى على الدين كذبا .. وعلى هذا الأساس حاولت ان أفسر آي الذكر الحكيم والتفصيل فيما يلي.

١٢

المنهج :

المراد بالمنهج هنا اطار من الضوابط العامة يسير المؤلف في ضوئها ولا ينحرف عنها ، وأي عمل لا يقف وراءه منهج فهو عمل عشوائي يسوده الارتجال والتناقضات .. والمنهج الذي اتبعته في هذا التفسير يتألف من الضوابط التالية :

١ ـ نظرت الى القرآن على انه في حقيقته وطبيعته كتاب دين وهداية ، وإصلاح وتشريع يهدف قبل كل شيء الى أن يحيا الناس جميعا حياة تقوم على أسس سليمة ؛ يسودها الأمن والعدل ، ويغمرها الخصب والرفاهية ، وأشرت الى ذلك فيما سبق.

٢ ـ اهتم جماعة من المفسرين القدامى أشد الاهتمام باللغة ، وأطالوا في بيان السر لاعجاز الكلمة والأسلوب ، وافترضوا أسئلة : مثل لما ذا ذكر الواو دون الفاء ، أو الفاء دون الواو؟. ولما ذا قال يفسقون ولم يقل يظلمون .. الى غير ذلك ، وأجابوا عنها بما لا يجدي شيئا ، ولا يدخل تحت ضابط .. ولذا لم أتعرض لشيء من هذا النوع.

وإذا كان لكل تفسير لون يغلب عليه فان اللون الذي يغلب على تفسيري هذا هو عنصر الاقناع ، اقناع القارئ بأن الدين بجميع أصوله وفروعه ، وسائر تعاليمه يستهدف خير الإنسان وكرامته وسعادته ، وان من انحرف عن هذا الهدف فقد انحرف عن حقائق الدين وصراط الحياة القويم .. وكي أصل الى هذه الغاية حاولت جهدي أن يجيء الشرح سهلا بسيطا واضحا ، يفهمه القارئ في أي مستوى كان.

وإذا اهتم المفسرون القدامى بالتراكيب الفصيحة ، والمعاني البليغة أكثر من اهتمامهم باقناع القارئ بالقيم الدينية فلأن العصر الذي عاشوا فيه لم يكن عصر التهاون والاستخفاف بالدين وشريعته وقيمه ، كما هو الشأن في هذا العصر ، فكان من الطبيعي أن تكون لغة التفسير ايام زمان غيرها في هذا الزمان.

ان التفسير تماما كالفن ينبع من ظروف محلية .. ومن هنا اتجهت بتفسيري الى اقناع الجيل بالدين اصولا وفروعا ، وانه يسير مع الحياة جنبا الى جنب ، ولا يعني هذا اني أغفلت الجهات النافعة التي تعرّض لها المفسرون الكبار .. كلا ، فاني لخصتها وعرضتها بأوضح بيان ، بل وأبديت رأيي فيها ، بخاصة المشكلات

١٣

الفلسفية ، مثل الجبر والاختيار ، والهدى والضلال ، والإمامة وعصمة الأنبياء ، والشفاعة والإحباط ، ومرتكب الكبيرة ، وحساب القبر .. وما الى ذلك ، كما خصصت لكل آية ـ في الغالب ـ فقرة بعنوان (اللغة) لتفسير بعض المفردات غير المألوفة المعروفة ، وأخرى بعنوان (الاعراب) لبيان الأحكام النحوية لكلمة مشكلة .. مع العلم بأن التفاسير الحديثة قد أغفلتها ، ولكني راعيت رغبة بعض القراء ، وان ندروا ؛ أما علم البديع والبيان ، والتنظيم والترصيف فقد تركته لكشاف الزمخشري ، والبحر المحيط للأندلسي الغرناطي ، وغيرهما ممن تعرضوا لذلك.

وبمناسبة الاشارة الى ان لغة التفسير تختلف باختلاف العصور أذكر كلمة لمحيي الدين ابن العربي في الجزء الرابع من الفتوحات المكية ، باب (حضرة الحكمة) قالها خلال حديثه عن تلاوة القرآن ، وهي تحمل أعمق المعاني ، وتتفق مع أحدث النظريات وأهمها ، أعني النظرية النسبية ل «انشتين» التي اعتبرت الزمان والمكان من الأبعاد المقوّمة للشيء ، قال ابن العربي : «... يتلو المحفوظ من القرآن فيجد في كل تلاوة معنى لم يجده في التلاوة الأولى ، مع ان الحروف المتلوة هي هي بعينها ، وانما الموطن والحال تجدّد ، ولا بد من تجدده ، فان زمان التلاوة الأولى غير زمان التلاوة الثانية» .. وقوله : لا بد من تجدده يدل على إيمانه وثقته بأن الشيء يتجدد ويتعدد بتجدد الزمن .. وصدق فيلسوف العصر «راسل» ، حيث قال : ان القدامى استنبطوا من اجتهادهم ومجرد أفكارهم نظريات أثبت العلم صدقها وانها الرأي العلمي الصائب بينما لم تكن في ايامهم أكثر من اجتهاد مقترح.

٣ ـ نظرت إلى الاسرائيليات التي جاءت في بعض التفاسير على انها خرافة وأساطير ، ولا شيء أصدق في الدلالة على كذبها وزيفها من نسبتها الى (إسرائيل).

وأيضا تجاهلت ما جاء من الروايات في أسباب التنزيل إلا قليلا منها ، لأن العلماء لم يمحصوا أسانيدها ، ويميزوا بين صحيحها وضعيفها ، كما فعلوا بروايات الأحكام ، حتى هذه قد تسامحوا في سند المستحب منها ، ولم يدققوا إلا في سند الواجب والحرام .. بل عقدوا بحثا مستقلا في كتب الأصول بعنوان التسامح بأدلة السنن والمستحبات.

١٤

وأيضا لم أشغل نفسي والقارئ بذكر العلاقة والمناسبة بين الآيات واتصال بعضها ببعض ، كما فعل المفسرون ، لأن القرآن لم يوح الى النبي (ص) جملة واحدة ، وانما نزل منجما بين وقت يتابع أحيانا ، ويبطئ أحيانا أخرى ، ولم ترتب السور والآيات في القرآن الذي نقرأه حسب نزولها. قال أحد العارفين بترتيب القرآن وبلاغته :

«رتب القرآن ـ كما هو بين أيدينا ـ سورا منذ أيام النبي (ص) ، وقدمت في المصحف طوال السور على أوساطها وأوساطها على قصارها ، ولم يراع في هذا الترتيب نزول السور والآيات في مكة أو المدينة ، ولا تاريخ نزول الآيات. ونحن نجد البقرة وآل عمران والمائدة في أول المصحف بعد الفاتحة ، مع انها مدنية .. وربما وجدنا في السورة المدنية آيات نزلت بمكة ، وفي السورة المكية آيات نزلت بالمدينة».

ونقل صاحب تفسير المنار عن استاذه الشيخ محمد عبده في الجزء الثاني ص ٤٥١ طبعة ثانية انه قال :

«ليس القرآن كتابا فنيا ، فيكون لكل مقصد من مقاصده باب خاص به ، وانما هو كتاب هداية ووعظ ، ينتقل بالإنسان من شأن من شئونه الى آخر ، ويعود الى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة ، مع التفنن بالعبارة ، والتنوع في البيان ، حتى لا يمل تاليه وسامعه من المواظبة على الاهتداء».

٤ ـ اعتمدت ـ قبل كل شيء ـ في تفسير الآية وبيان المراد منها ـ على حديث ثبت في سنة الرسول (ص) ، لأنها ترجمان القرآن ، والسبيل الى معرفة معانيه : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ. وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ـ الحشر ٧». فإذا لم يكن حديث من السنة اعتمدت ظاهر الآية ، وسياقها ، لأن المتكلم الحكيم يعتمد في بيان مراده على ما يفهمه المخاطب من دلالة الظاهر ، كما ان المخاطب بدوره يأخذ بهذا الظاهر ، حتى يثبت العكس.

وإذا وردت آية ثانية في معنى الأولى ، وكانت أبين وأوضح ذكرتهما معا ، لغاية التوضيح ، لأن مصدر القرآن واحد ، ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض.

وإذا تعارض ظاهر اللفظ مع حكم العقل وبداهته اوّلت اللفظ بما يتفق مع العقل باعتباره الدليل والحجة على وجوب العمل بالنقل.

١٥

وإذا تعارض ظاهر اللفظ مع اجماع المسلمين في كل عصر ومصر على مسألة فقهية حملت الظاهر على الإجماع ، كقوله تعالى : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) حيث دلت (اكتبوه) على الوجوب ، والإجماع قائم على استحباب كتابة الدين ، فاحمل الظاهر على الاستحباب دون الوجوب ..

أما أقوال المفسرين فلم اتخذ منها حجة قاطعة ، ودليلا مستقلا ، بل مؤيدا ومرجحا لأحد الوجوه إذا احتمل اللفظ لأكثر من معنى. فلقد بذل المفسرون جهودا كبرى للكشف عن معاني القرآن وأسراره ، وإبراز خصائصه وشوارده ، وأولوا كتاب الله من العناية ما لم يظفر بمثلها كتاب في أمة من الأمم قديمها أو حديثها .. هذا وان في المفسرين أئمة كبارا في شتى علوم القرآن التي كانت الشغل الشاغل للمسلمين في تاريخهم الطويل ، فإذا لم تكن أقوال هؤلاء الأقطاب حجة ، كقول المعصوم ، فإنها تلقي ضوءا على المعنى المراد ، وتمهد السبيل الى تفهمه.

الأخطاء المطبعية :

لا أذكر اني قرأت كتابا أخرجته المطابع قديما وحديثا ، دون أن أجد فيه أغلاطا مطبعية ، وأحسب اني لن أقرأ كتابا يخلو منها ، وحرصت جاهدا ان أتجنبها في مؤلفاتي فلم أفلح .. وكنت من قبل لا أطيق أن أرى شيئا منها في كتاب أو مقال ، ثم ألفتها بالتتابع والتكرار .. والشيء الذي لم آلفه ، ولم يكن لي بحسبان ان أرى هذه الأغلاط في كتابة المصحف الشريف ، من ذلك ـ على سبيل المثال دون الحصر ـ ما جاء في بعض الطبعات (يبصط) بالصاد مكان يبسط بالسين ؛ وفي كتابة القرآن المطبوع متنا في تفسير الرازي سنة ١٩٣٥ بمصر جاءت الآية ١٤٦ من سورة البقرة هكذا : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). والصواب وهم يعلمون ، ومثل هذه الغلطة لا يتسامح بها. وفي تفسير المنار الطبعة الثانية ، الآية ٢١٢ من سورة البقرة كتب قوله تعالى : «والذين اتقوا فوقهم الى يوم القيامة» والصواب (فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، وهذه الغلطة لا تقل فظاعة عن تلك .. ويعتذر المخطئ عندنا في جبل عامل بمثل مشهور : «الغلطة في كتابة المصحف». وفي تفسير مجمع البيان طبعة العرفان الآية ١٥ من سورة الأحقاف كتب قوله تعالى ـ متنا ـ حتى «إذا بلغ أربعين سنة» والصواب (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً).

١٦

وليس الغرض من هذه الاشارة ان أعتذر سلفا عما يجده القارئ من أخطاء مطبعية في هذا الكتاب .. وان كانت اشارتي هذه معذرة في واقعها ، أردت ، أو لم أرد ، وانما غرضي الأول ان أقول لمن يفتح عينيه على خطأ اللفظ ولحنه ، ويعمى عن اعراب المعنى وحسنه ، أقول لهذا ، ولمن قال لي ذات يوم : ان في كتبك أغلاطا مطبعية ، وسكت عن غيرها ، حتى كأن لا شيء في مؤلفاتي الا الأخطاء المطبعية ، أقول له : سامحك الله وعافاك ، وهداني وإياك.

وكيف كان ، فاني أعتذر من الأخطاء الفكرية والمطبعية أيضا .. «والناس كلهم منقوصون مدخولون الا من عصم الله» كما قال الإمام أمير المؤمنين (ع) .. والله سبحانه المسئول أن يتقبل مني ما أصبت ، ويتجاوز عما أخطأت بالنبي وآله ، عليه وعليهم أفضل الصلوات ، وأزكى التحيات.

١٧
١٨

تمهيد

الاستعاذة

إذا قرأت القرآن :

قال تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) ـ النحل ٨٩.

وقال : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ـ الاعراف ٢٠٠.

معنى الاستعاذة :

وهذه الاستعاذة التي ندب الله اليها لا تنحصر بقولك ، «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، بل ان إطلاقها يشمل الثقة بالله ، والتوكل عليه ، والخوف منه ، وان لم يقترن باللفظ والقول .. فمن أقدم في المهمات معتقدا ان من ورائه قوة تمده وتعينه على العمل الصالح ، ومن مالت نفسه إلى فعل الحرام فصدها عنه طاعة لله ، ومن مر به خاطر لا يدري : أربانيّ هو ، أم شيطاني ، وقبل تنفيذه عرضه على شريعة الله ، واتخذ منها مقياسا للاقدام ، والاحجام ، كل أولاء مستعيذون بالله حقا وواقعا من الشيطان الرجيم.

ولا ظاهرة أقوى وأدل على الاستعاذة بالله ، واللجوء اليه من ثقة الإنسان بخالقه ، موقنا بأن العبد لا يضر ولا ينفع ، وانه لا شيء إطلاقا يغني عن عناية الله ورعايته .. فلقد علمتنا التجارب ان من اعتز بغير الله ذل ، وان من استجار

١٩

بسواه خاب ، وان الأماني لا تنال باللجوء الى الحكام ، ولا الى السواد ، ولا إلى خزائن الأغنياء ، انها في الله وحده لا شريك له.

من هو الشيطان :

نحن لم نر الشيطان وجها لوجه ، ولكن أخبر الوحي عنه فوجب التصديق ، ولسنا مكلفين بالبحث والسؤال عن هويته وشكله ، وعرضه وطوله .. أجل ، لقد وصفه الله سبحانه في كتابه العزيز بالتصدى لغواية الناس ، وصرفهم عن طاعة الله ، وعمل الخير ، وعلى هذا فكل خاطر ، أو انسان يحول بينك وبين الطاعة والخير ، ويغريك بالمعصية والشر ، ويموه الأباطيل والأضاليل ، ويلبسها ثوب الهداية والحقيقة فهو شيطان حسي أو معنوي.

ومن الطريف ان شياطين الانس يتعوذون من الشيطان ، وهم بذلك يتعوذون من أنفسهم ، من حيث لا يشعرون ، تماما كمن يقرأ القرآن ، والقرآن يلعنه ، كما جاء في الحديث الشريف .. ذلك ان القرآن يلعن الكاذب الخائن ، فإذا قرأه هذا فقد نطق بلعنة الله على نفسه بنفسه .. وقال تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

الحكم :

الاستعاذة قبل قراءة القرآن مستحبة ، وليست بواجبة ، والأمر بها تماما كالأمر بغسل اليد والتسمية قبل الطعام ، ولو كانت واجبة لوجبت في الصلاة ، لمكان الفاتحة والسورة ، مع ان الإجماع قائم على عدم الوجوب ، قال صاحب مفتاح الكرامة : «لم يخالف في ذلك إلا ابن الجنيد ، وقد رموه ـ أي الفقهاء ـ بالشذوذ والغرابة».

منطق إبليس :

وبمناسبة الاستعاذة من الشيطان نشير الى بعض ما يعزى الى إبليس من الأساطير ، لأنها صورة واضحة للكثير من أهل هذا العصر ، بخاصة الانتهازيين من كل مهنة في مغالطاتهم وتلاعبهم بالألفاظ بقصد التمويه ، وإخفاء الحقائق .. وقد تصرفنا

٢٠