التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

ويذكرني هذا الدجل والاحتيال بنفاق محترفي الدين والوطنية الذين يتلاعبون بالألفاظ ، ويشوهون الحقائق ، ليوقعوا بعض السذج في شباكهم .. ومن الطريف ان بعض الشيوخ ألّف كتابا خاصا في الحيل الشرعية ، حتى كأنّ الله طفل صغير تخفى عليه التمويهات ، ولا يعلم الصادقين من الكاذبين .. وإذا لم يمسخ الله هؤلاء قردة خاسئين في هذه الحياة ، كما فعل باليهود من قبل فسيحشرهم غدا على هيئة الكلاب والقردة والخنازير .. وإذا لم يمسخ الكاذبون الآن في الظاهر فإنهم ممسوخون في الباطن .. ولا حجة أقوى من الأفعال التي تنبئ بمسخ نفوسهم.

(فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ). اختلف المفسرون : هل كان المسخ لمن اعتدى في السبت من اليهود مسخا حقيقيا ، بحيث صارت أجسامهم وصورهم على هيئة القرود ، أو ان المسخ كان في الطبع ، لا في الجسم ، تماما مثل : ختم الله على قلوبهم ، ونظير كمثل الحمار يحمل أسفارا؟.

ذهب أكثر المفسرين الى الأول ، وان المسخ كان حقيقة ، عملا بالظاهر الذي لا داعي الى تأويله ، وصرفه عن دلالته ، لأن تحول الصورة الى صورة أخرى جائز عقلا ، فإذا جاءت آية أو رواية صحيحة على وقوعه أجريناها على ظاهرها ، حيث لا حاجة الى التأويل.

وذهب قليل منهم مجاهد في القديم ، والشيخ محمد عبده في الحديث الى الثاني ، وان المسخ كان في النفس ، لا في الجسم ، قال الشيخ عبده ، كما في تفسير المراغي : «ان الله لا يمسخ كل عاص ، فيخرجه عن نوع الإنسان ، إذ ليس من سنته في خلقه .. وسنة الله واحدة ، فهو يعامل القرون الحالية بمثل ما عامل به القرون الخالية».

ونحن نميل الى ما عليه جمهور العلماء والمفسرين ، وان المسخ كان حقيقة ، لا مجازا ، أما قول عبده فصحيح في نفسه ، كمبدأ عام ، وقاعدة كلية ، ولكن لهذه القاعدة مستثنيات ، تستدعيها الحكمة الإلهية ، كالمعجزات ، وما اليها من الكرامات .. ومعاملة الله مع بني إسرائيل في ذاك العهد من هذه المستثنيات ، كما يتضح من الفقرة التالية :

١٢١

لا قياس على اليهود :

من يدقق النظر في آي الذكر الحكيم التي نزلت في الاسرائيليين خاصة ، وفي الذين كانوا منهم على عهد موسى الكليم (ع) بوجه أخص ، ان من يستقرئ هذه الآيات يخرج بنتيجة واضحة كالشمس ، وهي انه سبحانه قد عاملهم معاملة لا تشبه شيئا ، ولا يشبهها شيء مما هو معروف ومألوف .. وغير بعيد أن يكون قوله تعالى : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ») اشارة الى هذه المعاملة الخاصة.

فلقد حررهم الله من نير فرعون وطغيانه بانفلاق البحر ، لا بالجهاد والتضحية ، وأطعمهم المنّ والسلوى ، وسقاهم الماء بمعجزة ، لا بالكد والعمل ، ورفع فوقهم الجبل ليطيعوا ، ويسمعوا ، وأحيا قتيلهم ، ليبين لهم ما خفي من أمر القاتل .. كل ذلك ، وما اليه يدل دلالة صريحة واضحة على ان مشاكل اليهود في ذلك العصر لم تحل بطريقة طبيعية مألوفة ، بل لم يفكروا هم أنفسهم في العمل من أجل حلها .. فكلما اصطدموا بمشكلة قالوا : يا موسى ادع لنا ربك يفعل ويترك .. وكان موسى يدعو ، والله يستجيب.

وبهذا يتبين معنا ان قياس سائر الأجيال على الجيل الاسرائيلي آنذاك في غير محله ، وان قول الشيخ محمد عبده : «ان الله يعامل القرون الحاضرة بمثل القرون الخالية» يصح في جميع الناس الا في أولئك الناس (١).

وأيضا يتبين ان الله قد أراد برفع الجبل أن يكرههم ويلجئهم الى الأخذ بما في التوراة ، وان قول السيد الطباطبائي في كتاب الميزان : «ان رفع الجبل لا يدل على الإلجاء والإكراه ، لأنه لا إكراه في الدين» ان هذا القول بعيد عن الواقع بالنسبة الى قوم موسى الذين عاملهم الله معاملة أبعد ما تكون عن الضوابط والقواعد.

أما الحكمة الإلهية لذلك فلا مصدر لديّ أعتمده لمعرفتها. وقد يكمن السر

__________________

(١) لقد وصم القرآن والإنجيل اليهود بأنهم أعداء الإنسانية ، وتاريخهم يشهد بهذه الحقيقة ، ومن أجل هذا يحرصون كل الحرص على التأكيد بأنه لا فرق بين القوميات ، ولا بين الأديان ، وألفوا لهذه الغاية الكتب ، وأسسوا المعاهد ، وبثوا الدعايات ، وأنشأوا الجمعيات ، ومنها الجمعية الماسونية العالمية التي أضفوا عليها ثوب الانسانية.

١٢٢

في ان الله جل وعلا أراد أن يضرب من أولئك اليهود مثلا على ان الحياة لا تطيب وتحلو الا بالكد والكفاح ضد الطبيعة ، وبه وحده تكتشف الحقائق ، وتعرف الأسرار ، وترتقي الانسانية في مدارج الرقي والحضارة ، ولو عاش الإنسان اتكاليا ، وعلى مائدة تنزل من السماء لما تميز في شيء عن الحيوان المربوط على المعلف ، ولم يكن بحاجة الى العقل والإدراك .. ان الاتكالية جمود وموت ، والجهاد حيوية ونشاط ، ومهما يكن ، فان تاريخ اليهود بوجه العموم يتصل اتصالا وثيقا بتاريخ هؤلاء الاسرائيليين الذين كانوا على عهد موسى ، فهم أقدم العناصر ، والأصل المباشر لسلالة من وجد بعدهم من اليهود.

وبمناسبة الحديث عن اليهود نشير الى جماعة من الصهاينة تقيم في أمريكا ، وبالتحديد في الحي المعروف ب (بروكلين) بنيويورك ، واسم هذه الجماعة : «جماعة شهود يهوه» .. وهدفها الأول والأخير اشاعة الفوضى ، واثارة الفتن الدينية في جميع أقطار العالم ، بخاصة العالم العربي ، والتنبؤ بفناء العالم .. وتصدر هذه الجماعة العديد من النشرات والكتب بجميع اللغات ، وبأغلفة ملونة ، تسرب الكثير منها الى بلادنا ، كما تصدر مجلة باسم برج المراقبة ، ومن الكتب التي نشرتها كتاب في الطعن بمحمد (ص) والقرآن ، واسم هذا الكتاب «هل خدم الدين الانسانية» وكتاب ليكن الله صادقا ، وكتاب نظام الدهور الالهي ، والحق يحرركم ، والمصالحة ، وملايين من الذين هم أحياء لن يموتوا أبدا ، وقد طبع هذا الكتاب ببيروت.

واكتشفت حكومة القاهرة بعض أعضاء جماعة شهود يهوه ، وكانوا يعقدون اجتماعات سرية ، فقبضت عليهم وشرعت بمحاكمتهم في الشهر الرابع من سنة ١٩٦٧.

ومن تعاليم هذه الجماعة انه جرى صراع طويل ومرير بين الله والشيطان دام ستين قرنا ، ثم اعتزل الله ، وسلم دفة الحكم والادارة للشيطان يتصرف كيف شاء ، لأن الشيطان أبقى الله وحيدا فريدا لا أحد معه إلا أمة إسرائيل ، ومن أجل هذا قال الله للشيطان : خذ الناس ، كل الناس ، واترك لي هذه الأمة .. وهكذا تم الاتفاق بين الله والشيطان .. ولكن الآية ستنعكس في النهاية ، لأن أمة إسرائيل ستملك من النيل الى الفرات ، وسيخرج الأنبياء من قبورهم ،

١٢٣

ويتولون أعلى المناصب في دولة إسرائيل ، وبالتالي يخضع العالم كله لهذه الدولة ، ويخذل الشيطان ، وينتصر الرحمن .. ولهذه الجماعة أنصار وعملاء في بيروت وعمان وبغداد ودمشق والقاهرة والسعودية والمغرب (١).

والغرض من هذه الاشارة التنبيه الى رأس الحية ، وإلى الأصابع التي تحرك في الخفاء بعض المؤلفين ومحرري الصحف ، وتضع لهم الخطط لاشاعة للفوضى والفساد ، وإثارة النعرات الطائفية ، والفتن الدينية في بلادنا.

ان الله يأمركم أن تذبحوا بقرة الآة ٦٧ ـ ٧٣ :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما

__________________

(١) هذا بعض من كل ، وقد استقيت معلوماتي عن جماعة يهوه من صحف كثيرة ، آخرها «صباح الخير» المصرية ، تاريخ ١٣ ـ ٤ ـ ١٩٦٧ ، و «المصور» المصرية ، تاريخ ١٤ منه.

١٢٤

كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)).

اللغة :

الفارض المسنة التي انقطعت ولادتها ، والبكر الصغيرة التي لم تحمل ، والعوان وسط بينهما ، لا كبيرة ولا صغيرة ، والفاقع شديد الصفرة ، يقال : أصفر فاقع ، وأخضر ناضر ، وأحمر قان ، وأبيض ناصع ويقق ، واسود حالك ، وكلها صفات مبالغة في الألوان ، كما في مجمع البيان ، والذلول الريّض الذي زالت صعوبته ، والمراد بالذلول هنا البقرة التي لم تعتد العمل في الأرض ، والمسلّمة بتشديد اللام السالمة من العيوب ، والشية بكسر الشين العلامة ، والمراد بها هنا أن يكون لون البقرة واحدا لا لون يخالف الصفرة ، وهو مأخوذ من وشي الثوب إذا زيّن بخطوط مختلفة. واصل ادارأتم تدارأتم على وزن تفاعلتم ، ومعنى التدارؤ التدافع ، أي كان البعض يدفع خصمه بيده ، وخصمه يفعل به مثل فعله ، أو ان كلا يتهم الآخر بدم القتيل.

الإعراب :

ما هي مبتدأ وخبر ، والجملة مفعول يبين ، لا فارض صفة للبقرة ، والصفة إذا كانت منفية بلا وجب تكرارها ، فلا يجوز أن تقول : مررت برجل لا كريم وتسكت ، بل لا بد أن تعطف عليه ولا شجاع ، وما أشبه ، وعوان خبر لمبتدأ محذوف ، أي هي عوان ، وفاقع صفة للبقرة ، ولونها فاعل لفاقع.

ملخص القصة :

ان هذه الآيات الكريمة يتوقف فهمها على معرفة الحادثة التي نزلت الآيات من أجلها ، وخلاصة هذه الحادثة :

١٢٥

ان شيخا غنيا من بني إسرائيل قتله بنو عمه طمعا في ميراثه ، ثم ادعى القتلة على أناس أبرياء أنهم قتلوه ، وطالبوهم بديته ، ليدفعوا عنهم تهمة القتل ، فوقع الاختلاف بينهم والشجار ، فترافعوا الى موسى (ع) ، وحيث لا بينة تكشف عن الواقع سألوا موسى ـ كالمعتاد ـ ان يدعو الله ليبين لهم ما خفي من أمر القاتل ، فأوحى الله اليه أن يذبحوا بقرة ، ويضربوا القتيل ببعضها ، فيحيا ، ويخبر بقاتله ، وبعد أخذ ورد ، وان الأمر : هل هو هزل أو جد ، وبعد السؤال عن أوصاف البقرة أولا وثانيا وثالثا فعلوا ، وعاد القتيل الى الحياة وأخبر بما كان.

المعنى :

(قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً). أي نسألك عن أمر القتيل ، فتأمرنا بذبح البقرة؟ ان هذا هزؤ ، وليس بجد.

(قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ). أي اني لا استعمل الهزؤ والسخرية في غير التبليغ عن الله ، فكيف في التبليغ عنه جلت كلمته؟

وكان يجزيهم أن يذبحوا بقرة أية بقرة ، لأن المأمور به بقرة مطلقة والإطلاق يفيد الشمول ، ولكنهم (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ). قال : هي من حيث السن وسط ، لا بالكبيرة ، ولا بالصغيرة ، فاذهبوا ، وامتثلوا ولا تتوانوا في ذبحها.

ولكنهم عادوا ثانية الى التنطح والسؤال (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها).

قال : هي صفراء .. ولكنهم زادوا في الالحاف ، واعادة السؤال ثالثا ، لأن البقر في هذا اللون والسن كثير .. قال : هي سائمة لا عاملة ، وسالمة لا معيبة .. فطلبوها حتى وجدوها ، وذبحوها ، وضربوا الميت ببعضها ، فعاد الى الحياة ، وانكشف السر بعد أن أخبر عن قاتله.

(كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). أي ان احياءنا لهذا القتيل شاهد عيان ، وبرهان حسي على البعث بعد الموت ، لأن من قدر على

١٢٦

احياء نفس واحدة قدر على احياء الأنفس كلها ، لعدم الاختصاص ، فهل بعد هذا الشاهد الحسي العياني تنكرون وتشككون وتعصون؟ .. أجل برغم ذلك وغير ذلك قست قلوبهم ، بل كانت أشد قساوة وصلابة من الحجارة ، كما نطقت الآية التالية.

وبعد الذي بيناه في تفسير قوله تعالى وإذ أخذنا ميثاقكم ، في فقرة : «لا قياس على اليهود» لا يبقى أي مجال للتساؤل : لما ذا لم يحي الله القتيل ابتداء ، وهو القادر على كل شيء؟ وكيف يحيا الميت إذا ضرب بجزء البقرة؟ ولما ذا كانت هذه البقرة دون غيرها؟ ثم ما هي الفائدة من ضرب المقتول ببعضها؟. كل هذه التساؤلات ، وما اليها لا تتجه بحال بعد أن أثبتنا ان الله عامل أولئك الاسرائيليين معاملة خاصة دون الناس أجمعين ، وانه من هذه الجهة فضلهم على الناس أجمعين.

ثم قست قلوبكم الآة ٧٤ :

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))

الإعراب :

أو هنا للتقسيم ، أي ان بعض قلوبهم كالحجارة ، وبعضها أشد قسوة منها ، وأشد خبر مبتدأ محذوف ، وقسوة تمييز ، والضمير في (منه) يعود الى (ما) ، وفي (منها) يعود الى الحجارة.

١٢٧

المعنى :

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ). أي كان الواجب على أسلافكم ـ يا يهود المدينة ـ أن يعتبروا ، وتلين قلوبهم بعد أن شاهدوا ما شاهدوا من الخوارق والمعجزات ، ومنها احياء القتيل .. ولكنهم لخبثهم فعلوا عكس ما تستدعيه هذه الخوارق ، فأفسدوا وقست قلوبهم ، حتى كأنها قدّت من صخر ، بل ان بعضها أشد قساوة وصلابة ، ذلك : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ).

وتسأل : ان الأنهار ماء ما في ذلك ريب ، فكيف صح تقسيم الماء إلى أنهار وماء؟ وهل هذا الا كتقسيم البناء الى بيت وبناء؟.

الجواب : ان الآية الكريمة قسمت الماء الى قسمين : كثير ، وهو الأنهار ، وقليل وهو العيون والآبار ، وقد عبرت عن هذا القسم القليل بلفظ الماء .. ولذا أسندت التفجير الى الكثير ، لأنه يشعر بالكثرة ، والتشقق الى الماء ، لأنه يشعر بالقلة.

ومهما يكن ، فان الغرض ان الله سبحانه قد فضل الصخور والحجارة بشتى أقسامها وأنواعها على قلوب اليهود ، لأن الصخر قد يتصدع ، فيخرج منه الماء ، وان الحجر قد يتخلخل ويتحرك عن موضعه ، أما قلوب اليهود فإنها لا تندى بخير ، ولا يحركها جمال ، ولا تتجه الى هداية.

وتسأل : ان الحجارة لا حياة فيها ولا ادراك ، حتى تخشى الله ، فما الوجه في قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)؟

وقد أجيب على ذلك بأجوبة كثيرة ، أقربها جوابان : الأول ، ان هذا مبني على الافتراض ، أي لو كان في الحجارة فهم وعقل كاليهود لهبطت من خشية الله. ومثل هذا كثير في كلام العرب.

الجواب الثاني : ان الحجارة من شأنها أن تخشع وتخضع لله الذي تنتهي اليه جميع الأسباب الطبيعية وغيرها ، قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ـ الاسراء ٤٥». ويأتي التوضيح حين نصل الى هذه الآية ان شاء الله.

١٢٨

اختلاف الأمزجة :

قد يسأل سائل : هل في داخل الإنسان قوة تحركه ، وتتدخل في شئونه ، أو ان المحرك الأول له هي الأحداث الخارجية وأشياؤها ، وان كان من باعث داخلي فان هذا الباعث ينبع ويتولد من الخارج ، بحيث يكون الداخل فرعا ، والخارج أصلا ، أو ان كلا منهما أصل في نفسه ، ومستقل عن غيره ، وان الإنسان يتحرك تارة بدافع من هذا ، وأخرى بدافع من ذاك ، وحينا بدافع منهما معا .. وعلى افتراض ان في داخل الإنسان قوة تحركه وتبعثه مستقلة عن غيرها ، فهل يشترك جميع أفراد الإنسان في هذه القوى الروحية ، بحيث لا يتباين فيها فرد عن فرد ، أو ان لكل فرد مزاجا خاصا ، وقوى لا يشاركه فيها أحد سواه؟.

والجواب عن السؤال الأول ان الإنسان انما يكون إنسانا بغرائزه وقواه الروحية ، ولو جردناه منها ، أو سلبنا عنها العمل والتأثير لكان الإنسان مجرد هيكل من ورق ، أو ريشة في مهب الريح .. أجل ، ان القوى الداخلية تتفاعل مع التيارات والأحداث الخارجية ، فتؤثر فيها ، وتتأثر بها ، ولكن التفاعل شيء ، والاستقلال في التأثير شيء آخر ـ مثلا ـ ان غريزة التطلع والتشوف تخلق مع الإنسان ، ومن هنا كان الطفل سئولا بفطرته ، بل ان هذه الغريزة من خصائص الإنسان .. ثم تنضج وتنمو هذه الغريزة برؤية الأحداث الخارجية ، وبالبحث والاكتشاف ، وبنموها ونضوجها يستطيع الإنسان أن يؤثر في الأشياء الخارجية ، ويطورها حسب حاجاته وأغراضه ، مع العلم بأنها مستقلة في وجودها عن الوعي والإدراك .. فحركات الإنسان ـ اذن ـ تنبع من الداخل والخارج ، أي من نفسه ، ومن الأحداث.

وهناك قسم ثالث اكتشفته من تجاربي الخاصة ، واطلق عليه اسم «التوفيق الى الخير والفلاح» .. وهذا القسم لا ينبع من النفس ولا من الأحداث ، بل من قوة خفية ، وطاقة خيرة لا حد لها تكمن في عالم المجهول ، ولكنها تمهد سبيل الخير الى بعض الأفراد ، وتتدخل مباشرة في توجيههم الى ما يرضي الله سبحانه ، من حيث لا يشعرون ..

١٢٩

وطبيعي ان لا يوافقني على هذا الا من يؤمن بالله وحكمته ، ويقدّره حق قدره ، وأعترف بأنه ليس لدي ضابط عام لهذا القسم ، لأني اهتديت اليه ـ كما قدمت ـ من تجاربي الخاصة (١).

أما الجواب عن السؤال الثاني ، وان الناس هل يشتركون في الغرائز والصفات النفسية .. أما الجواب عن هذا السؤال فانه يستدعي التفصيل ، فان من الصفات النفسية ما يتحقق فيه المشاركة ، كالوجدان والإدراك الذي نميز به بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، وبين القبح والجمال .. ولو لا هذه المشاركة لما أمكن بحال اثبات الفضيلة والرذيلة ، ولا جاز لنا أن نذم أو نمدح أحدا على فعل أو ترك ، أو نلزم جاحدا بحجة على الإطلاق .. وكذلك غريزة حب الذات ، وعاطفة الأبوة والبنوة ، وما اليها فإنها مشاع بين الجميع ، وان تفاوتت شدة وضعفا.

ومن الصفات النفسية ما يختلف أفراد الإنسان باختلافها ، كالشجاعة والجبن ، والكرم والشح ، والقساوة واللين ، وضعف الارادة وقوتها ، والميل الى الخير ، أو الشر ، فان الناس في هذه الصفات وما اليها متفاوتون متباينون ، فما كل انسان بكريم ، أو بخيل ، أو جبان ، أو شرير ..

وتسأل : ان قولك يخالف الشائع الذائع «ما من شخص إلا وفيه جانبان حسن وغير حسن» وقد ركزت قولك على جانب واحد ، وأغمضت الطرف عن الجانب الآخر؟.

الجواب : ان نفحة الخير التي نراها بعض الحين من الشرير انما جاءت فلتة ، ومن غير تصميم سابق .. على ان هذه القضية ، وهي «ما من شخص إلا وفيه جانبان» انما تصح في حق غير اليهود ، أما في حق اليهود فلا .. لأن كل ما فيهم سيء وقبيح ، ولا جانب فيهم للحسن إطلاقا .. والدليل على ذلك توراتهم

__________________

(١) من غرائب الصدف اني بعد أن كتبت هذه الكلمات قرأت ان القائد العسكري الانكليزي الشهير منتجمري ، وصف نفسه بقوله «انه جندي صغير تحت قيادة قوة جبارة ، وانه لم ينتصر في المعركة ، وانما شاءت الاقدار أن ينتصر ، وانه بغير الايمان بهذه القوة العاقلة الكبرى لا يمكن ان ينتصر في أي ميدان» يشير إلى انتصاره في معركة العلمين الشهيرة الفاصلة في الحرب العالمية الثانية .. فهو يؤمن بأن القوة الخفية ، مهدت له سبيل النصر على روميل الذي كان يسمى ثعلب الصحراء ، وهو أعظم القادة العسكريين إطلاقا آنذاك.

١٣٠

والقرآن الكريم ، والتاريخ الصحيح ، وعملهم في فلسطين ، وغير فلسطين الذي دل دلالة واضحة على ان الدين والأخلاق ، وجميع العلاقات البشرية عندهم ان هي إلا عملية تجارية ، ومنافع شخصية .. وسنعود الى هذا الموضوع كلما دعت المناسبة.

افتطمعون أن يؤمنوا الآة ٧٥ :

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥))

المعنى :

كل صاحب رسالة يحرص كل الحرص على أن يؤمن الناس بها ، فيبث الدعوة لها في الأوساط أملا أن يكثر أتباعها وأنصارها ، ويتحمل في سبيل ذلك المتاعب والمصاعب ، وهكذا فعل رسول الله (ص) وأصحابه .. بثوا الدعوة الى الإسلام في كل وسط رجوا أن يكون لها فيه أتباع وأنصار ، وكان بين الأنصار ويهود المدينة علاقة جوار ورضاعة وتجارة ، فدعوهم الى الإسلام بأمر النبي ، وناظروهم بالحجة الدامغة ، والمنطق السليم ، وطمعوا أن تتحرك فيهم العاطفة الانسانية ، بخاصة وانهم أهل كتاب ، وبوجه أخص ان أوصاف محمد (ص) قد وردت في توراتهم تصريحا أو تلميحا.

ولما أصر اليهود على رفض الدعوة ، والاستمرار في الكفر ومعاندة الحق خاطب الله نبيه الكريم وأصحابه بقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) وقد كان أسلاف هؤلاء اليهود يسمعون كلام الله من موسى مقترنا بالآيات والمعجزات فيحرفونه ويتأولونه حسب أهوائهم ، على علم منهم بالحق ، وتصميم على مخالفته ، وما حال يهود المدينة إلا كحال أسلافهم .. حرّف السلف ، وجعل الحلال حراما ، والحرام حلالا تبعا لهواه ، وحرف الخلف أوصاف محمد (ص) الواردة في التوراة ، كي لا تقوم عليهم الحجة.

١٣١

وقال صاحب مجمع البيان : «في هذه الآية دلالة على عظم الذنب في تحريف الشرع ، وهو عام في اظهار البدع في الفتيا والقضايا ، وجميع أمور الدين».

ونزيد على قول صاحب المجمع أن في هذه الآية دلالة أيضا على ان من اتّبع الضلال لا يسيء الى نفسه فقط ، بل يمتد أثر إساءته الى الأجيال ، ويتحمل وزر عمله ، وعمل من اتبعه على الغواية والضلالة ، كما جاء في الحديث الشريف.

واذا لقوا الذين آمنوا الآة ٧٦ ـ ٧٧ :

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧))

اللغة :

الفتح في الأصل يستعمل للشيء المغلق ، والمراد به هنا الحكم ، يقال : اللهم افتح بيني وبين فلان ، أي احكم بيني وبينه.

الإعراب :

ليحاجوكم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام.

المعنى :

كان بعض يهود المدينة ينافقون ويكذبون على المسلمين ، ويقولون لهم : نحن مؤمنون بالذي آمنتم به ، ونشهد ان محمدا صادق في قوله ، فلقد وجدناه في التوراة بنعته وصفته ، وإذا خلا هؤلاء المنافقون برؤسائهم أخذ الرؤساء في لومهم وتوبيخهم ، وقالوا لهم فيما قالوا : كيف تحدثون المسلمين بما حكم الله به عليكم

١٣٢

من أتباع محمد؟ .. ألا تفقهون بأن هذا اقرار منكم على أنفسكم بأنكم المبطلون ، وهم المحقون؟.

(أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ). أي مهما حرص المنافقون على إخفاء نفاقهم ، والرؤساء الضالون على توجيه أتباعهم فان الله سبحانه لا تخفى عليه خافية .. فأنتم أيها اليهود تكتمون في دسائسكم ومؤامراتكم ، والله سبحانه يعلم بها رسوله الأعظم (ص) ، ويذهب كيدكم هباء.

ومنهم أميون الآة ٧٨ ـ ٧٩ :

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩))

اللغة :

الأميّون واحده أمي ، ومعناه معروف ، وهو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، أما وجه النسبة الى الأم فلأنه في الجهل كما ولدته امه ، والأماني واحدها امنية ، ومن معانيها تمني القلب ، وهو أظهرها وأكثرها استعمالا ، وتستعمل في التلاوة أيضا ، والمراد بها هنا التخرص بلا دليل ، والذي يؤيد هذا المعنى ويقويه قوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) والويل معناه الفضيحة والحسرة ، والخزي والهوان ، ومثله ويح وويس وويب. والأيدي جمع ، واحدها يد ، والأيادي جمع الجمع ، ويكثر استعمالها في النعم.

١٣٣

الإعراب :

ويل مبتدأ ، وخبره للذين ، ويجوز نصبه على تقدير جعل الله الويل للذين ، لأن ويلا لا فعل له ، قال هذا صاحب تفسير البحر المحيط ، وقال أيضا : إذا أضفت ويلا مثل ويل زيد فالنصب أرجح من الرفع ، وإذا أفردته مثل ويل لزيد فالرفع أرجح.

المعنى :

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ). أي ان من اليهود جماعة أميين لا يعرفون شيئا من دين الله ، وان قصارى أمرهم التخرص والظن دون أن يعتمدوا على علم.

وبديهة ان هذا الوصف وان ورد في حق أولئك اليهود ، ولكن الذم عام يشمل كل جاهل يتسم بسمة أهل العلم ، ويتصدى الى ما ليس له بأهل ، لأن المورد لا يخصص الوارد ، كما قيل.

للتفسير اصول وقواعد :

وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن تفسير الكتاب والسنة لا يجوز بالتخرص والظن ، بل لا بد قبل كل شيء من العلم بقواعد التفسير وأصوله ، ومراعاة هذه القواعد في بيان مراد الله ورسوله حذرا من الكذب عليهما ، والنسبة اليهما دون مبرر شرعي.

وأول الشروط لصحة التفسير القراءة والكتابة ، ثم العلوم العربية بشتى أقسامها من معرفة مفردات اللغة ، والصرف والنحو ، وعلم البيان ، والفقه وأصوله ، وعلم الكلام ، والإلمام ببعض العلوم الأخرى التي يتصل بها تفسير بعض الآيات ، على ان هذه يمكن للمفسر أن يرجع في معرفتها لأهل الاختصاص.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ). هدد الله سبحانه بهذه الآية كل من ينسب اليه ما ليس من عنده ، لا لشيء إلا ليقبض

١٣٤

الثمن من الشيطان ، وليس من الضروري أن يكون الثمن مالا فقط ، فقد يكون جاها ، أو غيره من الشهوات والملذات الدنيوية (١).

وكرر الله سبحانه الويل للمزوّرين ثلاث مرات في آية واحدة ، للتأكيد على ان الافتراء عليه ، وعلى نبيه من أعظم المعاصي وأشدها عقابا وعذابا : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً ، فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ ، وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) ـ طه ٦١».

العالم لا يحكم بالواقع :

ونشير بهذه المناسبة الى ان العالم مهما بلغت مكانته من العلم فعليه أن لا ينسب أي شيء الى الله ورسوله على انه هو الواقع المسطور في اللوح المحفوظ ، فإذا أفتى بالتحليل أو التحريم ، أو حكم بشيء على انه حق ، أو فسر آية أو رواية ، فعليه إذا فعل شيئا من ذلك أن يفعله بتحفظ ملتفتا الى أن حكمه ، أو فتواه ، أو تفسيره ما هو إلا مجرد رأي ونظر يخطئ ويصيب ، لا صورة طبق الأصل عن الواقع ، وبهذا وحده يعذر عند الله إذا اجتهد وأفرغ الوسع ، أما إذا قصر في الاجتهاد والبحث ، أو بحث ونقب ولم يقصر ولكنه جزم بأن قوله هو قول الله ورسوله بالذات دون سواه ، أما هذا فشأنه شأن الذين يفترون على الله الكذب ، حتى ولو كان أعلم العلماء ، لأن العالم لا يفتي ولا يحكم بالحق واقعا ، بل بما يعتقد انه الحق ، وهذا يحتمه مبدأ عدم العصمة.

وقالوا لن تمسنا النار الآة ٨٠ ـ ٨٢ :

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً

__________________

(١) أثبت أهل الاختصاص بتاريخ اللغات والعادات ان التوراة الحالية التي يعتقد اليهود انها نزلت من الله على موسى ، أثبتوا انها الفت في عصور لاحقة لعصر موسى بأمد غير قصير ، واستخرج الباحثون هذه الحقيقة من ملاحظة اللغات والأساليب ومن الأحكام والموضوعات ، والبيئات الاجتماعية والسياسية التي تنعكس في التوراة ، ولا تمت إلى عصر موسى بسبب ، وسنحاول العودة ثانية إلى هذا الموضوع بصورة أوسع ان شاء الله.

١٣٥

فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))

اللغة :

المس واللمس والجس اللفظ متعدد ، والمعنى واحد ، ويستعمل اللمس كثيرا فيما يكون معه احساس بالحرارة والبرودة وما اليها.

الإعراب :

بلى حرف جواب لاثبات ما بعد النفي ، يقال : ما فعلت كذا؟ فتجيب : بلى ، أي فعلت. ونعم جواب الإيجاب ، يقال : فعلت كذا؟ فتجيب : نعم ، أي فعلت.

المعنى :

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً). يزعم اليهود انهم أبناء الله ، وشعبه المختار ، وان الناس ، كل الناس ـ غيرهم ـ أبناء الشيطان ، وشعبه المنبوذ ، فالله لا يخلد اليهود في النار ، ولا يقسو عليهم ، بل يعذبهم عذابا خفيفا ، ووقتا قصيرا ، ثم يرضى عنهم ، اي انه سبحانه يدللهم ، تماما كما يدلل اليوم الاستعمار عصابة الصهاينة التي احتلت أرض فلسطين.

(قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً). أي قل لهم يا محمد : ان زعمكم هذا جرأة وافتئات على الله بغير علم .. والا فأين العهد والوعد الذي أخذتموه من الله سبحانه على ذلك؟ وان دل زعمهم هذا على شيء فإنما يدل على استهتارهم واستخفافهم

١٣٦

بالذنوب وارتكاب القبائح ، قال الرسول الأعظم (ص) : ان المؤمن ليرى ذنبه كأنه صخرة يخاف أن تقع عليه ، وان الكافر ليرى ذنبه كأنه ذباب مرّ على أنفه .. وقال علي أمير المؤمنين (ع) : أشد الذنوب ما استهان به صاحبه ، وقول الرسول الأعظم (ص) : «كأن الذنب ذبابة تمر على أنف المذنب» ينطبق كل الانطباق على اليهود الذين يزعمون انهم أبناء الله المدللون .. وعسى ان يتعظ بهذا من يستهين بذنوبه اتكالا على شرف الأنساب.

ومن يثق بنفسه ، ولا يتحسس خطاياها ، ولا يقبل النصح من غيره محال أن يهتدي الى خير. ان العاقل لا ينظر الى نفسه من خلال غرورها وأوهامها ، بل يقف منها دائما موقف الناقد لعيوبها وانحرافها ، ويميز بين ما هي عليه ، وبين ما ينبغي أن تكون عليه ، ويحررها من الأفكار الصبيانية ، والنزوات الشيطانية ، وبهذا وحده ينطبق عليه اسم الإنسان بمعناه الواقعي الصحيح .. وفي الحديث الشريف من رأى انه مسيء فهو محسن.

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). السيئة تعم الشرك وغيره من الذنوب ، ولكن المراد منها هنا خصوص الشرك ، بقرينة قوله تعالى : (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). قال صاحب مجمع البيان : ان ارادة الشرك من السيئة يوافق مذهبنا ـ أي مذهب الامامية ـ لأن غيره لا يوجب الخلود في النار ، والتوضيح في فقرة «مرتكب الكبيرة».

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). وتدل هذه الآية الكريمة على ان النجاء من عذاب الله غدا منوط بالايمان الصحيح ، والعمل الصالح معا ، وقد جاء في الحديث الشريف : ان سفيان الثقفي قال : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. فقال : قل : آمنت بالله ، ثم استقم.

يشير الرسول الأعظم (ص) بقوله هذا الى الآية ٣٠ حم السجدة : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ). والمراد بالاستقامة في الحديث الشريف والآية الكريمة ، العمل بكتاب الله ، وسنة رسول الله (ص).

١٣٧

المسلم والمؤمن :

ينقسم المسلم بالنظر الى معاملته ، وترتب الآثار على إسلامه الى قسمين :

الأول : أن يقر لله بالوحدانية ، ولمحمد بالرسالة بغضّ النظر عن اعتقاده وأعماله .. أجل ، يشترط فيه أن لا ينكر ما ثبت بضرورة الدين ، كوجوب الصلاة ، وتحريم الزنا والخمر ، وهذا المقر المعترف له عند المسلمين ما لهم ، وعليه ما عليهم ، من حيث الإرث والزواج والطهارة وواجبات الميت ، كتغسيله ، وتحنيطه ، وتكفينه والصلاة عليه ، ودفنه في مقابر المسلمين ، لأن هذه الآثار تلحق نفس الإقرار بالشهادتين ، وتترتب على مجرد اظهار الإسلام ، سواء أوافق الواقع ، أو لم يوافقه.

الثاني : أن يؤمن ويلتزم بالإسلام أصولا وفروعا ، فلا يجحد أصلا من أصول العقيدة الاسلامية ، ولا يعصي حكما من أحكام شريعتها ، وهذا هو المسلم حقا وواقعا عند الله والناس ، بل هو المسلم العادل الذي تترتب عليه جميع آثار العدالة الاسلامية في الدنيا والآخرة ، ومن الآثار الدنيوية قبول شهادته ، وجواز الائتمام به في الصلاة ، ونفوذ حكمه ، وتقليد الجاهل له في الأحكام الشرعية ، ان كان مجتهدا ، أما الآثار الاخروية فعلو المنزلة والثواب.

أما المؤمن فهو من أقر بلسانه وصدق بجنانه الشهادتين ، ولا يكفي مجرد الإقرار باللسان ، ولا مجرد التصديق بالجنان ، بل لا بد منهما معا ، وعليه يكون كل مؤمن مسلما ، ولا عكس.

وبهذا يتبين معنا ان العمل الصالح خارج عن مسمى الايمان ومفهومه بدليل ان الله سبحانه عطف الذين عملوا الصالحات على الذين آمنوا ، والعطف يستدعي التعدد والتغاير .. أجل ، ان العمل الصالح يدخل في مفهوم العدالة كما أشرنا ، ويأتي الكلام عنها حين تستدعي المناسبة.

وتجمل الاشارة الى ان فقهاء الإمامية يطلقون في كتب الفقه لفظ المؤمن على خصوص الاثني عشري ، فإذا قالوا : تعطى الزكاة للمؤمن ، ويقتدى في الصلاة بالمؤمن ، وما الى هذا فإنهم يريدون بالمؤمن الاثني عشري فقط ، وهذا اصطلاح خاص بالفقهاء وحدهم ، حتى الفقيه الإمامي نفسه إذا تكلم عن المؤمن

١٣٨

في غير المسائل الفقهية فإنما يريد كل من أقر وصدق بالشهادتين ، حتى ولو لم يكن اثني عشريا.

وعلى أية حال ، فان كلا من الإسلام والايمان بالمعنى الذي بيناه لا يستلزم حتما النجاة من عذاب الله غدا ، بل لا بد معه من الاستقامة التي هي العمل بكتاب الله ، وسنة نبيه (ص).

مرتكب الكبيرة :

قسّم الفقهاء الذنوب الى كبائر ، كشرب الخمر ، وصغائر كالجلوس على مائدة الخمر دون الشرب ، ويأتي تحديد الكبيرة والصغيرة مفصلا ان شاء الله عند تفسير الآية ٣٢ من سورة النجم : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) (١).

واختلف أهل القبلة فيمن أقر بالشهادتين ، وأتى بالكبيرة : هل هو كافر يخلد في النار ، أو انه مؤمن فاسق يعاقب على الذنب بما يستحق ، ثم يدخل الجنة؟.

ذهب الخوارج الى الأول ، وقال الإمامية والأشاعرة وأكثر الأصحاب والتابعين بالثاني ، وأحدث المعتزلة قولا ثالثا ، وأثبتوا المنزلة بين المنزلتين ، أي لا هو بالكافر ، ولا بالمؤمن.

واستدل العلامة الحلي في شرح التجريد على صحة القول بأن مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق لا يخلد في النار ، استدل «بأنه لو خلد هذا في النار للزم أن يكون من عبد الله مدة عمره ثم عصى آخر عمره معصية واحدة ، مع بقائه على إيمانه ، لزم أن يكون هذا مخلدا في النار ، تماما كمن أشرك بالله مدة عمره ، وذلك محال لقبحه عند العقلاء».

وليس من شك ان سيئة واحدة لا تحبط جميع الحسنات ، بل العكس هو الصحيح ، لقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) ـ هود ١١٥» .. وعلى الأقل أن يكون كل شيء بحسابه.

__________________

(١) هذه الآية الكريمة تصلح ردا على من قال : ليس في الذنوب كبائر وصغائر ، بل كلها كبائر ، ووجه الرد ان لفظ اللمم معناه القلة ، يقال : ألم بالطعام إذا أكل منه قليلا.

١٣٩

ومن أجل هذا يجب حمل السيئة على الشرك في قوله سبحانه : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). كما ان هذه الآية التي جاءت بعدها ، وهي (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). ان هذه الآية تدل على ان مرتكب الكبيرة يدخل الجنة ، ولا يخلد في النار ، لأنها تعم من آمن وعمل صالحا ، ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة ولم يتب.

أيضا اليهود :

ان زعم اليهود بأنهم أبناء الله ، وشعبه المختار مبعثه ان الدين والأخلاق في عقيدتهم عملية تجارية ، ومنافع شخصية ، وكل ما عداها هراء وهباء.

وتقول : ان هذا لا يختص باليهود ، بل أكثر الناس على ذلك؟.

الجواب : أجل ، ولكن الفرق ان اليهود يحقدون على البشرية جمعاء ، وان هدفهم النهائي هو ابادة الناس ، كل الناس غيرهم.

واذ اخذنا ميثاق بني اسرائيل الآة ٨٣ :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣))

اللغة :

اليتيم من الناس من مات أبوه الى أن يبلغ الحلم ، وعن الأصمعي ان اليتيم من الحيوان من لا ام له ، ومن الإنسان من لا أب له.

١٤٠