الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة العارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠

فقال العباس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أبا سفيان رجل يحبّ الفخر ، فاجعل له شيئا يكون في قومه.

فقال النبي : « من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ».

وهلل أبو سفيان لهذه البادرة ، ووقف الى جنب الوادي ، وأرعبته خيول الله ، وكتائب رسول الله ، فكلما مرت عليه كتيبة قال ما لي ولفلان ، وكلما استقبلته قبيلة قال ما لي ولها ، حتى مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتيبته الخضراء ولها زَجَلٌ ، فطفح الاناء بما فيه ، وقال العباس : « لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما ».

فقال له العباس : ويحك انها النبوة. فقال : نعم إذن. ثم انطلق الى مكة يستبق جيش الفتح ، واستقبلته قريش بلهفة ، وإذا به يصرخ : يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به.

قالوا : فمه؟ قال : من دخل داري فهو آمن ، قالوا وما تغني دارك؟ قال : ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. فأقبلت زوجته هند بنت عتبة وأخذت بلحيته وهي تصيح : يا آل غالب : اقتلوا هذا الشيخ الأحمق. قال : ويحك : أسلمي وادخلي بيتك.

وإلتفت الى قريش وقال : لا تغرنكم هذه من أنفسكم ألا وإني لكم نذير. فتسابقوا الهزيمة ، ينعمون بالسلامة من القتل ويلوذون بالفرار من النازلة ، ورسول الله يأمر سعد بن عبادة بدخول مكة بالراية ، فيهزها هزا عنيفا ، ويغلظ للقوم قائلا :

اليوم يوم الملحمة

اليوم تسبى الحرمة

فسمعها العباس فقال للنبي : أما تسمع يا رسول الله ما يقول

٦١

سعد ، وإني لا آمن أن يكون له في قريش صولة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : أدرك سعدا فخذ الراية منه ، وكن أنت الذي تدخل بها مكة ، فأدركه عليّ فاخذها منه ، ولم يمتنع سعد من دفعها إليه ، وسار عليّ بالراية حتى دخل مكة رفيقا ، ودخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ناحية كداء ، واصعا رأسه الشريف على الرحل تواضعا لله تعالى ، واتجه نحو الحرم فطاف ولبى وسعى وصلى ، وهو في عدته وأهبته وعزته ، وقريش على رؤوسها الطير ، وقد أقبل فلّها ، وتلائم بين يديه جمعها ، وقد زاغت الأبصار ، وخشعت الأصوات ، وانحنت الرؤوس ، فمنهم العفو والرحمة ، وقال كلمته الشهيرة : « أذهبوا فأنتم الطلقاء » وأقبل الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، هنالك من أسلم ، وهناك من استسلم ، وللنبي ظاهر الحال ، ولكنه أهدر دماء أحد عشر نفرا ، سبعة من الرجال ، وأربع من النساء ، وكان بلاء علي عظيما ، في طلب هؤلاء ، ففروا منه هنا وهناك ، حتى التجأ من التجأ الى بيت أخته أم هاني بنت أبي طالب ، فأجارت من أجارت ، أو استجار بها من استجار ، وفجأها علي عليه‌السلام ، فحالت بينه وبينهم ، ودافعها ، فقالت أنت أخي وتصنع معي ذلك ، إن أردت قتلهم فأقتلني معهم ، وسأشكوك الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذهبت الى رسول الله فرحّب بها وأجلسها الى جنبه. فقالت يا رسول الله : ماذا لقيت من علي ، فقد أجرت حموين لي من المشركين ، فتفلّت عليهما ليقتلهما ، فقال ما كان ذلك له ، قد أجرنا من أجرت ، وآمنا من آمنت. وشكر لعلي سعيه ، وشفّع أخته.

وطاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبيت ، وعلي معه ، وأومأ بمخصرته الى الأصنام فتهاوت ، وإلى الأوثان فتحطمت ، وبقي صنم لخزاعة من قوارير ، فقال لعلي أرم بها ، ورفعه إليه حتى صعد سطح الكعبة ، فرمى به من عليها ، فتكسر قطعا وتطاير شظايا ، وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا.

٦٢

(٨)

أنباءٌ تكدّر صفو الفتح ... وعليٌّ يذود الكتائب

وبينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينعم بأنباء الفتح ، ويتهلل وجهه فرحاً لمسارعة النفوس إلى الإسلام ، ويمتلىء قلبه رحمةً واشفاقاً ، وكيانه خشوعاً وتسبيحاً ، وتنطلق شفتاه حمداً واستغفاراً ، إذ يصله نبئان يكدّران عليه صفو الفتح ، ويعكرّان مناخ النصر. النبأ الأول من بني جذيمة ، والنبأ الثاني من هوازن وثقيف. فيرى نفسه وقيادته من الذين معه ، لا يريح من جانب ، إلا ليفجأ بعناء من جانب آخر ، فقد كتبت عليه ملحمة لا بد أن تتم فصولها ، وتتلاحق متاعبها وأدوارها ، فهو بين كدح ونضال ، وجدّ وتضحية ، يتبع أولها آخرها ، ويستظل بمبتداها منتهاها ، وما عليه إلا أن يتصرف تصرف الحكيم بأناة ، ويستبسل استبسال المستميت بإصرار ، حتى يرّد على الأعقاب تلك النكسات ، ويواجه بالصبر وحسن التأني تلك الأحداث.

أما نبأ بني جذيمة ، فقد كان من أمرهم ، أن أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالد بن الوليد في سرية من المسلمين تتجاوز ثلاثمائة مقاتل من المهاجرين والأنصار وفيهم عبد الرحمن بن عوف إلى بني جذيمة بن عامر من كنانة يدعوهم إلى الإسلام؛ ولم يبعثه مقاتلاً؛ فلما انتهى إلى ماء لبني حذيمة نزل به ، وكان بنو جذيمة قد أصابوا في الجاهلية نسوةً من بني المغيرة ، وقتلوا أبا عبد الرحمن بن عوف والفاکه بن المغيرة ،

٦٣

وكان مع عوف ابنه عبد الرحمن فقتل قاتل أبيه ، وبقي دم الفاكه بن المغيرة عم خالد بن الوليد هدراً ، وفي خالد بقية من جاهلية ، وعصبية من حميّة ، وشجاعة في غلظة ، لم يقيّده الإسلام من الفتك ، ولا هذبّته القيادة من الغدر ، والقوم في أسلحتهم؛ فقال : ضعوا السلاح ، فقال أحد زعمائهم : إنه خالد ، والله ما بعد وضع السلاح إلا الأسار ، وما بعد الأسار إلا ضرب الأعناق ، وجادلوا في وضع السلاح أو حمله ، واستجابوا أخيراً فوضعوا السلاح ، فأمر بهم خالد فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتلوا ، وانتهى خبرهم إلى النبي ، فرفع يديه وقال : « اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ».

ثم دعا علياً عليه‌السلام وقال له : يا علي أخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم ، وأجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. وخرج عليٌ ومعه الأموال الوفيرة لرأب الصدع ، ومساواة الأمر ، ووصل الإمام فأنكر على خالد همجيته ، ودفع دية القتلى ، وودى الدماء ، وعوّض ما أصيب من الأموال ، حتى أرضاهم ، وقال لهم : هل بقي لكم دم أو مال لم يؤد إليكم ، قالوا : لا ، قال : فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجع إلى النبي فأخبره بصنيعه ، فقال النبي أصبت وأحسنت ، ثم قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستقبل القبلة ، شاهراً يديه ، وهو يقول :

« اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد » وكرر ذلك ثلاث مرات.

وانتهت المأساة الغادرة ، بما طيّب به عليٌّ نفوس القوم ، وبما جبر به الخواطر.

وأما نبأ هوازن وثقيف؛ فكانوا عتاة مردة لا يزدادون إلا طيشاً ، وطغاة جفاة لا يرجون لله وقاراً ، فلما تناهى إلى أسماعهم نبأ فتح مكة ،

٦٤

هالهم هذا النصر المبين ، واجتمعوا إلى رئيسهم مالك بن عوف ، وكان شاباً نزقاً جباراً ، فاستقر رأيه على الحرب ، فأعلن الحرب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابتداءً ، ونزل ( حنين ) في ثلاثين ألفاً ، وبلغ خبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتهيأ في عدة حسنة ولكنها لا تصل إلى عداد القوم ، فقد خرج باثني عشر ألفاً ، وأعطى لواء المهاجرين لعلي بن أبي طالب ، ووزع الرايات بين الأنصار ، وانجدر إلى وادي حنين؛ وكانت هوازن قد كمنت لهم في شعاب الوادي ومنعطفاته ، وأمسكت بمنعرجاته ، وباغتوهم بياتاً من كل صوب وحدب ، وأحدقوا بالمسلمين إحداقاً، وما راع المسلمين إلا القوم يأخذونهم على حين غرّة فيشدون عليهم شدّة رجل واحد ، ويمعنون بالقتل والطعن والمجالدة إمعاناً ، وبلغ الذعر مبلغه بالمسلمين فتنادوا بالويل والثبور ، وانهزموا هزيمة منكرة ، ولم يثبت معه إلا أربعة أو ستة أو عشرة ، وفي طليعتهم - بإجماع المؤرخين - عليٌ عليه‌السلام ، وانهزم الباقون ، والنبي ينادي :

أيها الناس أنا رسول الله محمد بن عبد الله ، والمسلمون لا يلوون على شيء. وكان أبو بكر (رض) متفائلاً فقال : لا نغلب اليوم عن قلة ، وكان معجباً بكثرة جيش المسلمين فنزلت الآية : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (١).

قال الشيخ المفيد : والآية تعني بالمؤمنين علياً ومن ثبت معه من بني هشام.

وصاح العباس بالمنهزمين بأمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان العباس

__________________

(١) سورة التوبة ، الآيتان : ٢٥ ، ٢٦.

٦٥

جهوري الصوت : يا أهل بيعة الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، إلى أين تفروّن؟ اذكروا العهد الذي عاهدتم عليه رسول الله. والقوم يغروّن على وجوههم ، والمشركون في شعاب الوادي يصلونهم حمماً لاهبة ، فقال أبو سفيان - وهو قد أسلم فيما يزعم - لا تنتهي هزيمتهم دون البحر؛ أي المسلمين.

ونظر الني صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الناس ببعض وجهه ثم نادى : أينما عاهدتم الله عليه؟ فأسمع أولهم آخرهم ، فتراجعوا إليه في لفتة من مخائل إعجازه ، بعد أن انتشروا في الصحراء ، والتفوا حوله في مائة رجل ، ودارت معركة كبرى ابتدأت بإقبال فارس هوازن ( أبو جرول ) وهو على جمل أحمر ، وبيده راية سوداء ، وهوازن وثقيف تتبعه ، وهو يرتجز :

أنا أبو جرول لا براح

حتى نبيح القوم أو نباح

فصمد له علي عليه‌السلام فقتله وهو يرتجز :

قد علم القوم لدى الصباح

أني في الهيجاء ذو نطاح

وكان في قتله النصر ، فقد انهزم المشركون شر هزيمة ، وانتعش المسلمون فهجموا هجمة رجل واحد ، بقيادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يباشر القتال بنفسه إلى جنب أركان حربه ، وهو يقول :

أنا النبيّ لا كذب

أنا ابن عبد المطلّب

والتحمت المعركة التحاماً مروّعاً ، ندرت فيها الرؤوس ، وهوت الفوارس ، وطاحت الأيدي ، فقال النبي : الآن حمي الوطيس ، وهي من كلماته القصار الجامعة لفنون المجاز والإيجاز ، وعليٌّ بين يديه يذود الكتائب ، ويزلزل الفرسان حتى قتل أربعين فارساً من القوم ، فشلت حركتهم ، وأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفنة من التراب أعطاها إياه علي بن أبي

٦٦

طالب ، وقذف بها وجوه المشركين قائلاً : شاهت الوجوه ، فكانت الهزيمة الكبرى ، وولى المشركون الدبر ، وجيء بالاسراى مكتفين بين يديه ، وسيقت إليه الغنائم ، وأفواج هوازن في هرب وفرار ، فما طلع الصباح على المسلمين حتى تم لهم النصر المبين ، وانتهت الهزيمة بالأعداء إلى البحر.

٦٧

(٩)

عليٌّ رفيق النبي في حربه وسلمه

بلى تخلف عليٌّ عليه‌السلام مرة واحدة عن غزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنه لم يتخلف بالمعنى الدقيق ، وإنما استخلف ، وذلك في غزوة تبوك.

فقد بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الروم قد جمعت له ، فأوحى الله تعالى إليه أن يسير إليهم ويستنفر لذلك الناس ، وأعلمه أنه لا حرب ولا قتال في هذه الغزوة ، وإنما ينتدب الناس للاختبار والإمتحان ، وكان القيظ شديداً ، والثمار قد أينعت ، فنهعض من نهض معه ، وتخلف عنه الكثيرون بقيادة عبد الله بن أبي ابن سلول ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سار بثلاثين ألفاً في أهبة وإعداد ، على أن عسكر ابن أبي ابن سلول في ثنية الوداع لم يكن بأقل العسكرين كما يقول ابن سعد في الطبقات وابن هشام في المغازي.

واستخلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً عليه‌السلام على المدينة ، إذ لا حاجة ملّحة إليه بعد إنبائه بأنه لا يمنى بقتال ، وكان هذا الاستخلاف له ما يبرره سياسياً وقيادياً ، فقد كانت المدينة يرجف بها المنافقون ، ويغدو عليها سراً هؤلاء اليهود ، وكان بنو غنم بن عوف قد بنوا مسجد ضرار ، وطلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصلي فيه ، وكانوا يظهرون الإيمان ويسرّون النفاق ، فقد بني هذا المسجد في قبال مسجد قبا ، وقد بني أيضاً إرصاداً

٦٨

لأبي عامر الفاسق الذي أمرهم ببنائه لأنه ذاهب إلى قيصر ليأتي بجنود يخرج بها محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة ، وكان هؤلاء المنافقون يتوقعون وعده ، فمات قبل أن يبلغ ملك الروم ، وانصرف النبي من تبوك ، فنزل قوله تعالى :

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٠٧) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) (١).

فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أحرق هذا المسجد وهدمه.

وهذا السيل الجارف من النفاق كما تراه يسلك سبلاً شتى بازاء تحقيق مآربه الضالّة ، ولا بدّ للنبيّ من الحذر منه؛ فاستخلف علياً عليه‌السلام ليحمي المدينة من هؤلاء ، وليمنعها من غارات الأعراب ، وليقيم سنن الدين الحنيف من ينابيعه كما يريد الرسول ، وليؤكد صلاحية الإمام علي للقيادة والمرجعية.

ومع هذا الحذر وهذه اليقظة ، وصدق الدوافع في استخلاف عليّ على المدينة ، فقد دبّت حسيكة النفاق ، وأشاع المنافقون ما أرادوا ، وقالوا : ما خلّفه إلا استثقالاً له وتخففاً منه ، ومتى كان علي ثقيل الظل على رسول الله؟ ويقال : أن علياً عليه‌السلام أخذ سلاحه وتبع الرسول وهو معسكر في الجرف ، فقال : يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني ، وتخففت مني ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذبوا ، ولكن خلفتك لما تركت ورائي ، فارجع واخلفني في أهلي وأهلك ، « أفلا ترضى يا علي

__________________

(١) سورة التوبة ، الآيتان : ١٠٧ ، ١٠٨.

٦٩

أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ».

فرجع عليٌّ إلى المدينة ظافراً بهذا الوسام ، فعظم في عين من أعظمه ، وأبتلي بالحقد والحسد مرة أخرى على هذه المنزلة ، فكان حارساً أميناً فيما استودع ، وساهراً يقظاً على ما استخلف بالمعنى العلمي الدقيق للإستخلاف ، فيما عبر عنه النبي بالحرف الواحد : « فأنت خليفتي في أهل بيتي ، ودار هجرتي وقومي ».

ولما انتهى النبي إلى تبوك توافد عليه رؤساء الروم وزعماؤهم وحكامهم ، فأعطوه الجزية عن يدوهم صاغرون ، فحقن دماءهم وأموالهم وكرّ راجعاً إلى المدينة بعد إقامة عشرين ليلة في تبوك.

ولا تسل عما جرى له في طريق العودة ، حينما مكر به المنافقون وبرفقته حذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر ، فقد مكروا وأرادوا طرحه من العقبة ، وطلب إليه بعض المسلمين ضرب أعناقهم ، وقد علمهم جميعاً ، وقال : أكره أن تتحدث الناس أن محمداً قد وضع يده في أصحابه ، وسماهم لعمّار وحذيفة وقال اكتماهم. وكانوا أربعة وعشرين رجلاً ، وعرفهم حذيفة بأعيانهم فكان أعرف الناس برؤوس المنافقين ، وكذلك كان عمّار ، واتصل النبأ بعلي عليه‌السلام فعرف ذلك ، واستوى بين يدي النبي ، وقد حمل الرسالة ، وأدى الأمانة ، وأحسن الإستخلاف.

* * *

ولم يكن عليٌّ عليه‌السلام رفيق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حربه وسلمه ، وأخاه في الشدة والرخاء فحسب ، بل كان قائد جملة من سراياه التي أمر بها ، وأعطاه نيابته فيها ، فيرجع بالظفر ، وفي طليعتها سرية « ذات السلسلة » فقد أعطى النبي الراية علياً عليه‌السلام بعد أن رجع بها اثنان من أصحابه لا يلويان على شيء.

٧٠

كان قوم من العرب قد قرروا أن يبيتوا النبي بالمدينة غدراً ، فسار عليٌّ عليه‌السلام متعصباً معلماً حتى وافاهم بسحر ، فأقام حتى أصبح وصلى بأصاحبه الغداة ، وصفّهم واتكىء على سيفه ، وقال للعدو :

يا هؤلاء أنا رسولُ رسولِ الله إليكم أن تقولوا : لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وإلا لأضربنكم بالسيف ، قالوا ارجع كما رجع صاحباك ، قال : أنا لا أرجع ، لا والله حتى تسلموا أو أصربكم بسيفي هذا ، أنا علي بن أبي طالب.

فاضطرب القوم وزلزلوا زلزالاً شديداًً لما سمعوا باسمه وعرفوه ، ولو راجعوا أنفسهم وحكمّوا عقولهم لاختاروا السلم والدعة والأمن ، ولكن الطيش والغرور والكبرياء قد دفعت بهم لاختيار القتال ، فبرز إليهم علي عليه‌السلام فقتل منهم في حملة واحدة ستة أو سبعة ، وانهزم المشركون وظفر المسلمون ، وغنموا ما شاء لهم أن يغنموا ، وكانت هزيمة المشريكن منكرة ، وأصداؤها تنتشر بين قبائل العرب ، فازدادت هيبة الإسلام في النفوس ، وأخبر جبرائيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفتح ، ونزلت حينئذٍ سورة العاديات.

وباستعراض آيات سورة العاديات تتبين عظم المعركة ، وشدة الوقعة ، وصدق اللقاء ، ومدى القوة المحاربة.

وحينما أخبر حبرائيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببشائر هذا الفتح ، بشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه بذلك ، وأمرهم باستقبال علي عليه‌السلام وكان النبي في طليعة المستقبلين ، وحينما رأى رسول الله في موكبه ، ترجل وأهوى على قدميه يقبلهما ، تواضعاً لله على هذا التكريم الكريم ، وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٧١

اركب فإن الله ورسوله عنك راضيان ، فبكى عليٌّ عليه‌السلام فرحاً بهذه البشارة.

وسرية أخرى بقيادته إلى بني سعد بن بكر بفدك بمائة فارس ، فجعل يسير الليل ويكمن النهار حتى فجأهم ، فجدّوا بالهرب ، وأمعنوا بالفرار ، فاستولى علي عليه‌السلام على النعم والأغنام ، وأخرج خمسها ، وقسم الباقي على أصحابه.

وسرية أخرى إلى بلاد طيىء في مائة وخمسين من الأنصار للتطويح بصنم لهم يعبد من دون الله ، فأغار عليهم ، وهدم الصنم وأحرقه ، وغنم سبياً ونعماً وشاءً وفضة ، واستخرج ما في خزانة الصنم من أسياف ودروع ونفائس فغنمها.

وهناك سريتان بقيادته إلى اليمن؛ الأولى بعد فتح مكة ، فأسلمت بها همدان كلها في يوم واحد ، فكتب علي عليه‌السلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك فخر ساجداً لله ثم جلس ، فقال السلام على همدان. وقيل بعث النبي علياً وبعث خالداً في جند ، وقال : إن التقيتما فالأمير علي ، فوصل خالد فأقام ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا إلى ذلك ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالداً بالقفول ، وبعث علياً. قال البرّاء : فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا ، وصلى بنا عليٌّ ثم صفّنا صفاً واحداً ، ثم تقدم بين أيدينا ، وقرأ عليهم كتاب رسول الله؛ فأسلمت همدان.

ويرى الشيخ المفيد أن إرسال النبي لعلي إلى اليمن كان ليخمس ركازها ، ويقبض ما وافق عليه أهل نجران من الحلل والعين وغير ذلك ، لا لأجل الحرب لأن أهل اليمن أسلموا قبل ذلك.

٧٢

والسرية الثانية كانت في رمضان سنة عشر من الهجرة ، عقد له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواءً وعممه بيده ، وقال : امض ولا تلتفت ، فإذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك. وخرج عليٌّ عليه‌السلام في ثلاثمائة فارس ، فلقي أهل اليمن ودعاهم إلى الإسلام ، فأبوا ورموا بالحجارة والنبل ، فصف أصحابه ثم حمل عليهم فقتل منهم عشرين رجلاً ، فتفرقوا وانهزموا فكفّ عن طلبهم ، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وبايعوا ، وسلّموا صدقاتهم إليه ، فقفل راجعاً فوافى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة في طريقه إلى حجة الوداع.

وقد يبدو من جملة الآثار أن علياً عليه‌السلام أرسله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاضياً إلى اليمن ، ووضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده على صدره ، وقال : اللهم ثبّت لسانه وأهد قلبه ... قال عليٌّ : والله ما شككت في قضاء بين اثنين ، وكيف لا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : عليٌّ أقضاكم.

وكما كان علي عليه‌السلام مقدامه في حروبه ، وخليفته في مدينته ، فقد كان نائبه في الأداء عنه؛ ففي السنة التاسعة من الهجرة بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر الصديق ( رض ) في سورة براءة إلى أهل مكة ، فهبط عليه حبرائيل وقال : أنه لا يؤديها عنك إلا أنت أو رجل منك ، فانفذ علياً عليه‌السلام حتى لحق أبا بكر فأخذها منه ، فوجد أبو بكر في نفسه ، ولكنه أطاع الأمر ، وأخبره النبي فيما بعد : لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني.

ومضى عليٌّ عليه‌السلام في الأمر حتى أتى الموسم ، فنادى : إن الله بريء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، لا يحجن بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن ، ولا يجتمع مؤمن وكافر في المسجد الحرام بعد عامهم هذا ، ومن كان

٧٣

بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد فعهده إلى مدته ، ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربعة أشهر.

ولك أن تتصور حالة العتاة من العرب ، والطغاة من قريش ، وهم يستمعون هذا النداء الصارم ، ويشهدون هذا اليوم الفاصل ، وهم يرون البيت بيتهم والحرم حرمهم ، وإذا بهم يطردون عنه وإلى الأبد.

ولئن كان علي عليه‌السلام في هذا الموقف نائباً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد كان عليٌ نفس رسول الله في حادثة مباهلة نصارى نجران بإجماع المؤرخين ، فقد طلبوا إلى النبي المباهلة ، أو طلب إليهم النبي المباهلة؛ فكان النداء الإلهي في القرآن العظيم مجلجلاً : ( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١).

فخرج النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فما باهلهم نصارى نجران لما علموا من الحق وإن كتموه. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا :

« والله لو باهلونا لأضطرم عليهم الوادي ناراً ».

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٦١.

٧٤

(١٠)

عليٌّ في حجة الوداع وبيعة الغدير

لقد رأينا علياً فيما مضى ، صبياً يدخل الإسلام ثاني اثنين ، وقد رأيناه يتربى في منزل الوحي وينشأ في ظلال الإيمان ، ورأيناه يشهد عذاب طائفة من المستضعفين فيتلظى لهم حرقاً ، ورأيناه مصاحباً للنبي في جولته للطائف يعرض الإسلام على القبائل فيردّ ، ورأيناه فدائياً يسرع إلى فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملتحفاً ببرده الحضرمي ، يقيه بنفسه من طواغيت قريش ، ورأيناه أخاً لرسول الله في مكة والمدينة ، ورأيناه قائداً عسكرياً فذاً في مشاهد النبي كلها ، ورأيناه خليفة لرسول الله على المدينة في غزوة تبوك، ورأيناه نائباً عنه في تبليغ براءة لأهل مكة وإعلان شرائع الإسلام ، ورأيناه مصلحاً وقاضياً من قبله في اليمن ، ورأيناه صهراً للنبي وأباً لذريته الطاهرة ، ورأيناه نفسه في المباهلة ، ووزيره بمنزلة هارون من موسى ، رأينا هذا وسواه ، بل ذكرنا هذا وفاتنا سواه ، وهو يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، و « عليٌّ أقضاكم » و « أنا مدينة العلم وعلي بابها » و « علي مع الحق والحق مع علي » و « اللهم أدر الحق معه حيثما دار » سمعنا كل هذا غيضاً من فيض إطراء النبي له وثنائه عليه ، ونموذجاً من نماذج إعداده إعداداً رسالياً خاصاً ، وشاهدنا إلى جنب ذلك كلّه ملازمته للنبي ملازمة الظل للشاخص ، واختصاصه به على انفراد في أغلب لياليه وأيامه ، وتفرده بمناجاته وحده في شتى الظروف ، واتحاد المنزل ما بين الديار ، ولمسنا صلة الرحم الشديدة بين

٧٥

الرجلين ، وأواصر القرب ما بينهما ، لا يكاد يفترق أجدهما عن الآخر ، ولا يملّ أحدهما حديث الآخر ، حتى كان علي منه وهو من علي ... لم يكن كل هذا امراً اعتباطياً ، ولا مناخاً اعتيادياً ، وإنما للأمر ما بعده عند النبي. حتى إذا كانت حجة الوداع ، وإذا بالوحي يفجأ النبي : ( * يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١).

ما هذا البلاغ الخطير الذي يراد من النبي ، وما هذا الاشفاق من النبي فيه ، أهو يخشى الناس ويحذر عدم الامتثال فيذهب أمره أدراج الرياح؟ أهو من الشدة بحيث يزلزل هذه الرصانة التي تبثها محمد في قومه وأصحابه؟ أهو من الحساسية بحيث يخترق هذا الغشاء الرقيق بينه وبين جملة من ذوي الأحلام والخطر.

لقد رأينا النبي في الأحكام صغيرها وكبيرها يبلغها أولاً بأول لا يخشى في ذلك لومة لائم ، وينزلها بمنزلها المحدد لا يحيد عن ذلك قيد أنملة ، فما هذا التبليغ الجديد - أنه القيادة في نيابته لدى التحاقه بالرفيق الأعلى ، والإستقرار بمقامه في إدارة شؤون الدين والدنيا.

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلمحّ تارة ، ويصرّح أخرى بإمامة علي عليه‌السلام يؤمّره على الناس في القيادة ، ولا يؤمّر عليه أحداً ، ينوّه بفضله ويعلي من شأنه ، يخصّه بالمنح العليا ، علماً وتفقهاً ومنزلةً ، ويشاركه بالمهمات الصبعة فيجده أهلاً لحملها ، وهو الذي يأخذ بقسط كبير من وقته الثمين في إفاضات يعلم قليلها ، ويجهل كثيرها ، يعلمن عن بعضها ، ويكتم بعضها الآخر ، ولكن النبي قد يبدو مشفقاً كل الاشفاق عن أن يقول القول الفصل ، والوحي يلجئه إلى الإعلان ، ويضمن له السلامة

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٦٧.

٧٦

مما يخشاه ، والتصريح منه إثر التصريح بأفضلية علي وأهليته من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلاقي التاويل والتعليل من قبل علية القوم ، ويقابل بالإيهام والإبهام من جملة المهاجرين ، يلتمسون بذلك حداثة السن حيناً ، وحب بني عبد المطلب حيناً آخر ، لتضييعه عن موضعه ، وتمييعه عند مؤداه.

وكان النبي في سنة حجة الوداع ، يؤكد السنن ، ويثبت الفروض ، ويحيي الأحكام ، وكان يلوّح بل يصرّح في نعني نفسه : يوشك أن ادعى فأجيب ، أو يقول : قد حان مني خفوق ، وتارة : لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، وأخرى : إن حبرائيل كان يعرض عليّ القرآن في كل عام مرة ، وفي هذا العام عرضه عليّ مرتين ، وهكذا.

ونزلت سورة النصر؛ فسماها المسلمون سورة التوديع ، لأن المسلمين ودّعوا نبيهم ، لما فيها من إيحاء بتكامل رسالته ، وإنذار بانتهاء مدته ، لما أمره فيها الله من التسبيح والاستغفار ، وكان بين هذا كثير الخلوة بعلي ، طويل المناجاة معه ، شديد الاحتراس عليه ، يطلق الكلمة إثر الكلمة في ترشيحه ، فتارة هو الوزير ، وأخرى هو الوصي ، وسواهما : خليفتي من بعدي ، والناس يرصدون ذلك بمسمع وبمشهد ، فيسيغه الأنصار دون المهاجرين ، ويتقبله المستضعفون دون الزعماء ، أو فقل يتقبله أكثر الأنصار ، ـ ويرفضه أكثر المهاجرين ، وقد يشتد النزاع في ذلك ، وقد يتحوّل إلى صراع مرير ، وقد يلجأ هؤلاء وهؤلاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليفسر لهم ما قال ، فيقتنع من يقتنع عن رضا ، ويأبى من يأبى عن سخط ، والأمور بقربة من النبي ، وهو يرى بوادر الفرقة تتطلع ، وسحب الفتنة تكاد تنقض ، ووجد بعض القلوب تستوحش لهذا الحديث ، وبعض المشايخ تأتمر للعصبيات ، والناس في خطوة من الجاهلية ، والإسلام وتر النفوس ، وهو لا يحاسب بأكثر من الظاهر ،

٧٧

ولكنه يذكر بالله واليوم الآخر ، عسى أن يهدي الله به أحداً ، ويجدد العهد عسى أن يصغي له أحد ، جاداً لا يتردد ، ولكنه مضطرب لا يهدأ أيضاً.

وتنتهي حجة الوداع ، ويتجه النبي نحو المدينة حتى يصل إلى « غدير خم » في قيظ لافح ، وحرارة محرقة ، وهجير ملتهب ، فيتوقف الركب النبوي في المنطقة التي سيفترق فيها الحاج ، ويتجه كلٌّ إلى قصده ، وينحو كلٌّ منحاه ، والموكب بعد في آلافه المؤلفة من المهاجرين والأنصار ومسلمة الفتح ، وبقية المسلمين من هنا وهناك ، ولا نريد ذكر الآلاف منهم فيما اختلف فيه المؤرخون زيادة ونقصاناً فهذا لا يعنينا ، بقدر ما يعنينا الموقف والحدث ، والمسلمون ألوف لا شك في هذا وينصب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منبر من أحداج الإبل عند الظهيرة ، ويمتطي النبي صهوة المنبر ، وهو يقول :

« إني دعيت ويوشك أن أجيب ، وقد حان مني خفوق من بين أظهركم ، وإني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ».

ثم نادى بأعلى صوته : ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟ قالوا اللهم بلى. فقال لهم على النسق ، وقد أخذ بضبعي علي عليه‌السلام فرفعهما حتى بان بياض أبطيهما : « فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم والي من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ».

ثم نزل وصلى الظهر والعصر وأفرد لعلي خيمة ، وأمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً ، فيهنؤه بالمقام ، ويسلموا عليه بإمرة

٧٨

المؤمنين ، ففعل الناس ذلك كلهم حتى من كان معه من أزواجه ونساء المسلمين.

وكان موقف عمر بن الخطاب ( رض ) مشرّفاً في ذلك اليوم إذ طفح السرور على وجهه ، وقال : بخٍ بخٍ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. ولكنه تناسى هذا الموقف فيما بعد ، وتغافل عن هذه التهنئة الحارّة ، وعن مغزاها في كلٍ من السقيفة وتعيين أهل الشورى.

وحينما صدع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الأمر في استخلاف علي عليه‌السلام نزلت الآية : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ) (١).

وما قدمناه من إيجاز مكثّف محل إجماع بين المسلمين كافة ، ورواته الثقات بالمئات ، وشهوده من المسلمين بالألوف ، وجاءت بعد ذلك التأويلات الفجّة لتجعل لهذا الحدث والحديث دلالات لغوية جديدة ، ولهذا النص التصريح إرادات بيانية مموهة ، فالمولى : يراد به المالك ، ويراد به الناصر ، ويراد به المعتق بالكسر والفتج ، ويراد به ابن العم ، ويراد به ضامن الجريرة ، ويراد به السيد المطاع ، كما يراد به الأولى. إلى غير ذلك مما يراد به ابتلاع الحديث والحدث جملة وتفصيلاً ، وتناسى من ساق هذه التعليلات والتفريعات المضنية أن التبادر العرفي العام عند العرب علامة الحقيقة ، وأن مقتضيات المقام النبوي في نزوله في هذه الهاجرة على غير منزل ، لا يراد به إلا الأولى الذي تجب له الولاية العامة على المؤمنين ، والمرجعية الكبرى للأمة في قضايا الدنيا والدين ، ولكن قريشاً أبت هذا ، وتناست هذا الموقف ،

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٣.

٧٩

وكأنه لم يكن ، وفتحت على الإسلام باباً لم يغلق من الفتنة والفرقة إلى قيام الساعة ، وصبر عليٌّ عليه‌السلام على هذا الحيف ، لأنه ذو هدف محدد وهو بقاء الإسلام.

وهو القائل : والله لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن جورٌ إلا عليّ خاصة.

٨٠