التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

الإعراب :

لا تعبدون إنشاء في صيغة الخبر ، أي لا تعبدوا ، وقد يأتي الأمر بصيغة الخبر أيضا ، مثل : تؤمنون بالله ، أي آمنوا بالله ، قال صاحب المجمع : ويؤكد ذلك انه عطف عليه بالأمر ، وهو قوله : وبالوالدين إحسانا ، أي أحسنوا بالوالدين إحسانا ، وقوله : وأقيموا الصلاة. وتتضمن هذه الآية أمورا :

١ ـ البر بالوالدين :

ان الله سبحانه قرن شكر الوالدين بشكره ، وأوجب البر بهما ، والإحسان اليهما ، تماما كما أوجب التعبد له ، ومن هنا أجمع الفقهاء قولا واحدا على ان عقوق الوالدين من أعظم الكبائر ، وان العاق بهما فاسق لا تقبل له شهادة ، وفي الحديث الشريف : «ان العاق بوالديه لا يجد ريح الجنة» ، والمراد بالإحسان للوالدين طاعتهما ، والرفق بهما قولا وعملا.

حكي ان امرأة حملت أباها من اليمن الى مكة على ظهرها ، وطافت في البيت العتيق ، فقال لها قائل : جزاك الله خيرا ، فلقد وفيت بحقه. فقالت : كلا ، ما أنصفته ، لقد كان يحملني ، وهو يود حياتي ، وأنا أحمله الآن ، وأود موته.

٢ ـ القربى واليتامى والمساكين :

لقد أوجبت الآية صلة الرحم ، لصلته بالوالدين ، كما أوجبت الحرص والمحافظة على اليتيم وأمواله على من كان وليا أو وصيا عليه ، وأيضا أوجبت للفقير نصيبا في أموال الأغنياء.

٣ ـ أصل الصحة :

إذا صدر من الإنسان عمل من الأعمال ، أو قول من الأقوال يمكن حمله على

١٤١

وجه صحيح ، وعلى وجه فاسد ، فهل يحمل على الصحة ، أو على الفساد ، أو يجب التوقف وعدم الحكم بشيء إلا بدليل قاطع ، ومثال ذلك أن ترى رجلا مع امرأة لا تدري : هل هي زوجته أو أجنبية عنه ، أو تسمع كلاما ، وأنت لا تدري : هل أراد به المتكلم النيل منك ، أو لم يرد ذلك؟ وقد اتفق الفقهاء على وجوب الحمل على الصحة في ذلك وأمثاله ، واستدلوا فيما استدلوا بقوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) وبقول علي أمير المؤمنين : ضع أمر أخيك على أحسنه .. وبقول الإمام جعفر الصادق : كذّب سمعك وبصرك عن أخيك ، فان شهد عندك خمسون قامة انه قال ، وقال هو لك : اني لم أقل ، فصدقه وكذبهم.

وهذا مبدأ انساني بحت ، لأنه يكرس كرامة الإنسان ، ويؤكد علاقة التعاون والتعاطف بين الناس ، ويبتعد بهم عما يثير الكراهية والنفور .. وبهذا يتبين ان الإسلام لا يقتصر على العقيدة والعبادة ، وانه يهتم بالانسانية وخيرها ، ويرسم لها الطرق التي تؤدي بها الى الحياة المثمرة الناجحة.

ولكن الذين باعوا دينهم للشيطان استغلوا هذا المبدأ الانساني ، وانحرفوا به عن هدفه النبيل ، وبرروا به أعمال القراصنة والمرابين .. وبديهة ـ كما أشرنا ـ ان مبدأ الحمل على الصحة لا ينطبق على أعمال السلب والنهب ، والاحتيال والتضليل ، وما الى ذلك مما نعلم علم اليقين انه من المحرمات والموبقات .. وانما ينطبق على ما نحتمل فيه الصدق والكذب ، والصحة والفساد.

لا تسفكون دماءكم الآة ٨٤ ـ ٨٦ :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ

١٤٢

أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

اللغة :

التظاهر التعاون ، وفداء الأسير دفع العوض بدلا عن إطلاقه.

الاعراب :

لا تسفكون إنشاء بصيغة الخبر ، مثل لا تعبدون في الآية السابقة ، وأنتم مبتدأ ، وجملة تقتلون خبر ، وهؤلاء منادى ، ويجوز أن تكون تأكيدا لأنتم ، كأنه قال : أنتم أنتم ، كما تقول : أنت أنت مؤكدا بأنه لا أحد سواه.

تمهيد :

لم ينته الحديث عن اليهود ومشاكلهم ، والآتي كثير .. والصورة التي نستخلصها لليهود من آيات القرآن انهم يضاعفون النشاط لنشر الفساد في الأرض ، ويتمادون في الغي كلما دعاهم داع الى الهداية والاستقامة ، حتى كأنهم فطروا على معصية الله ، ومخالفة الحق .. تأمرهم توراتهم بعبادة الله ، فيعبدون العجل ، ويقول لهم موسى : هذه التوراة من عند الله ، فيقولون له : أرنا الله جهرة .. ويقول لهم : اذكروا نعمة الله عليكم ، واسألوه العفو والصفح ، فيسخرون ويهزءون .. وإذا كان هذا شأنهم مع موسى الكليم (ع) ، وهو من بني إسرائيل فكيف يكون حالهم مع غيره؟ لقد طردهم الملك أدوار الأول من انكلترا ، ونكل بهم هتلر في المانيا بعد الاختبار والعلم بحقيقتهم ، وانهم مستحقون لأكثر من ذلك ،

١٤٣

وأشرنا فيما سبق إلى ما فعل بهم فرعون وبخت نصر والرومان.

وعلى أية حال ، فان من جملة المواثيق التي أخذها الله على اليهود في التوراة أن لا يقتلوا أنفسهم ، أي لا يقتل بعضهم بعضا ، ولا يخرجوا أحدا من دياره ، واليهود لا ينكرون هذه المواثيق ، بل ليس في وسعهم أن ينكروها ، لأنها موجودة في التوراة التي يؤمنون بصدقها ، وبأنها وحي من الله .. ومع ذلك خالفوها عن عمد وتصميم ، فقامت الحجة عليهم ؛ وناقضوا أنفسهم .. وبهذا التمهيد يتضح المراد من الآيات :

المعنى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ). عاد سبحانه الى بني إسرائيل ، يذكرهم بالعهود والمواثيق التي قطعت على لسان موسى والأنبياء من بعده ، ومن هذه المواثيق ان لا يريق بعضهم دم بعض ، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم .. وقوله تعالى دماءكم ودياركم تماما كقوله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) ، أي ليسلم بعضكم على بعض.

(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ). أي أقررتم بالميثاق ، وشهدتم بأنفسكم على أنفسكم.

وتسأل : ان الإقرار والشهادة على النفس شيء واحد ، فكيف صح عطف الشيء على نفسه؟.

الجواب : يجوز من باب التأكيد ، وأيضا يجوز أن يكون المراد بالإقرار اقرار السلف من اليهود ، وبالشهادة شهادة الخلف بأن السلف قد أقر ، واعترف بالميثاق.

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) أي انكم بعد أن أقررتم بالميثاق نقضتموه ، وقتل القوي منكم الضعيف ، وأخرجه من دياره.

(تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ). أي تتظاهرون ، والتظاهر هو التعاون ، وتشير الآية الى انقسام اليهود ، وتعاون كل فريق منهم مع العرب ضد الفريق الآخر من اليهود .. وملخص الحكاية :

١٤٤

ان الأوس والخزرج عشيرتان عربيتان تنتميان الى أصل واحد ، لأن الأوس والخزرج اخوان ، وكان بين هاتين العشيرتين عداء وقتال قبل الإسلام ، وكانوا من أهل الشرك لا يعرفون جنة ولا نارا ولا قيامة ولا كتابا.

وأيضا كان اليهود ينقسمون الى ثلاث عشائر : بني قينقاع ، وبني قريظة ، وبني النضير ، وكان بينهم عداء وقتال ، كما كان بين الأوس والخزرج رغم ان هؤلاء اليهود ينتمون الى أصل واحد ، ودينهم واحد .. وكانوا جميعا ، أي العشائر الثلاث اليهودية والأوس والخزرج ، من سكان المدينة .. وكان فريق من اليهود ، وهم بنو قينقاع ، يتعاونون مع الأوس ضد بني النضير وقريظة مع انهم إخوانهم في الدين ، كما ان بني النضير وبني قريظة تعاونوا مع الخزرج ضد بني قينقاع .. فكان كل فريق من اليهود يتعاون مع كل فريق من العرب ضد بعضهم البعض ، وكان اليهودي إذا دارت رحى الحرب يقتل أخاه اليهودي ، ويخرجه من دياره إذا تمكن من ذلك .. ولكن إذا أسر العرب بعض اليهود فدى الأسرى اليهود الآخرون من العرب ، مع العلم بأن الذين دفعوا فدية اليهود الأسرى كانوا يحاربون هؤلاء الأسرى مع العرب .. وهذا عين التناقض ..

واختصارا ان اليهودي لا يرى مانعا أن يقتل يهوديا مثله ، بل ويتعاون مع العرب على قتله ، ولكن إذا أسر العرب يهوديا تحركت عاطفة اليهودي الآخر ، ودفع فدية للآسر ، وفك الأسير ، وهو من ألد أعدائه .. فاليهودي يحل قتل أخيه اليهودي ، وتشريده ، ولكنه يحرم أسره .. وكان اليهود يعتذرون عن هذا التهافت بأن التوراة أمرتهم بفداء أسرى اليهود إذا أسروا ، فرد الله عليهم بأن التوراة أيضا أمرتهم بأن لا يقتل بعضكم بعضا ، ولا يخرجه من دياره ، فكيف عصيتم التوراة في القتل ، واطعتموها بالفداء من الأسر؟.

وبهذا تجد تفسير قوله تعالى : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ). والذي كفروا به هو النهي عن القتل ، والتظاهر بالإثم والعدوان ، والإخراج من الديار ، والذي آمنوا به هو الفداء من الأسر .. وهذا عين اللعب والاستهزاء بالدين.

وتسأل : ان المحرم عليهم هو القتل والتظاهر والإخراج ، فلما ذا ذكر الله سبحانه خصوص الإخراج في هذه الآية؟.

١٤٥

الجواب : أجل ، انها جميعا محرمة ، ولكن الله خص الإخراج بالذكر ثانية لتأكيد التحريم لأن شر الإخراج من الديار يطول ويمتد بخلاف القتل على حد تعبير بعض المفسرين.

(فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا). يطلق الجزاء على الخير والشر ، ومن الأول قوله تعالى : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً). ومن الثاني : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) .. والخزي الفضيحة والعقوبة.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). ان الله سبحانه لم يحرم بهذه الآية ولا بغيرها الطعام الطيب ، واللباس الفاخر ، وانما هدد من باع دينه بدنياه ، وعاش على البغي والاستغلال .. ان الله ينهى عن الفساد في الأرض ، ولا ينهى عن زينة الحياة ونعيمها .. بل انه جل وعز أنكر أشد الإنكار على من حرم التنعم والتلذذ في هذه الحياة : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا). أي انها حلال لمن اكتسبها من حل ، وحرام لمن ابتغاها عوجا من السلب والنهب ، والغش والاحتيال.

واختصارا ان المبدأ الاسلامي القرآني هو ان يعيش الناس ، كل الناس ، متعاونين على ما فيه سعادة الجميع ، أما المبدأ الصهيوني الاستعماري فهو «ما دمت أعيش أنا فليهلك العالم» .. وكل من سار على هذا المبدأ فهو صهيوني لعين ، شعر بذلك أو لم يشعر ، ولا بد أن تلاحقه عدالة السماء والأرض ، وتنزل به النكال والوبال.

اليهود والشيوعية والرأسمالية :

يظهر من آيات الذكر الحكيم ان انقسام اليهود الى فريقين ، وانضمام كل فريق الى حلف خطة قديمة وموروثة عن الآباء والأجداد ، ليزيدوا النار تأججا من جهة ، ويضمنوا مصالحهم من جهة ثانية ، كما ان تقلبهم بين الخصمين من خططهم التاريخية ، وعاداتهم التقليدية .. فقبل نصف قرن كانوا من دعاة الشيوعية ، وهم اليوم يمالئون الرأسمالية ، ولا هدف لهم إلا تقسيم العالم ، واثارة الحروب

١٤٦

والفتن ، لتنفيذ سياستهم الجهنمية ، ونجاحهم في امتصاص دماء الشعوب.

ولقد آتينا موسى الكتاب الآة ٨٧ ـ ٨٨ :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨))

اللغة :

قفينا أصله من القفا ، يقال : قفوت فلانا إذا صرت خلف قفاه ، والمراد به هنا ان الله أرسل الأنبياء الواحد تلو الآخر ، ومريم بالعبرية معناها الخادم ، لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس ، والمراد بالروح القدس جبرائيل ، ويطلق عليه أيضا الروح الأمين ، وغلف جمع أغلف ، أي عليها غشاوة ، والمراد انهم لا يفقهون.

الإعراب :

قليلا قائم مقام المفعول المطلق ، أي ايمانا قليلا يؤمنون ، وجيء بما لمجرد التوكيد.

المعنى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ). أي أعطينا موسى التوراة ، ثم أرسلنا من بعده رسولا بعد رسول .. وقيل : لم يمر زمن بين موسى وعيسى آخر أنبياء بني إسرائيل الا وكان فيه نبي مرسل ، أو أنبياء متعددون

١٤٧

يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر. وفي تفسير الرازي ، وأبي حيان الأندلسي ان من هؤلاء الرسل : يوشع واشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وارمياء وعزير وحزقيل واليسع ويونس وزكريا ويحيى.

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ). عيسى (ع) هو آخر أنبياء بني إسرائيل ، وبينه وبين موسى حوالى أربعة عشر قرنا .. والمراد بالبينات الدلائل والمعجزات التي دلت على صدقه ونبوته ، أما روح القدس فقد ذهب جمهور المفسرين الى انه جبرائيل ، ونميل نحن إذا لم يوجد نص على التعين ، نميل الى ان المراد به الروح المقدسة ، وان الله سبحانه قد وهب عيسى روحا نقية قوية أهلته للرسالة الإلهية ، والتوسط بين الله وعباده ، وقيادتهم في طريق الخير والهداية.

(أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ). الخطاب عام لجميع اليهود ، لأنهم أمة واحدة ، وعلى طبع واحد ، ولأن من رضي عن الظالم فقد شاركه في ظلمه.

(فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) كعيسى ومحمد (ص). (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) كزكريا ويحيى .. (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ). أي قال اليهود للنبي : ان على قلوبنا غلافا يمنعها من تفهم دعوتك والاستماع اليها ، فهو تماما كهذه الآية : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) ..

جاء في بعض الروايات : «الحكمة ضالة المؤمن». والمراد بالمؤمن هنا من يؤمن بالحق ، ويطلبه لوجه الحق .. وبديهة ان من كان كذلك يقتنع بمجرد قيام الحجة والدليل ، وعلى العكس من لا يؤمن بالحق ، ولا بالقيم ، ولا بشيء إلا بذاته واهوائه وشهواته .. ولا شيء لدى هذا إلا المكابرة والعناد إذا دمغته الحجة ، وأفحمه البرهان. وقد يحاول إخفاء عجزه بإظهار الاستخفاف وعدم الاكتراث .. ويقول للمحق : لا أفهم ما تقول ، فأنا في شغل شاغل عنك وعن أدلتك ، وهو في قوله هذا كاذب عند الله ، وعند نفسه ، ومستحق للعن والعذاب.

(فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ). أي لم يؤمن من اليهود بمحمد (ص) إلا القليل ، مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ، واختار صاحب مجمع البيان ان معنى «قليلا

١٤٨

ما يؤمنون» انه ما آمن احد منهم إطلاقا لا قليلا ولا كثيرا ، يقال : قلما يفعل ، بمعنى لا يفعل البتة .. والأول أصح ، لقوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) ـ النساء ١٥٦».

المصلح الصادق والمزيف الكاذب :

وينبغي الوقوف قليلا عند قوله تعالى : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم الخ .. ان هذه الآية الكريمة كما تضمنت التوبيخ لمن يعصي الرسل ، ويرفض الحق إذا لم يوافق هواه فإنها أيضا تتضمن التوبيخ لمن يتساهل مع الناس ، ولا يجابههم بكلمة الحق تزلفا اليهم ، وطمعا في المكانة عندهم .. ان المصلح الصادق يقول الحق ، ولا يخشى في الله لومة لائم ، لأن هدفه الأول والأخير هو مرضاة الله وحده ، ومن أجلها يستشهد ويضحي بالنفس ، ويقدم للأجيال مثلا أعلى في اتباع الحق والجهر به ، أما المزيف الكاذب فيستهدف مرضاة الناس لتروج بضاعته عندهم ، قال أمير المؤمنين (ع) : لا تسخط الله برضا أحد من خلقه ، فان في الله خلفا عن غيره ، وليس من الله خلف في غيره.

ولما جاءهم كتاب الآية ٨٩ ـ ٩١ :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ

١٤٩

مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١))

اللغة :

يستفتحون أي يستنصرون ، ومعنى اشتروا واضح ، وهو قبول المبيع ، ولكن المراد به هنا الإيجاب ، أي باعوا به أنفسهم.

الاعراب :

مصدق صفة كتاب ، وجواب لما الأولى محذوف دل عليه جواب لما الثانية ، وهو كفروا به. بئس للذم ، ونعم للمدح ، وإذا كان الاسم بعدهما محلى بالألف واللام فهو فاعل أبدا ، نحو نعم الرجل زيد ، وبئس الرجل زيد ، وزيد مبتدأ ، خبره جملة بئس الرجل ، أو نعم الرجل. وإذا كان ما بعدها نكرة ، مثل نعم رجلا ، وبئس رجلا فهو منصوب أبدا على التمييز ، وفاعل نعم وبئس ضمير مستتر يفسره التمييز. وان اتصلت بهما (ما) مثل نعما وبئسما فان كانت (ما) بمعنى الشيء فهي فاعل ، وان كانت بمعنى (شيئا) فهي تمييز.

وعليه يجوز أن تكون (ما) في بئسما في الآية اسما موصولا مرفوعا على انها فاعل بئس ، وجملة اشتروا صلة ، ويجوز أن تكون (ما) نكرة بمعنى (شيئا) وجملة اشتروا صفة ، وعلى التقديرين فان المصدر المنسبك من (أَنْ يَكْفُرُوا) محله الرفع بالابتداء ، وجملة بئسما خبر .. وبغيا مفعول من أجله ، والمصدر من (أَنْ يُنَزِّلَ) منصوب بنزع الخافض ، أي لأن ينزل.

المعنى :

كان يهود المدينة يستنصرون على الأوس والخزرج بمحمد (ص) قبل مبعثه ،

١٥٠

ويقولون لهم : غدا يأتي النبي الذي وجدنا صفاته في التوراة ، ويتغلب على جميع العرب والمشركين ، وكانوا يعتقدون انه اسرائيلي ، لا عربي ، فلما بعث الله محمدا من العرب ، لا من شعب اليهود استنكفوا وأخذتهم العنصرية والعصبية ، وجحدوا نبوته ، وأنكروا ما كانوا يقولونه فيه .. فقال لهم بعض الأوس والخزرج : يا معشر اليهود كنتم بالأمس تهددوننا بمحمد (ص) ، ونحن أهل الشرك وتصفونه ، وتذكرون انه المبعوث ، فها نحن آمنا به ، ونكصتم أنتم وتراجعتم ، فما عدا مما بدا؟. فأجاب اليهود : ما جاءنا بشيء نعرفه ، وما هو بالذي كنا نذكره لكم ، فأنزل الله سبحانه :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ). أي لما جاءهم القرآن كفروا به ، فحذف جواب لما هذه ، وهو كفروا به لدلالة جواب لما الثانية عليه ، والقرآن الذي كفروا به فيه تصديق لما تضمنته توراتهم من التبشير بمحمد (ص) .. فهم في النتيجة يكذبون بذلك من يصدقهم بل يكذبون أنفسهم بأنفسهم ، وليس هذا بغريب ولا عجيب على من يتخذ من عاطفته وذاته مقياسا للتحليل والتحريم ، والتصديق والتكذيب .. وكل من يحلل لنفسه ما يحرمه على الغير فهو من هذا النوع ، اللهم اكفنا شر الجهل بأنفسنا.

(وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ). كان اليهود قبل البعثة يستنصرون وينذرون الأوس والخزرج بمحمد (ص) ، فلما جاء انعكست الآية ، فآمن به الأوس والخزرج ، وناصروه على أعدائه ، حتى سموا الأنصار ، وكفر به اليهود ، فكان هلاكهم وتشريدهم على يد الأنصار بواسطة محمد ، وهو نفس المصير الذي كانوا يرقبونه وينذرون به الأنصار على يدهم بواسطة محمد (ص) .. وهكذا يحيق المكر السيء بأهله ، وتنزل الويلات على رأس من تمناها لغيره.

وتسأل : ولما ذا انقلب اليهود ، وتحولوا من الايمان بمحمد (ص) قبل البعثة الى الكفر به بعدها؟

الجواب : كانوا يعتقدون أنه يأتي اسرائيليا من نسل اسحق قياسا على كثرة ما جاء من الأنبياء الاسرائيليين ، فلما رأوه عربيا من نسل إسماعيل أنكروه حسدا وتعصبا للعنصرية اليهودية .. وكل من أنكر الحق تعصبا للعرق أو لغيره فهو تماما

١٥١

كهؤلاء اليهود الذين رفضوا الاعتراف بمحمد لا لشيء إلا لأنه عربي (١).

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ). يستعمل القرآن الكريم كثيرا لفظ البيع والشراء والتجارة في العمل الصالح والطالح .. ذلك ان الإنسان إذا آمن وعمل صالحا فكأنه قد دفع الثمن لخلاص نفسه ونجاتها وإذا كفر وانحرف لمنفعة عاجلة فكأنه قد باع نفسه للشيطان بأنجس الأثمان .. واشتروا هنا بمعنى باعوا ، أي ان اليهود باعوا أنفسهم للشيطان ، وألقوا بها الى التهلكة ، ولا ثمن لنفوسهم الهالكة إلا الحسد والتعصب للجنسية اليهودية .. ولذا قال سبحانه :

(بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). أي كفروا بمحمد (ص) لا لشيء إلا لأنهم يريدون أن يحصروا الوحي والفضل فيهم وحدهم ، ولا يقبلون من الله ، ولا من غيره إلا ما يوافق أهواءهم ومنافعهم .. فهم ـ اذن ـ يستحقون عقابين وغضبين : عقابا على كفرهم ، وآخر على أنانيتهم وتعصبهم.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ). أي آمنوا بالوحي من حيث هو وحي بصرف النظر عن شخصية المبلّغ ونسبه ، لأن الرسول ما هو إلا وسيلة للتبليغ ، أما شرطكم للايمان بالوحي أن ينزل على شعب إسرائيل فقط ، وإذا أنزل على غيره فلا تؤمنون به ـ أما هذا الشرط فيكشف عن عدم ايمانكم بالوحي كمبدأ ، بالاضافة الى أنه تحكم على الله وتقييد لإرادته بأهوائكم ، ومعنى هذا انكم تريدون من الله أن يخضع لكم ، وتأبون الخضوع له.

(قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا). وهذا اعتراف صريح بأنهم لا يؤمنون ، ولن يؤمنوا إلا بالوحي على شريطة أن ينزل عليهم ، ولا يؤمنون بما ينزل على غيرهم ، ولو قام عليه ألف دليل ودليل.

(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). ولا إلزام أقوى وأبلغ من الإلزام بهذه الحجة .. أي قل يا محمد لليهود : أنتم كاذبون في زعمكم ودعواكم الايمان بخصوص الوحي المنزل على شعب إسرائيل ، بل أنتم لا تؤمنون

__________________

(١) هذا ما ذكره المفسرون تمشيا مع ظاهر الآية ، ويأتي قريبا عند تفسير الآية ٩٦ بيان السبب الحقيقي لكفرهم بمحمد (ص) وانه المنفعة الخاصة ، والكسب عن طريق الدعارة والغش والربا ، وما إلى هذا مما حرمه الإسلام.

١٥٢

بالوحي إطلاقا ، حتى بما أنزل عليكم بالخصوص ، والدليل ان الله أرسل منكم ولكم وفيكم أنبياء ، وفرض عليكم تصديقهم وطاعتهم ، ومع ذلك فريقا كذبتم كعيسى ، وفريقا تقتلون كزكريا ، ويحيى ، وان دل هذا على شيء فإنما يدل على كذبكم ، ومناقضة أفعالكم لأقوالكم ، وتكذيب أنفسكم لأنفسكم .. وصح توجيه الخطاب بالقتل الى يهود المدينة ، ومشافهتهم به ، مع ان القاتل أسلافهم لمكان وحدة الأمة ، ومشاركة الراضي بالقتل لفاعله ، كما تقدم.

لليهود أشباه ونظائر :

أنكر اليهود محمدا (ص) لأنه غير اسرائيلي ، وأيضا أنكره أبو سفيان ، وقاد الجيوش لحربه ، لأنه يأبى أن تفوز هاشم بشرف النبوة دون أمية ، وأنكرت قريش خلافة علي أمير المؤمنين (ع) لأنها كرهت ان تجتمع النبوة والخلافة في بيت هاشم ، ويثقل على بعض الأعاجم ان المرجع الديني الأول من العرب ، كما يثقل على بعض العرب أن يكون من الأعاجم .. بل اني أعرف أفرادا لو خيّروا بين أن تهتدي الألوف الى دين الحق عن طريق غيرهم ، وبين أن تبقى على ضلالها لاختاروا الضلالة على الهدى ، والكفر على الايمان .. وأيضا لو خيّروا بين أن يسمعوا الثناء على يزيد بن معاوية ، وبين أن يسمعوا الثناء عن واحد من صنفهم لفضّلوا ألف مرة الأول على الثاني .. ومن أجل هذا يبحث الواحد منهم جاهدا ليجد عيبا لأخيه ، فان وجد خردلة أذاعها جبلا ، وان لم يجد اخترع وافترى.

ان من يكبر الفضيلة كمبدأ يكبرها أينما كانت وتكون ، وعن أي طريق تحققت ، ويراها في غيره ، تماما كما يراها في نفسه ، بل يعمل ويكافح من أجل بثها وانتشارها ، أما من يدعيها لنفسه ، وينكرها في غيره فانه يستعمل نفس الأسلوب الذي استعمله اليهود عنادا لله وأنبيائه ورسله.

ولقد جاءكم موسى بالبينات الآة ٩٢ ـ ٩٦ :

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ

١٥٣

ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)).

المعنى :

هذه الآيات واضحة الدلالة ، ظاهرة المعنى ، وأيضا فيها تكرار لما سبق ، ولذا نكتفي بذكر المعنى العام لها.

أمر الله نبيه أن يجادل المخالفين بالحسنى : ومعنى الجدال بالحسنى مخاطبة القلب والعقل ، وكل حجاج القرآن من هذا النوع .. فلقد دعا الجاحدين الى التفكر في أنفسهم ، وفي خلق السموات والأرض ، وقال لمن نسب السيد المسيح الى الألوهية : انه وامه كانا يأكلان الطعام ، وخاطب قلوب اليهود بهذه الآيات ، حيث ذكرتهم بنعمة الله عليهم بالتوراة ، فيها الهدى والنور ، كما ذكرتهم آيات سابقة بخلاصهم وتحررهم من فرعون ، وما الى ذاك ، ثم وبخهم الله بعبادة العجل كفرا وجحودا لنعمته ، وكرر ذكر رفع الجبل فوقهم لتمردهم وعصيانهم ، وكذّب بمنطق العقل دعواهم انهم أبناء الله وأحباؤه ، وان الجنة خالصة لهم لا

١٥٤

يدخلها أحد غيرهم ، وأمرهم ـ ان كانوا صادقين ـ بتمني الموت ، لأن من اعتقد انه للجنة قطعا آثر الموت المريح على حياة البلاء والشقاء.

ثم أخبر القرآن ان اليهود أشد الناس حرصا على حياة الدنيا ، بل هم أحرص عليها من الذين لا يؤمنون بجنة ولا نار ، بل ان الواحد منهم يتمنى لو عاش ألف سنة ، ولكن تعميره لا يجديه شيئا ، ولا ينجيه من العذاب .. والغرض من الجدال بهذا المنطق العقلي السليم هو الزام اليهود الحجة بأنهم كاذبون في دعواهم الايمان بالتوراة ، وفي زعمهم بأنهم شعب الله المختار.

قال الشيخ المراغي في تفسيره : «جاء في الأخبار ان عبد الله بن رواحة كان ينشد وهو يقاتل الروم :

يا حبذا الجنة واقترابها

طيبة باردة شرابها

وان عمار بن ياسر في حرب صفين قال :

غدا نلقى الأحبه

محمدا وصحبه

فان لم يتمن اليهود الموت فما هم بصادقي الايمان ، وهذه حجة تنطبق على الناس عامة ، فيجب على المسلمين أن يجعلوها ميزانا يزنون بها دعواهم اليقين بالايمان ، والقيام بحقوق الله ، فان ارتاحت نفوسهم لبذل أرواحهم في سبيل الله كانوا مؤمنين حقا ، وان ضنوا بها إذا جد الجد ودعا الداعي كانوا بعكس ما يدعون».

المصلحة هي السبب لا الجنسية :

ونحن لا نشك أبدا بأن مسألة تكذيب اليهود لمحمد (ص) ليست مسألة ايمانهم بخصوص ما ينزل عليهم من الوحي تعصبا لجنسيتهم ، كلا ، والف كلا .. ان الدافع الوحيد للتكذيب هو مصالحهم الشخصية ، ومنافعهم المادية ، انهم يعيشون على الغش والربا والدعارة ، ومحمد (ص) يحرم ذلك ، فكيف يؤمنون به؟. والدليل انهم كفروا بتوراتهم ، وقتلوا أنبياءهم ، ولا سبب الا حرصهم على المنفعة الذاتية ، وكل من حرص على منفعته لا يجدي معه جدال بالحسنى ، وفي

١٥٥

قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) اشعار بهذه الحقيقة. وما عدا هذه الآية الكريمة من المحاجة انما جرت معهم مجرى النقاش ، والإلزام بالحجة ، تماما كما تقول : لو سلمنا جدلا.

قل من كان عدوا لجبريل الآة ٩٧ ـ ١٠٠ :

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)).

اللغة :

قيل : معنى جبريل عبد الله ، ومعنى ميكال عبيد الله .. ومعنى النبذ الطرح.

الإعراب :

جبريل وميكال ممنوعان من الصرف للعلمية والعجمة .. وقال صاحب مجمع البيان ، وصاحب البحر المحيط : ان جواب (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) محذوف تقديره فهو كافر ، أو ما أشبه وقد دل عليه الموجود ، وعلله صاحب البحر بأن الجواب لا بد أن يكون فيه ضمير يعود على (من) التي هي اسم الشرط ، وقوله تعالى : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) ليس فيه ضمير يعود على من ، لأن ضمير (فَإِنَّهُ) عائد على جبريل ، وضمير (نَزَّلَهُ) عائد على القرآن .. ومصدقا حال

١٥٦

من الضمير في نزله ، وهدى وبشرى معطوفان عليه .. والهمزة في (او كلما) للتوبيخ ، والواو للعطف ، والمعطوف عليه محذوف تقديره أكفرتم بالبينات .. وقيل : بل الواو زائدة ، لأن المعنى مستقيم بدونها ، وكلما منصوب على الظرفية ، واكتسبت هذه الظرفية من (ما) التي هي اسم بمعنى وقت ، كما في مغني اللبيب ، والتقدير كل وقت عاهدوا فيه ، والظرف متعلق بنبذه.

المعنى :

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) .. أي فهو كافر عليه لعنة الله .. وأجمع أهل التفسير على ان سبب نزول هذه الآية ان اليهود سألوا النبي (ص) عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي؟. فقال : هو جبريل. قالوا : ذاك عدونا ، لأنه ينزل بالشدة والحروب ، وميكال بالسلام والرخاء ، ولو كان ميكال هو الذي يأتيك بالوحي لآمنا بك.

لقد جعلوا النزاع في ظاهره أولا حول شخصية محمد (ص) ، وانهم يريدون نزول الوحي على واحد من شعب إسرائيل ، لا من شعب العرب ـ كما زعموا ـ ولما ألزمهم الله ونبيه بالحجة حوّلوا النزاع الى شخص جبريل ، لا محمد .. والحقيقة ـ كما قدمنا ـ انه لا نزاع على محمد وجبريل ، ولا عرب وعروبة ، ولا يهود ويهودية ، لا شيء أبدا الا مصالحهم الذاتية .. الا الدعارة والخمر والربا والاحتكار .. ولكنهم ينافقون ، ويتسترون بالأكاذيب والأباطيل.

ومن باب النقاش والإلزام بالحجة قال سبحانه : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ). أي ان عداوتكم لجبريل لا وجه لها ، لأنه مجرد أداة وواسطة لتبليغ الوحي من الله الى محمد .. وهذا الوحي يشتمل على تصديق ما تضمنته توراتكم من صفات محمد وعلامات نبوته ، وفي الوقت نفسه هو هدى وبشرى للمؤمنين ، وعليه يكون معنى عدائكم لجبريل عداء لله وللوحي وللتوراة ، ولهدى الله لخلقه ، وبشراه للمؤمنين.

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ). أي ان ما أتى به محمد (ص) لا يقبل الشك بعد ان اقترن بالحجج والبراهين ، ولا ينكره

١٥٧

الا كافر بالله ، معاند للحق. والمراد بالفسق هنا فسق العقائد ، أي الكفر ، لا فسق الأفعال الذي يجتمع مع الايمان.

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ). والعهود التي نبذها ونقضها اليهود كثيرة : منها الايمان بمحمد ، ومنها عدم اعانة المشركين عليه ، ومنها تصديق الأنبياء وعدم قتلهم ، ومنها ان لا يعبدوا الا الله ، وغير ذلك .. فكذّبوا محمدا ، وأعانوا عليه أهل الشرك أعداءه وأعداءهم ، وكذّبوا الأنبياء ، وصلبوا السيد المسيح ، وعبدوا العجل ، وفعلوا الأفاعيل.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). أي ان فريقا منهم عبدوا العجل ، وقتلوا الأنبياء ، وغير ذلك ، والأكثر لم يفعلوا شيئا من هذا النوع ، ولكنهم مع ذلك هم الكفرة الفجرة.

واختصارا ان المبطل يستطيع أن يدعي الحق لنفسه ، والمجرم البراءة لها ، وأيضا يستطيعان أن يبررا الباطل والجريمة بالأقاويل والأباطيل ، ولكن سرعان ما يفتضحان إذا دمغتهما البراهين التي لا مفر منها ، ولا ملجأ ، كما افتضح اليهود في كذبهم ودعواهم العمل بما أنزل الله عليهم من الوحي والعداء لجبريل.

التعايش السلمي ، والايمان بالله :

يهدف الداعون الى التعايش السلمي ـ فيما يهدفون اليه ـ ان تحل الخلافات بين المتخاصمين بالمؤتمرات والمفاوضات .. ولكن قد علمتنا التجارب ان المنطق السليم ، والمحاجة بالحسنى لا تجدي شيئا مع أرباب الامتيازات والمنافع الشخصية .. فمحال أن يتنازل أهل الأطماع عن أطماعهم الا بوسائل الضغط والتخويف .. ان التعايش السلمي يحتاج الى عقل متفتح ، وخلق كريم .. وأي خلق كريم عند من لا يؤمن الا بالمادة ، والا بالاحتكار والاستثمار .. وأية حجة تقنع أهل الطمع والجشع!

يقال : ان كلا من الكتلتين : الشرقية والغربية ، تدعو الى التعايش السلمي فيما بينهما ، وفي الوقت نفسه تتسلح كل منهما ، وتتحصن خوفا من الأخرى .. ان أقل ما يفرضه هذا التعايش ان تتفقا معا على التسليم فعلا لا قولا بما قامت

١٥٨

عليه الأدلة والبراهين ، تماما كما يتفق المتناظران المنصفان ويسلمان بما توافرت الأدلة على ثبوته .. وقد ثبت بالفطرة وبديهة العقل ان لكل شعب الحقّ الكامل في تقرير مصيره ، لا يسوغ لأحد أن يتدخل في شأن من شئونه ، فأين العمل بهذا المبدأ؟.

ان التفاوض بالطرق السلمية ، والرضوخ للحق لا يتحقق على وجهه الأكمل الا إذا كانت جميع الأطراف المعنية مؤمنة بالحق لوجه الحق .. ومحال أن يهتدي الى خير ، ويرجى منه الخير من لا يؤمن الا بذاته ، ولا يهتم الا بمنافعه.

ولما جاءهم رسول من الله الآة ١٠١ :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١))

الإعراب :

لمّا على ثلاثة أوجه : الأول أن تختص بالمضارع ، فتجزمه. الثاني ان تكون حرف وجود لوجود ، مثل لما جئتني أكرمتك ، وقيل : بل هي في مثل ذلك اسم بمعنى حين. الثالث أن تكون حرف استثناء ، مثل كل نفس لما عليها حافظ ، أي الا عليها. وهي في الآية حرف وجود لوجود ، وقيل : بل اسم بمعنى حين. والواو في أوتوا نائب فاعل ، والكتاب مفعول لاوتوا ، وكتاب الله مفعول نبذ.

المعنى :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ). وهو محمد (ص) الذي أرسله الله سبحانه للناس كافة ، ومنهم اليهود الذين كانوا في عصره. (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ).

١٥٩

أي مصدق لما في التوراة من أصول التوحيد ، والبشارة بمحمد. (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ، وهم علماء اليهود ، (كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ). المراد بكتاب الله القرآن ، وقيل : بل التوراة ، لأن كفرهم بمحمد كفر بالتوراة التي بشرت بمحمد (ص) .. ولا فرق في هذا الحكم بين اليهود والنصارى ، لأن كلا منهما قد حرّف كتابه فيما يتعلق بالبشارة بمحمد (ص) بل لا فرق بين اليهود ، وبين معمم يحرّف كلام الله تبعا لأهوائه.

واتبعوا ما تتلو الشياطين الآة ١٠٢ :

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢))

اللغة :

بابل بلد بالعراق ، له شهرة تاريخية قديمة ، والخلاق النصيب من الخير ، وشروا هنا بمعنى باعوا ، وللاذن ثلاثة معان : العلم ، مثل فأذنوا بحرب من الله ، أي فاعلموا ، والرخصة ، والأمر ، والمراد به هنا في قوله تعالى : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) علم الله الذي لا تخفى عليه خافية.

١٦٠