الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة العارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠

منكم عشرة ، ولا يفلت منهم عشرة ، وكان كما قال فما نجى من الخوارج إلا ثمانية أو تسعة ، ولم يقتل من اصحابه إلا تسعة.

ووضعت الحرب أوزارها ، وإذا بأمير المؤمنين يضطرب التماساً لرأس من رؤوس الخوارج يسمى ذا الثدية ، مخدّج اليد ، على عضده ثدية ذات شامه ، تشبه ثدي المرأة ، ويطلب إلى صحابته أن يلتمسوه في القتلى فلا يجدونه ، ويلح الإمام مصّراً على البحث عنه فيجدونه مجدّلاً صريعاً ، فإذا وقف على ذلك ، يخر لله ساجداً ، ويقول للناس : « والله ما كذبت ولا كذبت ، ولقد قتلتم شر الناس ».

ولهذا المخدّج ذي الثدية نبأ يتحدث عنه المؤرخون ، بأنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم حنين عند قسمة الغنائم : « اعدل يا محمد فإنك لم تعدل منذ اليوم ».

ويعرض عنه النبي مرة وأخرى ، ويكرر القول ثالثة ، فيقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مغضب :

« ومن يعدل إذا لم أعدل » ويهّم قوم بقتله ، فيكفهم النبي قائلاً : « يخرج من ضئضيء هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، يتلون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ».

وقد روى مسروق عن عائشة كما في مسند أحمد بن حنبل :

« قالت لي عائشة إنك من أحبّ ولدي إليّ ، فهل عندك علم بالمخدّج؟ فقلت : نعم قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال له النهروان ، فقالت : ابغني على ذلك بيّنة ، فأتيتها برجال عندهم علم بذلك ، ثم قلت لها : أسألك بصاحب هذا القبر ما الذي سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه قالت سمعته يقول : إنه شر الخلق والخليقة يقتله

٣٠١

خير الخلق ، وأقربهم عند الله وسيلة ».

وما هي إلا ساعات من نهار حتى فرغ عليٌ عليه‌السلام من قتال الخوارج بالنهروان ، ولكنه لم يفرغ من فلولهم ، ولم يقطع مادتهم ، فهم يتسللون من الكوفة لواذاً ، وهم يتجمعون أشتاتاً ، فيقلقون الدولة ، وتزداد قوتهم يوماً بعد يوم ، وكان عليّ عليه‌السلام رفيقاً بهم حيناً ، وعنيفاً حيناً آخر ، فهو لا يعرض لهم ، ولا يقطع جراياتهم ولا يبدؤهم بحرب ، حتى إذا بدرت منهم بادرة ، أو نجمت ناجمة قابلها بتسيير جند إليها يقمعها ، أو واعظ يزجرها ويفرقها ، ولكن الأمور تدهورت ، والأحداث قد تطورت نسبياً ، فما إن تخمد للخوارج حركة حتى تشب حركة أخرى ، وما إن تنتهي معركة حتى تبدأ معركة مثلها ، فهم بين مدّ وجزر ، والإمام بين قتال وكفاح ، هم يطمعون بعدله ، أو يطمعهم فيه عدله ، وهو يطمح لإصلاحهم ، وصلاحهم حتى إذا أشتدت شوكتهم على يد الخرّيت بن راشد ، وكان وقحاً شديداً ، جمع إليه أخلاط الناس ، وتدرع بالعلوج والأعاجم ، وتهيأ للخروج على الإمام ، ولقد جبه الإمام علياً بين الناس ، وقال له مجاهراً غير هيّاب ولا متوجل : « والله لا أطعتُ أمرك ، ولا صليت خلفك ».

فقال له أمير المؤمنين : « إذن تعصي ربك ، وتنكث عهدك ، ولا تغرّ إلا نفسك ، ولم تفعل ذلك ». فقال : « حكمت الرجال ، وضعفت عن الحق ، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم ، فأنا عليك زارٍ ، وعليهم ناقم ».

وأسمح عليّ عليه‌السلام له من نفسه ، ودعاه إلى المناظرة ، فأبى عليه ، وقال : أعود إليك غداً ، فتركه الإمام وشأنه ، ولم يعد الرجل إليه ، وإنما انطلق إلى قومه بني ناجية ، وكان ذا رأي لديهم ومطاعاً

٣٠٢

فيهم ، فخرج بهم مناجزاً للإمام ، ولقي الخريت ومعه بنو ناجية رجلين في الطريق ، وسألوهما عن دينهما ، فكان أحدهما يهودياً ، والآخر مسلماً ، فأطلقوا اليهودي لأنه من أهل الذمة ، واستوقفوا المسلم ، فسألوه عن عليّ فأجاب خيراً ، فقتلوه ، وأخبر اليهودي عامل الإمام على السواد بما رأى ، فكتب العامل لعليّ عليه‌السلام بذلك ، فأرسل الإمام كوكبة من جيشه لردهم إلى الطاعة ، وقتالهم إن أبوا ذلك ، وطلب إليهم قائد الجيش أن يسلموا قتلة المسلم ، فأبوا إلا الحرب ، وقامت الحرب على قدم وساق ، ولم يبلغ أحد من صاحبه شيئاً ، وأظلهم الليل ، فهرب الخريت وأصحابه إلى البصرة ، فأمر الإمام واليه على البصرة عبد الله بن عباس أن يتعقبهم ، ففعل ذلك ابن عباس جادّاً ، وهيأ جيشاً لقتالهم ، والتقى الجيشان بقتال شديد ، وبان الخذلان على الخريت وأصحابه ، فاتخذ الليل جملاً وهرب فيه ، وساحل الرجل بأصحابه ، وأنضم إليه المرتدون والمتمردون ، فتعقبهم جيش الإمام ، وحاصرهم محاصرة محكمة ، وقتل الخريت وأصحابه ، وأسر من بقي منهم ، فمن كان مسلماً منّ عليه وأطلقه ، واستتاب المرتدين ، فمن أسلم سرحه ، ومن لم يسلم أسره ، فكان الأسرى خمسمائة ، فمروا على عامل علي عليه‌السلام : مصقلة بن هبيرة الشيباني ، وهو على كور من فارس ، فضجوا إليه ، فخلصهم من الأسر بالفداء وأعتقهم ، وتحمل عنهم فداءهم على أن يسدده أقساطاً لبيت المال ، وصوب عليٌّ رأيه ، ولكن مصقلة ماطل في الدين ، فطالبه ابن عباس بذلك فقال : « لو قد طلبت أكثر من هذا المال إلى عثمان ما منعني إياه ». وما لبث أن هرب إلى معاوية ، فاستقبله معاوية بالأحضان وآواه وأكرمه ، وبلغ علياً ذلك فقال : « ما له قاتله الله ، فَعل فِعلَ الأحرار ، وفرّ فرار العبيد ». وأمر بداره فهدمت لا أكثر ولا أقل.

٣٠٣

ولم يكن هذا شأن مصقلة وحده ، بل له مدد آخر من الموالين لمعاوية ، فهو يطمعهم وهم يتعاونون معه في نشر الفساد ، وإحلال الفوضى ، والإخلال بالأمن ، فيستعين بهم في الإغارة على أطراف العراق ، ويستجلبهم عيوناً لديه ، ينبئونه بالأخبار ، ويسيّرون إليه المعلومات كما سترى.

٣٠٤

(١٠)

معاوية والخوارج يقتسمان الأحداث الدموية

ما استقر علي عليه‌السلام في الكوفة حتى أزعجته عن استقراره أحداث متفرقة ، وهي وإن تكن صغيرة إلا أنها مقلقة ، عكرّت صفو إقامته إن يكن له صفو ، وعرضت كيان دولته للإختلال ، ووسمت سلطانه العادل بالضعف لدى أعدائه.

وهذه الأحداث المتناوبة تتلخص في ثلاثة مظاهر مهمة :

المظهر الأول ، ويتجلى بسياسة معاوية بهذه الغارات المستمرة على أطراف العراق والحجاز وقلب اليمن.

والمظهر الثاني ، ويكمن في حركات الخوارج المتتالية من هنا وهناك ، تعيث فساداً في الأرض ، وتعلن العصيان المسلّح.

والمظهر الثالث ، يتلخص في شأن ولاته وعماله على الامصار فلم يكن كلهم كما أراد ، ولم يفِ له إلاّ بعضهم.

ولكل حدث من هذه الأحداث حديث خاص به ، نحاول إجماله وإلقاء الضوء عليه دون الدخول في متاهة التفصيلات التأريخية المدونّة في السِيّرِ والمغازي والتواريخ.

أولاً : إستغل معاوية تفكك جيش الإمام في حربه مع الخوارج ، واستطار فرحاً بانقسام أصحابه عليه ، ورأى في هذين عاملين مساعدين

٣٠٥

على التخريب المتعمد ، فأراد أن يدخل الرعب في قلوب العراقيين ، وأن يضعف المعنويات لدى المقاتلين وقد بلغه أن علياً عليه‌السلام يعدّ العدّة للعودة إلى صفين ؛ فاتخذ لنفسه منهجاً جديداً بتسيير قطع من جيش أهل الشام نحو أطراف العراق ، وأمر هذه القطع بالإغارة والنهب والقتل ، وإشاعة الخوف والرهبة في قلوب العراقيين ، وكان المتآمرون على الإمام من الداخل يوغلون بالتمادي مستغلين ورع الإمام وسماحه ، فوقفوا موقف الإنتهازي المستفيد ، وتجلببوا بجلباب الحاقد المنتقم ، ورأى معاوية ذلك فأمدّهم بالأموال الطائلة ، وأجزل لهم العطايا والهبات ، ومنّى كثيراً منهم بالإمارة والولاية ، ولوّح لبعضهم بالإصهار إليه أو منه ، فكان هؤلاء خطّاً معادياً ، له كيده وفكره ضد الإمام ، فتألّبوا عليه سراً ، وتقاعسوا عنه جهاراً ، فكانوا إلباً على إمامهم ، وعوناً لعدوهم ، فمهّدوا لمخططات معاوية تمهيداً ، وحسنوا له مساوءَهُ وانتهاكاته ، وزينوا له سوء عمله ، وآنسوا لهذا الترويع المستمر لسواد العراق ، وشجّع ذلك معاوية في إرسال السرايا الصغيرة ، وقطع الجيش المترصدة ، يقوم عليها أتباعه من ذوي الضمائر الميتة والأكباد الغليظة ، ويأمرهم فيها بالغارة المنظمة والمرتبة قتلاً ونهباً وترويعاً ، فكان له ما أراد : خوف شامل ، واستقرار مزعزع ، وغنائم باردة ، يعز معاوية بها سلطانه ، ويضعف بها الإمام وحكمه في الداخل. وقد تولى كبر هذه الغارات : الضحاك بن قيس ، والنعمان بن بشير ، وابن سعدة الفزاري.

وكان أشدها وقعاً على أمير المؤمنين غارة سفيان بن عوف الغامدي الذي تسلل إلى الأنبار فأكثر فيها الفساد ، وعاد بالغنائم وقتل الوالي ، وفتك بالجند بين عشية وضحاها. وانتهت الأنباء إلى الإمام عليه‌السلام ، فكانت اللوعة والأسى ، وكان القلق والحزن ، وكان التأنيب لأصحابه ، وكان الحث على الجهاد ، ولكن الإمام كان يضرب

٣٠٦

على حديد بارد في جماعة إستولى عليها التواكل والخذلان ، وعمل بها الوهن والضعف ، إستلذوا العافية ، ورضوا بالذلّة ، فما كان من الإمام إلا أن أبان لهم حقيقة الحال ، وشجب تقاعسهم شتاءً عن الجهاد ، وخمولهم صيفاً عن القتال ، حتى أفسدوا على الإمام رأيه ، فخطب على منبر مسجد الكوفة مستصرخاً لهم ؛ وزارياً بهم ، وغاضباً عليهم :

« أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة ، فمن تركه رغبة ألبسه الله ثوب الذلّ ، وسِيم الخسف ، ودِيث بالصَغار ، وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً ، وسراً وإعلاناً ، وقلت لكم : اغزوهم من قبل أن يغزوكم ، فوالذي نفسي بيده ، ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا. فتخاذلتم وتواكلتم ، وثقل عليكم قولي ، واتخذتموه وراءكم ظهرياً ، حتى شنت عليكم الغارات.

هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار ، وقتلوا حسان بن حسان ورجالاً منهم كثيراً ونساءً. والذي نفسي بيده ، لقد بلغني أنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة فينتزع أحجالهما ورعثهما ؛ ثم انصرفوا موفورين لم يُكلم أحد منهم كَلما ، فلو أن امرأً مسلماً مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي فيه ملوماً ، بل كان به عندي جديراً. يا عجباً كل العجب. عجب يميت القلب ويشغل الفهم ، ويكثر الأحزان ، من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم وفشلكم عن حقكم ، حتى أصبحتم غرضاً تُرمون ولا ترمون ، ويُغار عليكم ولا تغيرون ، ويعضى الله فيكم وترضون ، إن قلت لكم اغزوهم في الشتاء ، قلتم : هذا أوان قرّ وصرّ ، وإن قلت لكم إغزوهم في الصيف ، قلتم : هذه حمّارة القيظ ، أَنظرنا ينصرم الحرّ عنا ، فإذا كنتم من الحرّ والبرد تفروّن ، فأنتم والله من السيف أفرّ ؛ يا أشباه الرجال ولا رجال ، ويا طغام الأحلام ويا عقول

٣٠٧

ربّات الحجال ، والله لقد أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان ، ولقد ملأتم جوفي غيظاً حتى قالت قريش : ابن أبي طالب ، رجل شجاع ولكن لا رأي له في الحرب لله درّهم ، ومن ذا يكون أعلم بها مني ، أو أشد لها مراساً ، فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، ولقد نيفّت اليوم على الستين. ولكن لا رأي لمن لا يطاع ، لا رأي لمن لا يطاع ، لا رأي لمن لا يطاع ».

ومرت هذه الخطبة بسلام ، كأن الإمام ما فاه بشيء ، وقد تؤثر في أقليّة لا تغني عن الإمام شيئاً ، ولكنها تستجيب لأوامره ، فتتبع المغيرين ، تردّهم حيناً ، وتطاولهم حيناً آخر ، وهذا ما أطمع معاوية بتجاوز حدود العراق إلى أطراف الحجاز وأعماق اليمن ، فقد أرسل بسر بن أرطأة في قطعة من الجيش ، وبسر هذا قائد همجي متهتك ، لا يرعى حرمة ولا ذمة ، ولا يركن إلى عقل أو دين ، دفعه تهوره فأغار على أهل البوادي في طريقه إلى اليمن ، وتمكن من شيعة الإمام فروعهم ترويعاً مريراً ، وأتى مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأكثر فيها الفساد ، ويمم شطر البيت الحرام فزلزل أهل مكة عن مأمنهم ، وأوغل في أعماق اليمن ، فيفرّ الوالي عليها من قبل الإمام ، ويكثر فيها فيها الفساد والقتل ، ويسرف في ذلك إسرافاً شنيعاً ، ويستذل العباد إذلالاً فاحشاً ، ويذبح ابني الوالي عبيد الله بن العباس ، ويكون لمصرعهما مشهد من لوعة واسى عند القريب والبعيد ، وترثيهما أمهما بمرّ الرثاء ، ويمعن بسر في الإبادة وسفك الدماء ، ويمعن جنده في النهب واستصفاء الأموال ، ويأخذ البيعة لمعاوية كرهاً ، ويرسل الإمام جارية بن قدامة السعدي رحمه‌الله في ألفي مقاتل ، ويفر بسر من اليمن حائزاً الغنائم ، مرضيّاً عند معاوية بما أصاب ، ويُرجع جارية اليمن إلى طاعة أمير المؤمنين ، وتستقيم بها الأمور له ، ولكن بسراً بلغ ما أراد ، وكان الله له بالمرصاد ، فقد دعا عليه

٣٠٨

الإمام ففقد عقله ، وتصورت له بشاعة أعماله وجرائمه فجّن جنوناً مستحكماً ، فجعل يهذي بالسيف والقتال ، ويتصور له ابناء عبيد الله بن العباس ، فيتخذ له سيفاً من خشب يضرب به الوسائد والنضائد حتى هلك على هذه الحال.

ورأى معاوية في هذا الضرب من الإغارة إشغالاً لعلي عليه‌السلام ، فأكثر منها ، وأثاب عليها ، ودعا إليها ، حتى شمل الخوف أهل العراق.

ثانياً : وكان الخوارج مصدر قلق مستمر لدولة الإمام ، فهم قرّاء أهل المصر ، وهم عبّاد أهل الكوفة ، وهم أصحاب الجباه السود من كثرة السجود ، والسواد غير قدير على التمييز ، وهم يدعون إلى حكم القرآن ، وهم ناقمون من عليّ ومعاوية ، وهم يقاطعون الإمام في خطبته وصلاته وعلى عليه‌السلام صابر محتسب لا يتير حرباً ولا بألوا جهداً في الإصلاح ، ولكن الخوارج يلحّون في التواثب ، ويستفحلون على العدوان ، ويتمرسون صنوف العصيان ، يرون كل ذلك جهاداً في سبيل الله ، وتلك محنة ما وراءها محنة ، فهم يطلبون الحق فيخطئونه ، وهم يشجبون الباطل ويخوضون فيه ، وقد وصفهم الإمام فأحسن الصفة والتحليل « فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه ».

وكانت النهروان قد أكلت جموعهم ، وأفنت رجالهم ، وبقي منهم من عاش موتوراً ، فهو يحقد على الإمام صولته فيهم ، وهو ينقم من الإمام موقفه منهم ، فما برح الرجل والرجلان يثأران فيتبعهما المئة أو المئتان ، وإذا بهم يعلنون القتال ، ويخيفون السواد ، وينشرون الهلع ، ويقطعون السبل ، وعلي عليه‌السلام يسرّح لهم الجند ، ويسير لهم الطلائع ، فيلقون على أشدّ قتال تندر فيه الرؤوس وتسيل المهج ، حتى إذا قمعوا نجم قرن آخر ، وتعود الكرّة عليهم إثر الكرّة ، وهم بين إحجام وإقدام ،

٣٠٩

وهم بين فرّ وكرّ ، والإمام بين تهيأة واستعداد لا يريح ولا يستريح ، وما إن تمحق منهم طائفة إلا برزت طائفة ، وما أن يقتل قائد حتى ينبعث قائد آخر ، يجتمع حوله السواد ، ويسير بين يديه السعاة ، والإمام في حرب مستمرة لا يفرغ من بعضها حتى يقع في مثلها.

وكان الخارجون على الإمام وحكمه يتناوبون المهمة واحداً بعد واحد ، ويتهيأون للقتال قائداً إثر قائد ، فقد خرج هلال بن علفة التيمي ، فلمّا قتل هو وفلوله ، خرج الأشهب بن بشر البجلي ، فلما قتل وجنوده ، خرج سعد بن قفل التيمي ، فلمّا قتل وأصحابه ، خرج أبو مريم السعدي ... وهكذا كانت الأمور تجري في حرب داخلية لا أول لها ولا آخر ، يفقد فيها الإمام أنصاره بالأمس وأعداءه اليوم ، ويفيد منها معاوية تثبيتاً للسلطان ، فالخوارج أضروا بدولة الإمام ، والخوارج مهّدوا لدولة أهل الشام شاؤوا أم أبوا.

ثالثاً : ولم يكن الإمام في مأمن من ولاته وعمّاله ، فهم بين من خان الأمانة ، وبين من يرتد على عقبيه جبناً وتردداً ، وبين من تحاك حوله الدسائس فيطلب السواد عزله من الإمام ، وبين متحفظ رضي برفاهية العيش عن مرارة النضال العقائدي ، وهناك القلة الملتزمة التي نصحت وبرّت ، وعموماً لم تكن الإتجاهات المتباينة لترضي الإمام ، فكان في عناء منها أي عناء ، فهو يريد أن يعود بمناخ ولاته إلى عصر النبوة ، وهو يريد أن يكون عماله كعمال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقوى وورعاً وعدالة ، وهو يريد أن ينهض بهم إلى مستوى المسؤولية ، ويرتفع بأقدارهم عن مزالق الإنحراف والخيانة ، وهو يتابع كل ذلك بنفسه ، ويشرف على تخطيطه عن كثب ، والناس عبيد الدنيا ، وقد ذاقوا طعم التوسع والبذخ والإسراف أيام عثمان ، وابتعدوا شيئاً فشيئاً عن حياة

٣١٠

الشظف والبؤس والحرمان ، وهو يريد أن يعيدهم إلى الجادّة ، ويحملهم على المحجة البيضاء ، وكان من الطبيعي لهذا الإتجاه أن يلقى المعارضين له ، وأن يصطدم بالمنحرفين عنه ، يريد المعارضون لهذا المنهج أن يتنعموا بالولاية ، ويريد المنحرفون عن هذا السبيل أن يتمتعوا بالسلطان ، ويريد هو أن لا يكون هذا ولا ذاك ، فالراعي كالرعية ، والأمير كالمأمور ، كلّهم في شرع الحق سواء. وكانت سيرته الخاصة بعدله وخشونته تملي هذه المفاهيم قبل أقواله وتوجيهاته ، فقد أخذ نفسه بالشدة ، وهو يأخذ عماله بالشدة أيضاً ، وقد يبعث بالمراقبين على شؤون هؤلاء العمال ، وقد يبّث الأرصاد لمعاينة سيرة أولئك الولاة ، إذن هو لا يكتفي بالإشراف على ذلك بنفسه فحسب ، بل يرسل ثقته ليأتيه بالنبأ اليقين ؛ وهذا وذاك كفيلان بإستقامة الأمر ، وتدارك الخطأ ، ودرأ الإنحراف ، وتلك جدّية ما بعدها جدّية ، يتلافى بها الإمام الإهمال والإنحلال ، وقد مرت عليك خيانة مصقلة بن هبيرة إذ فَعل فِعل السيد ، وفرّ فرار العبد ، وقد سبق إليك تخاذل عبيد الله بن العباس وهربه من اليمن ، وتركها لبسر بن أرطاة يعيث فساداً في الأرض. وكذلك ما كان من أمر عامله على مكة قثم بن العباس حين فرّ منها بدخول يزيد بن شجرة الرهاوي أميراً على الموسم من قبل معاوية ، وكيف يمثل كل ذلك الضعف والوهن في نفوس الولاة ، وكيف ينجرّ ذلك الضعف على الدولة التي يقودها الإمام بأمثال هؤلاء. فإذا أضفت إلى ذلك خيانة الأمة في أموالها ، والتلاعب بفيء المسلمين ، أدركت مدى معاناة الإمام ، فقد كسر الأكراد شيئاً من خراج البصرة ، وكان عليها زياد ابن أبيه نيابة عن ابن عباس ، وقد طلب إليه الإمام حمل المال بيد أحد رسله ، وأراد زياد أن لا يخبر الرسولُ الإمام بهذه المضيعة ، فأنبأ الرسول الإمام بذلك ، فكتب إلى زياد :

٣١١

« قد بلغنّي رسولي عنك ما أخبرته عن الأكراد واستكتامك إياه ذلك ، وقد علمت أنك لم تُلق ذلك إليه إلا ليبلغني إياه ، وإني أقسم بالله عز وجل قسماً صادقاً لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدّن عليك شدة تدعك قليل الوفر ، ثقيل الظهر. والسلام ».

وكان الأشعث بن قيس عاملاً لعثمان ، على أذربيجان وقد ترك له عثمان خراجها ، وطمع الأشعث بذلك أيام الإمام ، فكتب له أمير المؤمنين يعزله ، ويحمله أداء الأمانة بقوله : « إنما غرّك من نفسك إملاء الله لك ، فما زلت تأكل رزقه ، وتستمتع بنعمه ، وتذهب طيباتك في أيام حياتك ، فأقبل وإحمل ما قبلك من الفيء ، ولا تجعل على نفسك سبيلاً ».

واستشار الأشعث في هذا الكتاب أمناءه ، وقد أراد اللحاق بمعاوية ، فما أشاروا عليه بذلك ، فنفذّه كارهاً ، وقدم على عليّ عليه‌السلام منابذاً في سرّه ، مشايعاً في ظاهره.

وكان المنذر بن الجارود العبدي عامله على إصطخر ، وقد كان أبوه من الصلحاء ، فبلغت الإمام عنه بعض الهنات ، فكتب إليه يعزله ويستقدمه :

« إن صلاح أبيك غرّني فيك ، وظننت أنك متبّع هديه وفعله ، فإذا أنت فيما رقي إليَّ لا تدع الإنقياد لهواك ، وإن أزرى ذلك بدينك ، ولا تسمع إلى الناصح ، وإن أخلص النصح لك. بلغني أنك تدع عملك كثيراً وتخرج لاهياً متنزهاً متصيداً ، وأنك قد بسطت يدك من مال الله لمن أتاك من أعراب قومك ، كأنه تراثُكَ عن أبيك وأمك ، وإني أقسم

٣١٢

بالله لئن كان ذلك حقاً لجملُ أهلك ، وشسع نعلك خير منك ، وإن اللعب واللهو لا يرضاهما الله. وخيانة المسلمين وتضييع أموالهم مما يسخط ربك. ومن كان كذلك فليس بأهل لأن يسّد به الثغر ، ويجبى به الفيء ، ويؤتمن على مال المسلمين ، وأقبل حين يصل كتابي هذا إليك ».

وواضح من لهجة هذا الكتاب شدّته في مال المسلمين ، ومن فحواه صرامته في ذات الله ، ومن فقراته تقويم تصرفات العامل ، وقدم عليه المنذر ، فاستجوبه الإمام ، فكان عليه من مال المسلمين ثلاثون ألفاً ، فأنكر المنذر ذلك ، فطالبه الإمام باليمين فأبى ، فأودعه السجن ، وضمنه صعصعة بن صوحان العبدي وكان من خيار صحابة الإمام ، فاستجاب له وأطلقه.

وبلغت الإمام غطرسة بعض ولاته مع أهل الذمة فكتب إليه يرفق بهم :

« أما بعد ، فإن دهاقين بلادك شكوا منك قسوة وغلظة واحتقاراً ، فنظرت فلم أرهم أهلاً لأن يُدنوا لشر لهم ، ولم أر أن يُقصوا ويجفوا لعهدهم. فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة ، في غير أن يُظلموا. ولا تنقض لهم عهداً. ولكن تفرغ لخراجهم ، وتقاتل من ورائهم ، ولا يؤخذ منهم فوق طاقتهم ، فبذلك أمرتك والله المستعان. والسلام ».

إن هذه المهمات التي نهض بها الإمام في التتبع والإستكشاف ومعاجلته لها بما رأيت ، تكشف عن مدى حرصه على نشر العدل ، وحفظ الأمن ، وتوخي الأمانة. ومع هذا فلم يكن بمأمن من الدسائس حتى على صالحي عماله ، فهذا قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري في

٣١٣

ثقته وأمانته وصلاحه ، يزوّر عنه معاوية كتاباً يظهر له فيه الولاء ، ويدسّه معاوية إلى الكوفة ، فيطالب الناس الإمام بعزل قيس دون رويّة ، وهو بمنزلة عند الإمام ما بعدها منزلة ، ويعزله الإمام ـ ربما لولاية أعظم ، ومنصب أجل ما يدرينا ـ يعزله بمحمد بن أبي بكر فيصلَ إلى مصر ، ويأمره الإمام بقتال من لم يكن على الطاعة ، فيناجزهم محمد الحرب ، وينهزم جنده ، ويضطرب عليه أمر مصر ، فيعزله الإمام بالأشتر ، ويرحل الأشتر ، وما كاد يصل إلى القلزم حتى ائتمر معاوية على الأشتر ، ويدس إليه السم بالعسل فيموت الرجل في دار غربة ، ويقول معاوية : إن لله جنوداً من عسل.

ويعبىء معاوية جيشه لمصر بقيادة عمرو بن العاص ، ويثبتّ الإمام ابن أبي بكر في ولايته ، ويدعو أهل الكوفة لنصرته ، فما لقيت دعوته استجابة ، ودخل ابن العاص مصر ، وخاض محمد حرباً فاشلة ، فقتل محمد وأحرقت جثته في جلد حمار. واحتاز معاوية مصر ، فتوسعت دولته ، وضعفت دولة الإمام.

وقد سأم الإمام هذا التواكل من أصحابه ، وعتب عليهم هذا التواني عن نصرته ، وقد شقت عليه هذه المفارقات ، فالغارات على أطراف العراق متوالية ، والخوارج في استنفار يتبع بعضه بعضاً ، والولاة بين محتجن للمال وبين رعديد جبان ، ومعاوية يستثمر كل هذا الاضطراب ليثبت سلطانه ، والإمام يدعو الناس إلى الجهاد فلا يستجيبون له.

وحين طفح الإناء ، وبلغ التقصير حد الإخلال ، إستنفر الإمام الناس ، وخطبهم مصمماً على خوض الحرب بالصفوة من أنصاره ، وبالبقية من المخلصين ، إن لم يستجب الأكثرون ، وقال :

٣١٤

« أما بعد : أيها الناس ، فإنكم دعوتموني إلى هذه البيعة فلم أردّكم عنها. ثم بايعتموني على الإمارة ولم أسألكم إياها ، فتوثب عليّ متوثبون كفى الله مؤونتهم ، وصرعهم لخدودهم ، وأتعس جدودهم ، وجعل دائرة السوء عليهم. وبقيت طائفة تحدث في الإسلام حدثاً ، تعمل بالهوى وتحكم بغير الحق ، ليست بأهل لما ادعت. وهم إذا قيل لهم تقدمّوا قدماً تقدمّوا ، وإذا أقبلوا لا يعرفون الحق كمعرفتهم الباطل ، ولا يُبطلون الباطل كإبطالهم الحق.

أما أني قد سأمت من عتابكم وخطابكم ، فبينوا لي ما أنتم فاعلون. فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوي فهو ما أطلب وما أحبّ ، وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوا لي عن أمركم أرَ رأيي. فوالله لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين ، لأدعونَّ الله عليكم ثم لأسيرن إلى عدوكم ولو لم يكن معي إلا عشرة. أأجلاف أهل الشام وأغرّاؤها أصبر على نصرة الضلال ، وأشد اجتماعاً على الباطل منكم على هداكم وحقكم؟ ما بالكم وما دواؤكم؟ إن القوم أمثالكم لا ينشرون إن قتلوا إلى يوم القيامة ».

وقد فعلت هذه الخطبة في النفوس ما لم يفعله أي تحذير وإنذار سابقين ، لأنها بمثابة التهديد النهائي الذي يعقبه التنفيذ العملي ، فاستجاب الناس استجابة متكاملة ، وأنبّ بعضهم بعضاً على الخذلان ، ودفع بعضهم بعضاً إلى الجهاد ، وتلاوم زعماء القبائل ورؤساء الأسباع فيما بينهم ، فأصبحوا اليوم غيرهم بالأمس ، إنها يقظة الضمير بعد طول رقاد ، وإذا بهم يد واحدة مع الإمام بعد أن شحنوا صدره غيظاً ، وملئوا قلبه قيحاً ، إنها إنتباهة من ضيع مجده بيده ، فأخذ يتلافى تقصيره

٣١٥

المتعمد بتدبير وحكمة ومروءة ، وتداعى الناس بعضهم إلى بعض ، وسار فيهم سراتهم ، وتحدث خطباؤهم ، وتكلم بلغاؤهم ، وقامت النجدة على قدم وساق ، وإنتفظت الحميّة دون تردد ، وتهلل وجه الإمام فرحاً بهذا الانقلاب الجديد ، واستبشر قلبه سروراً مع هذا التغير المفاجيء ، فهو يرى النصح في الإستجابة ، وهو يرى الإخلاص من النفير ، فالزعيم يجتمع إلى أنصاره يحرّضهم على القتال ، والموجّه يدعو أتباعه إلى النضال ، والأخ يدفع بأخيه إلى التضحية ، والأم تقنع ولدها بالفداء ، والأب يتابع بنيه في الإستنهاض ، ولم يجتمع العراقيون على الإمام اجتماعهم له هذا الحين ، فالجيش يتعاقد على المنية ، وشرطة الخميس تبايع على الموت ، والجند بغاية الأهبة والإستعداد ، والعواطف ملتهبة ، والمشاعر متحفزّة ، وبان للإمام الوجه في هذه الحرب ، والصدق لدى أصحابه هذه الآونة ، فأرسل زياد ابن حفصة في طليعة من أصحابه ، وأمره أن يغير على أطراف الشام ، ووجه معقل بن قيس لتعبئة أهل السواد ، واستنجد أهل البصرة فأنجدوه بعزيمة صادقة ، ودعا أطراف الدولة إلى الإلتحاق بالجيش ، فتكونت للإمام عدة عظيمة في هذا الشأن ، وتهيأت له الأسباب في السلاح والكراع والرجال ، فما هي إلا أن تحين الساعة فيزحف زحفة الصادق على الشام ، وإنه لفي هذا السبيل إذ يأتمر الخوارج مخططين قتله ، فينتقض الأمر.

وستقرأ ذلك فيما بعد ، بعد أن تحيط خبراً بهموم الإمام ، ومحن الإمام ، وسياسة الإمام ، وهو في هذا المناخ المتناقض العجيب.

٣١٦

(١١)

ظواهر العدل الاجتماعي عند الإمام تقلب الموازين

وقد اندلعت العصبية القبلية في عهد الإمام نتيجة التمييز الطبقي السافر في عصري عمر وعثمان ( رض ) ؛ لا بين اليمانيين والمضريين أو المهاجرين والأنصار ، أو الأوس والخزرج فحسب ، بل تعدت حدود ذلك إلى المسلمين من غير العرب ؛ هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام بعد الفتوح ، فوجدوا أنفسهم دائماً في المرتبة الدنيا من الحقوق ، فنجد قادة العنصرية القبلية ، ودعاة الإرستقراطية العربية ، تنصح أمير المؤمنين بزعمها « يا أمير المؤمنين : اعطِ هذه الأموال ، وفضلّ هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ، وإستمل من تخاف خلافه من الناس ».

فهم يدعون علياً عليه‌السلام بدعوى الجاهلية لا الإسلام ، وهم يريدون تسويغ الغايات بالوسائل الدنيا ، يريدون من الإمام تذليل العقبات بالعطاء ، وشراء الضمائر بالدراهم ، ومفاضلة بعض المسلمين لبعضهم الآخر بمبررات لا أساس لها في التشريع ، والإمام بصير بهذه النزعات فيرد عليها :

« أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ؛ والله لا أطور به ما سمر سمير ، وما أمّ نجم في السماء نجماً ». وكان الأمر كما قال ، فلم يفضل عنده قرشي على غيره من العرب ، ولا عربي على غيره

٣١٧

من الموالي ، وما بررت الغاية عنده الوسيلة ، بل سلك نهج رسول الله القائل في حجة الوداع : « أيها الناس : إن الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ».

بل ذهب الإمام إلى تثبيت العدل الإجتماعي في سياسته الماليّة ، فقريش كسواها من العرب ، والمهاجرون كالأنصار ، والمضريون كاليمانيين ، والأوس كالخزرج ، والعرب كالموالي ، وهكذا ، وما استمع إلى دعاة التمييز بين المسلمين في شيء « فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه إثرة ، وقد فرغ الله من قسمته ، فهو مال الله ، وأنتم عباد الله المسلمون ، وهذا كتاب الله به أقررنا ، وله أسلمنا ، وعهد نبينا بين أظهرنا ، فمن لم يرض به فليتول كيف شاء ».

وما رأيك فيمن يقول : « والله لو أعطيت الأقاليم السبعة ، على أن أظلم نملة في جلب شعيرة ... ما فعلت ».

ومن كان هذا تفكيره فإنه لا يستجيب للدعوات المنحرفة عن الإسلام في شيء ، وها هو يحكم شرق الدنيا وغربها ، ويأتيه أخوه الأكبر عقيل بن أبي طالب يستميحه بره ، فيلتفت إلى ولده الإمام الحسن عليه‌السلام ويقول له : « إذا خرج عطائي فخذ عمك واشترِ له ثوبين ونعلين » ويلحف عقيل عليه في السؤال ، ويلحّ في الإستزادة فيحمي له حديدة يدنيها من جسده ، أو ينيلها إياه في يده ، وعقيل كفيف لا يبصر ، فيهوي إليها فيحترق بميسمها ، ويخور خوار ذي دنف.

وها هو خليفة الله في أرضه يخرج إلى السوق مع غلامه قنبر ، فيشتري ثوبين فحسب ، يزّين بألينهما وأحبهما غلامه ، لأنه في ميعة

٣١٨

الصبا وعنفوان الشباب ، فينبغي أن يتجمل!! أما هذا الشيخ الفاني فقد أعرض عن الدنيا وأعرضت الدنيا عنه.

يتولى أمير المؤمنين الحكم ، ويخضع المتمردين ، ويجلس وحده في فناء ما يخصف نعله ، فيدخل عليه ابن عباس فيبادره الإمام : ما تساوي هذه النعل يا ابن عباس؟ فيقول لا تساوي شيئاً ، فينبري الإمام : لخلافتكم أزهد عندي من هذه النعل. طبعاً وقطعاً ، فالحكم ليس غاية عند الإمام بل هو وسيلة إلى تطبيق قانون السماء في الأرض يقيم الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، ويدفع الباطل ما وجد على ذلك أعواناً.

كان يأخذ نفسه بالشدة ، ويأخذ أهله بالشدة ، تتزين إحدى بناته بعقد ثمين تستعيره من بيت المال إعارة مضمونه ، فينتزعه ويرجعه إلى بيت المال مع لوم وتقريع لهذه الصبية ، وعتب وتأنيب لابن أبي رافع خازن بيت المال ، فلا يعود إلى ذلك أبداً ، ولا تعود الفتاة له أبداً. أليس هو القائل : « وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى ، لتأتي آمنة يوم الفزع الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلق ».

يجمع كسر الخبز وأطرافه في جراب معلوم ويختمه ، فيسأل عن ذلك ، فيقول : أخشى هذين الغلامين ، يعني الحسن والحسين ، أن يلتّاه في سمن أو عسل.

وهو القائل : « والله لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات أن يقودني هواي إلى تخيّر الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالشبع ، ولا طمع له في القرص ».

وفي شدة الصيف ، ووقدة القيظ يصوم شهر رمضان فتقدم له ابنته

٣١٩

طبقاً فيه قرص من شعير ، وقدح من لبن ، وحفنة من جريش الملح ، فيقول لها :

تريدين أن يطول وقوف أبيك بين يدي الله ، تقدمين له أدامين في طبق واحد؟

ثم يختار الخبز والملح ويعزف عن اللبن.

إنها الشدة في ذات الله ، والتسليم للقناعة ورضا الله ، وحمل النفس على الزهد ، وهي في الوقت نفسه المثل العليا التي قلّ أن نجدها عند أحد ، وقد لا نجدها ، لأننا لا نقدر عليها ، أليس هو القائل الصادق :

« إلا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد ».

وهذا عثمان بن حنيف الأنصاري واليه على البصرة ، يدعى إلى وليمة فيجيب ، ويسمع علي بذلك فيكتب إليه :

« أما بعد فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة ، قد دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها ، تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان ، وما كنت أظنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوَّ ، وغنيهم مدعوٌ ». وتستطلع إلى هذه الدعوة فتجدها « كراعاً ورأساً » ليس غير ، تجر نقمة الإمام وتقريعه ، وتستدعي غضبه وتأنيبه ، لأن هؤلاء القوم يجفون الفقراء ويدعون الأغنياء ، ثم لا يقف الإمام عند هذا وحده ، حتى يبين لواليه الحكم الشرعي : « فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما إشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه ».

٣٢٠