التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

الإعراب :

هاروت وماروت بدل مفصل من مجمل من الملكين ، وهما ممنوعان من الصرف للعلمية والعجمة. ومن زائدة ، أي ما يعلمان أحدا ، وما هما بضارين به أحدا.

المعنى :

تكلم المفسرون هنا وأطالوا ، ولا مستند لأكثرهم سوى الاسرائيليات التي لا يقرها عقل ولا نقل ، وسوّد الرازي حوالى عشرين صفحة في تفسير هذه الآية ، فزادها غموضا وتعقيدا ، ونفس الشيء فعل صاحب مجمع البيان ، أما السيد قطب فأخذ يشرح التنويم المغناطيسي ، والأحلام ، والتأثير والانفعالات بالايحاء وما اليه ، وهذا هو الهروب بعينه. وبقيت أمدا غير قصير أبحث وأنقب في الكتب والتفاسير ، فما شفى غليلي شيء منها ، حتى تفسير الشيخ محمد عبده وتلميذيه المراغي وصاحب المنار ، وخير ما قرأته في هذا الباب ما جاء في كتاب «النواة في حقل الحياة» للسيد العبيدي مفتي الموصل ، لأنه قد اعتمد على قول جماعة من علماء الآثار ، وهذا ما قاله بالحرف :

«ما زلت أجهل معنى الآية الكريمة ، لا يشفي غليلي فيها مفسر ، حتى وقفت على تاريخ جمعية البنائين ، فتبينت معناها. وحيث اضطربت كلمة المفسرين ، حتى عرضوا الآية للجمع بين النقيضين ، وحتى دخلها شيء من الأساطير التي تنبو عنها مغازي الشريعة الغراء رأيت من واجب الخدمة لكتاب الله أن أثبت هنا كلمة في ذلك :

«لما عظم ملك سليمان (ع) استراب ملك بابل الطامع في سورية وفلسطين ، وحل منه الجزع محل الطمع ، فأوقد الى بيت المقدس رجلين من دهاة بطانته ، يبثان من التعاليم ما عسى أن يفسد على سليمان ملكه ، فاعتنقا اليهودية ، وأظهرا الزهد باسم الدين ، فالتف من حولهما الناس ، كما هو شأن العامة ، واستهويا الرأي العام ، فشرعا يفسدان الأفكار ، ويوغران الصدور على سليمان ، حتى رمياه بالكفر ، فكان هذا الرجلان بظاهر حالهما من الزهد والتقشف كملكين ـ بفتح اللام ـ ، ولكنهما في الواقع شيطانان ، وكانت تعاليمهما كالسحر بما

١٦١

يعضدها من حسن البيان ، وطالما استعمل لفظ الملك في الرجل الصالح ، ولفظ الشيطان في الرجل الطالح ، ولفظ السحر في العبارة الفاتنة .. من ذلك قوله تعالى عن يوسف حكاية عن صويحباته : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ..) وقوله سبحانه : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) .. وقوله حكاية عن الوليد : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) .. وفي الحديث : «ان من البيان لسحرا».

«وقد أنبأنا التاريخ بما كان من شأن بخت نصر ملك بابل من غزوه فلسطين بعد سليمان ، وتخريبه بيت المقدس ، ونرى القرآن يؤيد حوادث التاريخ بقوله في سورة الاسراء : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً).

«إذا عرفت هذا فنقول : ان الضمير في قوله تعالى : (واتبعوا) عائد الى يهود المدينة الذين تقدمت هذه الآية اثنتان وستون آية متتابعة في حقهم .. ومتى عرفت هذا ، ثم تدبرت الآيات المتصلة بآية سليمان ، ووقفت وقفة تدقيق وإمعان عند قوله : (على ملك سليمان) وما اكتنفها من مضامين ودلالات علمت ان معنى الآية الكريمة ان يهود الحجاز كانوا يكيدون للنبي العربي بالمكايد والدسائس المقنّعة ، والدعاية المزوقة اقتداء بالمارقين من أسلافهم الذين أعانوا رسل بابل في تقويض ملك سليمان».

الإيضاح :

ونفسر الآية على أساس فهم العبيدي لها : (واتبعوا). أي اتبع يهود المدينة الذين كانوا على عهد محمد (ص). (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ). المراد بالشياطين المشعوذون ، ومنهم الرجلان البابليان اللذان ظهرا بمظهر القداسة ، وهما في الواقع من الأبالسة. (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ). أي ان يهود المدينة استعملوا الدسائس والمكائد ، ضد محمد ، تماما كما استعمل ذلك أسلافهم اليهود ضد ملك سليمان.

(وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا). أي كل ما كانوا ينسبونه الى

١٦٢

سليمان فهو بريء منه ، وانما هو من عند الدساسين واختراعاتهم. (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ). أي يلقنون الناس الأشياء الباطلة الكاذبة. (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ). أي الرجلين اللذين هما من بابل وتظاهرا بالقداسة والتقوى .. وليس المراد من الانزال الوحي من الله ، كالوحي للأنبياء ، بل مجرد الإلهام أو التعلم ، وما اليه. (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ ، حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ). كانوا يقولون ذلك دجلا ونفاقا ، ليوهموا الناس ان علومهم إلهية ، وان صناعتهم روحانية ، وانهم صحيحو النية ، تماما كما يقول الدجال لمن يعلمه كتابة البغض والمحبة : إياك أن تكتب هذا لتفريق الزوجين الشرعيين ، أو لمحبة امرأة متزوجة بغير زوجها.

(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ). أي ما يحسبون انه يفرق بين المرء وزوجه على نحو ما يأخذ الإنسان من الدجال كتابة الحب والبغض معتقدا الصدق والتأثير .. وتجمل الاشارة الى ان الآية لا تدل على ثبوت التأثير ولا نفيه ، لأن قوله : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ) ليس حكما جازما بتحقق التفريق بين الزوجين على كل حال ، بل معناه يتعلمون ما وضع لأجل التفريق بين الزوجين ، تماما كقولك شرب الشفاء ، أي ما وضع لأجل الشفاء .. واختصارا ان الآية من حيث ترتّب الأثر مجملة سلبا وإيجابا. وكثيرا ما تقتضي الحكمة الإلهية البيان من جهة ، والإجمال من جهة ، بخاصة في غير العقائد.

(وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). أي لا يستطيعون إضرار واحد من الناس أيا كان بسبب القراءة والكتابة ، فإذا تضرر فإنما ذلك من باب الصدفة والاتفاق مع سبب من الأسباب الخارجية ، فالمراد بإذن الله السبب الخارجي الذي يترتب عليه الضرر.

(وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ). لأنه مجرد شعوذة ، والشعوذة تضر ولا تنفع. (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ). أي انهم عالمون بأن من اختار الشعوذة على الحق لا نصيب له عند الله. (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). أي انهم قد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ومر تفسيره في الآية ٦١.

١٦٣

ولو انهم آمنوا الآة ١٠ :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))

اللغة :

المثوبة معناها الثواب المرادف للأجر.

الإعراب :

تسبك ان وما بعدها بمصدر فاعل لفعل محذوف ، تقديره لو ثبت ايمانهم ، ويجوز ان يكون المصدر مبتدأ محذوفا خبره ، أي ايمانهم ثابت ، واللام في مثوبة للابتداء ومثوبة مبتدأ ، ومن عند الله متعلق بمحذوف صفة لمثوبة ، والتقدير كائنة من عند الله ، وخير خبر ، وجواب لو محذوف تقديره لأثيبوا.

المعنى :

بعد ان عدّد الله مساوئ اليهود ، ودسائسهم ضد محمد (ص) قال : ما كان أغناهم عن هذا الكفر والجحود ، ولو آمنوا بمحمد كما أمرتهم التوراة لاراحوا واستراحوا ، ونالوا عند الله الدرجات العلى ، قال أمير المؤمنين (ع) : ان التقوى دار حصن عزيز ، والفجور دار حصن ذليل ، لا يمنع أهله ، ولا يحرز من لجأ اليه ، ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا ، وباليقين تدرك الغاية القصوى.

السحر وحكمه :

تكلم فقهاء الامامية في السحر ، وأطالوا الكلام عن معناه وأقسامه ، والممكن منها ، والممتنع ، وعن جواز تعليمه وتعلمه ، والعمل به. والسحر الذي ذكره

١٦٤

القرآن هو نوع من الخديعة والشعوذة ، وتصوير الباطل بصورة الحق ، قال تعالى : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) ـ ٦٦ طه» .. (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ـ ١٠٢ البقرة». وعن الإمام الصادق ان السحر على أنواع ، منها خفة وسرعة ، ومنها احتيال ، لأن المحتالين قد جعلوا لكل صحة آفة ، ولكل عافية سقما ، ولكل معنى حيلة.

أما الكتابات والرقى والعزائم ، والنفث في العقد ، وما اليه مما قيل انها تحدث أثرا ملموسا ، كعقد الزوج عن زوجته ، أو غيرها ، بحيث يعجز عن وطئها ، وإلقاء المحبة والبغضاء بين اثنين ، واستخدام الملائكة والشياطين في كشف المغيبات ، وعلاج المصابين بالصرع ، أما هذه فقال الشهيد الثاني في المسالك باب التجارة :

ان أكثر علماء الامامية يعتقدون انها وهم وخيال لا أساس له من الصحة ، وان البعض منهم يراها حقيقة واقعة ، وهو من القائلين بحقيقتها.

وروى البخاري في الجزء الرابع من صحيحه «باب قصة إبليس وجنوده» ان النبي سحر ، حتى كان يخيل اليه انه يفعل الشيء ، وما يفعله .. وأنكر ذلك الجصاص أحد أئمة الحنفية في الجزء الأول من أحكام القرآن ص ٥٥ طبعة سنة ١٣٤٧ ه‍ ، وأيضا أنكره الشيخ محمد عبده في تفسير سورة الفلق.

ونحن مع الذين لا يرون للسحر واقعا. قال الإمام الصادق : «السحر أعجز وأضعف من أن يغير خلق الله .. ولو قدر الساحر لدفع عن نفسه الهرم والآفة والأمراض ، ولنفى البياض عن رأسه ، والفقر من ساحته ، وان من أكبر السحر النميمة يفرق بها بين المتحابين ، ويجلب العداوة بين المتصافين».

ومهما يكن ، فقد اتفقت كلمة الامامية على ان عقاب الساحر القتل والاعدام ان كان مسلما ، والتأديب بما يراه الحاكم من الجلد والسجن ان كان غير مسلم (١).

__________________

(١) من أحب التفصيل في حكم السحر فليرجع إلى الجواهر باب التجارة وباب القصاص ، وإلى مكاسب الشيخ الانصاري. ومما قاله صاحب الجواهر : «وليس مطلق الأمر الغريب سحرا ، فان كثيرا من العلوم لها آثار عجيبة غريبة ، ويكفيك ما يصنعه الافرنج في هذه الازمنة من الغرائب». نحن الآن في سنة ١٩٦٧ م. وقد مضى على وفاة هذا المؤلف العظيم ١٢١ سنة ، ولو كان في هذا العصر لم ير شيئا عجبا ، لأن كل ما فيه عجيب ، وسيأتي عصر يكون حاضرنا بالقياس اليه ، كعصر الشيخ بالقياس إلى يومنا.

١٦٥

يا ايها الذين آمنوا الآة ١٠٤ ـ ١٠٥ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥))

اللغة :

المراعاة التفقد ، ونقيضها الاغفال.

الإعراب :

المصدر من ان ينزل في محل نصب ، لأنه مفعول ما يود ، ومن خير من زائدة ، وخير مرفوع ، لأنه نائب فاعل لينزّل.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا). قال صاحب المجمع : «كان المسلمون يقولون : يا رسول الله راعنا ، أي استمع منا ، فحرف اليهود هذه اللفظة ، وقالوا : يا محمد راعنا ، وهم يلحدون الى الرعونة ، ويريدون به النقيصة والوقيعة ، فلما عوتبوا قالوا : نقول كما يقول المسلمون ، فنهى الله عن ذلك بقوله : لا تقولوا راعنا ، وقولوا انظرنا».

والمراد بانظرنا في الآية الكريمة ان ينظر الرسول الى حالهم حين يتكلم ، فيتمهل كي يفهموا ويستوعبوا جميع كلامه.

١٦٦

تنبيه :

أول نداء جاء في سورة البقرة للناس أجمعين ، وأريد به الدعوة الى الإسلام وعبادة الله ، هو قوله تعالى في الآية ٢١ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ). والنداء الثاني كان لبني إسرائيل الطائفة الكبيرة التي تفرعت عنها الطائفة النصرانية ، وجاء النداء الثاني تذكيرا برفع النقم عن بني إسرائيل ، واغداق النعم عليهم ، وهو قوله تعالى في الآية ٣٩ : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ). والنداء الثالث جاء لأمة محمد (ع) في هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا). وهي تعلّم المسلمين آداب الشريعة بعد ان أسلموا وآمنوا بالله ، وهذا الترتيب بين النداءات الثلاثة ترتيب طبيعي يستدعيه الواقع والاتساق من دعوة الناس أولا كل الناس الى الايمان بالله ، ثم تذكير من آمن قبل البعثة بفضل الله ، ثم تعليم من آمن بعدها آداب الله ، وهذا ضرب من بلاغة القرآن في الابتداء بالمرحلة الأولى ، ثم الانتقال الى ما بعدها من غير فاصل ..

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ). ليس غريبا ولا عجيبا ان يكره المشركون واليهود والنصارى ، ومعهم المنافقون ـ أن يكرهوا جميعا نزول القرآن على محمد ، وأن يخصه الله والذين معه بالفضل والهداية ، والصلاح والإصلاح ، وانما العجيب ان لا يكرهوا ذلك. (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ). قال أمير المؤمنين (ع) : المراد بالرحمة هنا النبوة.

الحسد والحاسد :

الحسد بما هو من لواحق طبيعة الإنسان الا من عصم الله ، لا يختص بالمشركين ، ولا باليهود والنصارى ، بل يشمل كثيرا من المسلمين ، بل ومن علماء الدين ، بل وبعض من يتصدى لمنصب المرجعية الدينية الأعلى ، مع العلم بأن هذا المنصب أقرب المناصب كلها الى منصب المعصوم .. وقد قال الله والأنبياء والأئمة والحكماء

١٦٧

كثيرا عن الحسد ، من ذلك قول الإمام الصادق (ع) : الحسد أصله عمى القلب ، والجحود بفضل الله ، وهما جناحان للكفر. وأبلغ ما رأيت في وصف الحساد قول سيد البلغاء ، وإمام الحكماء علي أمير المؤمنين (ع) حيث عبر عنهم : «بحسدة الرخاء ، ومؤكدي البلاء». وقال : «بكفيك من الحاسد أن يغتم وقت سرورك».

ولعل من المفيد أن ننقل هذه الصورة الرائعة للحاسد بقلم بعض الحكماء ، قال : ان مثل الحاسد مثل من يصوب حجرا الى مقتل عدوه ، فيعود الحجر الى عين الرامي اليمنى فيقتلعها ، فيغتاظ ، ويرميه ثانية بأشد من الرمية الأولى ، فيعود الحجر الى اليسرى ويعميها ، فيمتلئ حقدا وحنقا ، ويرمي بالحجر الثالث بقوة وحماس ، فيرجع الى رأسه فيشجه ، وعدوّه في حصن حصين.

ومحال أن يتوب الحاسد من حسده ، لأن الحسد تماما كالجبن والبخل ، فكيف يتوب البخيل. والجبان؟. ومن أجل هذا أمر الله نبيه الكريم أن يقول للحساد : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ).

ما ننسخ من آة الآة ١٠٦ ـ ١٠٧.

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧))

اللغة :

النسخ في اللغة الازالة ، يقال نسخت الشمس الظل ، أي أزالته ، ويأتي الكلام عن معناه الشرعي في الفقرة الآتية ، وننسها من غير همزة من النسيان والمراد به إرجاء الانزال أو النسخ ، وسنذكر المعنى المختار.

١٦٨

الإعراب :

(ما) اسم شرط بمعنى إن تجزم فعلين ، ومحلها النصب بننسخ ، وننسخ مجزومة فعل الشرط ، وننسها مجزومة أيضا لمكان العطف على ننسخ ، ومن آية بيان وتفسير لما المبهمة ، ونأت فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للشرط.

النسخ :

نشير أولا الى معنى النسخ في الأحكام الشرعية بوجه عام ، ثم الى النسخ في القرآن بوجه خاص .. ومعنى النسخ في الأحكام الشرعية ان يرد دليل يدل بظاهره على ثبوت حكم شرعي ثبوتا دائما ومستمرا (١) في كل وقت ، وبعد العمل بهذا الحكم بعض الحين يأتي دليل آخر يثبت ان ذاك الحكم الذي كنا نقطع بدوامه واستمراره هو في واقعه حكم خاص بأمد معين ، وان مصلحة اقتضت العمل به في آن محدود ، لا في كل آن ، ولكن الحكمة الإلهية استدعت إظهاره بمظهر الدوام والاستمرار ، تماما كما لو رأى الطبيب ان من مصلحة المريض الامتناع عن أكل اللحم أسبوعا واحدا فقط .. وأيضا رأى من مصلحته أن لا يعلمه بتحديد الوقت ، فنهاه عن اللحم على هذا الأساس من غير قيد ، وبعد مضي الأسبوع اذن له بأكل اللحم ، وعلى هذا ينحصر معنى النسخ في محو ما ظهر من ارادة الدوام ، لا محو الارادة الواقعية الذي يستلزم البداء والجهل.

وليس من شك ان النسخ بهذا المعنى ثابت في الشريعة الاسلامية ، فإنها قد نسخت بعض أحكام الشرائع السابقة ، كالشريعة الموسوية والعيسوية ، بل ان أحكام القرآن قد نسخ بعضها بعضا كتحويل الاتجاه بالصلاة الى الكعبة بعد الاتجاه الى بيت المقدس.

أما النسخ في القرآن فيمكن تقسيمه الى أوجه ثلاثة :

__________________

(١) إذا كان الأمر الأول مطلقا غير مقيد بالدوام ، ثم ورد أمر آخر على عكسه فلا يكون الثاني ناسخا للأول ، لأن الأمر لا يقتضي الفعل أكثر من مرة ، لأن اطلاق الأمر يدل على مجرد وجود الطبيعة ، وكفى بغض النظر عن الكثرة والقلة ، والطبيعة تتحقق بالمرة.

١٦٩

الأول : ان تنسخ الآية تلاوة وحكما بحيث يرتفع لفظها وحكمها.

الثاني : ان تنسخ تلاوة لا حكما ، أي يرتفع لفظها ، ويبقى حكمها.

الثالث : ان تنسخ حكما لا تلاوة ، أي تتلى ، ولكن لا يؤخذ بظاهرها بعد النسخ ، والعمل بعض الوقت.

والقسم الأول والثاني لا وجود لهما ، لأنهما يستلزمان النقصان وتحريف القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. والقسم الثالث هو الجائز والثابت أيضا ، وعليه أكثر المسلمين ، وجمهور المفسرين ، وفيه كتب خاصة ، وفي أيامنا صدر كتاب ضخم باسم «الناسخ والمنسوخ» للدكتور مصطفى زيد المصري.

وتجمل الاشارة إلى ان الحكم الشرعي إذا ثبت بالطريق الصحيح فلا يجوز نسخه إلا بآية قرآنية ، أو بسنة متواترة .. ذلك ان النسخ من الأمور العظيمة الهامة ، وكل ما كان كذلك لا يثبت بأخبار الآحاد ، لأن كل مهم لا بد ان ينتشر ويشتهر على الألسن بحكم العادة ، فإذا نقل الحادث العظيم فرد واحد ، او أكثر دون أن يبلغ النقل حد التواتر كان ذلك دليلا على كذب الناقل .. ا لا ترى ان موت الرجل الشهير ينقله أكثر الناس ، وكذلك الثورات والانقلابات أما موت الرجل العادي فلا يعرفه إلا بعض الجيران والأرحام. والتفصيل في علم الأصول.

المعنى :

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها). قال كثير من المفسرين : ان اليهود قالوا : ان محمدا يأمر أصحابه بأمر ، ثم ينهاهم عنه ، ويقول اليوم قولا ، وغدا يرجع عنه ، ولو كان ما يقوله وحيا لما كان فيه هذا التناقض ، فنزلت هذه الآية ردا عليهم.

والمراد آية من آي الذكر الحكيم ، لأن هذا المعنى هو المتبادر الى الافهام هنا ، ونقل الشيخ المراغي في تفسيره عن استاذه الشيخ محمد عبده ان المراد بالآية المعجزة الدالة على نبوة النبي ، وان المعنى ان الله يعطي معجزة لنبي من الأنبياء ، ثم يتركها كلية ، ويعطي غيرها لنبي آخر .. وهذا المعنى صحيح في

١٧٠

ذاته ، ولكن سياق الآية ينفيه ويعين ما ذهب اليه العلماء وجمهور المفسرين من ان المراد آية من القرآن.

ومعنى نسخ الآية القرآنية بقاؤها لفظا وتلاوة ، مع الغاء حكمها التي دلت عليه ، وعمل به آنا ما.

أما (ننسها) فان قرئت من غير همزة فهي من النسيان ، ويتعين أن يكون المعنى الترك لا الذهول ، أي نتركها على ما هي بلا تغيير وتبديل ، حيث يصح أن تقول : نسيت الشيء ، وأنت تريد تركه على حاله .. وان قرئت بالهمزة (ننسأها) فهو من الارجاء والتأخير ، أي نترك انزالها الى وقت ثان ، ومهما يكن فان الآية بدليل وجود (ما) الشرطية لا تدل على وقوع النسخ بالفعل ، بل تدل على انه لو افترض وقوعه لأتى الله بخير من المنسوخ.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). قيل : ان الخطاب في (تعلم) للنبي ، والمراد به المسلمون الذين تضايقوا من اعتراض اليهود وغيرهم على النسخ. والحق انه خطاب لكل من يستبعد النسخ ، أو يؤلمه الاعتراض عليه ، والمعنى ان النسخ ليس بالغريب المستبعد ، لأنه لا يخرج عن كونه تكليفا للعباد ، ومحو حكم ، واثبات حكم مماثل أو أصلح مكانه. وبديهة ان الله يملك كل شيء ، ويدبره ويجريه على ما يشاء من نسخ أو بقاء بلا نسخ. أما ذكر السموات والأرض بالخصوص فهو اشعار بالعموم والشمول ، لأنهما يشتملان على جميع المخلوقات العلوية والسفلية.

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). أي لا تبالوا أيها المؤمنون بمن اعترض أو يعترض على النسخ ، أو على أي شيء في دينكم ، فليس باستطاعة مخلوق أن يضركم ، ما دام الله هو المؤيد والمناصر .. واختصارا ان النسخ حق ، ولا مانع عنه من العقل ولا من الشرع خلافا للمنكرين والمعترضين.

ام تريدون ان تسألوا رسولكم الآة ١٠٨ ـ ١٠٩ :

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ

١٧١

يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السبيل (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)

اللغة :

الحسد مذموم ، لأنه عبارة عن كراهية النعمة للغير ، وحب زوالها عنه ، أما الغبطة فغير مذمومة ، لأنها الرغبة في أن يكون للإنسان من النعمة مثل ما لأخيه ، دون أن يتمنى زوالها عنه.

الاعراب :

أم هنا منقطعة بمعنى بل مع الاستفهام ، أي بل أتريدون الخ ، ودخلت الباء على الإيمان ، لأنها تدخل دائما في البدلية على الأكمل ، ومن أهل الكتاب متعلق بمحذوف صفة لكثير ، وحسدا مفعول من أجله ، ومن عند أنفسهم متعلق بحسد وجواب لو محذوف تقديره لسروا بذلك.

المعنى :

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى). بعد ان قال الله سبحانه للمؤمنين : لا تبالوا باعتراض من اعترض على النسخ وغيره من أحكام دينكم ، لأن الأمور كلها بيده ، ويختار منها الأصلح لكم ولغيركم ، بعد هذا قال لهم : ما ذا تبتغون من رسولكم محمد (ص) ، وقد جاءكم بالبراهين الكافية الوافية؟ أتريدون أن تتعنتوا كما فعل اليهود مع موسى ، وسألوه ما لا يجوز سؤاله؟ .. ان الإنسان قد يشك ، ويطلب الدليل المقنع الذي يزيل الشك ، اما ان يطلب

١٧٢

جعل الجبل ذهبا ، والصحراء الجرداء رياضا فهذا مجرد معاندة ومكابرة ، فلا تكونوا أيها المسلمون من المكابرين المعاندين.

(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ). ان كل من يقف من الحق موقفا مجردا ، ويطلب الدليل المعقول على إثباته فهو مؤمن بالحق ، كمبدأ ، وكل من يقف من الحق موقف المكابر المتعنت ، ويطلب فوق المعقول ، وأكثر مما يستدعيه الاستدلال والإثبات فهو كافر بالحق .. ومن لم يثق بما جاء به محمد (ص) ، وطلب الزيادة فقد اختار العناد على الانصاف ، والكفر على الايمان.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ). كل انسان يود أن يكون الناس ، كل الناس على دينه ، قال أحد الفلاسفة : ان أسعد يوم عندي أن أرى من يوافقني على رأيي .. ولكن جماعة من اليهود كانوا يبذلون جهودا كبيرة لفتنة المسلمين ، وارتدادهم عن دينهم الى الجاهلية الأولى ، لا لشيء إلا بغيا وحسدا ، مع العلم انهم يستطيعون الإسلام كما فعل غيرهم ، ولكنهم خافوا على أسواقهم وأرباحهم من الخمر والميسر والدعارة.

وقد استغل اليهود انكسار المسلمين يوم أحد للدس على النبي ، فقد جاء في الأخبار انهم بعد وقعة أحد كانوا يدعون شباب المسلمين الى بيوتهم ، ويقدمون لهم الخمر ، ويغرونهم ببناتهم ، كما يفعلون اليوم ، وفي كل يوم ، ثم يشككون المسلمين بالقرآن ونبوة الرسول الأعظم (ص). وأحس النبي بهذا التدبير الرهيب ، فنهى عن مجالس اللهو ، وشدد النكير على من يتعاطى الزنا والخمر والميسر ولحم الخنزير ، فامتنع المسلمون عن الذهاب الى بيوت اليهود التي فتحوها لهذه الغاية .. وهي المسماة اليوم بالبار والكازينو.

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ). أي ان اليهود قد حاولوا إرجاع المسلمين الى الكفر والضلال على علم منهم ان الإسلام هو الحق ، وان الشرك وانكار نبوة محمد هو الباطل ، ولا يختص هذا باليهود ، فان أكثر الناس تجحد الحق وتعانده ، لا لشيء الا لأنه لا يتفق مع مطامعهم ، فان الإنسان مسير بوحي من عاطفته ومنافعه ، لا بوحي من دينه وعقله ، قال أمير المؤمنين (ع) : أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.

١٧٣

(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ). أي أعرضوا الآن ، ولا تتعرضوا لعقابهم وتأديبهم ، حتى يأمركم الله بذلك ، فان الأمور رهن بأوقاتها ، وفي كثير من التفاسير ان الله سبحانه أمر المسلمين بالاعراض عنهم الى ان نزل قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ). وغير هذه الآية من آيات القتال ، وقال الرازي : ان الإمام محمد الباقر (ع) قال : ان الله لم يأمر نبيه بالقتال ، حتى نزل جبريل بقوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) وقلده سيفا.

مخالفة الحق :

كل ما في الحياة من كفر وإلحاد ، وفسق وفجور ، وتهتك وفساد ، وظلم وطغيان ، وحروب ومشاحنات ، وفقر وبؤس ، كل ذلك ، وما اليه من أوباء وأدواء يرجع في النهاية الى سبب واحد ، هو مخالفة الحق .. ولو أنصف الناس لسعد واستراح كل الناس ، لا القاضي فقط .. وان في قوله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) اشارة الى هذه الحقيقة .. أجل ، ان الحق لا يعدم نصيرا في كل زمان ، ولكنه قليل ، ولو وجد الحق أنصارا كما يجد الباطل لكان العالم في هناء وأمان .. بل لو طالب كل ذي حق به ، وقام بواجبه لما رأينا للظلم والباطل عينا ولا أثرا.

وقد أقام الله للحق دليلا يهدي اليه ، ويدل عليه من الفطرة وكتاب الله ، ومن نبيه الأكرم ، وأهل بيته الأطهار الذين ساوى صاحب البيت بينهم وبين القرآن بأمر من الله ، كما جاء في حديث الثقلين الذي رواه مسلم في صحيحه ، فمن عاند هذا الدليل على علم به فقد عاند الله ورسوله ، تماما كما فعل اليهود والمشركون.

واقيموا الصلاة الزكاة الآة ١١٠ :

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠))

١٧٤

الاعراب :

(ما) من قوله تعالى (ما تقدموا) اسم شرط تجزم فعلين ، ومحلها الرفع بالابتداء ، وخبرها جملة تجدوه ، وتقدموا مجزوم بما ، فعل الشرط ، وتجدوه مجزوم أيضا لأنه جواب الشرط ، وبصير خبر ، و (بما) متعلق ببصير.

المعنى :

تضمنت هذه الآية أمورا ثلاثة :

١ ـ الأمر باقامة الصلاة (١).

٢ ـ الأمر بإيتاء الزكاة.

٣ ـ الترغيب في الخير بوجه العموم ، وفي تفسير المنار ان الآية تضمنت أولا حكما خاصا ، وهو الأمر بالصلاة والزكاة ، ثم حكما عاما مستقلا بنفسه ، ولكنه شامل بعمومه للحكم الخاص المتقدم ، وهذا من أساليب القرآن التي لا تجد لها نظيرا في غيره. وقوله تعالى : (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) المراد به وجدان جزائه وثوابه لا وجدان العمل بالذات ، كما قيل ، لأن الأعمال لا تبقى.

وتسأل : لقد رأينا القرآن يقرن دائما الأمر بالصلاة بالأمر بالزكاة ، فما هو السر؟.

وأجيب عن هذا السؤال بأن الصلاة عبادة روحية ، والزكاة عبادة مالية ، فمن جاد بها ابتغاء مرضاة الله سهل عليه بذل نفسه في سبيل الله.

الصلاة وشباب الحيل :

ان أكثر شباب هذا الجيل يستخفون بالدين وأهله ، فمنهم من يقول صراحة وعلانية : لا شيء وراء الطبيعة .. ومنهم من يقول : ان وراءها مدبرا حكيما ،

__________________

(١) انظر فقرة يقيمون الصلاة الآية ٣ من هذه السورة.

١٧٥

ولكنه لم يوجب صوما ولا صلاة .. والاثنان عند الله سواء في الكفر والجحود .. لأن من ترك الصلاة جازما بعدم وجوبها فهو تماما كمن كفر بالله دون خلاف بين علماء المسلمين.

ونعينا نحن علماء الدين على شباب الجيل كفرهم واستخفافهم ، وحكمنا عليهم بالتمرد على دين الحق ، دون أن نقوم بأي عمل ، أو نقدم لهم الأسلوب المقنع. وأعني بالعمل ، العمل الجماعي المثمر الذي ينبغي التمهيد له بالاجتماعات وعقد المؤتمرات للتداول والتدارس ، ثم إنشاء المدارس والكليات لعلوم القرآن والسنة ، وفلسفة العقيدة الاسلامية ، والتاريخ الاسلامي ، وعلم النفس ، والتدريب على الوعظ والدعوة الى الدين بالحسنى والسبل الحديثة المجدية .. أجل ، لقد قام البعض مجهود أدت الى نتائج مشكورة ، ولكن المطلوب توحيد الجهود ، والإخلاص في النية والتضحية من الجميع .. ولكن كيف توحّد الجهود ، والمتكسبون باسم الدين كثيرون ، ولا يهمهم من أمره إلا بمقدار ما يعود عليهم بالجاه والمال.

وبالتالي ، فنحن علماء الدين مسؤولون أمام الله عن شباب الجيل ، تماما كما هم مسؤولون عن التهاون وترك التصدي لمعرفة دين الحق ، والعمل بأحكامه.

وقالوا لن يدخل الجنة الآة ١١١ ـ ١١٣ :

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))

١٧٦

اللغة :

هود جمع ، ومفرده المذكر هائد ، والمؤنث هائدة ، ومعنى الهائد التائب الراجع إلى الحق ، ونصارى جمع ، ومفرده نصران ، ولكنه لا يستعمل إلا مع ياء النسبة ، وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٦٢ ، والأماني جمع ، واحدها أمنية من التمني ، واسلام الوجه لله الإخلاص له في العمل ، والقيامة مصدر مثل القيام ، ولكن هذه الكلمة كثر استعمالها في يوم البعث ، حتى صارت علما عليه.

الاعراب :

(وقالوا) عطف على (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) والضمير في قالوا عائد على كثير ، وكل من الجنة وجهنم ظرف مكان ، و (من) اسم موصول ، وهي هنا بمعنى الذين ، وأفرد ضمير كان بالنظر الى اللفظ ، لا الى المعنى ، وجمع عليهم بالنظر الى المعنى لا الى اللفظ ، وتلك اسم اشارة يشار بها الى المفردة المؤنثة ، والى جمع التكسير ، وهي مبتدأ ، وأمانيهم خبر ، والجملة لا محل لها من الاعراب ، لأنها معترضة بين (قالوا) وبين هاتوا. وهو محسن جملة حالية ، وكذلك جملة وهم يتلون الكتاب ، و (مثل) قائم مقام المفعول المطلق ، أي قالوا قولا مثل قولهم.

المعنى :

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى). قال صاحب مجمع البيان : «هذا إيجاز ، وتقدير الكلام قالت اليهود : لن يدخل الجنة الا من كان يهوديا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة الا من كان نصرانيا .. وانما قلنا : ان الكلام مقدر هذا التقدير ، لأن من المعلوم ان اليهود لا يشهدون للنصارى بالجنة ، ولا النصارى يشهدون بذلك لليهود ، فعلمنا انه أدرج الخبر

١٧٧

عنهما للإيجاز من غير إخلال شيء من المعنى ، فان شهرة الحال تغني عن البيان المفصل».

احتكار الجنة :

يظهر من هذه الآية الكريمة ان اليهود والنصارى يؤمنون بنظرية الاحتكار منذ القديم ، وانها عندهم تشمل نعيم الدنيا والآخرة .. وأيضا يظهر ان احتكار الجنة مختص برجال الدين ، وعلى هذا الأساس كانت الكنيسة تبيع صكوك الغفران للعصاة والآثمين بعد أن تقبض الثمن ، وقد كسبت بذلك أموالا طائلة ، ولكن على حساب تشجيع الجرائم ، وانتشار الفساد .. ومما كانت تكتبه الكنيسة للعاصي في صك الغفران انه : «يغلق أمامك ـ الخطاب للعاصي ـ الباب الذي يدخل منه الخطاة الى العذاب والعقاب ، ويفتح الباب الذي يؤدي الى فردوس الفرح ، وان عمّرت سنين طويلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة ، حتى تأتي ساعتك الأخيرة باسم الأب والابن وروح القدس».

(تلك أمانيهم) جمع الأماني ، لأنها كثيرة ، منها أمنيتهم أن يرجع المسلمون كفارا ، ومنها ان يعاقب أعداؤهم ، ومنها ان الجنة لهم وحدهم.

(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). كل دعوى تحتاج الى دليل ، وأيضا كل دليل نظري يحتاج الى دليل ، حتى ينتهي الى أصل عام ثبت بالبديهة والوجدان ، ومعنى ثبوته كذلك أن يتفق على صحته جميع العقلاء ، ولا يختلف فيه اثنان ، تماما كهذا الأصل : «ل دعوى تحتاج الى دليل» .. اللهمّ الا إذا كانت الدعوى بديهية ، على ان الدعوى البديهية لا يسمى القائل بها مدعيا ، لأن الدعوى مأخوذ في مفهومها الافتقار الى الدليل ، أما القضية الواضحة بذاتها فدليلها معها ، وملازم لها لا ينفك عنها بحال ، والا لم تكن بديهية .. واختصارا لا يسوغ أن تقول : أين الدليل لمن قال : العشرة أكثر من الواحد ـ مثلا ـ.

وجاء في تفسير المنار عند ذكر هذه الآية ما يتلخص بأن السلف الصالح من المسلمين كانوا يسيرون على هذا الأصل ، فيقيمون الدليل على ما يقولون ، ويطلبونه من الناس على ما يدعون ، ولكن الخلف الطالح ـ على حد تعبير

١٧٨

صاحب التفسير ، عكسوا الآية ، فأوجبوا التقليد ، وحرّموا الاستدلال إلا على صحة التقليد فقط ، ومنعوا العمل بقول الله ورسوله ، وأوجبوا العمل بقال فلان ، وقال علان». كما عبر صاحب تفسير المنار.

(بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ). هذا تكذيب لدعواهم بأن الجنة لهم وحدهم دون الناس أجمعين ، والمراد بالوجه في الآية النفس والذات ، قال تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ). والمعنى ان كل من آمن بالله مخلصا له في أعماله إخلاصا لا يشوبه شرك ولا رياء فهو من المكرمين عند الله ، لأنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ، أما قوله سبحانه : «وهو محسن» فاشارة الى أن التقرب الى الله انما يكون بالعمل الصالح ، لا بالأعمال القبيحة الضارة ، لأن الله سبحانه لا يطاع من حيث يعصى.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ). قال صاحب مجمع البيان نقلا عن ابن عباس ان نصارى نجران تنازعوا مع اليهود عند رسول الله (ص) ، فقال رجل من اليهود للنصارى : ما أنتم على شيء ، فأجابه رجل من النصارى : ليست اليهود على شيء ، فنزلت هذه الآية ، تسجّل قول كل من الفريقين في حق الآخر.

الدين المصلحة عند اليهود والنصارى :

وبالمناسبة ، فان المعروف عن الدين المسيحي انه ينص صراحة على ان اليهود وأولادهم من بعدهم يتحملون مسؤولية صلب «الإله» .. ومع ذلك فان بابا روما بذل جهد المستميت عام ١٩٦٥ لتبرئة يهود الجيل الحالي والأجيال السابقة من تبعة صلب المسيح ، وعقد من أجل ذلك أربعة مؤتمرات ، واصطدم مع الكنيسة الشرقية ، وبلغت تكاليف المؤتمرات ٢٠ مليون دولار ، والهدف الأول والأخير سياسي بحت ، وهو تقوية «دولة إسرائيل» ، وتدعيم مركزها في فلسطين ، وسياستها في العالم .. وعلى الأصح تقوية الاستعمار ، وتدعيم قواعده في الشرق بعامة ، والبلاد العربية بخاصة .. وان دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الدين عند بعضهم ، منافع مادية ، وكفى (١).

__________________

(١) انظر فقرة : «المصلحة هي السبب لا الجنسية» عند تفسير الآية ٩٦ من هذه السورة.

١٧٩

(وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ). أي ان اليهود عندهم التوراة ، وهي تبشر بعيسى ، وتعترف بنبوته .. وأيضا النصارى عندهم الإنجيل يعترف بموسى وتوراته .. وعلى هذا يكون اليهود والنصارى في حكم الطائفة الواحدة ، لأن دينهم واحد ، وكل من التوراة والإنجيل جزء متمم للآخر ، ومع ذلك فقد كفّر بعضهم بعضا.

أيضا المسلمون يكفر بعضهم بعضا :

وإذا كان اليهود بحكم الطائفة الواحدة ، لأن التوراة تعترف بعيسى ، والإنجيل يعترف بموسى ، فبالأولى أن تكون السنة والشيعة طائفة واحدة حقيقة وواقعا ، لأن كتابهم واحد ، وهو القرآن ، لا قرءانان ، ونبيهم واحد ، وهو محمد ، لا محمدان ، فكيف ـ اذن كفّر بعض من الفريقين إخوانهم في الدين؟ .. ولو نظرنا الى هذه الآية (قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ ، وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) لو نظرنا اليها بالمعنى الذي بيناه ، واتفق عليه جميع المفسرين ، ثم قسنا من يرمي بالكفر أخاه المسلم ـ لو نظرنا الى الآية ، وقسنا هذا بمقياسها لكان أسوأ حالا ألف مرة من اليهود والنصارى .. لقد كفّر اليهود النصارى ، وكفّر النصارى اليهود ، (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) أي التوراة والإنجيل .. فكيف بالمسلم يكفّر أخاه المسلم ، وهو يتلو القرآن؟!. فليتق الله الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب ، وقلوبهم عمي عن معانيه ومراميه.

(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ). المراد بالذين لا يعلمون في هذه الآية مشركو العرب ، حيث قالوا تماما كما قال اليهود والنصارى : انهم وحدهم يدخلون الجنة دون المسلمين والناس أجمعين.

وأجاب القرآن أولا : ما أجاب به اليهود والنصارى من ان الحق لا يتقيد بالأشخاص ، ولا بالأسماء والألقاب ، وان دخول الجنة منوط بالايمان والعمل الصالح. ثانيا : ان الله سبحانه يعلم المحق من المبطل ، وانه سيجزي كلا بأعماله. (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

١٨٠