التّفسير الكاشف - ج ١

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ١

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٦٧

واذ واعدنا موسى الآة ٥١ ـ ٥٣ :

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)).

اللغة :

مصدر واعدنا المواعدة ، أي المفاعلة بين اثنين ، كما لو تواعدا اللقاء في مكان معين ، ووجه المفاعلة ـ هنا ـ ان الله سبحانه وعد موسى الوحي ، وموسى (ع) وعد الله المجيء .. أما الوعد فهو مصدر وعد ، ويكون من طرف واحد ، ويصح استعمال واعدنا بمعنى وعدنا.

ولفظة موسى تطلق على آلة الفولاذ التي يحلق بها الشعر ، وتذكّر وتؤنث ، والجمع مواس ومواسيات ، وهي بهذا المعنى عربية لا أعجمية .. أما لفظة موسى التي يراد بها ابن عمران (ع) فهي أعجمية لا عربية ، مركبة من كلمتين في اللغة القبطية ، وهما (مو) اسم للماء و (سى) اسم للشجر .. وفي اللغة العبرية (شى) .. ويكون معنى موسى ماء الشجر .. أما وجه تسمية موسى بماء الشجر فهو ـ على ما جاء في مجمع البيان ـ ان جواري آسية امرأة فرعون خرجن للاغتسال بماء الشجر فوجدن التابوت الذي فيه موسى عند ماء الشجر ، فصحبنه معهن .. والفرقان ما يفصل بين شيئين ، والمراد به هنا الذي يفصل بين الحق والباطل.

الاعراب :

الذي يتبادر الى الفهم للوهلة الأولى ان (أربعين) ظرف مفعول فيه .. وليس كذلك .. لأن الاعراب يتبع صحة المعنى ، ولو كان (أربعين) مفعولا به

١٠١

للزم تعدد الوعد من الله لموسى بتعدد الليالي ، لأن الوعد هو العامل بالليالي .. ومعلوم ان الله سبحانه لم يصدر منه لموسى الا وعد واحد موقت بانقضاء أربعين ليلة ، وعليه تكون كلمة انقضاء المحذوفة مفعولا به ثانيا لواعدنا ، وبعد حذفها أقيمت (أربعين) مقامها ، وأعربت اعرابها ، تماما كما تقول : اليوم ثلاثة من الشهر ، أي تمام الثلاثة ، لأن الواحد غير الثلاثة. وليلة تمييز.

المعنى :

بعد ان أهلك الله فرعون ومن معه تنفس الاسرائيليون الصعداء ، وعادوا الى مصر آمنين ، كما في المجمع ، ولم تكن التوراة قد نزلت بعد على موسى ، فسألوه ان يأتيهم بكتاب من ربهم ، فوعده الله أن ينزل عليه التوراة ، وضرب له ميقاتا ، فقال لهم موسى : ان ربي وعدني بكتاب ، فيه بيان ما يجب عليكم أن تفعلوه ، وتذروه ، وضرب لهم ميقاتا أربعين ليلة ، وهذه الليالي ـ على ما قيل ـ هي ذو القعدة ، وعشر ذي الحجة.

وذهب موسى الى ربه ليأتي قومه بالكتاب ، واستخلف عليهم أخاه هارون ، وقبل أن يمضي الميقات الموعود على غيابه عبدوا العجل من دون الله ، وظلموا بذلك أنفسهم ، وهذا هو المعنى الظاهر من قوله سبحانه : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ).

وبعد ان رجع موسى الى قومه تابوا من شركهم ، ورجعوا الى ربهم ، فقبل الله توبتهم .. وهذه نعمة ثالثة من الله عليهم ، واليها أشارت الآية : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ).

أما النعمة الرابعة فهو كتاب الله : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). وهذا الكتاب هو التوراة الجامعة لبيان الحق والباطل ، والحلال والحرام ، أما عطف الفرقان على الكتاب فهو من باب عطف الصفة على الموصوف ، كقوله سبحانه في الآية ٤٨ من الأنبياء : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ).

واختصارا ان الله جل وعز ذكّر الاسرائيليين في الآيات المتقدمة بأربع نعم :

١٠٢

انجائهم من ذبح الأبناء واستحياء النساء ، ثم هلاك فرعون ، ثم العفو عنهم ، ثم إيتاء موسى التوراة. ومن أحسن ما قرأته في هذا الباب ـ وأنا أتتبع ال ١٧ تفسيرا التي لدي ـ هو قول أبي حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط : «انظر الى حسن هذه الفصول التي انتظمت انتظام الدر في أسلاكها ، والزهر في أفلاكها ، كل فصل منها ـ أي من النعم ـ قد ختم بمناسبة ، وارتقى في ذروة فصاحته أعلى مناصبه ، واردا من الله على لسان محمد أمينه دون أن يتلو من قبل كتابا ، ولا خطه بيمينه».

يشير أبو حيان بهذا الى ان تلك الصور المتلاحقة المنتظمة هي من معجزات محمد ، لأنه أخبر بها من غير تعلّم .. رحم الله السلف وغفر لهم ، وأجزل عليهم النعم والعطية ، فإنهم ما رأوا ظاهرة يستشم منها تأييد هذا الدين ونبيه الأكرم الا مدوا اليها الأعناق بلهفة واشتياق ، وبادروا اليها شرحا وتفصيلا ، واستخراجا وتدليلا ، فأين أين نحن علماء هذا الزمان الذين نتكالب على الدنيا ، ولا نرى هما الا همّ أنفسنا ، ولا مشكلة الا مشكلة أولادنا .. أين نحن من أولئك الأعاظم الذين ضحوا بكل شيء من أجل إعزاز الإسلام ونبي الإسلام؟. عفا الله عنهم ورفعهم وكل من خدم الدين الى أعلى الدرجات.

واذ قال موسى الآة ٥٤ ـ ٥٧ :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ

١٠٣

الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)).

اللغة :

البارئ هو الخالق ، والمنّ مادة لزجة تشبه العسل ، والسلوى السّمان طائر معروف ، والغمام اسم جنس مفرده غمامة ، فالتاء للإفراد ، لا للتأنيث ، تماما كحمام وحمامة.

الاعراب :

يا قومي منادى مضاف الى ياء المتكلم ، ثم حذفت الياء ، واجتزئ عنها بالكسرة ، وجهرة قائم مقام المفعول المطلق ، وكلوا فعل أمر ، والجملة محل نصب مفعول لفعل محذوف ، تقديره قلنا كلوا.

المعنى :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) .. كل معنى يسبق الى الفهم بمجرد سماع اللفظ لا يحتاج الى تفسير ، بل تفسيره وشرحه ضرب من الفضول .. وهذه الآية من هذا الباب.

(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) .. القتل ظاهر في إزهاق الروح ، ولا سبب موجب لصرفه وتأويله بمخالفة الهوى ، وتذليل النفس بالاعتراف بالذنب والخطيئة ، أو التشديد والمبالغة في طاعة الله ـ كما قيل ـ والمراد بالأنفس هنا بعضها ، أي ليقتل بعضكم بعضا ، فيتولى البريء منكم الذي لم يرتد عن دينه بعبادة العجل قتل من ارتد عن دينه ، تماما كقوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ). أي فليسلّم بعضكم على بعض ، وكقوله : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ). أي لا يغتب بعضكم بعضا.

١٠٤

وقال الطبرسي في مجمعه ـ من الامامية ـ والرازي في تفسيره الكبير ـ من السنة قالا : ان الله سبحانه جعل توبتهم بنفس القتل ، بحيث لا تتم التوبة ، ولا تحصل إلا بقتل النفس ، لا انهم يتوبون أولا ، ثم يقتلون أنفسهم بعد التوبة.

ولهذا الحكم نظائره في الشريعة الاسلامية ، حيث اعتبرت القتل حدا وعقوبة على جريمة الارتداد ..

وتمضي الآيات في تعداد مساوئ الاسرائيليين : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً). حين جاءهم موسى بالتوراة قال له جماعة منهم : لا نصدقك في ان هذا الكتاب من عند الله ، حتى نرى الله عيانا لا حجاب بيننا وبينه ، ويخبرنا وجها لوجه انه أرسلك بهذا الكتاب.

ولست أدري ان كان الذين ينكرون وجود الله في هذا العصر ، لا لشيء إلا لأنهم لم يشاهدوه جهرة ، لست أدري : هل استند هؤلاء في انكارهم الى كفر أولئك الاسرائيليين وعنادهم؟.

قال اليهود لموسى : لن نؤمن حتى نرى الله جهرة .. وقال من قال في هذا العصر : لا وجود إلا لما نراه بالعين ، ونلمسه باليد ، ونشمه بالأنف ، ونأكله بالفم .. وهكذا يكرر التاريخ صورة المكابرة ومعاندة الحق في كل جيل.

(فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ). أي ان عذابا من السماء أحاط بالذين قالوا لموسى : لن نؤمن حتى نرى الله ، وأهلكهم على مرأى من أصحابهم الذين لم يعاندوا ، ويسألوا مثل ذلك.

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). قال بعض المفسرين ، ومنهم الشيخ محمد عبده ، كما في تفسير المنار ، قالوا : ان الله سبحانه لم يرجعهم الى هذه الحياة ثانية بعد أن أخذتهم الصاعقة ، وان المراد ببعثهم كثرة النسل منهم.

وقال آخرون : كلا ، ان الآية على ظاهر دلالتها ، وان الذين أعيدوا هم الذين أخذتهم الصاعقة بالذات .. وهذا هو الحق ، حيث يجب الوقوف عند الظاهر إلا مع السبب الموجب للتأويل ، ولا سبب ما دامت الاعادة ممكنة في نظر العقل ، وقد وقع نظير ذلك لعزير ، كما دلت الآية ٢٥٩ من سورة البقرة : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ). وبديهة ان الذي وقع لا يكون مستحيلا.

١٠٥

وتجدر الاشارة إلى أن المراد من قوله تعالى : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) ، وقوله بعثناكم ، المراد من كان في عصر موسى (ع) الذين قالوا له : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فلا يشمل الخطاب موسى ، ولا من لم يقل له ذلك .. وبالأولى أن لا يشمل حقيقة اليهود الذين كانوا في عهد محمد (ص) وانما وجه الخطاب اليهم تجوزا وتوسعا في الاستعمال بالنظر الى أنهم من نسل الذين قالوا : حتى نرى الله جهرة.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى). جرى ذلك حين خرج الاسرائيليون من مصر ، وتاهوا في صحراء سيناء ، حيث لا بنيان ولا عمران ، فشكوا الى موسى حر الشمس ، فأنعم الله عليهم بالغمام يظللهم ، ويقيهم حر الهاجرة ، وأنعم عليهم أيضا بالمنّ والسلوى ، يأكلون منهما بالاضافة الى ما تيسر لهم من الأطعمة ، ويأتي في تفسير الآية ٦٠ ان الماء تفجّر لهم من الحجر الذي ضربه موسى بعصاه.

وغريب أمر بعض المفسرين ، حيث يفسر من تلقائه ما سكت الله عن بيانه وتفسيره ، ويحصي عدد الذين قتلوا أنفسهم للتوبة من عبادة العجل ، يحصيهم بسبعين ألف نسمة ، كما أحصى عدد الذين أخذتهم الصاعقة بسبعين رجلا ، أما المنّ فلكل فرد صاع ، وأما السلوى فكانت تنزل من السماء حارّة يتصاعد منها البخار ، وما إلى ذلك مما لا نص قطعي ولا ظني يدل عليه ، ويبعّد ولا يقرب .. وقد ثبت عن الرسول الأعظم (ص) : ان الله سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا ، فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم.

وفي نهج البلاغة :

ان الله افترض عليكم الفرائض فلا تضيعوها ، وحدّ لكم حدودا فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء ، ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها.

(وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). ونفي المظلومية عن الله سبحانه ، تماما كنفي الولد والشريك عنه من باب السالبة بانتفاء الموضوع على حد تعبير أهل المنطق ، لأن الثبوت محال عقلا .. فهو أشبه بقولك عن الأعزب : انه لا ولد له ، وعمن يجهل اللغة العربية لم يؤلف فيها قاموسا .. أما ظلم اليهود لأنفسهم فلسفههم ، وجحودهم بأنعم الله الذي لا تنفعه طاعة من أطاع ، ولا

١٠٦

تضره معصية من عصى ، وانما منفعة الطاعة تعود الى الطائع ، ومضرة المعصية الى العاصي .. قال أمير المؤمنين علي (ع) : يا ابن آدم إذا رأيت ربك يتابع نعمه عليك ، وأنت تعصيه فاحذره.

واختصارا ان هذه الآيات تضمنت الاشارة الى عبادة الاسرائيليين للعجل ، وتوبتهم بقتل أنفسهم ، وطلبهم رؤية الله ، وهلاكهم وبعثهم ، وتظليل الغمام لهم ، وإطعامهم المنّ والسلوى .. وسنعرض قصة موسى مع الاسرائيليين في سورة المائدة ان شاء الله ، حيث حكى الله قولهم لكليمه ونجيّه : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) وانها لكلمة تعبر عن خبث اليهود ولؤمهم أدق تعبير ، وأول من اكتشف هذا اللؤم والخبث آل فرعون الذين ذبحوا الأبناء ، واستحيوا النساء.

رؤية الله :

وحيث جاء في الآية الكريمة : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) نشير الى النزاع القائم بين أهل المذاهب الاسلامية وفرقها من ان العقل : هل يجيز رؤية الله بالبصر أو يمنعها؟.

قال الأشاعرة ـ السنة ـ : ان رؤية الله بالبصر جائزة عقلا ، لأنه موجود ، وكل موجود يمكن رؤيته.

وقال الامامية والمعتزلة : لا تجوز الرؤية البصرية على الله بحال ، لا دينا ولا دنيا ، لأنه ليس بجسم ، ولا حالا في جسم ، ولا في جهة.

وبعد أن منعوا الرؤية عقلا حملوا الآيات الدالة بظاهرها على جواز الرؤية ، حملوها على الرؤية بالعقل والبصيرة ، لا بالعين والبصر ، وبحقائق الإيمان ، لا بجوارح الأبدان على حد تعبير الفيلسوف الشهير الكبير محمد بن ابراهيم الشيرازي المعروف بالملا صدرا ، وبصدر المتألهين.

ومما استدل به الملا صدرا على امتناع الرؤية قوله : «ان الاحساس بالشيء حالة وضعية للجوهر الحاس ، بالقياس الى المحسوس الوضعي ، ففرض ما لا وضع له انه محسوس ، كفرض ما لا جهة له انه في جهة».

١٠٧

يريد بقوله هذا ـ على ما أرى ـ ان العين لا ترى الشيء إلا بشرطين : الأول أن تكون أهلا للنظر ، الثاني أن يكون الشيء أهلا لأن ينظر بالعين .. وهذا شيء بديهي ، فإذا فقدت العين أهلية النظر ، أو لم يكن الشيء مؤهلا للنظر بالعين انتفت الرؤية قهرا .. والعين أصغر وأحقر من ان ترى الذات القديسة الاحدية ، كما انه جل وعلا أعظم من أن يرى بالعين.

وانتقل ذهني ، وأنا أقرأ عبارة هذا العظيم ، الى الفيلسوف الانكليزي جون لوك القائل بالواقعية النقدية ، وملخصها ان للشيء صفات أولية ثابتة له واقعا ، ولا تنفصل عنه إطلاقا ، سواء أوجد من يدركها ، أم لم يوجد ، كالعناصر المقومة المكونة للشيء .. وأيضا له صفات ثانوية نسبية لا توجد مستقلة عن ذات تحسها وتدركها ، كاللون والصوت والطعم ، فاللون ليس صفة للشيء كما يتراءى وانما هو موجات ضوئية خاصة بين الشيء والعين عند العلماء ، وأيضا الصوت موجات هوائية ، والطعم لا وجود له لو لا الفم ، ومن هنا يختلف باختلاف الذائق صحة ومرضا .. واختصارا انه لا لون بلا عين ، ولا صوت بلا اذن ، ولا طعم بلا فم. وليس من شك ان نور الله سبحانه يطغى على الموجات الضوئية وغيرها ، وإذا انتفت هذه الموجات انتفت الرؤية.

واذ قلنا ادخلوا الآة ٥٨ ـ ٥٩ :

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))

١٠٨

اللغة :

للقرية في اللغة معنيان : المكان الذي يجتمع فيه الناس ، أي مكان لا يختص في بر ولا بحر ، والمعنى الثاني مسكن النمل ، وعلى هذا تكون المدينة من معاني القرية حقيقة ، ولكن كثر استعمالها في البلد الصغير ، فتغلب هذا المعنى على غيره من المعاني ، بحيث إذا اطلق لفظ القرية فلا يفهم منه عرفا الا البلد الصغير .. وقيل : ان المراد بالقرية هنا بيت المقدس. ومعنى الحط النزول والهبوط ، ومعنى السجود وضع الجبهة على الأرض ، والمراد به هنا معناه المجازي ، وهو الخضوع والتواضع ، لأن دخولهم الباب ، وجبهتهم على الأرض ، متعذر ، فتعين الحمل على الخشوع ، والرجز بكسر الراء الشيء القذر ، والمراد به هنا العذاب.

الاعراب :

القرية عطف بيان من هذا ، ورغدا نائب عن المفعول المطلق ، أي أكلا رغدا ، وسجدا حال من واو الجماعة في ادخلوا ، وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل ، كعدل بمعنى عادل ، وحطة خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير مسألتنا أو أمرنا حطة ، تماما مثل «صبر جميل» أي حالنا صبر جميل ، مع العلم بأن النصب جائز أيضا.

المعنى :

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً). قال صاحب مجمع البيان : «أجمع المفسرون على ان المراد بالقرية هنا بيت المقدس ، ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر : ادخلوا الأرض المقدسة».

(وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) أي ادخلوا ناكسي الرؤوس خاضعين خاشعين لله ، وفي البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي : «الباب هو أحد أبواب بيت المقدس ، ويدعى باب حطة. (توفي هذا العالم الأندلسي سنة ٧٥٤ ه‍).

١٠٩

(وَقُولُوا حِطَّةٌ). بعد أن أمرهم الله سبحانه أن يدخلوا بخضوع وخشوع أيضا أمرهم أن يقرنوا الخشوع بقول التضرع والتذلل مثل نستغفر الله ، ونسأله التوبة ، ليحصل التوافق والتلاؤم بين القول والفعل ، تماما كما تقول في ركوعك : «سبحان ربي العظيم». وفي سجودك : «سبحان ربي الأعلى».

وليس من الضروري أن يتلفظوا بلفظ (حطة) بالذات وعلى سبيل التعبد ، كما قال كثير من المفسرين ، ولا أن يكون المراد من حطة العمل الذي يحط الذنوب كما في تفسير المنار نقلا عن محمد عبده ، حيث قال : ان الله لم يكلّفهم بالتلفظ ، إذ لا شيء أيسر على الإنسان منه.

ويلاحظ بأن الله قد كلف عباده بالكلام والتلفظ في الصلاة ، وأعمال الحج ، وفي الأمر بالمعروف ، ورد التحية ، وأداء الشهادة ، بل وبإخراج الحروف من مخارجها في بعض الموارد.

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ). أي انهم أمروا أن يقولوا ما يستحقون به العفو والصفح والثواب ، ولكنهم خالفوا وقالوا ما يستوجبون عليه المؤاخذة والعقاب.

وقد استلفت انتباهي ان بعض المفسرين الكبار ، ومنهم الفيلسوفان : الرازي والملا صدرا ، قد تعرضوا هنا الى مسألة الوقوف على لفظ الادعية والاذكار المأثورة ، وانه هل يجب الجمود عليها حرفيا ، أو يجوز ابدال لفظ بلفظ مع المحافظة على المعنى ، ولم يتعرضوا ، وهم يفسرون قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) الى من اتخذ الدين سلعة للكسب والربح ، مع العلم بأن هؤلاء أمناء على دين الله ، وانهم قد خانوا الأمانة ، وحرّفوا الآيات والروايات ، تماما كما فعل الاسرائيليون.

(فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ). تقدم ان المراد بالرجز العذاب .. وقد سكت الله سبحانه عن نوع العذاب وحقيقته ، ولم يبين لنا : هل هو الطاعون ، كما قال البعض ، أو الثلج كما ذهب آخرون .. وأيضا سكت عن عدد الذين هلكوا بهذا العذاب : هل هم سبعون ألفا ، أو أكثر ، أو أقل؟ وعن أمد العذاب ومدته : هل هي ساعة أو يوم؟ لذلك نسكت نحن عما سكت الله عنه ، ولا نتكلف بيانه كما تكلفه غيرنا اعتمادا عن قول ضعيف ، أو رواية متروكة.

١١٠

واذ استسقى موسى الآة ٦٠ :

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)

اللغة :

الاستسقاء طلب الماء ، والانفجار والانبجاس بمعنى واحد ، لأن الله استعملهما في قصة واحدة ، والمشرب مكان الشرب كالمأكل مكان الأكل ، والمسكن مكان السكن. والعثي قيل معناه مجاوزة الحد في كل شيء ، ثم كثر استعماله في الفساد ، فتغلب على غيره من سائر الأفراد.

الاعراب :

اثنتا عشرة كلمتان نزلتا منزلة الكلمة الواحدة ، أعرب الصدر لمكان الألف رفعا ، والياء جرا ونصبا ، وبني العجز لأنه بمنزلة نون الاثنين ، هكذا قال النحاة ، وعينا تمييز.

المعنى :

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ). لا تأويل في هذه الآية ، فان المراد منها هو نفس المعنى المتبادر الى الفهم من ظاهرها ، وقال الرازي : «أجمع جمهور المفسرين على ان ذلك كان في التيه» أي صحراء سيناء .. ومهما يكن ، فان الله سبحانه بعد أن ظللهم بالغمام ، وأطعمهم من المنّ والسلوى سقاهم الماء أيضا ، فأجرى لهم اثنتي عشرة عينا بقدر عشائرهم ، فاختصت كل عشيرة بعينها حتى لا يقع بينهم التشاجر والتنازع على الماء.

١١١

حول الرأسمالية والاشتراكية :

لقد تم لبني إسرائيل الظل والطعام والشراب بلا كلفة ومشقة ، فلا غني وفقير ، ولا جائع ومتخم ، ولا كادح ومترف ، لا ملكية لوسائل الانتاج ، ولا إجحاف في التوزيع ، ولا من كل حسب طاقته ، ولكل حسب عمله ، لا شيء إطلاقا سوى المساواة في العيش ، دون مقابل من مال أو عمل أو أي شيء آخر (١).

وهذا أول وآخر شعب يسعد بهذا النوع من العيش ، بالاضافة الى الوحدة لغة وثقافة وتاريخا .. وسنثبت ان الله عامل هذا الشعب معاملة خاصة دون الناس أجمعين.

وإذا لم يكن من سبب اقتصادي أو قومي للتشاحن والتطاحن ، ولا للجريمة والفساد فلما ذا أفسدوا وتمردوا على الناصح الأمين موسى بن عمران (ع)؟ وكيف ملّوا حياة التساوي في الغنى ، وقالوا : لن نصبر عليها أبدا ، ونريد أن يستعين بعضنا ببعض ، وقابلوا النعم المتتالية بالكفران والعصيان؟.

وقال الاشتراكيون كلهم ، أو جلهم : ان الرأسمالية امّ الرذائل والشقاء ، والاشتراكية مصدر الفضائل والهناء .. وقال الرأسماليون : المهم التجانس في العقلية ، والصفات الروحية ..

وقال هتلر : لا شيء على الإطلاق الا الجنس الآري.

ولكن أكثر أعداء هتلر كانوا مثله آريين ، وبالتالي أودت نظريته بحياته ، وأذلت شعب ألمانيا ، وأهلكت الملايين من سائر الشعوب ، ودمرت المدن والعواصم ، ومنشآت المدنية والحضارة ..

أما الدول الرأسمالية فقد بلغ التنافس بينها غايته ، ونزاع موسكو وبكين قطع كل أمل في الوفاق والوئام ، ومن قبله النزاع الستاليني التيتوي.

ان في الإنسان قوى غريبة وغامضة قد تجاوزت العد والإحصاء ، أما الظروف

__________________

(١) من الطريف ما جاء في بعض التفاسير ان الطفل الصغير منهم كان يلبس الثوب على مقدار جسمه ، وكلما ازداد الطفل نموا ازداد الثوب تلقائيا طولا وعرضا قدرا بقدر دون زيادة أو نقصان .. وقد يكون هذا ممكنا في ذاته ، ولكن لا دليل عليه.

١١٢

التي تحيط به من الخارج فأكثر وأوفر ، ومن حاول احصاء هذه أو تلك فقد طلب المحال ، ولكل منها أثره وعمله ، والإنسان معها جميعا بين مد وجزر ، فحصر المؤثرات بالمادة وحدها ، تماما كحصرها بالقوى الروحية ، أو بالعرق .. الكل باطل وغير صحيح. أجل ، ان الفقر باعث قوي على الرذيلة والإثم ، وربما كان أقوى البواعث على الإطلاق ، لذا قال علي أمير المؤمنين (ع) : كاد الفقر أن يكون كفرا.

ولكن إذا تم للإنسان ما يحتاج اليه في حياته فلن تتم له السكينة والاستقرار الا إذا آمن بمبادئ انسانية ، يلائم بينها وبين سلوكه ، وركن الى دين قويم يعصمه عن الخطايا والذنوب (١).

شيء من لا شيء :

وتسأل : كيف تدفقت العيون من حجر يحمله الإنسان في يده؟ وهل يكون المحال ممكنا؟ هل يوجد شيء من لا شيء ، أو الكثير من القليل؟ يحفر الإنسان آلاف الأمتار في الأرض ، ومع ذلك لا يخرج الماء إذا لم يكن موجودا في مكان الحفر ، فكيف نبع الماء من حجر لا عين ولا أثر فيه للماء؟.

الجواب : لا تفسير من العلم والطبيعة لهذا إطلاقا ، لا تفسير الا بالمعجز وخوارق العادات ، والا بقوله جلت قدرته : كن فيكون ، تماما كانفلاق البحر ، ووقوف مائه كالجبال ، ونزول المنّ والسلوى من السماء ، وجعل النار بردا وسلاما على ابراهيم ، وولادة عيسى بلا دنس ، واحيائه الموتى ، وخلقه الطير من الطين ، الى غير ذلك .. فمن آمن بالله وقدره حق قدره اقتنع مكتفيا بهذا ، ومن جحد وعاند فلا كلام في الفرع بعد أن أنكر الأصل .. واني على يقين ان الذين يطلبون تفسيرا علميا ودقيقا لكل شيء ، ان هؤلاء قد مر في حياتهم

__________________

(١) في سنة ١٩٣٦ تنازل أدوار الثامن عن عرش الامبراطورية البريطانية التي لم تغب الشمس عن سلطانها آنذاك تنازل عن العرش من أجل امرأة ، اسمها واليس ، تزوجت قبله مرتين وطلقت ، وفضل أن يعيش معها مشردا ، ينتقل من بلد إلى بلد بحثا عن عمل ، ولا حجة أقوى من هذه الحادثة على خطأ من حصر البواعث كلها بالمادة.

١١٣

العديد من الحوادث التي لا يجدون لها تفسيرا في شيء الا في الغيب وارادة الله .. ولكنهم لا يشعرون.

وتجدر الاشارة هنا الى الملا صدرا الفيلسوف العظيم الذي سبق زمانه بمئات السنين ، حيث لا أدوات ومختبرات ، فانه قال فيما قال عند تفسير هذه الآية ما نصه بالحرف الواحد : «ان مادة العناصر قابلة لأن تكون منها صورة غير متناهية على التعاقب ، فيجوز أن يستحيل بعض أجزاء الحجر ماء».

ومحل الشاهد الذي يجب الوقوف عنده هو قوله جازما : «يجوز أن يستحيل بعض أجزاء الحجر ماء». يشير بهذا الى التأكيد على نظرية التطور التي اكتشفها هو واهتدى اليها قبل دارون بثلاثة قرون (١) ، على ان دارون خصص النظرية بالأعضاء العضوية فقط .. أما صدر المتألهين فقد عممها لجميع الكائنات ، حتى الجماد ، كما رأيت من جواز استحالة الحجر الى ماء .. وكم لهذا العظيم من اكتشافات! ولو كان غربيا لما كان انشتين أشهر وأعرف ، ولكن انشتين غربي ، بل يهودي أيضا .. والملا صدرا شرقي ، بل شيعي أيضا.

لقد سبق هذا العظيم الى نظرية التطور بأوسع معانيها ، وزادته هذه النظرية ايمانا على إيمانه بالله واليوم الآخر ، وأضاف بسبب اكتشافها أدلة جديدة على وجود الله لم يسبقه اليها أحد من أرباب الفلسفة الإلهية ، حتى سمي بحق صدر المتألهين ، وجاء برهانا قاطعا على جهل جلادستون والملايين من اتباعه في زعمه : «ان كيان الله كخالق هذا الكون قد انتهى بنظرية التطور». بل العكس هو الصحيح.

واذ قلم يا موسى الآة ٦١ :

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها

__________________

(١) الملا صدرا من عظماء القرن السادس عشر الميلادي ، وكان دارون في أواخر القرن التاسع عشر.

١١٤

قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)).

اللغة :

البقل نبت لا ساق له ، كالنعناع والكراث ، والقثاء بالكسر نوع من الخيار معروف ، والفوم الحنطة ، والأدنى الأقرب ، والمراد به هنا الخسيس من الدناءة ، والمصر البلد الكبير ، وضربت ، أي فرضت.

الاعراب :

يخرج مضارع مجزوم جوابا لفعل الأمر ، وهو ادع ، وذلك مبتدأ وخبره بأنهم كانوا ، ومثله ذلك بما عصوا.

المعنى :

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ). أي قاله أسلافكم لموسى ، وهم في التيه ، حيث سئموا من المواظبة على أكل المنّ والسلوى ، وتشوّفوا إلى عيشهم الأول في مصر.

وليس في هذا الطلب معصية ، فان كل انسان يطلب التنوع في الطعام ، لأنه يفتح الشهوة ، والرغبة في الاستكثار ، والله سبحانه قد أحلّ الطيبات من الرزق لعباده .. وعلى هذا فان الآية لم تسق للذم ، بل للتعجب من تركهم العيش الحاصل عفوا صفوا ، وطلبهم العيش الذي لا يحصل إلا بالكد والجد.

١١٥

(قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ). الباء في هذا المورد تدخل على الأفضل ، تقول : لا تبدل النحاس بالذهب ، ولا يجوز أن تقول : لا تبدل الذهب بالنحاس ، والدليل هذه الآية الكريمة .. ولكن الناس يعكسون. وعلى أية حال فان المهم معرفة المراد ، ووضوح القصد.

(اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ). أي قال موسى لهم ذلك .. والظاهر ان المراد مصر من الأمصار يحقق لهم هذه الأمنية ، لأن سبحانه لم يبين ويعين مصرا خاصا :. وتفسير القرآن الكريم غير التعليلات النحوية التي يصحح بها كلام سيبويه ونفطويه.

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ). كانوا أعزاء مستقلين يأتيهم رزقهم رغدا ، فأبوا إلا الزراعة والصناعة والتجارة ، وكل ذلك يستدعي التنافس والحروب ، وهي تستدعي الفشل وذهاب الريح.

(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ). وبديهة ان قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق ، وكأنّ الله سبحانه أراد بذكر القيد التشنيع بهم ، وان القتل منهم لم يكن عن خطأ واشتباه ، بل عن إصرار وتعمد للباطل والضلال. فلا بدع إذا أساء يهود المدينة الى محمد (ص) .. لأنهم امتداد لذاك الأصل والعرق.

ان الذين آمنوا والذن هادوا الآة ٦٢ :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

اللغة :

المراد ب (هادُوا) اليهود نسبة الى يهوذا أكبر أبناء يعقوب ، وإسرائيل اسم يعقوب بالذات ، وقد تقدم ، والنصارى جمع ، ومفرده المذكر نصران ،

١١٦

والمؤنث نصرانة ، كسكارى جمع لسكران ، وسكرانة ، وعن سيبويه ان المفرد من نصارى لا يستعمل الا مع ياء النسبة ، فيقال : نصراني ونصرانية ، أما المنسوب اليه فهو بلدة الناصرة في أرض فلسطين ، فعن الإمام الرضا (ع) : انما سمي النصارى بهذا الاسم لأن عيسى وامه مريم (ع) من قرية اسمها الناصرة في بلاد الشام .. وكثيرا ما يطلق لفظ الناصري على السيد المسيح (ع) .. وقال صاحب الكشاف : الياء في النصراني والنصرانية للمبالغة ، والأول أقرب.

والصابئون قوم يقرون بالله وبالمعاد وببعض الأنبياء ، ولكنهم يعتقدون بتأثير بعض النجوم في الخير والشر ، والصحة والمرض ، ومنهم طائفة تقيم في العراق الآن ، والصابئة مأخوذ من صبأت النجوم ، أي طلعت ، وأول من عبد الكواكب قوم النمرود الذين أرسل اليهم ابراهيم الخليل (ع) .. فهم أقدم الأديان في التاريخ.

الاعراب :

من من قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بدل بعض من كل من الأصناف الثلاثة ، وهم اليهود والصابئة والنصارى ، وقوله (فلهم أجرهم) مبتدأ وخبر ، والجملة خبر انّ ، ودخلت الفاء على الخبر لمكان الموصول المتضمن لمعنى الشرط ، وخوف مبتدأ وخبره عليهم ، وأهملت (لا) عن العمل لمكان التكرار.

المعنى :

في معنى هذه الآية أقوال أنهاها بعض المفسرين الى ثمانية ، وأصحها قولان :

الأول : ان الغرض من الآية أن يبين سبحانه انه لا يهتم بالأسماء إطلاقا ، سواء أكانت من نوع مسلم ، أو مؤمن ، أو يهودي ، أو صابئي ، أو نصراني ، لأن الألفاظ بما هي لا تضر ولا تنفع ، ولا تضع ولا ترفع ، وانما المهم عند

١١٧

الله العقيدة الصحيحة ، والعمل الصالح ، فمفاد الآية ما جاء في الأخبار من ان الله لا ينظر الى الصور ، وانما ينظر الى الأعمال.

وليس من شك ان هذا المعنى صحيح في نفسه ، ولكن اللفظ لا يعطيه صراحة .. وقد دأب البعض أن يتملق الى أهل الأديان الأخرى مستدلا بهذه الآية على انه لا فرق بين المسلمين وغيرهم عند الله ، وهو يعلم علم اليقين بأنهم ينكرون نبوة محمد (ص). بل ويفترون عليه الأكاذيب ، وينسبون اليه ما يهتز منه العرش.

المعنى الثاني : ان أفرادا لم يدركوا محمدا (ص) ، ومع ذلك قد اهتدوا بصفاء فطرتهم الى الايمان بالله ، وتركوا المحرمات ، كالكذب وشرب الخمر والزنا ، ومن هؤلاء قس بن ساعدة ، وزيد بن عمرو ، وورقة بن نوفل ، وغيرهم ، ويسمون الحنيفيين ، وكأنّ سائلا يسأل عن حكم هؤلاء عند الله. فأجابت الآية بأن هؤلاء لا بأس عليهم ، وكذلك اليهود والصابئة والنصارى الذين لم يدركوا محمدا (ص) ، كي يأخذوا عنه التفاصيل ، انهم جميعا لا خوف عليهم ، ما داموا على الإيمان بالله واليوم الآخر ، والعمل الصالح .. ونحن نميل الى هذا المعنى.

وتسأل : ان المعنى الظاهر من هذه الآية أشبه بتحصيل الحاصل ، لأن قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بعد قوله : ان الذين آمنوا ، يجعل الكلام هكذا : ان الذين آمنوا من آمن منهم ، وهذا تماما كقول القائل : ان المسلمين من أسلم منهم ، والقائمين من قام منهم .. فما هو الجواب؟

وجوابه : ان هذا التساؤل انما يتجه إذا أعربنا من من قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) .. إذا أعربناها مبتدأ. أما إذا جعلناها بدلا من الأصناف الثلاثة فقط ، أعني اليهود والصابئة والنصارى فيسقط التساؤل من أساسه ، حيث يكون المعنى على هذا : ان الذين آمنوا بالله من غير اليهود والصابئة والنصارى لا خوف عليهم ، وكذلك من آمن من هذه الأصناف الثلاثة لا خوف عليهم ، فحكم الجميع واحد.

١١٨

واخذ اخذنا ميثاقكم الآة ٦٣ ـ ٦٦ :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))

اللغة :

المراد بالميثاق هنا العهد بأن يلتزموا ويعملوا بأحكام التوراة ، وبالقوة العزم والجد ، والطور الجبل الذي ناجى الله عليه موسى (ع) ، والخاسئ المطرود ، والنكال الإرهاب والعقاب.

الإعراب :

خاسئين صفة للقردة ، وقيل خبر بعد خبر لكونوا ، وقيل حال ، واللام في لقد هي لام التوكيد ، وتسمى أيضا لام الابتداء والضمير ، وهو الهاء من جعلناها عائد إلى الأمة الممسوخة ، لأن التقدير كونوا أمة ، ونكالا مفعول ثان لجعل.

المعنى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ). أي أخذنا الميثاق من أسلافكم أن يعملوا بالتوراة ، ولما نقضوه رفع الله الجبل فوقهم ، وقال : اعملوا بما فيها ، وإلا أسقطت هذا

١١٩

الجبل عليكم ، فأذعنوا وتابوا ، فاستقر الجبل في مكانه ، ولكنهم عادوا الى التمرد والعصيان.

وإذا كان هذا شأن اليهود في عهد الكليم (ع) ، وقد شاهدوا عيانا ما شاهدوا من الخوارق ، ولا حجة أقوى وأبلغ من العيان ، فلا عجب ـ اذن ـ من يهود المدينة إذا أنكروا نبوة محمد (ص) ، ونقضوا العهد والميثاق المبرم بينه وبينهم ، انظر فقرة «محمد ويهود المدينة» عند تفسير آية : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي).

(فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ). أي لو لا لطف الله وتفضله بامهاله لكم لحل بكم العذاب في الدنيا قبل الآخرة ، قال الملا صدرا :

«ان هذه الآية من أرجا الآيات ، وأقواها دلالة على رحمته وتجاوزه عن سيئات عباده العاصين ، لأن قوله : فلو لا فضل الله عليكم بعد ان عدد قبائحهم من عبادة العجل ، وكفران النعيم ، وجحود الأنبياء وقتلهم ، ونقض الميثاق المؤكد ، وغير ذلك يدل على كمال رأفته وعفوه».

ثم نقل الملا صدرا عن القفال ما يتلخص بأن الله سبحانه بعد أن رفع عنهم عذاب الجبل حرفوا التوراة ، وجاهروا بالمعاصي ، وخالفوا موسى ، ولقي منهم كل أذى ، وكان الله سبحانه يجازيهم في الدنيا ، ليعتبروا ، حتى انه خسف الأرض ببعضهم ، وأحرق بالنار آخرين ، وعوقبوا بالطاعون .. كل هذا ، وغير هذا منصوص عليه في توراتهم التي يقرون بها ، والتي هي الآن في متناول كل طالب وراغب .. ثم فعل الخلف ما فعل السلف من الجرائم ، فكفروا السيد المسيح (ع) ، وصمموا على قتله .. فغير عجيب انكارهم ما جاء به محمد (ص) ، وجحودهم لحقه.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ). لقد أمرهم الله سبحانه بترك العمل يوم السبت ، وحرم عليهم صيد الأسماك فيه ، فكانت الحيتان تتجمع في هذا اليوم آمنة مطمئنة ، ولكن ثلثة من اليهود احتالوا وتأوّلوا .. حيث حبسوا الحيتان يوم السبت وحصروها في مكان لا تستطيع تجاوزه ، وأخذوها يوم الأحد ، وقالوا : ان الله نهى عن صيد الحيتان في هذا اليوم ، ولم ينه عن حبسها ، وفرق بعيد بين الحبس وبين الصيد.

١٢٠