الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة العارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠

ويجذبه الإيمان والتبتل ، فيعزف بذاته عن اللهو ، فما رؤي لاهيا ، ويرتفع بمستواها الى مستوى الظروف الصعبة جدا ومثابرة ، ويجعل من نفسه دريئة للنبي ، ويروضّها اعنف الترويض عزيمة ، ويمعن في المواساة إمعانا في شتى الميادين.

وتفكر قريش في مصيرها على يد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومصير آلهتها من دعوته هذه ، فلا يهدأ لها جنان ، ولا يقر لها قرار ، ويجتمع علية القوم ، وتجيل الرأي فيما بينها ، فيستقّر الأمر : أن تنتدب لذلك ممثلا من كل قبيلة ، لتقتل في زعمها محمداً ، ويضيع دمه هدراً بين العرب ، وكان أبو جهل قد تولى كبر هذا الأمر ، ومن حوله أعيان الناس وزعماء الجاهلية يباركون سعيه ويترسمون كيده ، فينذر الله محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهجرة إلى يثرب ، المدينة المنورة فيما بعد ، فيخلو النبي بعلي عليه‌السلام ، ويطرح عليه الأمر ، ويرغب إليه بمواساته بهذه المحنة فيرّد بالإيجاب ، وينيمه النبي بفراشه ، ويشتمل هو ببرده الحضرمي ، ويعهد إليه بوصاياه ، ويسلمه ودائع الناس وأمانات العرب ، ليؤديها كما هي لأهلها ، وليسير أليه بعد ذلك بالفواطم. وعند منتصف الليل من ربيع الأول للسنة الثالثة عشرة من البعثة الشريفة ينسّل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الدار إنسلالا ، ويسلك من خلال القوم ، وهم يتأهبون للبيات ، وهو يتلو قوله تعالى :

( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ) (١).

ويرمي وجوه القوم بحفنه من الحصى أو التراب « شاهت الوجوه ذلا » ويخرج من مكة هو وصاحبه أبو بكر الصديق ، وأفاق المشركون عند الفجر ، ليهجموا على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فراشه ، وإذا بعليّ عليه‌السلام

____________

(١) سورة يس ، الآية : ٩.

٢١

في الفراش ، فيسقط في أيديهم ، ويتبعونه فلا يفلحون بشيء ، ويتفرغ علي لإرجاع الودائع وتنفيذ الوصايا ثلاثة أيام ، ويخرج بالفواطم جهارا نهارا فتعرض له قريش ، ويكون قتال ، فيقتل « جناحا » مولى حرب بن أمية ، فيتراجع القوم بعض الشيء ، ويتنمر عليّ عليه‌السلام في ذات الله ، ويجالد ما شاءت له المجالدة ، فيخلي القوم بينه وبين الضعائن ، ويواصل المسير حتى يدرك النبي في قباء ، وكان ينتظره هناك ، وما شاء أن يدخل المدينة قبله ، ويدخل معه المدينة ، ويحط بها رحاله ، وتلتف حوله رجاله.

وفي المدينة المنورة حيث العزّ والنصرة والإيثار ، يشارك علي عليه‌السلام في بناء مسجد رسول الله حيث موضعه اليوم ، ويرتجز عند البناء :

لا يستوي من يعمر المساجدا

يدأب فيها قائما أو قاعدا

ومن يرى عن الغبار حائدا

وفي المدينة المنورة أيضا : يؤاخي النبي بين المهاجرين أنفسهم ، ويؤاخي بينهم وبين الأنصار ثانية ، ويؤاخي بين نفسه وعلي ، فعليّ أخوه في أول عهدهما بمكة ، وعلي أخوه في جديد عهدهما بالمدينة ، وكانت الأولى أمام قريش والمهاجرين منهم بخاصة ، والثانية بين ظهراني المهاجرين والأنصار بعامة ، ليدرك الجميع بعد هذا الغور من المؤاخاة.

ويبقى هذا الأخ وفيا لأخيه في كل جزئية وكلية ، حريصا على القيام بأمره في كل كبيرة وصغيرة ، ويطيب لهما المقام بالمدينة عامهما الأول ، تلقينا للإسلام وتعليما للفرائض ، ويقبل الأوس والخزرج على الدين الجديد إقبالا ينسيهم ما هم فيه من الخصومة والصراع وسفك

٢٢

الدماء ، وإذا بهم ينزعون عن هذا المسلك لينصهروا بالدين الجديد تفقها وعلما وتوجيها.

وما كان لمحمد أن يستريح أو يريح ، فقدره أن يناضل ويكافح ويستميت ، ففي العام الثاني من الهجرة ترسل قريشا عيرها في تجارتها الى الشام ، بقيادة أبي سفيان ، فتكتال وتعود ، ويعلم النبي وآله وأصحابه بذلك ، فيترصدون القافلة ويهبّون إليها خفافا وثقالا ، ويعدهم الله : « احدى الطائفتين » العير أو النفير ، ويستحبّون العير لما تحمل من الغنائم ، ويأبى الله إلا النفير لما فيه من البلاء والنصر والعزة للدين الوليد ، وقد عبّر القرآن عن هذا الملحظ :

( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) (١).

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٧.

٢٣

(٢)

الإعداد الخاص حتى معركة بدر الكبرى

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعّد علياً عليه‌السلام إعداداً خاصاً ، ويشفق عليه إشفاقاً غريباً ، يتطلع وراء الأفق لما سيحققه هذا الفتى من بناء الإسلام والتطويح بالوثنية ، فقد منحه الله بناء جسمياً متكاملاً ، وقد بدت عليه سمات الفتوة والرجولة والقيادة ، فهو قوي البدن ، مفتول الساعدين ، عريض ما بين المنكبين ، فيه سمرة العرب وهيبة الإسلام ، وعليه سيماء الفطنة ومظاهر الإعتداد ، وبه صدق العزيمة ومخائل الصبر ، وله حكمة الشيوخ وعزم الشباب؛ هذه صفات تعده لحرب أعدائه ، وهناك خصائص تعده لحمل رسالته ، فهو خشن في ذات الله ، وهو متورع في سبيل الله ، وهو عقلية تعي المفاهيم الجديدة ، وهو قطعة من الذكاء ورهافه الحس ، يدرك من محمد ما في نفسه ، ويستقرئ ما يجول بخواطره من هموم وآمال وتطلعات ، هذا الملحظان البدني والنفسي عند علي عليه‌السلام ينظرهما محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعين الرضا والإعجاب ، فيوليه نفحات الاصطفاء من جهة ، ويمنحه لهما الحب الخالص من جهة أخرى ، فيلتقى علي عليه‌السلام منه هذا السيل الهادر من الأمدادات مع التثقيف والتقويم والشمولية ، وينعطف منه على ذلك النبع الثرّ من العطف والإيثار والحذر ، يتحفه بكنوز من العلم لا تفنى ، ويضفي عليه من حلل الثناء ما لا يبلى ، يجتمع وإياه في صلة القربى ، ويختصه دون

٢٤

سواه بالحكمة ضروب المعرفة ، ويعمله معالم الدين جملة وتفصيلاً ، حتى صيّره صورة صادقة له في الخلق العظيم ، وقدوة حسنة في الكمال المطلق ، فهو يدعوه أخاه ويعتبره نفسه ، ويجتبيه بكل لطف وعناية ، ويحذر عليه من كل بلية وداهية.

ولكن مقومات علي عليه‌السلام النفسية تقتضي أن يحملّه شطراً من رسالته ، وعبأ من ثقل أمانته ، وليس هذا وقت الحديث عن ذلك ، ومقومات عليّ البدنية وقدراته النضالية تقتضيان أن يقذف به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بطولات الحروب. ويشركه في عظائم الأمور ، إستئناساً بقابليته الفذّة ، ويرشحه لكبريات القضايا إعتداداً بكفايته الفريدة.

وتخرج قريش بعيرها عائدة من الشام ، وقد حملت ما شاء لها أن تحمل من تجارة القوم ، فيمسك لها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بالطريق ، ويحرّض المسلمين على الرصد والأخذ حين الغرّة ، ويقود الحملة بنفسه ، وعليًّ إلى جنبه ، وينتدب المسلمون لها ، وهم يطمعون بالعير ، ويأبى الله إلا النفير ، وهذا أبو سفيان يصله النذير فيتيامن جهة البحر ويساحل بأثقاله ، وهذه قريش تعمى عليها الأخبار فتهب هبة واحدة مستعدة للحرب ، أبو سفيان على العير ، وعتبة وأبو جهل على النفير ، وتصل العير إلى مكة ، ويخرج النفير منها ، ويتساءل بعض القوم ، وتلاوم بعضهم الآخر ، فيم الخروج أذن ، وقد وصل أبو سفيان بتجارة قومه إلى حيث الأمن والدعة ، ولكن القادة من قريش يصرّون على الحرب ، ويخرجون بقضهم وقضيضهم كما يقال ، هزجين فرحين بين المعازف والقيان ، والمسلمون يترصدون العير فلا يظفرون بها ، ويودّ المسلمون أن لو كانت غير الشوكة لهم ، ويأبى الله إلا أن تكون ذات الشوكة لهم ،

٢٥

خرجوا للغنيمة لا للحرب ، فصكوا بالحرب لا بالغنيمة ، وقد إدخّر لهم الله النصر والغنيمة ، وأي نصر هذا الذي ينتظر هذه الفئة القليلة ، إنه النصر المؤزر الذي ذهب بجبروت قريش وطغيانها ، النصر الذي ثبّت الذين آمنوا تثبيتاً فأزدادوا إيماناً ، بل فتح عليهم مغالق الحياة بعد عسرها ، فإلى جنب النصر الغنائم وفداء الأسرى ، فينتقلون - بعض الشيء - من حياة الجفاف المحض إلى يسير من الدعة والخفض.

وكان عليٌّ عليه‌السلام السبّاق إلى هذه المعركة إلى ساحة « بدر الكبرى ».

ولم يكن ذا صيت في الحرب إذ لم يحارب إلا لماماً ، ولم يكن ذا سن متقدمة عركتها ميادين القتال ، كان قد قارب الخامسة والعشرين أو دون ذلك بقليل ، وإذا بعلي يحمل لواء الحمد في يد ، والسيف في يد ، وتتجمع قريش في « بدر » بين مكة والمدينة يقودها الحين ومصارع السوء ، ويتحلق المسلمون حول بدر ، وتبدأ في السابع عشر من رمضان ذاك العام أعظم معركة بين الوثنية والإسلام ، والنبي يعبىء أصحابه ، ويعّد المقاتلين ، ويسوي الصفوف بنفسه ، وهو يرمق السماء تارة ، ويرمق أصحابه تارة أخرى ، يستنزل النصر :

« اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ، وان شئت أن لا تعبد لا تعبد » فيثبت الله المسلمين ويقلل في أعينهم عدّة المشركين وهم في حدود الألف من الرجال، ويقلّل الله في أعين المشركين عدة المسلمين وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ليقدم كل فريق على الحرب ، ويمدّ الله نبيه بالملائكة المردفين ، ويصطّف الجمعان ، جمع المسلمين وجمع القرشيين ، وتنتدب قريش أحدها ليخبرهم أمر القوم ، وإذا بالرائد بعد جولته حوالي المسلمين يعود إلى قريش ليقول : « إن نواضح يثرب

٢٦

تحمل الموت الأحمر ، وأصحاب محمد يتلمّظون تلمظ الأفاعي » فما فّت هذا من عضدهم ، وغلبهم شؤم ابن الحنظلية - أبي جهل - كما يقولون. ولكن القرآن يصدع بالأمر الواقع ، وينبىء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمصير هؤلاء : ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (١) وكان الأمر كما قال ومن ينظر كثرة قريش وجودة إعدادها الحربي يحكم بالنصر لها ، ومن يمعن بتردد قريش وخذلانها ، وتلاومها واختلافها ، وكثرة لغطها ، وتنافر رجالها ، ويقارنه إلى ثبات المسلمين وهم القلة ، وجلدهم وتعاضدهم وتساندهم يحكم بالنصر لهم ، وهكذا كان ، فقد أعجل أبو جهل قريشاً في مبادئة الحرب ، وحفزهم إلى مبادرة القتال ، بعد أن طوح بمتابعة القوم فيما بينهم للكف عن الحرب ، وأخذت العصبية القبليّة دورها في تأليب من تردد ووهن وضعف ، وتنادوا فيما بينهم بشعارات الجاهلية وحمية الوثنية ، فأغضب كثير من المشركين وكانوا كارهين للحرب ، وقد نشبت الحرب إذ برز الوليد بن عتبة ، وأبوه عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة يطلبون أكفاءهم من قريش ، لا السواد من الأنصار فكان لهم ما أرادوا ، فخرج علي وحمزة وعبيدة ، فأشرأبت الأعناق واستطالت الأبصار ، وتقابل المقاتلون ، فقتل عليٌ الوليد ، وشارك في قتل شيبة ، وذبّب على عتبة أو بالعكس ، وقتل الحمزة عتبة ، وقتل عبيدة شيبة ، وقتله قاتله ، وانجلت الغبرة عن مقتل فرسان قريش جميعهم ، وأستشهد عبيدة ، وكرّ الفارسان علي والحمزة يهدران ، وكان ذلك أول النصر. وتهلل وجه النبي فرحاً ، وبدأت الهزيمة النفسية عند قريش ، وتحفز المسلمون فكرّوا عليهم تقتيلاً وأسراً وتشريداً ، فكانت قتلى قريش سبعين فارساً ، وأسرى قريش سبعين بطلاً. وسلني عن علي ما موقفه آنذاك ، الروايات

__________________

(١) سورة القمر ، الآية : ٤٥.

٢٧

المتواترة تقول إنه قتل نصف قتلى المشريكن ، وشارك في جملة من النصف الآخر ، فهو وحده قد أحرز خمسة وثلاثين قتيلاً ، وكان ذلك من نصيب بني أمية ، وبني عبد الدار ، وبني مخزوم ، وبني سهم ، وما تبعهم من ذؤبان العرب ، مما طأطأ من رؤوسهم ، وغضّ من أبصارهم ، مما كان له فيما بعد وعند ظهر الإسلام حساب مع علي أي حساب ، تداركاً للثأر ، وعودة إلى الجاهلية ، كما ستقرأه فيما بعد من أحداث.

فهذا حنظلة بن أبي سفيان يهوي بسيف علي ، وهذا الوليد بن عتبة وهذا العاص بن سعيد بن العاص من بني أمية ، وهذا حليفهم عامر بن عبدالله تتهاوى رؤوسهم بيد علي عليه‌السلام.

وهذا طعيمة بن عدي من بني نوفل يقتله علي ، وهذان الحارث وأبو زمعة بن الأسود من بين أسد بن عبد العزى يقتلهما علي ، وهذا عقيل بن الأسود يقتله علي ، وهذا نوفل بن خويلد يقتله علي.

وهذا النضر بن الحارث بن كلدة من بني عبد الدار يقتله علي بأمر النبي. وهذا زيد بن مليص مولاهم يقتله عليٌّ.

وهذا عمير بن عثمان من بني تيم يقتله علي ، وهذا العاص بن هاشم المخزومي خال عمر بن الخطاب يقتله علي ، وهذا أبو قيس بن الوليد يقتله علي وهؤلاء السهميون : منبه بن الحجاج ، ونبيه بن الحجاج ، والعاص بن منبه وأبو العاص بن قيس يقتلهم علي ، وهذا وذاك بل وهؤلاء وهولاء يتهافتون على المنيه بسيف علي ... ولا نطيل فمنذ ذلك اليوم عرف المناخ الحربي لعلي عليه‌السلام في القتال ، فهابه الرجال ، وتحاماه الأبطال.

٢٨

(٣)

عليٌ في عنفوان شبابه ومرحلة الزهد والإيثار

وها هو الفتى في عنفوان شبابه ، ومقتبل رجولته : يحاول أن يجمع شمله بمن يسكن إليه؛ ويعيّن ذلك السكن؛ إنها الزهراء : فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنه يجيل خاطره بالأحداث؛ فهذا أبو بكر يخطبها من النبي ، والنبي متلبث بذلك ينتظر بها القضاء ، وهذا عمر يتقدم لها بعده فيجابهه النبي بالرّد « أنتظر بها القضاء ».

فيا ترى ماذا يريد النبي؟ ، وما عسى أن يعزم عليه » ، فلعله أدّخرها له ، ومن يدري ما تنطوي عليه نفس محمد وهو يقول : « فاطمة بضعة مني » ولكن علياً شجنة منه أيضاً قربى وأخوةً وروحاً ، فيتقدم لها دون تردد ، ويفاتح الرسول بذلك دون إحجام؛ ولكن على استحياء يشوبه شيء من الخجل والإحراج ، ويبدد رسول الله هذا الخجل ، فيتهلل وجهه فرحاً ، وتطفح أساريره بالبشر ، وينعم عليه بالإيجاب ، ويضم إليه أهل بيته وأصحابه ليقول : « إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من عليّ ( زوّج النور من النور ) وأشهدكم أني زوجت فاطمة من علي على أربعمائة مثال فضة ، إن رضا بذلك على السنة القائمة والفريضة الواجبة ».

ويتم عقد القران ، ويولي أبا بكر بعص إحتياجاته ، ويرسل سلمان

٢٩

لشراء بعض متاع البيت الجديد ، ويوحي لبلال بإصابة شيء من الطيب ، وتشرف أم سلمة زوج النبي على جملة من المتطلبات والشؤون ، وتتكامل آداة العرس هذه بما اختاره المنتدبون لذلك ، ويتم الزواج في دار متواضعة في أطراف المدينة يستأجرها علي ، ويقصدهما رسول الله بنفسه ، ويضمّ إليه علياً والزهراء ، يبارك لهما ويدعو ، ويسعد بهما ويستبشر ، فتغمرهما فرحة أية فرحة ، وتتلاشى بعض سحب الحياء ، وتختفي جملة من أصداء الخجل بهذا الفيض من الحب والحنان والرعاية ، والنبي يتهجد بصوته : « اللهم بارك فيهما ، وبارك عليهما وبارك لهما في نسلهما .... « واستجاب الله الدعاء، فقد بارك الله فيهما وعليهما ولهما؛ فكان عليٌّ قائد الغرّ المحجّلين ، وكانت الزهراء سيدة نساء العالمين؛ وبارك عليهما؛ فما عُلِمَ زواج أسعد من هذا الزواج في عظمته وتواضعه بوقت واحد ، العظمة في القرينين ، والتواضع في مرافقه وأسبابه التي لم تعرف ترفاً ، ولم تلمس بذخاً ، وإنما هي الملحفة محشوة بالليف ، والوسادة التي قد ترتفع لمستوى القطن ، والسرير من جريد النخل ، والبساط المتواضع وهو جلد كبش ليس غير ، وبعض الأنسجة الصوفية اليدوية ، وتلك الرحى التي ستمجل منها كف الزهراء ، وهذه الأواني الخزفية الساذجة البدائية التي هزت الرسول الأعظم فقال :

« بورك لقوم جل أوانيهم الخزف » أو نحو هذا.

وبورك لهما في نسلهما ، فها هي ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متمثلة بالحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، ومتسلسلة عما تناسل منهما أبد الدهر ، وها هم اليوم يعدّون بالملايين بين البشر.

وودعهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانصرف ، وفي نفسه أمنية لا كبير أمر لو تحققت ، وقد يعمل بنفسه على تحقيقها ؛ فأمنيته أن يكون علي وابنته

٣٠

على مقربة منه ، ينعمان بجواره ، ويشملان برعايته ، وتحققت الأمنية بقرب الدار ، فيتحولان إلى دار حارثة بن النعمان إلى جنب دار النبي ، وبينها وبين حجرة النبي كوة ، وهي مطلة على مسجده ، ولها باب تنفذ إليه ، ويكون لهذه الباب شأن فيما بعد ، فتغلق أبواب البيوت على المسجد إلا باب علي وفاطمة بأمر النبي.

وبدأت الحياة الزوجية المكافحة ، عليٌ يعمل على ناضح له في الزراعة والمساقاة ، وقد يحرث بعض الأرض ويشق بعض الترع ، وفاطمة تهيىء مرافق البيت وتشرف على إدارته ، فإذا أقبل من عمله شاركها في عملها في البيت ، وساعدها على تلك الشؤون اليسيرة السمحة دون تكلف أو عناء.

وانتظرت الأمومة الزهراء عليها‌السلام ، فانجبت وليدها البكر ، وما كان عليٌ ليسبق رسول الله في تسميته سماه « حسناً » وحملت بالوليد الثاني ووضعته فسمّاه النبي « حسيناً ».

وأسعفت الغنائم علياً بشيء من فيضها ، والسقاية برافد من السعة شيئاً ما ، فأبتاع لزوجه خادماً تسمى « فضة » حملت عبءَ البيت عن فاطمة ، وكانت عوناً لها في هذه المهمات البسيطة ، وعضداً في تلك الملمّات الشديدة فيما بعد ، وهنا تستولي السعادة بأطرافها في هذا البيت الصغير ، أو الحجرة الواحدة في الأصح ، وتغمر الأبوين الفرحة الكبرى بهذه الزهرة الجديدة « زينب » عقيلة بني هاشم.

وكانت الحياة في بيت علي مليئة بالزهد والكفاف ، عامرة بالايثار ، لا فضل من قوت ، ولا استزادة من أرغفة ، شأن الأبرار الصالحين ، يكاد لا يكون هذا العيش الزهيد وقفاً على عليّ والزهراء ، فقد يشاركهما فيه سواهما ممن أمعن في الفقر إمعاناً.

٣١

ويصوم الفتى والفتاة ، ويعدّان للإفطار أقراصاً من الخبز ، وجريشاً من الملح ، وشيئاً من لبن قد يحضر وقد يغيب ، وإذا بالباب يطرق وعليه مسكين يستغيث من الجوع ، فيجود عليه الصائمان بإفطارهما هذا ، ويطويان ليلتهما لليوم الثاني ، ويعدّان مائدة الإفطار على هذا النحو البسيط ، وإذا بالباب يطرق وعليه يتيم لا يجد إلى الشبع سبيلاً فيجود عليه الصائمان بإفطارهما ، ويطويان ليلتهما لليوم الثالث ، ويعدان مائدة الإفطار وهمافيعسر من أمرهما ، وإذا بالباب يطرق وعليه أسير لا طمع له في القرص ، فيجود عليه الصائمان بافطارهما ، ويهبط حبرائيل بالوحي على الرسول الكريم مدوناً هذه الحادثة الفريدة في الإيثار :

( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا ) (١).

وينتشر النبأ بين المسلمين إنتشار النار بالهشيم.

وكان عليٌ في هذا الجانب مؤثراً على نفسه دون شك :

( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (٢) فلم يكن ذا سعة في المال ، ولم يكن مبسوط اليد في الثراء ، ولكنه لم يعرف عنه الاعتذار في هذا المجال ، يجود بما عنده ، ويلزم نفسه بالشدة ، ابتغاء مرضاة الله ، لا يشرك في نيته أحداً ، ولا يفضي بسره في ذلك إلى أحد ، فعمله خالص لله وحده ، وقد دلّنا الذكر الحكيم في غير موضع على هذا الملحظ عند عليّ؛ فعن أبي ذر الغفاري :

__________________

(١) سورة الإنسان ، الآيتان : ٨ ، ٩.

(٢) سورة الحشر ، الآية : ٩.

٣٢

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتين وإلا فصّمتا ، ورأيته بهاتين وإلا فعميتا ، يقول : عليٌ قائد البرّرة ، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، فخذول من خذله؛ أما أني صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ولم يعطه أحد شيئاً ، فرفع السائل يده إلى السماء ، وقال : اللهم إشهد أني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً ، وكان عليٌ راكعاً فأومأ بخنصره اليمنى ، وكان يتختم فيها ، فأقبل السائل حتى آخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين رسول الله؛ وفي خبر آخر في حديث طويل يشتمل على حديث المنزلة ، فسأله النبي : ماذا أُعطيت ، قال خاتم من فضة ، قال : من أعطاكه؟ قال : ذلك القائم ، فإذا هو عليٌّ ، قال : على أي حال أعطاكه؟ قال : أعطاني وهو راكع. فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ نزلت عليه الآيتان :

( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (٥٥) وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (١).

وقد أجمع المسلمون على نزول هاتين الآيتين في حق علي عليه‌السلام.

وعن ابن عباس : كانت مع علي أربعة دراهم ، فتصدق بواحد ليلاً ، وبواحد نهاراً ، وبواحد سراً، وبواحد علانية ، فنزلت : ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢). وتحلق المتنطّعون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجلس إليه الأغنياء ، يبددون وقته بالهذر ، والنبي صابر ، ويساروّن إليه بما قد لا ينفع ويمنعه خلقه من الامتناع عليهم ، فكان الاستئثار بوقت القائد ، وكانت الثرثرة حيناً ، والتمادي بتلك الثرثرة حيناً

__________________

(١) سورة المائدة ، الآيتان : ٥٥ ، ٥٦.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٧٤.

٣٣

آخر ، وكان التساؤل والتنطّع دون تقدير لملكية هذا الوقت ، وعائدية هذه الشخصية ، فحدّ القرآن من هذه الظاهرة ، وإعتبرها ضرباً من الفوضى ، وعالجها بوجوب دفع ضريبة معالية ، تسبق هذا التساؤل أو تلك النجوى ، ونزل قوله تعالى :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (١).

وكان لهذه الآية وقع كبير ، فامتنع الأكثرون عن النجوى ، وتصدق من تصدق فسأل ووعى وعلم ، وانتظم المناخ العقلي بين يدي الرسول الأعظم ، وتحددت الأسئلة ، ليتفرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسؤولية القيادية؛ وكان عليٌ وحده هو المتصدّق وهو المناجي ليس غير ، وقام على ذلك إجماع المسلمين حتى قال عبد الله بن عمر : « كان لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ثلاث لو كانت لي واحدة منهن لكانت أحبّ إلي من حمر النعم : تزويجه فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى » وقال عليٌّ عليه‌السلام يشرح هذه الحادثة : « إذا كان في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ( وتلا آية النجوى ) كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدمت درهماً ... ».

ولما وعت الجماعة الإسلامية مغزى الآية ، وبلغ الله فيها أمره ، نسخ حكمها ورفع ، وخفف الله عن المسلمين بعلي وحده ، بعد شدة مؤدية ، وفريضة راوعة ، وتأنيب في آية النسخ :

( أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا

__________________

(١) سورة المجادلة ، الآية : ١٢.

٣٤

الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (١).

هذه نماذج مما جبل عليه عليٌ نفسه ، وبما أخذها فيه ، جاءت على سجيتها ، دون تكلف ، وانطلقت ذاتية دون رياء ، وما لعلي وللتكلف والرياء ، ولو كان له بيتان : بيت من تبر وبيت من تبن لا نفق تبره قبل تبنه كما يقول معاوية.

__________________

(١) سورة المجادلة ، الآية : ١٣.

٣٥

(٤)

عليٌ فارس المهمّات الصعبة

أفاقت قريش من سكرتها بعد بدر ، ووصلت فلولها المنهزمة إلى مكة لتجد العير موقوفة في دار الندوة وفيها المتاع والتجارة والمال ، ومشى سراة قريش إلى أبي سفيان بحسبها بغية التجهز لحرب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأجاب إلى ذلك أبو سفيان كما أجاب أصحاب العير ، وأظهرت قريش التجلّد ، فلم تندب قتيلاً ، ولم تبك أحداً من رجالها ، ومنعت النساء من النياحة ، الشباب من الإخلاد إلى العاطفة ، واستنصروا الأحابيش مشى فيهم عمرو بن العاص ، وابن الزبعرى ، وأبو عزة الجمحي ، فتألب العرب ، وإستعد الجمع ، يريدون حرب محمد ، والثأر لبدر ، وخرجت قريش بالظعن ، وكثرت العدة والأسلحة ، وساروا بمائتي فرس ، وهم ثلاثة آلاتف في ثلاثة ألاف بعير ، في أهبة متكاملة وفيهم سبعمائة دارع ، ووصل النبأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في قباء فأسرّ به إلى سعد بن الربيع ، فقال له سعد : والله إني لأرجو أن يكون في ذلك خير.

ووصلت الجموع المعتدية أطراف المدينة في الخامس من شوال للسنة الثالثة من الهجرة ، وكانت المعركة يوم السبت السابع من شوال للعام نفسه.

أستخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقدوم هذا الجمع المتألب ، فقال :

٣٦

حسبنا الله ونعم الوكيل ، اللهم : بك أحول ، وبك أصول.

والتفت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسلمين ، وهو يريد الأنصار ، وقال : أشيروا عليّ ، فأشير عليه أولاً بالمكث في المدينة ، وجعل النساء والذراري في الأطام ، وطلب آخرون الخروج من المدينة إلى عدوهم ، فهي إحدى الحسنيين إما الشهادة وإما الغنيمة ، ونزل على هذا الرأي ، وندم من أشار بهذا الرأي ، وخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدججاً بالسلاح ، فتلاوموا فيما بينهم ، وأرادوا الرأي الأول فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم ، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه ».

وكان هذا الإلجاء من المسلمين أول الخور والفشل ، ولكن النبيّ وعدهم بالنصر ما صبروا ، واتبعوا تعليماته ، ونزلوا بأحد قبال المشركين ، وصفّ النبي أصحابه ، وجعل الرماة على الجبال وألزمهم بالثبات فيه ، مهما كانت ظروف الحرب ، وجعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة.

وأعطت قريش اللواء لبني عبد الدار ، ولواء المسلمين بيد علي عليه‌السلام ، فانتزعه النبي منه ، وأعطاه مصعب بن عمير ، وقيل أعطى غيره لمصعب بن عمير لأنه من بني عبد الدار. وبقي اللواء بيد عليّ. وأقبلت هند زوج أبي سفيان وصواحبها يحرضن على القتال :

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق

إن تقبلوا نعانق

أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

وبرز طلحة بن أبي طلحة في لواء المشركين وطلب البراز فخرج

٣٧

له عليٌ عليه‌السلام وتجاولا بين الصفين ، ورسول الله تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة ، فالتقيا ، وبدره عليٌ بضربة على رأسه فمضى السيف حتى فلق هامته إلى أن انتهى إلى لحييه فوقع ، فلما قتل طلحة سر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكبّر تكبيراً عالياً وكبّر المسلمون ، وسقط لواء المشركين وتشجع المسلمون ، وبرز بنو عبد الدار سبعتهم واحداً بعد واحد يتساقطون حول اللواء بسيف علي حتى حمله أرطاة بن عبد شر حبيل فقتله علي ، وحمله غلام بني عبد الدار فقتله عليً ، وسقط اللواء فانهزم المشركون ، ونادت نساؤهم بالويل والثبور ، وليس دون أخذهن من شيء ، ورأى المسلمون الفتح ، وأشتغلوا شيئاً ما بالغنيمة ، فتخلى القسم الأكبر من الرماة عن الجبل ، ودخلوا العسكر ، وخالفوا الرسول الذي عهد إليهم :

« أحمو ظهورنا ، وإن غنمنا فلا تشركونا ».

ونظر خالد بن الوليد إلى الجبل وعليه شرذمة قليلون فمال على المسلمين وكرّ بالخيل عليه ، فجالد من بقي من الرماة ساعة ، وقتل قائدهم عبد الله بن جبير ، فانتقضت صفوف المسلمين ، وهجم عليهم خالد وعكرمة بن أبي جهل من خلفهم ، واختلط الحابل بالنابل ، وعمّت الفوضى العسكرية ، فأصبح المسلم يقتل أخاه المسلم ولا يعلم بذلك ، واشتدّ الهرج بالمسلمين ، وكثر الفرار من قبل أجلّة الصحابة ، وأسلم النبي وهو في العريش ، وثبت معه سبعة أو تسعة ، وتحلق المشركون عليه من كل جانب ، ونادى مناديهم قتل محمد ، وعظم ذلك على المسلمين واشتدت المحنة بهم ، وثبت رسول الله في نفر من أهل بيته وأصحابه وفي طليعتهم عليٌ وأبو دجانة الأنصاري ، وأصعد المسلمون في الجبل فإعتصموا به ، وعلي ومصعب بن عمير وأبو دجانة يذبون عن

٣٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتجه ابن قميئة إلى مصعب بن عمير فيضرب يده اليمنى فيقطعها ، ويأخذ اللواء باليسرى فيقطعها ، ويضمه إلى عضديه ، فينفذ الرمح في صدره ، ويقتل مصعب ويسقط لواء المسلمين ، ويرفعه عليٌ ، والقتل فاش في المسلمين ، ورحى الحرب تدور بهم ، فتستأصل شأفتهم ، وقد احتوش المشركون حمزة بن عبد المطلب ، ويرميه وحشي بمزراق فيثبته ، ويقتل في المعركة ، وتدّب إليه هند بحنقها وحقدها ،فتقطع أفنه وأذنيه وتقتلع عينيه ، وتشق بطنه وتستخرج كبده فتلوكها.

وحمي الوطيس ، وفرّت الرجال عن النبي إلا بضعاً منهم ، وباشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذٍ القتال بنفسه ، فرمى بالنبل حتى فنيت نبله ، وأنكسرت سية قوسه ، وأدميت جبهته ، وأصيبت رباعيته ، وأقبلت كتائب المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزحف نحو رسول الله ، وقد كثر الفرار بين يديه من أصحابه ، وكانت كتيبة بني كنانة أشدّها عليه ، فالتفت رسول الله إلى علي وقال : ياعلي اكفني هذه الكتيبة ، فحمل عليها وإنها لتقارب خمسين فارساً ، وعليٌ راجل فما زال يضربها بالسيف حتى تتفرق عنه ثم تجتمع عليه هكذا مراراً ، حتى قتل بني سفيان بن عوف الأربعة ، وسواهم إلى تمام العشرة ، ممن لا يعرف اسمه ، فقال حبرائيل عليه‌السلام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمد : إن هذه المواساة لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وما يمنعه وهو مني وأنا منه ، فقال حبرائيل ، وأنا منكما.

وأشتد القتال على علي ، وهو يذب بالسيف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنادى جبرائيل من قبل السماء :

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا عليّ

٣٩

وذكر عليٌّ عليه‌السلام ، يوم أحد وهجمة الكتائب على الرسول ، فقال :

« لقد رأيتني يومئذٍ وإني لأذبّهم في ناحية ، وإن أبا دجانة لفي ناحية يذبّ طائفة منهم ، حتى فرّج الله ذلك كله ، ولقد رأيتني ، وانفردت منهم يومئذٍ فرقة خشناء فيها عكرمة بن أبي جهل ، فدخلت وسطهم بالسيف فضربت به ، وأشتملوا عليّ حتى أفضيت إلى آخرهم ، ثم كررت فيهم الثانية حتى رجعت من حيث جئت ، ولكن الأجل استأخر ، ويقضي الله أمراً كان مفعولاً ».

وقتل عليٌ مضافاً لهذا جملة من علية القوم كأبي الحكم بن الأخنس بن شريق ، وأمية بن أبي حذيفة وسواهما بعد خطوب ومعارك حامية.

ولم يكن القتال وحده كل همّه في أحد ، بل كان عين رسول الله الساهرة في أحداثها ، فهو الذي التمس حمزة لرسول الله فوجده قتيلاً ، وهو أول الستة أو الأربعة عشر الذين ثبتوا مع رسول الله ليس غير ، وهو أول المبايعين الثمانية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الموت ، وهو أول الواقفين إلى حنب رسول الله من بداية الحرب إلى نهايتها.

وتحاجز الفريقان ، وقال أبو سفيان : أعل هبل ، يوم بيوم بدر ، فأجيب :

الله أعلى وأجل.

وإستردّت قريش بعض أنفاسها بهذا النصر الموقوت ، ولم تشأ أن توغل في الاثم فتبقى أكثر مما بقيت ، أو تقاتل أكثر مما قاتلت ، فما يدريها فلعل الدائرة تكون عليها ، فتركت المعركة جانباً ، واكتفت بما

٤٠