تراثنا ـ العدد [ 21 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 21 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٤

وسل عن مزايا فضله أم معبد

وشاة لها عجفاء جهداء درت (٣٨)

وعوسجة قد أثمرت حين زارها

فأضحت لها زهو كأعظم دوحة (٣٩)

وسابحة ساخت قوائمها فمذ

دعا بعد ما غاصت إلى الأرض ردت (٤٠)

__________________

(٣٨) قالت أم معبد لزوجها أبي معبد لما رأى اللبن وسألها : من أين ...؟ قالت : لا الله إلا أنه مر بنا رجل مبارك ، من حاله كذا وكذا.

قال : صفيه لي.

قالت : رأيت رجلا ظاهر الوضاءة ، أبلج الوجه ، حسن الخلق ، لم تعبه ثجلة ، ولم تزر به صعلة ، وسيما قسيما ، في عينيه دعج ، وفي أشفاره وطف ، وفي صوته صحل ، وفي عنقه سطع ، وفي لحيته كثاثة ، أزخ أقرن. إن صمت فعليه الوقار ، وإن تكلم سما وعلاه البهاء. أجل الناس وأبهاه من بعيد ، وأحلاه وأحسنه من قريب. حلو المنطق ، فصل لا نزر ولا هذر ، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن.

ربعة لا يائس من طول ، ولا تقتحمه عين من قصر ، غصن بين غصنين ، فهو أنضر الثلاثة منظرا ، وأحسنهم قدرا.

له رفقاء يحفونه ، إن قال أنصتوا لقوله ، وإن أمر تبادروا إلى أمره. محفود محشود ، لا عابس ولا معتد.

قال أبو معبد : هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة ، لقد هممت أن أصحبه ، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.

الفائق ١ : ٩٤ فما بعد.

الخصائص الكبرى ١ : ١٨٨.

وحديث الشاة فيهما أيضا.

(٣٩) ربيع الأبرار ١ : ٢٨٥.

(٤٠) الخصائص الكبرى ١ : ١٨٦ والسابحة : هي فرس سراقة بن مالك لما لحق النبي صلى الله عليه وآله في الهجرة.

٣٨١

نعم ، وذراع الشاة باح بسره

وأظهر ما يخفون من صنع عبدة (٤١)

وعن فضله ذئب الفلاة محدث

تكلم للراعي بأفصح لهجة (٤٢)

وأشبع من زاد قليل جماعة

كثيرين في أيامه غير مرة (٤٣)

وقد خفيت في الرمل آثار مشيه

على أنها في الصخر غير خفية (٤٤)

ولما أن استسقى السحائب أمطرت

وأشفت على تخريب دور المدينة

فقال : حوالينا ، فدارت ولم تصب

من الهاطل المنهل دارا بقطرة (٤٥)

وإيوان كسرى ارتج يوم ولادة

وقد نكست أعلامه بعد عزة (٤٦)

وكرسيه أضحى الغداة منكسا

فدل على تغيير ملك وذلة

__________________

(٤١) الخصائص الكبرى ١ : ٢٥٦ فما بعد.

(٤٢) الخصائص الكبرى ١ : ٦١ فما بعد.

(٤٣) الخصائص الكبرى ٢ : ٤٥ ـ ٥٣ فما بعد ، باب معجزاته (صلى الله عليه وآله وسلم) في تكثير الطعام.

(٤٤) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٢٦.

(٤٥) الخصائص الكبرى ٢ : ١٦٢.

(٤٦) الخصائص الكبرى ١ : ٥١.

٣٨٢

وقد خمدت إذ ذاك نيران فارس

وساوة سيئت والبحيرة جفت (٤٧)

وبشرت الكهان من قبل بعثه

به (٤٨) وعن السمع الشياطين صدت (٤٩)

وقد ظللته حيث سار غمامة

تقيه فما أذاه حر الهجيرة

رآه (بحيرا) سائرا تحت ظلها

وشاهد أعلام الهدى والنبوة

فحدث ذاك الركب جهرا وعمه

أبا طالب عنه بكل عجيبة (٥٠)

وفجر بئرا كان قد غاض ماؤها

وأذهب عنه ما به من ملوحة (٥١)

وأخبر بالغيب الخفي فكم لقد

أبان جهارا من مصون سريره (٥٢)

__________________

(٤٧) الخصائص الكبرى ١ : ٥١.

(٤٨) الخصائص الكبرى ١ : ٣٣ باب أخبار الكهان.

(٤٩) تفاسير القرآن الكريم ، سورة الجن ، آية : ٩.

(٥٠) الخصائص الكبرى ١ : ٨٣ فما بعد.

(٥١) الخصائص الكبرى ٢ : ٤٥.

(٥٢) إخباره (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالمغيبات مما شاع واشتهر ، وقد جمع السيوطي في الخصائص جملة كبيرة من أخبار هذا الموضوع ، في عدة أبواب ، أنظرها في ج ٢ : ٩٩ فما بعد.

٣٨٣

وإسلام عباس بذلك شاهد

وكم مثلها قد شاع بين البرية (٥٣)

وأما مزاياه الحسان وخلقه العظيم

فأمر جل عن كل مدحة

ومن لي بإحصائي مناقب مجده

والسنة الأقلام عن ذاك كلت

شفاعته يوم القيامة جنة

من النار للعاصي وأية جنة

له الحوض يوم الحشر يروى بكأسه

العطاش فلا يخشون من حر حرقة

له كل مجد في البرايا وسؤدد

وقد جاز فيما حازه كل رتبة

وفضله رب العباد على الورى

من الرسل والأملاك أي فضيلة

وأسرى به فوق السماوات كلها

إلى العرش ليلا من جوانب مكة

وكان إماما في السماء وخلفه

ملائكة الرحمن والرسل صلت

وقال له جبريل : قد جزت موضعا

إلى وطئه أقدامنا ما تخطت

__________________

(٥٣) الخصائص الكبرى ١ : ٢٠٧.

٣٨٤

وجاوز حجب النور فردا ولم يكن

ليسعى سواه بين تلك الأشعة

وعاد إلى مثواه من بطن مكة

وكان سراه والرجوع بليلة

وقد كان نورا لاح في وجه آدم

أبر على شمس الضحى إذ تبدت

فخرت له الأملاك في الحال سجدا

لسر بدا إذ ذاك منه وهيبة (٥٤)

عليه من الرحمن أزكى صلاته

وأكمل تسليم وأسنى تحية

وعترته الغر الكرام وآله ال

أولى جمعوا في الفضل أعلى المزية

لقد شاركوه في الكمال وفاتهم

على ما حوى من فضله بالنبوة

مودتهم فرض بنص أتى به

صريحا خلا عن كل شك وشبهة (٥٥)

__________________

(٥٤) ينابيع المودة : ٤٨٥.

(٥٥) أنظر تفاسير القرآن الكريم في تفسير قوله تعالى (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي).

وانظر : البخاري ٦ : ١٦٢.

٣٨٥

وأذهب عنهم كل رجس مدنس

وطهرهم من كل عيب ووصمة (٥٦)

وقد أودعوا علم النبي محمد

ففاقوا البرايا بالعلوم الخفية (٥٧)

فهم خيرة الرحمن من سائر الورى

وحجته في كل إنس وجنة

وهم إن عرا جدب بحور سماحة ،

وهم إن دجا خطب بدور دجنة (٥٨)

بهم نصر الإسلام حتى تمهدت

مسالكه من بعد ضعف وذلة

فكم أحجم الأبطال خوفا من الردى

فأقدم ليث الحرب يسطو بنجدة

أخو المصطفى (٥٩) مولى الأنام بنصه (٦٠)

علي ، علي ، القدر بين البرية

__________________

(٥٦) إشارة إلى قوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).

(٥٧) ينابيع المودة.

(٥٨) منافب علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، للخوارزمي : ٣٤.

(٥٩) تاريخ دمشق ١ : ١١١ ج ١٥٠ ، وذخائر العقبى : ٧٥ ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٩ : ١٦٩ من طريق أحمد في المسند والمناقب ، وغيرهم كثيرون.

(٦٠) هذا هو حديث الغدير المعروف ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ...» وهو أشهر من أن يخرج فقد كنت فيه ابن جرير الطبري مجلدين في رواته ، وكتب الشيخ الأميني المجلد الأول من كتابه «الغدير» لطرقه ورواته ، وخصص له صاحب العبقات مجلدين ضخمين وقد تجاوز رواته حد التواتر.

٣٨٦

وسل يوم بدر ثم أحد وخيبر

ويوم حنين والكتائب فرت

وسل وقعة الأحزاب من صال فيهم

بعزم لشمل المشركين مشتت

فكم جندل الأبطال في نصر أحمد

وخاض بحار الحرب حتى تجلت

فسائر أصناف الخلائق بالهدى

أقرت لخوف البأس منه ورهبة

إمامتهم أقوى دليلا وحجة

بفرط وضوح واعتماد وكثرة

أليس كتاب واحد عندنا أتى

بألفي دليل للإمامة مثبت

وأصحابه الغر الميامين من لهم

به شرف باد لعين البصيرة

نجوم أطافت حول بدر جماله

لأعينهم قد كان أجمل نزهة

وكم نزهوا أسماعهم وقلوبهم

بأقواله في روضة أي روضة

فطوبى لهم فازوا بمجد مؤثل

وسعد به حازوا لأرفع رتبة

إليك رسول الله مني مدحة

بدر معاليك العوالي تحلت

٣٨٧

وإني وإن بالغت جهدي لعاجز

عن البعض من أدنى المزايا السنية

ومدحيهم كم حار منتخب له

متى ينف بيتا منه يندم ويبلت (٦١)

وأنت رجائي يوم حشري ومبعثي

ومن كل ما يخشى غدا أنت جنتي

فكن منقذي من حر نار تأججت

لمثلي من أهل الذنوب أعدت

فإن رجائي للشفاعة منك لي

وحب بنيك الأكرمين وسيلتي

تقاصر عن حبي لكم وهواكم

وإخلاص قلبي في هوى ومحبة

هوى قيس لبنى مع جميل بثينة

ومجنون ليلى مع كثير عزة

فصلى عليك الله أزكى صلاته

بكل مساء والأصيل وغدوة

* * *

__________________

(٦١) يبلت : ينقطع حياء.

٣٨٨

الإعلام

بحقيقة إسلام أمير المؤمنين

عليه‌السلام

للعلامة الكراجكي

علي موسي الكعبي

مقدمة :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ... والصلاة والسلام على سيد الأنام ومصباح الظلام أبي القاسم محمد وعلى آله الهداة الميامين وصحبه المتقين.

وبعد :

طالعنا في العدد (١٩) من هذه المجلة الغراء ـ تراثنا ـ الرسالة الموسومة بـ «القول المبين عن وجوب مسح الرجلين» والمقتطعة من كتاب «كنز الفوائد» للعلامة أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي رضوان الله تعالى عليه.

وقد أبنا القول هناك في ترجمته وبيان مشايخه وتلامذته وكتبه ، كما أشرنا إلى منهجنا في تحقيق الرسالة سالفة الذكر (١) ، ونحن هنا بصدد رسالة أخرى ـ أو كتاب آخر ـ من «كنز الفوائد» ارتأينا تحقيقها ، وهي : الإعلام بحقيقة إسلام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، معتمدين في ذلك على نسختين :

١ ـ النسخة الخطية المحفوظة في المكتبة الرضوية بمشهد المقدسة ، برقم ٢٢٦ مسطرتها

__________________

(١) تراثنا ، العدد ١٩ ، السنة الخامسة ، ص ١٨٥.

٣٨٩

١٩ سطرا ، سنة النسخ ٦٧٧ ه ـ ق ، وهي المعبر عنها بنسخة الأصل.

٢ ـ الكتاب المطبوع على الحجر ـ من منشورات مكتبة المصطفوي ـ قم المشرفة ، ولم نعتمد على هذا الكتاب إلا في موارد نادرة.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

علي موسى الكعبي

* * *

٣٩٠

٣٩١

٣٩٢

ومما عملته لبعض الإخوان كتاب

(الإعلام بحقيقة إسلام أمير المؤمنين عليه‌السلام)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ذي الجود والاكرام ، الهادي إلى شريعة الإسلام ، وصلاته على خيرته من جميع الأنام ، سيدنا محمد رسوله وأهل بيته الطهرة من الآثام ، وسلام الله على أول السابقين إسلاما وإيمانا ، وأخلص المصدقين إقرارا وإذعانا ، وأنصح الناصرين سرا وإعلانا ، وأوضح العالمين حجة وبرهانا ، الذي كان سبقه إلى الدخول في الإسلام وكونه بعد الرسول الحجة على الأنام مشابها لخلق آدم صلى الله عليه في وجود الخليفة قبل المستخلف عليه ، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ذي الفضائل والمناقب ، ولعنة الله على باغضيه ، ومنكري فضله وحاسديه.

هذا مختصر جمعت لإخواني فيه من الكلام في إسلام أمير المؤمنين صلى الله عليه ما يجب الانتهاء إليه ، والاعتماد في المسألة عليه.

فصل

يجب أن يقدم في تصحيح القول بأن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أسلم.

اعلموا ـ أيدكم الله ـ أن المخالفين لشدة عداوتهم لأمير المؤمنين ، ألقوا شبهة موهوا بها على المستضعفين ، وجعلوها طريقا يسلكها من يروم نفي الإسلام عن أمير المؤمنين صلى الله عليه.

وذلك أنهم قالوا : إنما يصح الإسلام ممن كان كافرا ، فأقا من لم يك قط ذا كفر ولا ضلال فلا يجوز أن يقال : إنه أسلم.

وإذا كان علي بن أبي طالب عليه‌السلام لم يكفر قط فلا يصح القول بأنه

٣٩٣

أسلم.

وهذه لعنة (١) من النصاب ، لا تخفى على أولي الألباب ، يتسببون (٢) بها إلى القدح في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والراحة من أن يسمعوا القول بأنه أسلم قبل سائر الناس.

وقد تعدتهم هذه الشبهة فصارت في مستضعفي الشيعة ، ومن لا خبرة له بالنظر والأدلة ، حتى أني رأيت جماعة منهم يقولون هذا المقال ، ويستعظمون القول بأن أمير المؤمنين عليه‌السلام أسلم أتم استعظام!!

وقد نبهتهم على أن هذه الشبهة مدسوسة عليهم ، وأن أعداءهم ألقوها بينهم ، فمنهم من قبل ما أقول ، ومنهم من أصر على ما يقول.

وقد كنت اجتمعت بأحد الناصرين لهذه الشبهة من الشيعة ، فقلت له : أتقول : إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام مسلم؟

فقال : لا يسعني غير ذلك.

فقلت له : أفتقول : إنه يكون مسلما من لم يسلم؟!!

فقال : إن قلت بأنه أسلم لزمني الاقرار بأنه قبل إسلامه لم يكن مسلما ، ولكني أقول : إنه ولد مسلما مؤمنا.

فقلت : هذا كقولك : إنه ولد حيا وقادرا وهو يؤديك إلى أن الله تعالى خلق فيه الإسلام والإيمان كما خلق فيه القدرة والحياة ، ويدخل بك في مذهب أهل الجبر ، ويبطل عليك القول بفضيلة أمير المؤمنين عليه‌السلام في الإسلام ، وما يستحق عليه من الأجر ، فاختر لنفسك :

إما القول : بأن إسلامه وإيهانه فعل لله سبحانه ، وأنه ولد مسلما مؤمنا ، وإن ساقك إلى ما ذكرناه.

__________________

(١) كذا ، وفي الحجرية ، (ملعنة) ، ولعلها تصحيف : لعبة

(٢) في الحجرية : يتشبثون.

٣٩٤

وإما القول : بأن الله تعالى أوجده حيا قادرا ، ثم آتاه عقلا وكلفه بعد هذا ، فأطاع وفعل ما أمر به مما يستحق جزيل الأجر على فعله ، فإسلامه وإيمانه من أفعاله الواقعة بحسب قصده وإيثاره ، وإن أداك في وجوده قبل فعله إلى ما وصفنا.

فحيره هذا الكلام ، ولم يجد فيه حيلة من جواب!

ومما يجب أن يكلم به في هذه المسألة أهل الخلاف أن يقال لهم : لم زعمتم أنه لم يسلم إلا من كان كافرا؟!

فإن قالوا : لأن من صح منه وقوع الإسلام فهو قبله عار منه ، وإذا عري منه كان على ضده ، وضده الكفر.

قيل لهم : لم زعمتم أنه إذا عري منه كان على ضده؟! وما أنكرتم من أن يخلو منهما فلا يكون على أحدهما؟

فإن قالوا : إن ترك الدخول في الإسلام هو ضده ، لأنه لا يصح اجتماع الترك والدخول ، فمتى كان تاركا كان كافرا لأن معه الضد.

قيل لهم : إنما يلزم ما ذكرتم متى وجدت شريعة الإسلام ، ولزم العمل بها ، وعلم العبد وجوبها عليه بعد وجودها ، فأما إذا لم يكن نزل بها الوحي ، ولا لزم المكلف منها أمر ولا نهي ، فإلزامكم التكفير جهل وغي.

فإن قالوا : قد سمعناكم تقولون : إن الوحي لما نزل على النبي صلى الله عليه وآله بتبليغ الإسلام دعا إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام فلم يجبه عند الدعاء ، وقال له : «أجلني الليلة» (٣) وتعدون هذا له فضيلة ، وفيه أنه قد ترك الدخول في الإسلام بعد وجوده!!

قلنا : هو كذلك ، لكنه قبل علمه بوجوبه ، وهذه المدة التي سأل فيها الأنظار هي زمان مهلة النظر التي أباحها الله تعالى للمستدل ، ولو مات فيها العبد قبل أن يعتقد الحق لم يكن على غلط ، وهكذا رأيناكم تفسرون قول إبراهيم عليه‌السلام لما

__________________

(٣) الفصول المختارة : ٢٢٧.

٣٩٥

رأى كوكبا ، قال : هذا ربي ، فلما أفل قال : لا أحب الآفلين (٤) ، إلى تمام قصته عليه السلام ، وقوله : إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (٥).

وتقولون : إن هذا منه كان استدلالا ، وهو في زمان مهلة النظر التي وقع منه عقيبها العلم بالحق (٦).

فإن قالوا : فما تقولون في أمير المؤمنين عليه‌السلام قبل الإسلام ، وهل كان على شئ من الاعتقادات؟

قيل لهم : الذي نقوله فيه : إنه كان في صغره عاقلا مميزا ، وكان في الاعتقاد على مثل ما كان عليه رسولي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الإسلام ، من استعمال عقله والمعرفة بالله تعالى وحده ، وإن ذلك حصل من تنبيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله له عليه ، وتحريك خاطره إليه ، وحصل للرسول من ألطاف الله تعالى التي حركت خواطره إلى الإسلام والاعتبار ، ولم يكن منهما من سجد لوثن ولا دان بشرع متقدم.

فأما الأمور الشرعية فلم تكن حاصلة لهما ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله لزم أمير المؤمنين عليه‌السلام الاقرار به والتصديق له وأخذ المشروع منه.

وإنما قال له : «أجلني الليلة» ليعتبر فيقع له العلم واليقين مع اعتقاد التصديق لرسول رب العالمين ، فلما ثبت له ذلك أقر بالشهادتين مجددا للاقرار بالله سبحانه ، وشاهدا ببعثة رسول الله صلى عليه وآله.

فإن قالوا : فأنتم إذن تقولون : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أسلم ، وهذا أعظم من الأول.

قيل لهم : إنما العظيم في العقول هو الانصراف عن هذا القول ، فإن لم تفهموا

__________________

(٤) تضمين من سورة الأنعام ٦ : ٧٦.

(٥) تضمين من سورة الأنعام ٦ : ٧٨ ، ٧٩.

(٦) أنظر ، الجامع لأحكام القرآن ٧ : ٢٥ و ٢٦ ، التفسير الكبير ـ للفخر الرازي ـ ١٣ : ٥٢.

٣٩٦

فيه حجة العقل فما تصنعون في دليل السمع ، وقد قال الله عزوجل لنبيه عليه‌السلام : (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين) (٧).

وقوله سبحانه : (قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين) (٨).

وقوله سبحانه : (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) (٩).

ونظير ذلك كثير في القرآن ، فكيف يصح هذا الإسلام من الرسول ولم يكن قط كافرا ، وهل بعد هذا البيان شك يعترض عاقلا؟!

ثم يقال لهم : إذا كان لا يسلم إلا من كان كافرا ، فما تقولون في إسلام إبراهيم الخليل صلى الله عليه ولم يكن قط كافرا ولا عبد وثنا حيث قال له ربه : أسلم ، قال : أسلمت لرب العالمين ، ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (١٠).

فقد تبين لكم ـ إيها الأخوان ، ثبتكم الله على الإيمان ـ ما تضمنه هذا الفصل من البيان عن صحة إسلام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وأنا أتكلم بعد هذا على النصاب الذين قالوا : إنه صلى الله عليه قد أسلم ، ولكنه لم يكن السابق الأول ، وزعمهم أن المتقدم على جميع الناس أبو بكر.

* * *

__________________

(٧) الأنعام ٦ : ١٤.

(٨) الأنعام ٦ : ٧١.

(٩) آل عمران ٣ : ٢٠.

(١٠) تضمين من سورة البقرة ٢ : ١٣١ و ١٣٢.

٣٩٧

فصل من البيان

عن أن أمير المؤمنين عليه‌السلام أول بشر سبق إلى الإسلام بعد خديجة عليها‌السلام.

اعلموا أن أهل النصب والخلاف قد حملتهم العصبية والعناد على أن ادعوا تقدم إسلام أبي بكر على سائر الناس.

وإذا هم عرجوا عن طريق المكابرة ، واطلعوا في السير الطاهرة ، والأخبار المتواترة ، والآثار المتضافرة (١١) ، والأشعار السائرة ، وأقوال أمير المؤمنين عليه‌السلام الظاهرة.

وجدوا جميع ذلك ناطقا بخلاف ما يزعمون ، شاهدا بكذبهم فيما يدعون ، قاضيا بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسبق إلى الإسلام وأنه لم يتقدمه بشر من الأمة بأسرها غير خديجة بنت خويلد رضي‌الله‌عنها (١٢).

وقد روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث يوم الاثنين وفيه أسلمت خديجة ، وأن أمير المؤمنين عليه‌السلام أسلم يوم الثلاثاء (١٣).

وروى أصحاب الحديث عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كان علي يألف النبي عليه‌السلام ، فأتاه فوجده وخديجة يصليان ، قال ابن عباس : وعلي يومئذ ابن عشر حجج ، فقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما هذا؟».

قال : «يا علي ، هذا دين الله الذي ارتضاه لنفسه ، وبعث به رسله ، أدعو إلى الله وحده لا شريك له».

فقال علي عليه‌السلام : «هذا شئ لم أسمع به».

قال : «صدقت يا علي».

__________________

(١١) في الأصل : المتناظرة ، وفي الحجرية : المتناصرة ، وما أثبتناه من هامشها.

(١٢) السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ١ : ٢٦٢.

(١٣) سنن الترمذي ٥ : ٦٤٠ / ٣٧٢٨ ، تأريخ الطبري ٢ : ٣١٠ / ٠ ١١٦ ، الكامل في التأريخ ٢ : ٥٧.

٣٩٨

فمكث علي تلك الليلة مفكرا ، فلما أصبح أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له : «لم أزل البارحة مفكرا فيما قلت لي ، فعرفت الحق والصدق في قولك ، وأنا أشهد أن لا إلة إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك رسول الله» (١٤).

وأخبرني شيخنا المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي‌الله‌عنه إجازة ، قال : أخبرني أبو الجيش المظفر بن محمد البلخي ، قال : أخبرنا أبو بكر محمد ابن أحمد بن أبي الثلج ، قال : حدثني أبو الحسن أحمد بن القاسم البرتي (١٥) ، قال : حدثني عبد الرحمن بن صالح الأزدي ، قال : حدثنا سعيد بن خثيم ، قال : حدثنا (١٦) أسد ابن عبده (١٧) ، عن يحيى بن عفيف ، عن أبيه ، قال : كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنه بمكة قبل أن يظهر أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجاء شاب فنظر إلى السماء حين تحلقت (١٨) الشمس ثم استقبل الكعبة فقام يصلي ، ثم جاء غلام فقام عن يمينه ، ثم جاءت امرأة فقامت خلفهما ، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة ، ثم رفع الشاب فرفعا ، ثم سجد الشاب فسجدا ، فقلت. يا عباس ، أمر عظيم!

فقال العباس : أمر عظيم ، أتدري من هذا الشاب؟ هذا محمد بن عبد الله بن

__________________

(١٤) مناقب الخوارزمي : ١٧ ، أسد الغابة ٤ : ١٦.

(١٥) في الأصل : البرقي ، وهو تصحيف : البرتي ، كذا ورد في نسخة الإرشاد المخطوطة في مكتبة آية الله العظمى المرعشي برقم ١١٤٤ ، حيث ورد في هامشها : برت : قرية بالعراق علي القاطول خربة انتهى ، وقد ذكرها السمعاني وياقوت ونسب إليها الأخير جماعة منهم أحمد بن القاسم البرتي.

أنظر : الأنساب ٢ : ١٢٧ ، معجم البلدان ١ : ٣٧٢ ، تأريخ بغداد ٤ : ٣٥٠ / ٢١٩١.

(١٦) أثبتناه من إرشاد المفيد ، إذ أن البرتي لا يروي عن أسد بن عبد ه ، بل إن سعيد بن خثيم يروي عن أسد بن عبد ه ، أو عبد الله.

أنظر : تهذيب التهذيب ١ : ٢٢٨ / ٤٩٣ ، تهذيب الكمال ٢ : ٥٠٤ / ٣٩٩ ، الثقات ٦ : ٨٦ ، ميزان الاعتدال ١ : ٢٠٦ / ٨١٢.

(١٧) كذا في الأصل ، وكذلك في ثقات ابن حبان ، وفي الحجرية : عبيده وفي تهذيب التهذيب والتأريخ الكبير : أسد ابن عبد الله.

أنظر : تهذيب التهذيب ١ : ٢٢٨ / ٤٩٣ ، التأريخ الكبير ٢ : ٥٠ / ١٦٤٨ الثقات ٦ : ٨٦.

(١٨) تحلقت : ارتفعت «تاج العروس ـ حلق ـ ٦ : ٣٢٢».

٣٩٩

عبد المطلب ابن أخي ، أتدري من هذا الغلام؟ هذا علي بن أبي طالب ابن أخي ، أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد.

إن ابن أخي هذا حدثني أن ربه رب السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه ، ولا ـ والله ـ ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة (١٩).

وحدثنا الشيخ الفقيه أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن شاذان القمي رضي الله عنه بمكة في المسجد الحرام ، قال : حدثني أحمد بن محمد بن عمران ، قال : حدثنا الحسن بن محمد العلوي (٢٠) ، قال : حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر عن (٢١) يحيى بن أبي كثير ، عن أبيه ، قال : أخبرني أبو هارون (٢٢) العبدي ، قال : حدثني جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : «علي بن أبي طالب أقدم أمتي سلما ، وأكثرهم علما ، وأصحهم دينا ، وأكثرهم يقينا ، وأكملهم حلما ، وأسمحهم كفا ، وأشجعهم قلبا ، وهو الإمام والخليفة بعدي» (٢٣).

وجاء في الحديث عن أبي ذر رحمة الله عليه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : «علي أول من آمن بي وصدقني» (٢٤).

وعن أنس بن مالك أنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إن أول هذه الأمة ورودا علي أولها إسلاما ، وإن علي بن أبي طالب أولها إسلاما».

__________________

(١٩) إرشاد المفيد : ٢٠ ، مسند أحمد ١ : ٢٠٩ نحوه ، المستدرك علي الصحيحين ٣ : ١٨٣ مصباح الأنوار : ٧٥ ، الإستيعاب ٣ : ٣٢ ، مناقب الخوارزمي : ٢٠ ، كفاية الطالب : ١٢٨ ، تأريخ الطبري ٢ : ٣١١ / ١١٦١ ، الكامل في التأريخ ٢ : ٥٧.

(٢٠) في مناقب ابن شاذان : العسكري.

(٢١) في الأصل : بن ، وهو تصحيف : عن ، لأن معمر بن راشد الأزدي يروي عن يحيى بن أبي كثير وروى عنه عبد الرزاق.

أنظر : تهذيب التهذيب ١٠ : ٢١٨ / ٤٤١ ، ١١ : ٢٣٥ / ٤٤٠.

(٢٢) في الأصل : أبو هريره وما أثبتناه من مناقب ابن شاذان ، وأبو هارون هو عمار بن جوين العبدي.

أنظر : سير أعلام النبلاء ١٥ : ٢٥٣ ، ١٤ : ٥٥٧ ، تقريب التهذيب ٢ : ٤٩ / ٤١٠.

(٢٣) مائة منقبة : ٧٦ ، أمالي الصدوق ١٦ / ٦ ، إثبات الهداة ٢ : ٤٩ / ٢١٣ ، مسند أحمد ٥ : ٢٦ نحوه.

(٢٤) فضائل الخمسة ١ : ٢٢٨ ، الرياض النضرة ٣ : ١١٠.

٤٠٠