الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة العارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠

(١١)

النبيّ يمهّد للإمام : ويلتحق بالرفيق الأعلى

تتابعت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد عودته من حجة الوداع موجاتٌ من الألم والصداع ، يصحب ذلك شيء من الحمى ، فيستولي عليه الضعف والانهيار الجسدي ، وكان لبقايا السمّ المبيت له أثر من ذلك أيمّا أثر؛ وفجأة يجد نفسه قد ثقل بالمرض ، وانتابته العلل خفيفها وثقيلها حتى أيقن بالنهاية ودنو الأجل ، وكان الوحي به رفيقاً يخيّره عن الله بين البقاء في الحياة أو الالتحاق بالرفيق الأعلى ، فيختار الثانية زهداً بالحياة الفانية وقد استجيب له في ذلك

( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) (١)

فقام في أمته يذكرهم الوحدة ، ويحذرهم الفتنة والخلاف ، ويدعوهم إلى التمسك بالكتاب والعترة ، وهو فيما بين ذلك يؤكد لهم منزلة علي العليا ، ولم ينس أن يمهد له الأمور فيما يبدو من مجريات الأحداث ، فعقد لأسامة بن زيد بن زيد بن حارثة الأمرة على المسلمين ، وندبه للخروج نحو تخوم البلقاء من أرض فلسطين ، حيث استشهد أبوه في مؤتة ، وقال له : « أغزو باسم الله في سبيل الله ، فقاتل من كفر بالله ». فتهيأ لذلك أسامة وعسكر بالجرف ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زعماء المهاجرين والأنصار بالالتحاق به ، وفيهم الشيخان وأبو عبيدة وسعد بن عبادة

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٣٠

٨١

وجمهرة أهل الحل والعقد ، فكبر ذلك على جملة من المسلمين ، وقالوا يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الاولين؟ فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعصب رأسه ورقى المنبر وقال : « ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ، ولئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله ........ » ثم قال : أنفذوا بعث أسامة.

وتردد نفر كبير في ذالك فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيها الناس أنفذوا بعث أسامة ..ثلاث مرات. ولكن أنباء مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوقفت علية القوم عن الحركة ، وأقعدتهم عن النهوض مع أسامة ، فلم يرد هذا أمر ذاك مساءلة الركبان عنه فيما يزعم.

وتردد كبار المهاجرين في إنفاذ البعث بما فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ، فتملك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأسف والأسى ، ولزم الفراش لما به. ثم تحامل على نفسه وخرج الى المسجد معتمدا على علي عليه‌السلام بيمنى يديه وعلى الفضل بن العباس باليد الأخرى ، وصعد المنبر فذكرّ وحذرّ ، وبشرّ وأنذّر ، ثم نزل وصلى بالناس صلاة خفيفة ، وعاد الى منزله وقدماه تخطاّن الأرض.

وأستمر به المرض حتى ثقل ، والناس بين ذاهل ومتفجع ، وبين غافل عما يراد به ، وبين جادّ في تخطيط لأمر ما ، وبين مشغول بتمريض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومتابعة مرضه وعلى رأس هؤلاء علي والعباس وأهل البيت بالاجماع.

وعند الفجر في تلك الأيام العسيرة يأتي بلال مؤذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند صلاة الصبح ، فينادي : الصلاة الصلاة ، فيؤذن بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيروى أنه قال : مروا من يصلي بالناس فإني مشغول بنفسي ، فقالت عائشة مروا أبا بكر ، وقالت حفصة : مروا عمر. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٨٢

أكففن فإنكن صويحبات يوسف. ثم خرج الى المسجد ، ووجد أبا بكر قد سبقه الى المحراب ، فأومأ إليه أن تأخر فتأخر ، وقام النبي مقامه وصلى بالناس وقيل : بل أمر أبا بكر بالصلاة ، وقيل : بل أمرت عائشة بصلاة أبي بكر ، ولكن النبي خرج متوكأ على علي والفضل وصلى بالناس دون شك بالإجماع ، فلو أمر معنيا لأجاز صلاته ، ولما خرج في أثره وتقدم عليه ، وصلى بالناس.

ثم عاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى منزله في غاية الجهد والنصب.

وقد يبدو أن عليا عليه‌السلام أراد أن يتم ما أراده رسول الله ، فأبدى في تلك اللحظات الحاسمة من مرض رسول الله وهو ممرضه ، أنه معافى أو في طريقه الى ذلك ، فهذا أبو بكر يغادر الى السنح في أطراف المدينة ، وهذا عمر يتولى شؤونا سرية في غاية الدقة ، وهذا أسامة يتلكأ في تنفيذ البعث ، وهذا أبو عبيدة يراقب الحال أولا بأول ، وأولاء بنو أمية يلتفون حول عثمان ، وأولئك الأنصار في سقيفة بني ساعدة قد قدّموا سعد بن عبادة ؛ وبمثل هذا خرج علي عليه‌السلام من عند الرسول ، فتباشر الناس بسؤاله :

يا أبا الحسن : كيف خلفتّ رسول الله؟

فأجابهم : أصبح بحمد الله بارئا.

ولكن النبي يستدعي عليا فيخلع خاتمه وحمل سيفه فيقدمهما الى علي عليه‌السلام في بادرة ذات معنيين : دنو أجله ووصايته الى علي من بعده ويستدعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشيخين أبا بكر وعمر وجماعة من المسلمين ، ويقول : الم آمركم أن تنفذوا جيش أسامة؟ قال أبو بكر : إني خرجت ثم رجعت لأجدد بك عهدا.

٨٣

وقال عمر : إني لم أخرج لأني لم أخرج لأني لم أحب أن أسأل عنك الركب.

وهنا أغمي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وارتفع البكاء من منزله ثم أفاق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي نفسه لواعج من الأسى لا تنفك ، وفي ذهنه ما يخبىء المستقبل لهذه الأمة ، فأراد أن يستوثق من الأمر ، وأن يبلغ ما يجب عليه في تلك اللحظات القصيرة العاتية ، فنظر الى من حوله ثم قال : إئتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا. ثم إغمي عليه ثانية ، وقام من يلتمس ذلك فنهره عمر وأهانه ، وقال فيما يروي المتشدّدون : إن النبي ليهجر ، وقال فيما يروب المتخفّفون : إن النبي قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.

أيّ الروايتين كان ؛ فذاك شأن عمر في اندغاعه ، فكثر اللغط واللغو عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتلاوم المسلمون فيما بينهم في إحضار الدواة والكتف أو عدمه ، وقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، لقد اشفقنا من خلاف رسول الله. فلما أفاق قال بعضهم ألا نأتيك بدواة وكتف يا رسول الله ، فقال أبعد الذي قلتم؟ لا. ولكني أوصيكم بأهل بيتي خيرا. وأعرض بوجهه عن القوم فنهضوا.

قال ابن عباس : إن الرزيّة كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب.

ويبدو من النص السابق أن رسول الله عرف بوادر الفتنة عند القوم فأراد حسم النزاع ، فلم يتأت له ذلك ، ولو صنعه بعد أن قيل ما قيل ، لما التزموا به ، فأعرض عنه وقال : ولكني أوصيكم بأهل بيتي خيرا ، فأوحى لأهل البيت بأنهم قد أبعدوا عن الأمر ، واكتفى بما قال عن أن يكتب كتابا يضيع ما به هدرا ، ولو كتب لأوصى لمن يقوم مقامه ، ولكن

٨٤

القوم شاؤوا غير ذلك ، وهذا أمر يطول الوقوف عنده ، ويكثر الجدل حوله ، ولكني أشرت إليه ملخصا من كتب غير الإمامية.

ومن البديهي أن ينهض القوم عن النبي وقد أغضبوه وأغاضوه ، ويبقى علي عليه‌السلام والعباس وأهل بيته خاصة ، ويستوحش العباس لما رأى وما سمع ، فأحب أن يتأكد مستوضحا : فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله إن يكن هذا الأمر مستّقرا فينا من بعدك فبشّرنا ، وإن كنت تعلم أنا نغلب عليه فأوص بنا ، فقال : أنتم المستضعفون من بعدي وأصمت. فيئس أهل البيت من النبي ، وخرج بنو هاشم ، فأفاق النبي ، وقال : ابعثوا الى علي فادعوه ، فقالت عائشة : لو بعثت الى أبي بكر ، وقالت حفصة : لو بعثت الى عمر فاجتمعوا عنده جميعا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انصرفوا فإن تك لي حاجة أبعث إليكم.

وقيل : كان علي لا يفارقه في شدّته هذه إلا لضرورة قصوى ، فخرج لبعض شؤونه فافتقده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أدعوا لي أخي وصاحبي ، وعاوده الضعف فأصمت، فقالت عائشة: أدعواله ابا بكر ، وقالت حفصة أدعوا له عمر ، فدعيا ، ثم قال أدعو لي أخي وصاحبي فقالت أم سلمة : أدعوا علياً فانه لا يريد غيره فحضر الامام ، فأوصاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوصاياه ، وناجاه طويلاً ، ثم قام عنه ، فاغفى رسول الله ، فقال الناس ما الذي أوعز اليك يا أبا الحسن فقال : علمني ألف باب من العلم فتح لي كل باب ألف باب ،ووصاني بما أنا قائم فيه إن شاء الله.

واستدعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته الصديقة الزهراء عليها‌السلام وهي في أشد ساعات حزنهاء فأسرّ لها شيئاً لاذت معه ألى البكاء ، ثم أسر لها شيئاً اخر ، بدت وعلائم البشر والغبطة ، في ساعة واحدة جمع للزهراء

٨٥

الحزن والفرح ، وظهر عليها الأسى والرضا.

كان الإسرار الاول من النبي للزهراء : « إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة ، وأنه عارضني هذا العام مرتين ، وماأراه إلا قد حضر أجلي »

وكان من السرار الثاني من النبي للزهراء : « إنك أول أهل بيتي لحوقاً بي ، ونعم السلف أنالك ، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين »

فكان كما أخبر ، فقد حضره الموت وعلي إلي جنبه يسنده إلى صدره ، فأمره بتوجيهه نحو القبلة ، واوعز إليه أن يتولى أمره في الغسل والكفن والصلاة وعدم مفارفته حتى مواراته في قبره ، فنفذ علي عليه‌السلام ذلك كله ، وكان اخر الناس عهداً به ، كما كان أقرب الناس إليه.

وتوفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الاثنين لليلتين بقيتا من صفر ، أو لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الاول سنة إحدى عشرة من الهجرة.

ويتضح مما تقدم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أيام مرضه هذا مشفقاً على أمته من الفرقة ، وأنه أراد أن يمهد لقيادة الإمام علي بتنفيذ بعث أسامة ، وأنه قد استقر في داخله ـ با يحاء من الله ، أو بمعاينة مجرى الاحداث ، أوبهما معاً ـ أنه مغلوب على أمره ، وأن التيار القرشي معارض لمرجعية أهل البيت ، فهم المستضعفون من بعده.

ولا اشك في أنه أوصى علياً با لصبر والاناة ، وأسر أليه بالامر ، وأمره با لتريث والتامل خشية أن يرتدّ العرب ، ويختلط الحابل بالنابل ، ويتلاشى الاسلام.

لقد فهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل هذا دون ريب ، وفهمه علي كله كذلك ،

٨٦

وعمد إلى تنفيذ وصاياه بمعزل عن الائتمار عليه ، ونشطت الجبهه المتصدرة في تسيير عقلية الناس كما تريد ، فقال عمر : إن السول الله ما مات ، ولكنه ذهب ألى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع ..... والله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه قد مات.

والناس هم الناس بين سذاجة وغفلة ، وتصديق وتكذيب ، إلا أن هذا القول من عمر أثرّ أثره الوقتي في الاقل بالناس ، فكما صرفهم عن أمر الصحيفة أولاً ، صرفهم عن الادلاءبشيء أو التفكير بشيء من أمرالاستخلاف ، ما دام النبي لم يمت فيما يزعم ، حتى يحضر أبو بكر من منزله بالسنح ، فلما حضر نادى :

« يايها الناس من كان يعبد الله فان الله حي لا يموت ، ثم تلا :

( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا ) » (١)

فأفاق عمر مما أصطنعه ، وذهبا معاً إلى السقيفه فيما سنعرضه فيما بعد.

وغسل عليّ عليه‌السلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعه الفضل بن العباس وأسامة بن زيد يناولانه الماء من وراء الستر وهما معصوبا العين ، وتولى علي تغسيله وتحنيطه وتكفينه ، فلما فرغ من تجهيزه تقدم فصّلى عليه وحده.

وكان المسلمون في نزاع فيمن يؤمهم في الصلاة عليه ، وأين يدفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا أمر من حضر وفاته من المسلمين ، وأما من لم

__________________

(١) سورة عمران ، الاية : ١٤٤.

٨٧

يحضر فله شأن غير هذا سنأتي عليه.

وبينا هم في هذا النزاع إذ خرج إليهم علي عليه‌السلام وقال : إن رسول الله أمامنا حيا وميتا ، فليدخل عليه فوج بعد فوج منكم فيصلّون عليه بغير إمام ، وإن الله لم يبقض نبياً في مكان إلا وقد إرتضاه لرمسه ، وإني لدافنه في حجرته التي قبض فيها ، فسلّم القول لذلك ورضوا به ، وفعلوه.

وتولى عليّ والعباس وابنه الفضل وأسامة بن زيد وأوس بن خولّي من الانصار دفنه ، ونزل علي القبر فكشف عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووضع خده الايمن على الارض مستقبلاً بوجهه إلى القبلة على يمينه ، ثم وضع عليه اللبن ، وأهالى عليه التراب ، وربع قبره ، وجعل عليه لبناً ، ورفعنه من الارض قدر شبر ، ورشّ الماء عليه رشاً ، ولم يحضر دفنه أكثر الناس فهم في شغل من أمر الخلافة ، وفات أكثرهم الصلاة عليه.

ونعته ابنته الزهراء فيما يؤثر عنها : « يا أبتاه ، أجاب رباً دعاه ، يا أبتاه جنة الفردوس ماْواه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه ، يا أبتاه من ربه ما أدناه »

ثم أخذث من تراب القرب الشريف ، ووضعته على عينيها ، وأنشات :

ماذا على من شمّ تربة أحمد

أن لايشم مدى الزمان غواليا

صبّت عليّ مصائب لو أنّها

صبّت على الأيام صرن لياليا

وأنطلق تأبين علي للنبي في لوعة ومرارة وأسى ، والدموع تسبق عينيه :

« بأبي أن وأمي ، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من

٨٨

النبوة والأنباء وأخبار السماء ، لولا أنك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون ، ولكان الداء مماطلا ، والكمد محالفا ... ولكنه ما لا يملك ردّه ولا يستطاع دفعه ، بأبي أنت وأمي : اذكرنا عند ربك ، واجعلنا من بالك ».

وهاجت به الأحزان ، وهو يودعه مكّبا على القبر الشريف قائلا : « إن الصبر لجميل إلا عنك يا رسول الله. وإن الجزع لقبيح إلا عليك ، وإن المصاب بك لجليل ، وإنه قبلك ويعدك لجلل ». وأنكفا عليّ راجعا الى بيته ، يعاني أقسى صنوف الآلام ، ويتجرع غصص فراق رسول الله ، فالليل طويل ، والصبر مرير ، والآهات متلاحقة ، والأنفاس متقطعة ، وهو بين ذلك في سهاد وقلق ، وحزن والتياع ، ووحشة إيمّا وحشة يمعن فيها الشعور بالفراغ التام إيمّا إمعان.

ولكن قلب علي أكبر من كل هذه المصائب وإن جلت وعظمت ، فقد خلق لمهمة أصعب ، وخلّف لقضية أعظم.

وأسدل الستار على المدينة المنورة في روايتها الحزينة ، فتجاوبت بأصداء الفاجعة سهولها وجبالها ، واهتزت بفادح المصاب ظلالها وأفياؤها ، وسرى النعي في كل مكان ... مات محمد ، مات رسول الله.

٨٩

(١٢)

قيادة قريش تقتحم السقيفه وتبعد أهل البيت

كانت قياده قريش ـ لدى احتضار الرسول الكريم ـ إلى ثلاثه من المهاجرين دون بني هاشم : أبي بكر في لينه ودماثته ، وعمر في شدته وغلظته ، وابي عبيدة بن الجراح في تعقله ودهائه ، وكان نجاح بيعة الصّديق يعود إلى هذه الطبائع الثلاث ، مجتمعة ، فما إن يجترح عمر حوباً في شدته حتى يبدده أبو بكر في لينه ، ويدفعه أبو عبيده في دهائه ، وما إن يقترح ابو بكر أمراً في حكمته حتي يحققه عمر في اند فاعه، وينفذه أبو عبيدة في مرونته ، وما أن يعالج أبو عبيدة مناخاً في تعقله ، حتى يمهّده ابو بكر في يسره ، ويجسده عمر في جراءته.

هذه خلفيات مختلفة تمتع بها الزعماء الثلاثة ، وعملوا بإيحائها طيله أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإنفاذ جيش أسامة ، إن لم يكن أيام حجة الوداع ، والتصريح بولاية علي عليه‌السلام آنذاك.

كانو ياتمرون ويجيلون الرأي ويضمرون التخطيط ، ولم يكن انطلاقهم الحثيث لسقيفه بني ساعدة عن فورة وعجلة ، وانما كان عن تريث وتلبّث ، ولم يحدث ما تنادوا به عن مفاجأة وعفوية ، بل عن دراسة ودراية وترصد ، يشتّد عمر فيهدأه ابو بكر ، ويعنفّه أبو عبيدة ، ويهادن أبو عبيدة ، فيزجره عمر ، ويرفق به أبو بكر ، ويلين أبو بكر فيغضب عمر ويوفّق بينهما أبو عبيدة.

٩٠

سياسة مثلى في حسن التأتي ، وقيادة عليا في المجابهة والتحدي ، وزعامة متأصلة في الأخذ والرّد سلباً وايجاباً ، في كل ذالك سيل من الوعيد تازة ، وصدام في الاحتجاج تازة أخرى ، تطيّيب للخواطر حيناً ، وإغراء بالوعود حيناً اخر ، يرخى الحبل فيجذب جذباً رفقياً تارة وعنيفاً تارة ، ويتراخى الامر فيشدّ إحكماماً؛ وإبراماً ، حتى انتهى ذلك إلى بيعة أبي بكر فلتةً وقى الله المسلمين شرها على حد تعبير عمر.

ولم يمنع حزن أمهات المؤمنين ـ والنبي بعد لمّا يقبرـ من إلانضمام لهذا الفريق ، فقد عملت له عائشه جهاراً ، وقد باركته حفضة إعلاناً واسراراً ، ولاذ من لاذ بالصمت.

ولم يكن الانصار بمناى عن هذا التخطيط ، ولا بغفلة عن هذا الترّبص ،وذالك أبان حدوثه وقبل ان ينتهي إلى نتيجة ، بل تناهى إلى سمعهم نية القوم بإبعاد الأمر عن أهل البيت ، وأدركوا أن الأمر لمن غلب أذن ، فاذا لم يكن عليٌّ له فلا باس أن يكون لزعيم من زعماء الانصار ، وهم الذين آووا وحاموا ونصروا ...... فاجتمعوا الي رئيسهم سعد بن عبادة من الخزرج في سقيفة بني ساعدة للتداول في أمر الخلافة ، وكان سعد مرشح الأنصار لها ، أو هكذا أريد له أن يكون مع مرضه ، ولم يكن الأفق ناصعاً ، ولا الموقف متسقاً ، وعليهما ضباب من الشبهات ، واتصل الخبر بالمهاجرين ، فطفق الزعماء الثلاثة إلى السقيفة : عمر يهدر ويزمجر ،وأبو بكر يتلاين ويخطط ، وأبو عبيدة يحلل ويراقب.فجأ الزعماء الأنصار في عقر دارهم ، وهمّ عمر بالثورة عليهم والعصف بهم ،فسبقه أبو بكر بالخطاب الهادى ء ، يجرد به الأنصار من إهابهم الفضفاض شيئاً فشيئاً ،حتى يجردّهم منه ، ويطوّح باحلامهم طيفاً فطيفاً حتى جعله غصة في حلوقهم ، ويخفف من

٩١

غلوائهم جزءاً فجزءاً حتى أعادهم من سواء الناس ، ويهدم بناءهم لبنة فلبنة حتى ساوى به الأرض ، وكان ذلك على مراحل دقيقة الحساب.

في المرحلة الأولى أبان اسبقية المهاجرين فقال :

« ايها الناس؛ لقد خصّ الله المهاجرين الأولين من قوم رسول الله بتصديقه ، والايمان به ، والصبر معه على شدة أذى قومهم وتكذيبهم ، وكل الناس لهم مخالف ، وعليهم زار ، ولكنهم لم يستو حشوا لقلّه ، وكانوا اول من عبدالله في الارض ، وآمن بالرسول ، هم أولياؤه وعشيرته ، وهم أحق الناس بالامر بعده«

وقاطعه خطيب الأنصار « أما بعد : فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ،وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا »

فبادره ابو بكر هينّاً لينّاً في مرحلة ثانية « أنتم من لا ينكر فضلهم في الدين ، ولا سابقتهم في الإسلام ، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله ، وجعل إليكم هجرته ، وفيكم جلّة أزواجه وأصحابه ، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم ، لاتفتاتون بمشورة ، ولاتقضى دونكم الأمور »

اثنى على الانصار إذن ، وأخرّهم عن المهاجرين ، وجعلهم بمثابة المستشارين ، وبمنزلة الثانويين من الأمر ، ولكن سعداً ردّ عليه :

» يامعشر الانصار ، لما أراد لكم ربكم الفضلية ساق إليك الكرامة ، وخصّكم بالنعمة ، فرزقكم إلايمان به وبرسوله ، والمنع له ولأصحابه ، والإعزاز له ولدينه ...... يامعشر الأنصار ، فأستبدوا بهذا الامر دون الناس ، فإنه لكم دون الناس ».

٩٢

ولم يتركه ابو بكر ـ في مرحلة ثالثة ـ مسترسلاً بهذا ، وانما عاوده القول ، وجبهه بالرّد ، وألزمه الحجة :

« أيها الناس : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولكننا : أول الناس إسلاماً ، وأكرمهم أحساباً ، وأوسطهم داراً ، وإحسنهم وجوهاً ، وأكثرهم ولادة في العرب ، وأمسهم رحماً برسول الله ..... ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش »

وكأن ابا بكر في هذا الردّ يمثل بني هاشم وزعيمهم علياً ، إذ عدّد ما يحتج به الإمام على الأنصار وعلى قريش والمهاجرين معاً ، فقد احتجوا بلغة عليٍّ ، وقد انتصروا بمنطق علي ، لأنه أول الناس إسلاماً ، وأكرمهم أحساباً ، وأعلاهم داراً ، وأصبحهم وجهاً ، وأمسهم برسول الله رحماً.

ومهما يكن من أمر ، فلم يترك الحباب بن المنذر ابا بكر في استرساله ، وإنما بدره متعصباً لقومه :

« يا معشر الانصار إملكو عليكم أمركم ، فإنما الناس في فيئكم وظلالكم ولن يجير مجير على خلافكم، ولن يصدر الناس إلاعن رأيكم ... أنتم أهل العزّ والثروة ، وأولو المنعة والنجدة ، وإنما ينظر الناس ما تصنعون ، فلا تختلفوا فيفسدعليكم رأيكم ، وينتقض أمركم ، أنتم أهل إلايواء واليكم كانت الهجرة ...... وأنتم أصحاب الدار والايمان .... وانتم أعظمم الناس نصيباً في هذا الامر.

وان أبى القوم فمنّا أمير ، ومنهم امير ».

وكان هذا أول الوهن والتنازل كما قال سعد بن عبادة.

وقطعه عمر : هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد ، إنه لا

٩٣

ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا تولي هذا الأمر إلا قريشاً ، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدّلٌ بباطل ، أو متورّط في هلكة.

وكان عمر ـ كأبي بكر من ذي قبل ـ في ردّه هذا يرد أن يشرح بني هاشم للأمر ، فهو يحتج على الأنصار بما يصح أن يحتج به بنو هاشم على قريش.

ولا يدع ابو بكر الفرصة تضيع ، فيعلن في مرحلة أخيرة :

« منا الأمراء ومنكم الوزراء ».

فثار الحباب بن المنذر مرة أخرى وقال : « لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه ، فيذهبوا بنصيبكم من الأمر ، فإن أبوا فأجلوهم عن بلادكم ، وولوا عليكم وعليهم من أردتم ، أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة؛ أنا جذيلها المحكك وغديقها المرجّب ».

فقال عمر: إذن يقتلك الله. قال الحباب : بل ايّاك يقتل. فتفاقم الأمر ، وتداركه أبو عبيدة قائلاً:

« يا معشر الأنصار : كنتم أول من نصر وازار ، فلاتكونوا أول من بدّل وغيّر ».

وكأن النفوس قد هدأت بهذا الخطاب السمح ، فبادرها بشير بن سعد الأنصاري ، وهو من الخزرج ، وكان ينفس على ابن عمه الأمارة : فقال :

ألا أن محمداً من قريش ، وأن قومه أحقُّ به وأولى ، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبداً ».

٩٤

وكان هذا أول النصر للمهاجرين من أنصاري خزرجي يدفعها عن قومه ويضعها في غيره ، وأيده على هذا سيد الأوس أسيد بن خضير ،لعصبية جاهلية حذر معها أن يتم الأمر لسعد فقال : « يا معشر أوس لئن وليتموها سعداً عليكم مرة ،فو الله لا زالت للخزرج بذالك عليكم الفضيلة ».

وهكذا انشعب الأنصار فيما بينهم ، نتيجة الحقد في الصدور ، والجاهلية في تقدير الأمور ، فكان الفوز بالصفقة للاتجاه القائد ،فانتصر الزعماء الثلاثة فيما قدّروا ،فليبرموا الأمر إذن سريعاً ، ونهض أبو بكر يمسك عمر بيد وأبا عبيدة بيد وهو يقول : « أيها الناس ..... هذا عمر ، وهذا أبو عبيدة ، فأيهما شئتم فبايعوا ».

ولكن هذا للمجاملة فقط ، ولئلا يقال إنه راغب في الأمر ، وهو خلاف الإتفاق السري فيما بينهم ، لأن أبا بكر مرحشهم سراً ، فكيف يمكن التخلف عنه علناً ، فبدره عمر بالقول ، « بل ابسط يدك يا أبا بكر .... ».

وسبقه أبو عبيدة : « إنك لأفضل المهاجرين ، وثاني اثنين إذ هما في الغار ». فبايعاه بعد الترشيح الدقيق ، واسرع قبلهما أو بعدهما بالبيعة بشير بن سعد ممثلاً أتباعه الخزرج ، ويدعو أسيد بن خضير أشياعه من الأوس :

« قوموا فبايعوا ابا بكر ... » ويبايع فريق من الأوس.

وأذهلت السرعة الفائقة أذهان معارضة الأنصار ، فقام الحباب بن المنذر الى سيفه ليكون حائلا عن البيعة بالقوة ، فينتزع منه السيف ، وجعل يضرب بثوبه وجوههم وقد فرغوا من البيعة ، فقال: فعلتموها يا

٩٥

معشر الأنصار ، أما والله لكأني بأبنائكم على باب أبنائهم يسألونهم بأكفهم ، ولا يسقون الماء.

وكان الأمر كما قال ، فقد حرم الأنصار حرماناً عجيباً ، فلم يكونوا وزراء كما وعدوا ، ولا مستشارين كما أملّوا ، بل انخرطوا في سواد العرب ، وأسدل الستار على جهادهم وجهودهم.

وامتنع سعد عن البيعة في فريق من قومه ، وطولب بها فقال :

« لا ولله حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي ، وأخضب منكم سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بمن معي من أهلي وعشيرتي ».

فألح عمر على بيعته ، ونصحه بشير بن سعد : أنه قد أبى ولج ، وليس يبايعك حتى يقتل ، وليس بمقتول حتى يقتل ولده وعشيرته، والأوس والخزرج ، فلا تفسدوا على أنفسكم الأمر ، إنما هو رجل واحد ، فتركه عمر الى حين.

٩٦

(١٣)

بيعة أبي بكر ومرجعية الصحابة

وخرج الجمع المبايع من السقيفة ـ وهم في طريقهم الى المسجد النبوي ـ يهتفون لأبي بكر ، لا يمرّون على أحد إلا أخذوا بيده وأمرّوها بيد أبي بكر ، وكان المستجيبون لذلك قلة ، وكان الممتنعون قلّة أيضا ، ومن أبى تناوله عمر بالدّرة ، أو قرّعه أبو عبيدة بالتعنيف ، أو زجره هذا وذاك بالنصيحة ، وكانت الأغلبية العظمى على الحياد بين رهبة ورغبة ، أو سخط ورضا ، وكان الإنكار الصامت حيناً ، والتأييد الصامت حيناً آخر ، وهكذا كان الناس بعد السقيفة بقليل بين مؤيّد ومفند ومحايد ، مؤيّد يهّلل ويكبّر ، ومفنّد ينكر ويستنكر ، ومحايد بين بين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وعامة الناس غيات دون حضور ، أو حضور كالغيّاب.

وكانت طبيعة هذا المناخ أن تفرز مضاعفات عديدة في الأفق السياسي ، فليس الدرب معبداً بالورود كما يقال ، ولا الصفقة هينة لينة ، فهناك بعض الأنصار يهتفون : لا نبايع إلا علياً ، وهناك بعض المهاجرين يمتنعون عن البيعة ، وهناك العباس عم النبي يرشح علياً ، وأبو سفيان يريدها في بني عبد مناف مكيدة أو حمية ، وعليٌّ في نفر من المهاجرين والأنصار لا يبايع ، وهو بعد في شغل عن ذلك بتجهيز الرسول الأغظم ؛ وماذا عسى أن يكون موقفه إذا فرغ من ذلك.

هذه عقبات في الطريق ، وأشواك في مسيرة البيعة المرتجلة ؛ وهي

٩٧

أمور دقيقة الملحظ لم تعزب عن ذهن أبي بكر ، ولم تغرب عن فكر عمر ، ولم تتعد حصافة أبي عبيدة ، ولم يهمهم هذا وذاك ، ولكن هذا الشاخص الماثل علياً ، يشار إليه بالبنان ، فهو وحده العقبة الكأداء ليس غير. ثم هؤلاء جميعاً ما السبيل إلى إقناعهم ، وقد رأوا في البيعة مخالفة للعهد ومجانبة للعقد ، وفي القوم علي عليه‌السلام ولا يعدل به إلى سواه دون ريب.

وكان العباس أول المتنبهين لخطر هذا الموضوع ، وأول المبادرين الى علي ، فقد لفته بقوله :

« يا ابن أخي ، أمدد يدك أبايعك ، فيقول الناس عمّ رسول الله بايع ابن عم رسول الله ، فلا يختلف عليك اثنان ... »

هذا وجثمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجى بين أهله ، فقال علي عليه‌السلام :

« لنا برسول الله يا عم شغل ».

وهذا هو الأمثل من علي في تلك اللحظات.

وقيل : إن عليا قال :

« يا عم : وهل يطمع فيها طامع غيري ، قال ستعلم ، فقال : إني لا أحب هذا الأمر من وراء رتاج ».

ولم يكن علي ليغفل عما يجري من مؤامرات ومؤتمرات ، حتى يجيب عمه بهذا ، وإن صح فإنه كان يريد الأمر على ملأ من الناس علنا لا سراً ، جهاراً لا إسراراً ، وبينما هما كذلك وإذا بالناس يزّفون أبا بكر إلى المسجد كما تزّف العروس كما يقول الرواة وتناهت الأنباء إلى أبي سفيان فجاء يشتد إلى بيت الرسول وهو ينادي بملء فيه :

٩٨

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم

ولا سيّما تيم بن مرة أو عدي

فما الأمر إلا فيكم وإليكم

وليس لها إلا أبو حسن عليّ

ثم نادى صارخاً : يا بني هاشم ، ويا بني عبد مناف : أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل ..... أما والله لو شئتم لأملأنها عليهم خليلاً ورجلاً ، فناداه أمير المؤمنين علي : « ارجع يا أبا سفيان فو الله ما تريد الله بما تقول ، وما زلت تكيد الإسلام وأهله ، ونحن مشاغيل برسول الله ، وعلى كل أمرىء ما اكتسب ، وهو ولي ما احتقب ».

وكان هذا الرّد خليقاً بعلي عليه‌السلام ، فلم يغب عن ذاكرته كيد أبي سيفان للاسلام ، ولم ينس حقده على جماعة المسلمين ، وإنه ما إراد وجه الله بذلك ، وإنما أرادها جاهلية محضة ، ولم يكن علي ليخدع بهذا الطراز الخاص من الناس ، من اصحاب الكيد والمطامع ، وزعماء العصبية والانتهازية ، فجبهه بهذا ، ولكن أبا سفيان يستعيد قواه ، ويلتقط أنفاسه ليقول :

« يا أبا الحسن : هذا محمد قد مضى إلى ربه ، وهذا تراثه لم يخرج عنكم ، فابسط يديك أبايعك فإنك لها أهلٌ ».

ويستعجله العباس لقبول الأمر ، ويراها فرصته ، فيتوجه إلى علي :

« يا ابن أخي ..... هذا شيخ قريش قد أقبل فامدد يدك أبايعك ويبايعك معي ، فإنّا إن با بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف ، واذا بايعك عبد مناف لم تختلف عليك قريش ، واذا بايعتك قريش لم يختلف عليك بعدها أحد في العرب ».

ويصّرعلي عيله السلام على موقفه « لا والله يا عم ..... فاني أحب أن أصحر بها ، وأكره أن أبايع من وراء رتاج ».

٩٩

وتصل الأخبار لأبي بكر وعمر وأبي عبيدة ، فهم يجيلون النظر في ذالك ، فوجدوا العباس لا يعصي لعلي أمراً ، وعلي يمتنع عن البيعة ، فليتركا أذن ، وعهدا الي يزيد بن ابي سفيان بولاية دمشق ، وأخبر بذلك أبو سفيان فرضي كل الرضا ، وقال : وصلته رحم ، وبايعت بنو أمية ، وأنتهي هذا الجزء اليسير من المعارضة الآنية ، عقل العباس وكياسته ، وانتهازية أبي سفيان ووصوليته ، وكان أبو سفيان قد بعثه النبي ساعياً ، وجبى الأموال ، فقال عمر لأبي بكر : إنا لانأمن شر ابي سفيان فترك له ما في يده من الصدقات فسكت ورضي بذلك ، وأعلن التأييد المطلق. أُغلق هذا الباب إذن ، وبقيت جبهة من المعارضة لم تبايع ، وترى الحق فى علي عليه‌السلام ليس غير.

فهذا خالد بن سعيد بن العاص من المهاجرين يخاطب أبا بكر وهو على المنبر بكل جراءة وصراحة وموضوعية فيقول : « اتق الله يا أبا بكر ...... فقد علمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ونحن محتوشوه يوم بني قريظة حين فتح الله ، وقد قتل علي يومئذٍ من صناديدهم ورجالهم .......

« يا معشر المهاجرين والانصار إني موصيكم بوصية فاحفظوها ، ومودعكم أمراً فاحفظوه ، ألا إن علي بن أبي طالب أميركم بعدي ، وخليفتي فيكم ، بذلك أوصاني ربي ...... ».

فأسكته عمر.

وينطلق سلمان مجاهراً : « يا أبكر : إلى من تسند أمرك إذا نزل بك ما لا تعرفه ، وإلى من تفزع إذا سئلت عما لا تعلمه ، وما عذرك في تقدم من هوا أعلم منك ، وأقرب إلى رسول الله ، وأعلم بتأويل كتاب الله عزّ وجلّ ، وسنّه نبيه ، ومن قدّمه النبي في حياته ، وأوصاكم به عند وفاته ، وقد أعذر من أنذر ».

١٠٠