الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة العارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠

ما الذي نقمتم على عليّ حتى خرجتم عليه تقاتلوه؟

فقالوا : لأنه ليس بأولى بالخلافة منا ، وقد صنع ما صنع.

فقال لهم : إن الرجل قد أمرني أن أسألكم ، واكتب إليه بجوابكم ، وطلب منهم أن يصلي بالناس حتى يأتي جوابه ، فوافقوا على ذلك ، ولم يلبثوا إلا يومين حتى وثبوا عليه فقاتلوه ، وأخذوه أسيراً ، ولولا خوف الأنصار من رهطه لقتلوه ، ومع ذلك فقد مثلوا به حياً ، ونتفوا شعر حاجبيه ولحيته وأشفار عينيه.

ويرى ابن قتيبة : أن المتمردين إتفقوا مع عثمان بعد معارك ذهب ضحيتها عدد كبير من الصالحين : أن لعثمان دار الإمارة والمسجد وبيت المال ، وأن ينزل أصحابه حيث شاؤوا بالبصرة ، وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن يقيما في البصرة إلى أن يدخلها عليٌّ عليه‌السلام ، فإذا اجتمعت كلمتهم بعد دخوله واتفقوا ، كفاهم الله شر الفتنة ، وإن لم تتفق كلمتهم فلكل فريق أن يصنع ما يريد.

وانصرف عثمان إلى عمله مطمئناً ، وتفرق أنصاره في أعمالهم ، فغدر طلحة والزبير ، وهاجموا الوالي مباغتة في ليلة مظلمة ممطرة ، فقتلوا الحرس ومن في الدار حتى بلغ عدد القتلى أربعين رجلاً ، واستولوا على بيت المال ، وأخذ عثمان بن حنيف أسيراً ، ونتف مروان شعر وجهه ورأسه.

وتمت سيطرة المتمردين على البصرة ، فلما جاء وقت صلاة الفجر ـ فيما يذكره اليعقوبي في تأريخه ـ تنازع طلحة والزبير على الصلاة ، وجذب كل منهما الآخر من المصلى ، واستمر النزاع بينهما حتى كاد أن يفوت وقتها ، فصاح الناس : الصلاة الصلاة يا أصحاب

٢٦١

محمد ، وهي سخرية لاذعة بالقوم ، وتناهى النبأ إلى عائشة فحسمت النزاع ، وأمرت أن يصلي بالناس محمد بن طلحة يوماً ، وعبد الله بن الزبير يوماً.

ويبدو من الأحداث أن عثمان بن حنيف كان راغباً في السلم حتى يأتيه أمر الإمام ، وكان يدفع الحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، وكان قد أكثر من المناظرة والمحاورة والمحاولة مع القوم حتى تمت الهدنة إلى حين قدوم الإمام ، ولكن المتمردين بادروا الحرب ليلاً ، فقتلوا ـ كما يرى المسعودي ـ سبعين رجلاً من أنصار ابن حنيف ، منهم خمسون رجلاً قتلوا صبراً ، وجرحوا عدداً كبيراً من الناس ، ومثلّوا بآخرين.

وتناهت الأخبار بهذا إلى أمير المؤمنين ، وكان يأمل أن يتراجع المتمردون عن الحرب ، وكان يميل إلى إصلاحهم متجنباً الفرقة وسفك الدماء ، ولما يئس من هذا الملحظ ، نهض إلى البصرة في جيشه مسرعاً عسى أن يتدارك الأمر بنفسه ، ولكن القوم كانوا قد استولوا على البصرة ، وأكثروا فيها الفساد ، فأسرع الإمام لئلا يبلغ السيل الزبى ، فزحف إليها زحفاً عسكرياً منظماً يصفه المسعودي في مروج الذهب وصفاً دقيقاً برواية المنذر بن الجارود العبدي ، ونحن نجملها لترى قيادة الإمام في رجاله ، مقارناً بينها وبين قيادة أصحاب الجمل من الموتورين والحاقدين على الإسلام والإمام ، قال :

« إن علياً لما قدم البصرة دخلها مما يلي الطفّ وأتى الزواية ، فخرجتُ أنظر إليه ، فورد موكب من نحو ألف فارس ، يتقدمهم فارس على فرس أشهب ، عليه قلنسوة وثياب بيض ، متقلد سيفاً ، معه راية وتيجان يغلب عليها البياض والصفرة ، مدججين بالحديد والسلاح ،

٢٦٢

فقلت من هذا؟ لي : إنه أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهؤلاء الأنصار وغيرهم.

ثم تلاه فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض ، متقلد سيفاً ، متنكب قوساً ، معه راية على فرس أشقر في نحو ألف فارس ، فقلت من هذا؟ فقيل هذا خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين.

ثم مرّ بنا فارس آخر على فرس كميت ، معتم بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء ، وعليه قباء أبيض مصقول ، متقلد سيفاً ، متنكب قوساً في نحو ألف فارس ، فقلت من هذا؟ فقيل لي : أبو قتادة بن ربعي.

ثم مرّ بنا فارس على فرس أشهب عليه ثياب بيض ، وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه ومن خلفه ، شديد الأدمة ، عليه سكينة ووقار ، رافع صوته بقراءة القرآن ، ومعه راية بيضاء وألفٌ من الناس مختلفو التيجان ، حوله مشيخة وكهول وشبان ، كأنما قد وقفوا للحساب ، قد أثر السجود في جباههم ، فقيل لي : هذا عمار بن ياسر في عدة من المهاجرين والأنصار وأتباعهم.

ومرّ بنا فارس آخر على فرس أشقر تخط رجلاه في الأرض في ألف من الناس ، فقيل لي : هذا قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري في الأنصار وأبنائهم وغيرهم من قحطان.

ومرّ بنا موكبٌ فيه خلق كثير من الناس ، عليهم السلاح والحديد مختلفو الرايات ، يتقدمهم رجل شديد الساعدين ، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق ، كأنما على رؤوسهم الطير ، وفي مسيرتهم شاب حسن الوجه ، فقيل لي هذا علي بن أبي طالب ، وهذان الحسن والحسين

٢٦٣

عن يمينه وشماله ، وهذا محمد ابن الحنفية بين يديه معه الراية العظمى ، والذين خلفه : عبد الله بن جعفر ، وولد عقيل ، وفتيان بني هاشم ، والشيوخ الذين معه أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية ، فصلى عليّ عليه‌السلام أربع ركعات ، ثم عفّر خديه على التربة ، وقد خالط ذلك دموعه ، ورفع يديه وقال :

« اللهم رب السماوات وما أظلت ، والأرض وما أقلّت ، ورب العرش العظيم ، هذه البصرة أسألك من خيرها ، وأعوذ بك من شرها ، اللهم أنزلنا فيها خير منزل وأنت خير المنزلين ، اللهم : هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي ، وبغوا عليّ ، ونكثوا بيعتي ، اللهم : احقن دماء المسلمين ».

ونزل عليّ عليه‌السلام في معسكره ، وأسفر لأهل الجمل الرسل والمبعوثين طالباً حقن الدماء ، وسلامة الناس ، ووحدة المسلمين ، فأبوا إلا القتال ، فما بدأهم بقتال ، ولم يشهر السلاح ، بل أمر أصحابه بالتريث والصبر ، ولكن القوم تألبوا وشجع بعضهم بعضاً ، واندلعت الحرب.

٢٦٤

(٥)

حرب الجمل ... وهزيمة المتمردين

كان عليّ عليه‌السلام راغباً بالسلم ، مؤثراً الصلح ، فلمّا علم نية القوم بإرادة الحرب ، أراد أن يعذر لله وللمسلمين ولنفسه ، وشاء أن يستعمل آخر ما يجد إليه سبيلاً بإلقاء الحجة ، فأمر أحد أصحابه أن يبرز بين الصفين ـ وقد تأهبت القوى جميعاً ـ وبين يديه كتاب الله يدعوهم للعمل بما فيه والرجوع إليه ؛ وامتثل الرجل الأمر ، ورفع القرآن بكلتا يديه ، ودعاهم إلى ما فيه ، فأتته السهام كشآبيب المطر حتى سقط قتيلاً ، وحُمل إلى أمير المؤمنين فاسترجع وترحم عليه. وابتدر عمار بن ياسر رحمه‌الله القوم واعظاً ومؤنباً ومذكراً فقال :

« أيها الناس ما أنصفتم نبيكم صنتم عقائلكم في خدورها ، وأبرزتم عقيلته للسيوف ».

ورشق عمار ومن معه بالنبل ، وأصيب من أصيب من أصحابه ، وقتل أخ لعبد الله بن بديل ، فحمله أخوه إلى أمير المؤمنين ، وتأمل عليٌّ عليه‌السلام هنيئة ، فرأى وقدر وفكر ، فلم يجد بداً مما ليس منه بد ، وخرج بين الصفين ، واستدعى طلحة والزبير فخرجا إليه ، وقال لهما :

ألم تبايعاني ، قالا : بايعناك كارهين ، ولست أحق بهذا الأمر منا.

واوضح لهما كذب الدعوى ، فما إستكره الإمام أحداً على البيعة ، ثم إلتفت إلى طلحة وقال : أحرزت عرسك ، وخرجت بعرس

٢٦٥

رسول الله تعرضها لما تتعرض له. وقال للزبير : كنا نعدك من آل عبد المطلب حتى نشأ ابنك ابن السوء ، ففرّق بيننا ؛ وقال له : أتذكر قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لك. ستقاتله وأنت ظالم له ، فقال الزبير : الآن ذكرت ذلك ، ولو ذكرته قبل اليوم ما خرجت عليك.

وكان الأمثل بالزبير أن ينحاز إلى علي عليه‌السلام بعد هذا التذكير ، ولكنه أخلد إلى نفسه ، واتبع هواه ، وما حكم عقله في هذا الأمر الخطير ، فقيل أنه إعتزل الحرب فوراً حتى انتهى حيث لقي مصرعه على يد ابن جرموز غيلة ، وقرائن الأحوال لا تساعد على صحة هذا القول ، إذ لا يمكن أن يعتزل الزبير القتال وحده لو شاء ذلك ، وهو رأس من رؤوس القوم ، أفلا يتبعه في هذا القرار أحد من المقاتلين الذين يرون فضله ومنزلته.

والذي أميل إليه أن الزبير قد باشر الحرب بنفسه ، وأن عبد الله بن الزبير قد وصمه بالجبن بعد اجتماعه بعلي عليه‌السلام ، وقال له : فررت من سيوف بني عبد المطلب ، فإنها طوال حداد ، تحملها فتية أنجاد ، فغيّر قراره هذا التحدي له من ولده ، فأحفظه وأغضبه ، وقال لابنه : ويلك إني حلفت لعلي أن لا أقاتله ، فقال له ابنه : وما أكثر ما يكفّر الناس عن أيمانهم ، فأعتق غلامك ، وأمضِ لجهاد عدوك ، فكفر الزبير عن يمينه وقاتل علياً ، حتى إذا هوى الجمل انهزم الزبير فيمن إنهزم من الناس ، حتى وصل إلى وادي السباع ، فقتله ابن جرموز غيلة.

ولم يكن الزبير ليرتدع في التذكير ، وقد سفك دماء المسلمين في الجمل الأصغر ، ولم يكن ليستجيب للحق ، ومعاوية يخادعه بلقب أمير المؤمنين وأخذ البيعة له من أهل الشام ، ولم يكن الزبير ليترك الجيش ويعتزل ، وهو يعمل بإشارة ابنه عبد الله في الطوارىء كافة ، ولم يكن

٢٦٦

الزبير ليبصر طريقه وقد أعمته شهوة السلطان ، واستهواه الحكم العقيم ، ولو ثاب إلى الهدى لالتحق بأمير المؤمنين معلناً ندمه وتوبته ، ومكفّراً عن سيئاته وأخطائه ، ولكنه ركب رأسه ، وأغمض على الحوب العظيم.

وقد رأيت نهاية أمير الجيش الزبير ، أما أميره الثاني طلحة ، فحينما صكت الحرب أسنانها ، واختلط الحابل بالنابل ، قصده مروان بن الحكم فرماه بسهم أصاب أكحله فقطعه ، وقال : لا طالبت بثأر عثمان بعد اليوم ، وقال لبعض ولد عثمان : لقد كفيتك ثار أبيك من طلحة ، وهوى طلحة في المعركة جريحاً ، وأخذه نزف الدم ، فلم يستطيع الفرار ، وقال لغلامه : ألا موضع أستجير به؟ فيقول له غلامه : قد أدركك القوم ، فقال طلحة : ما رأيت مصرع شيخ من قريش أضيع من مصرعي. ومات طلحة في المعركة على تلك الحال.

وأما أم المؤمنين عائشة ، فقد ركبت الجمل ، وأدرعت بهودجها ، وقد قامت الحرب على ساق ، وهي تحرض الناس على القتال وسط المعركة ، تدفع بهؤلاء وتستصرخ أولئك ، وتحرك آخرين ، حتى حمي الوطيس وندرت الرؤوس ، وتناثرت الأيدي ، وتهاوت الأجساد حول الجمل ، وكان جمل عائشة راية أهل البصرة يلوذون به كما يلوذ الجيش برايته الكبرى ، والناس تتهافت على خطام الجمل ، وكلما أمسكه أحد قتل ، حتى تغافى حوله مئات القواد والعسكريين ، ومرتجز عائشة يقول :

يا أمنَّا عائشُ لا تراعي

كلُّ بنيِكِ بطلُ المصاعِ

وهي تلتفت إلى من على يمينها تشجعه ، وإلى من على يسارها مباركة ، ومن إلى جنبها محمسة ، عتى ملّت من الحرب ، فأخرجت يدها من الهودج تحمل بدرة من الدنانير ، ونادت بأعلى صوتها : من يأتيني برأس الأصلع ( تريد بذلك عليّاً ) وله هذه البدرة ، فضجّ العسكر

٢٦٧

ضجة واحدة ، وأمعن في قتال ذريع.

وكان الجيشان يستقتلان بضراوة عجيبة ، والنصر ترفرف أعلامه فوق رؤوس فرسان الإمام ، فصاح علي عليه‌السلام : اعقروا الجمل فإن في بقائه فناء العرب.

وفي رواية : اعقروا الجمل فإنه شيطان ، فانتدب لذلك محمد ابن الحنفية نجل الإمام وحمل عليه في طائفة من المقاتلين الأشداء ، فعقروا الجمل بعد خطوب كثيرة ، فخر الجمل إلى جنبه ، وهوى إلى الأرض وله ضجيج وعجيج لم يسمع الناس بمثلهما ، وبعقر الجمل إنهزم جيش عائشة لا يلوي على شيء ، وفرّ بالصحراء فكان كالجراد المنتشر ، وأمر الإمام محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر بحمل الهودج بعد أن بقيت عائشة وحدها في الميدان ؛ ويقول الإمام لابن أبي بكر : أدرك أختك حتى لا تصاب بأذى ، فيدخل رأسه في الهودج ، فتسأله من أنت؟ فيقول : أنا أخوك أقرب الناس منك وأبغضهم إليك ، فتقول : ابن الخثعمية ، فيقول : نعم أخوك محمد ؛ يقول لك أمير المؤمنين هل أصابك شيء ، فتقول مشقص في عضدي ، فينتزعه محمد ، ويأتي الإمام فيقف على هودجها ، ويضربه برمح أو قضيب ، ويقول : كيف رأيت صنيع الله يا أخت أرم؟ يا حميراء ألم يأمرك رسول الله أن تقري في بيتك؟ والله ما أنصفك الذين صانوا عقائلهم وأبرزوك ، فتقول :

يا ابن أبي طالب ملكت فأسجح.

ويسجح الإمام ، ويأمر محمداً أخاها أن يدخلها داراً من دور البصرة ، فيحملها أخوها ، وينزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي.

وانتهت المعركة بآلاف القتلى من المعسكرين ، وبهزيمة

٢٦٨

المتمردين هزيمة شنعاء ، وبمقتل رؤوسهم الكبيرة.

وطمع بعض أصحاب الإمام بالغنائم فنهاهم عن ذلك ، وأمرهم أن لا يجهزوا على جريح ، ولا يتبعوا فارّاً ، ولا يغضبوا امرأة ، ولا يدخلوا داراً ، ولا يهتكوا ستراً ، ولم يقسم بين أصحابه غنيمة إلا ما أجلب به أهل البصرة للقتال وفي ساحة الحرب. وقال : ليس في هذه الحرب مغنم لمنتصر ، وأرسل من ينادي في أهل البصرة : من عرف شيئاً فليأخذه. وحاول بعض المتطرفين قتل عائشة فأنكر عليه الإمام ووضعها في حراسة مكثفّة ، وأراد بعض المقاتلين أسر المنهزمين فردّهم الإمام عن ذلك.

ووقف عليّ عليه‌السلام بين قتلاه فترحم عليهم ، ووقف على المتمردين فخاطبهم بمثل ما خاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل القليب ببدر.

ووجم الإمام لما أصاب الطرفين من قتل وفناء ، وتوجه إلى الله :

أشكو إليك عجري وبجري شفيتُ نفسي وقتلتُ معشري وكان القتلى يعدون بالآلاف ، ففقدت قريش طائفة من رجالها المعدودين ، واستولى الحزن على كثير من بيوتات البصرة التي فقدت أحبّتها وأعزّتها ، وتناول الثكل مجموعة من دور الكوفة.

وكم كان بود أمير المؤمنين ، أن يقاتل بهؤلاء وهؤلاء أبناء الطلقاء من جهة ، وأعداء الإسلام من جهة أخرى ، ولكن المقادير جرت بغير هذا التقدير.

٢٦٩

(٦)

عليٌّ في البصرة بسيرة رسول الله

ودخل عليٌّ عليه‌السلام البصرة بعد المعركة بثلاثة أيام ، دخولَ الخاشعين لا دخول الفاتحين ، فأمّن أهلها ، وأغضى عن مسيئها ، وتجاوز عن بقايا المتمردين ، وأعرض عنهم صفحاً ، وكان يقول :

« سرت في أهل البصرة سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أهل مكة ».

ونظر أصحابه في هذه السيرة العجيبة ، وبهتوا لهذا الرفق الهائل ، وغاض بعضهم إعراضه عن الغنائم ، وإبقاؤه على الحرمات ، فلج بهم الأمر أن قالوا للإمام : اقسم بيننا أهل البصرة نتخذهم رقيقاً » فأبى عليهم الإمام ذلك ، وردّ ما ارتأوه بقوله : « لا فالقوم أمثالكم ». فاعترضوا : « كيف تُحل لنا دماءَهم وتُحرّم علينا سبيهم؟ ». فأجاب مطمئناً : كيف تحل لكم ذرية ضعيفة فى دار هجرة واسلام« وأبان لهم الحكم الشرعي المجهول في قتال أهل القبلة وحرب المسلم مع المسلم فقال : « أما ما أجلب به القوم عليكم في معسكركم فهو لكم مغنم. وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الأبواب ، فهو لأهله. وما كان لهم من مال في أهليهم فهو ميراث على فرائض الله ، لا نصيب لكم في شيء منه ».

وأثار هذا الحكم غضب جماعة من أنصاره ومقاتليه ، وأرادوا الاستيلاء على المخلفات ، وأسر المقاتلين ، فاستعمل الإمام عليه‌السلام الاستدراج ، فقال لهم : « اقترعوا ... هاتوا سهامكم ». وسألهم بلباقة

٢٧٠

وعبقرية : « فأيكم يأخذ أمّه في سهمه؟ اقرعوا على عائشة لأدفعها إلى من تصيبه القرعة ».

فثاب الناس إلى صوابهم ، وقالوا : نستغفر الله يا أمير المؤمنين.

وبهذا النمط من الإقناع والمناظرة وسعة الصدر استطاع الإمام أن يحفظ التوازن لدى أصحابه بعد ظفرهم ، وأن يجنب أعداءه الاضطهاد وحملات الانتقام.

وجاء عليٌّ عليه‌السلام إلى المسجد وجلس فيه للناس ، فبايعوه على كتاب الله وسنة نبيه ، ونظر في بيت المال فقسمه على المسلمين. وأمن الجميع لعدله ونبله وعظيم سيرته ، واطمأن حتى خصومه لهذا المنهج الجديد الذي لم يكونوا ليحلموا به.

وقد كان من همّ أمير المؤمنين ورعاية عائشة أم المؤمنين حتى في هذا الموقف ، فركب لزيارتها في كوكبة من أصحابه ، وأنه لفي المدخل من دار عبد الله بن خلف وإذا بصاحبة الدار صفية بنت الحارث بن أبي طلحة العبدري تجبهه بقولها : يا علي يا قاتل الأحبة ، ويا مفرق الجماعة ، أيتم الله بنيك منك كما أيتمت بني عبد الله ( تعني زوجها عبد الله بن خلف ) فلم يجبها عليٌّ بشيء حتى دخل على عائشة ، فلما إستقر به المكان ، قال : جبهتنا صفية.

ودارت بين الإمام وعائشة بضع كلمات ، فلما انصرف الإمام تلقته صفية فأعادت عليه مقالتها الأولى ، فأراد الإمام إفحامها ، فقال : ـ وهو يشير إلى أبواب الحجر المغلقة في الدار ـ لقد هممت أن أفتح هذا الباب وأقتل من وراءه ، وأن أفتح هذا الباب وأقتل من وراءه ، فلما سمعت صفية منه ذلك صعقت وأفسحت له في الطريق ، وكان في تلك

٢٧١

الحجرات الجرحى من أصحاب عائشة ، وفيهم مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير وآخرون ، جمعتهم عائشة في الدار ، وأمرت بتمريضهم وعلاجهم ، وكان علي يعلم مكانهم ويعرض عنهم.

وأراد عليّ عليه‌السلام إرجاع عائشة إلى دارها معزّزة مكرّمة ، فأرسل إليها عبد الله بن عباس وقال له : أئتِ هذه المرأة لترجع لبيتها الذي أمرها الله أن تقرّ فيه ، فجاءها ابن عباس واستأذن عليها فأبت أن تأذن له ، ودخل عليها بلا إذن ، فهو مأمور من قبل الإمام ، ولا بد من تنفيذ أمره وجوباً دون تردد ، ومدّ يده إلى وسادة وجلس عليها ؛ فقالت له عائشة : لقد أخطأت السنة مرتين ، دخلت بيتي بدون إذني ، وجلست على متاعي بدون أمري ، فقال لها : نحن علمنّاك السنة يا عائشة ، والله ما هو بيتك الذي أمرك الله أن تقري فيه.

ثم قال : إن أمير المؤمنين يأمرك أن ترحلي إلى بلدك الذي خرجت منه ، فقالت بكراهية واستفزاز : رحم الله أمير المؤمنين ذلك عمر بن الخطاب ؛ فقال ابن عباس : نعم وهذا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب أيضاً ؛ قالت : أبيتُ أبيتُ.

قال : ما كان إباؤك إلا فواق ناقة بكية ثم صرتِ لا تحلّين ولا تمّرين ، ولا تأمرين ولا تنهين ، قال ابن عباس : فبكت حتى علا نحيبها ، ثم قالت : أرجع ، فإن أبغض البلدان إلى بلدٌ أنتم فيه ، فقال لها ابن عباس : والله ما كان ذلك جزاؤنا منك إذ جعلناك للمؤمنين أماً ، وجعلنا أباك لهم صديقاً ، فقالت : أتمنّ علي يا ابن عباس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لها : نعم ، نمن عليك بمن لو كان منك بمنزلته منا لمننت به علينا. وانتهى الحديث.

ولما رجع ابن عباس إلى أمير المؤمنين وأخبره بما كان من أمر

٢٧٢

عائشة وأمره ، تلا أمير المؤمنين قوله تعالى : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) (١).

ثم أمر أمير المؤمنين بتجهيز عائشة جهازاً حسناً ، وبعث معها رجالاً ونساءً ، وتوجه بها الركب نحو المدينة بعدَّة واعزاز ووصلت المدينة فلما استقربها المقام ، جاء الناس للسلام عليها ، فكانت تصل الدموع بالدموع ، والأسى بالأسى ، وتبكي بكاءً مراً حتى تبل خمارها ، فلا هي التي حققت أهدافها بتنحية علي من الخلافة ، ولا هي التي حفظت رجالها من القتل والخزي ، وكانت تقول :

ليتني مت قبل يوم الجمل بعشرين عاماً.

ولم يُطل الإمام المقام بالبصرة ، ولا استهوته معالمها بعد هزيمتها ، بل إستصلح جملة من أهلها ، وأذاق الناس طعم الرفاهية والعدل ، وآمنهم بعد خوف شديد ، وولى عليها عبد الله بن عباس ، وارتحل إلى الكوفة ، فأمامه شوط بعيد يتدارك به شؤون الدولة ، ويشرف به على أمور الرعية.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٣٤.

٢٧٣

(٧)

عليٌّ يتخذ الكوفة عاصمة ... ويقدّم طلائعه إلى صفّين

دخل أمير المؤمنين الكوفة في اليوم الثاني عشر من رجب سنة ست وثلاثين من الهجرة ، وكان قد انتهى من حرب الناكثين ، فما عليه الآن ، وقد أمن شرق الدولة الإسلامية في البصرة ، إلا أن يأمن غرب الدولة الإسلامية في الشام ، وجعل يعدّ العدّة لحرب القاسطين ، وأشرف على إعداد الجيش بنفسه ، وانتدب لذلك خُلّصَ أصحابه ، فكانت الدعوة قائمة على أشدّها أهبة وتسليحاً ومتابعةً.

وكان الكوفيون ثلاثة فرقاء ، فالفريق الأول هو الذي ناصره في حرب الجمل ، والفريق الثاني هو الذي تخلف عنه فيها ممن كان يأمل نصرهم وينتظر مؤازرتهم ، ولكنهم كانوا دون مستوى المسؤولية. والفريق الثالث هو الذي رابط في الكوفة دون نصره في البصرة ، ودون خذلانه في الكوفة.

وكان الفريق الأول يحدب على استمرارية الإنتصار ، ويعمل على استدامة الظفر. وكان الفريق الثاني يخشى اللوم والتعنيف ـ كما حدث ـ وفيه بعض الرؤساء ومشايخ القبائل ، فاستحب أن يكفّر عما مضى إسترضاءً للإمام فهو يدعو للحرب. وكان الفريق الثالث من السواد الأعظم منتظراً لأوامر الإمام ، وطوع إرادته ، وقد حلّ في ظهرانيهم ، بغية أن يتدارك ما فاته ، ولئلا يحسب على الخوالف.

٢٧٤

وكان نزول أمير المؤمنين الكوفة ضرورة تفرضها طبيعة الحياة السياسية المفكرّة ، فهو قد استخلف سهل بن حنيف على قلب الدولة الإسلامية : المدينة المنورة ، وهو قد ولى عبيد الله بن العباس جنوب الدولة الإسلامية : اليمن ، وقد أرسلت مصر ولاءها وحباءها وتجاوبت مع الوالي الجديد قيس بن سعد بن عبادة ، وقد التجأ فريق من المنهزمين ، ونفر ممن رفض البيعة للإمام ، وآخرون من ذوي المطامع ، فالتحقوا بمكة ، ممن لا يخاف كيدهم ، فقصارى ما يتمكنون منه الثرثرة والكراهية تارة ، وتزويد معاوية بالأنباء تارة أخرى ، وقد سبق استتباب الأمر في البصرة ، فلم يبق أمام الإمام إلا الشام ؛ وإقامة أمير المؤمنين في الكوفة تهيئ له رجال الكوفة وأبطال البصرة وسواد السواد ، ومعه المهاجرون والأنصار ، وبقية أعيان بدر ، فالمرابطة في الكوفة والحالة هذه تستقطب عدة إيجابيات في سياسة الإمام ، أهمها :

١ ـ الابتعاد بالفتن والحروب عن مدينة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أقبلت ـ كما يراها الإمام ـ كقطع الليل المظلم.

٢ ـ وتوسط الكوفة كيان الدولة الإسلامية يدعو إلى التمركز فيها سياسياً ، والتجحفل فيها عسكرياً ، فالعراق في حدود طويلة مع الشام ، والعراقيون يريدون أن يأمنوا كيد معاوية ، وقد نصروا علياً وهو قريب منهم ، والإعداد للمعركة القادمة عن قرب خير من الإعداد لها عن بعد.

٣ ـ الكوفة تمحض الولاء الخالص لأمير المؤمنين وأهل البيت عليهم‌السلام وزعماء الكوفة قد رغبوا بتأكيد أن ينزل الإمام فيهم ، فنزل الإمام فيها لا بقصر الأمارة ، ولكن في دار ابن أخته جعدة بن هبيرة المخزومي ، وأمه أم هاني بنت أبي طالب أخت الإمام عليه‌السلام.

٢٧٥

فكانت جملة هذه العوامل مدعاة من الوجهة السياسية والعسكرية أن يتخذ الإمام الكوفة عاصمة له ريثما تستقر الحياة السياسية ويعطي رأيه فيما بعد ، ولكن سترى أن الأقدار قد فرضت بقاء علي عليه‌السلام في الكوفة حتى استشهاده وما يدرينا فقد يكون ذلك عن إرادة وتصميم مقصود إليه.

وقد علمت أن أمير المؤمنين كان قبل حركة الناكثين يتأهب لحرب أهل الشام ، وقد أرجأ هذه الحرب خروج المتمردين ، فحول إتجاهه من الشام إلى البصرة ، ولما عادت المياه إلى مجاريها نوعاً ما ، أعاد الكرة فيما خطط له أولاً ، وأصبح من السهل عليه مجابهة أهل الشام وهو في الكوفة ، من مجابهتهم وهو في الحجاز والكوفة بعدُ قلب الدولة جغرافياً.

وفي الشام خصم تأريخي عنيد للإسلام وأهل البيت ، وهو معاوية ، وهذه الخصومة تأريخية تمتد جذورها إلى الجاهلية ، وتتحكم أصولها في فجر الدعوة الإسلامية وضحاها ، وهي تستمر حتى ظهر الإسلام وعصره ، بل إلى اختفاء الدولة الأموية في عام ١٣٢ هـ. باستثناء فترة حكم عمر بن عبد العزيز.

لا نريد أن نبحث فصول هذه الخصومة في الجاهلية ، فليس في ذلك كبير أمر ، والذي يعنينا أن نلقي ضوءاً كاشفاً عليها في ظل الإسلام ، فحينما صدع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برسالته ، وقف البيت الأموي بقيادة عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبي سفيان بن حرب يناهضون الرسالة قولاً وعملاً ، ويحاربون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سراً وجهاراً ، فالأذى والإستهزاء والتكذيب منهم بعض مظاهر هذه المناهضة ، وتزعّمُ المعارضه له بتأييد طواغيت قريش مظهر آخر منها ، وامتحان المستضعفين من المسلمين

٢٧٦

والقسوة عليهم من بعض معالمها ، ومقاطعة بني هاشم وحصرهم في الشعب جزء لا يتجزأ من المخطط العام لمجابهة الإسلام ، والتكتل مع قريش للهجوم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة هجرته يسلط الأضواء على حقيقة ما يكَّن هذا البيت للإسلام من حقد وكراهية ، حتى إذا هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة المنورة ، كانت الحرب الكلامية واضطهاد المسلمين سبيلاً إلى مناوأة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أفكاره وأنصاره ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، فالبيت الأموي صاحب العير وصاحب النفير في معركة بدر الكبرى ، فالعير بقيادة أبي سفيان ، والنفير بقيادة عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبو سفيان قائد المشركين في أحد والخندق وسواهما ، تمرس في حرب الإسلام ، ونشأ على عداء النبي وآله في مكر ودهاء وقوة ؛ وأسلم عند الفتح كارهاً ، حينما لم يجد إلا القتل أو الإسلام ، وابنه معاوية معه في هذا كله ، تلقى عن جده وأبيه وأمه صنوف العداء للإسلام ، فأمه هند لم تكن دون أبيه في كيد الإسلام ، والإرصاد للمسلمين حتى ختمت أعمالها الوحشية بالتمثيل لحمزة بن عبد المطلب أشد التمثيل لدى استشهاده في أحد ، مما لا عهد به للعرب في جاهلية أو إسلام. وأسلم معاوية كرهاً يوم الفتح كما أسلم أبواه كرهاً ، وتوجّ بطوق الطلقاء كما توج أهل مكة يوم الفتح.

ومضت الأيام سراعاً ، ولا قدم ولا قِدَم لمعاوية بالإسلام ، وإذا بعمر يوليه الشام ولا يعزله عنها ، ويمهد له تمهيداً عجيباً ، وجاء عثمان فعزل كل ولاة عمر إلا معاوية ، وكان معاوية رأس ولاته وزعيم مناصريه ، أوكل إليه تأديب المنفيين إلى الشام من المعارضين ، وفسح له في الأمر فجمع إليه جميع أطراف الشام ، ومكنّه في الأرض تمكين الجبارين ، فكان الحاكم المطلق دون العودة إلى عثمان ، وكان الآمر

٢٧٧

المطاع دون الإستعانة برأي عثمان ، وكان القوة التشريعية والسلطة التنفذية والقدرة القضائية في الشام.

واستمر في سلطانه هذا طلبة عشرين عاماً وهى مدة ولايته وكانت هذه المدة كفيلة بأن تكسبه خبرة في الإدارة ، وأن تزيده معرفة بأولاع الناس ورغباتهم ، فساسهما معاً ، وكانا عوناً له في مطالبته بالخلافة تحت ستار المطالبة بدم عثمان ، ... واستصرخه عثمان في محنته ، واستنجد به عند حصاره ، ولكنه تربّص به تربص الكائدين ، وأغمض عنه بمكر ودهاء ، فما لبّى له دعوة ، ولا أغاثه بنصرة ، حتى قتل عثمان ، فرفع قميصه طالباً بدمه ، وكان قديراً على حقن هذا الدم قبل إراقته.

وكانت سياسة معاوية في الشام سياسة مُلكِ لا سياسة دين ، يستصفي ما يشاء ومن يشاء بما يشاء من القبائل بالمصاهرة تارة ، وبالأموال تارة ، وبهما وبالتقريب من الإستشارة ، والتلويح بالولاية كلما دعت الحاجة إلى ذلك ، وكان يتألف رؤساء القوم بالعطاء والحباء ، ويتعامل مع القادة بالاستضعاف المصطنع واللين ، ويسوس الرعية بالحلم الزائف والرأفة الكاذبة ، حتى جمع حوله القلوب ، واستجابت له النفوس ، ولم يقتصر بهذه السياسة على الشام ، وإنما تعدّى حدودها إلى العراق أيضاً ، فهو يغري ويعد ، يغري بالأموال الطائلة ، ويعد بالمناصب الرفيعة ، يكاتب زعماء القبائل والأشراف في الكوفة والبصرة سراً ، مرغباً تارة ومرهباً تارة أخرى ، ويستطلع أخبار علي عليه‌السلام ، وأنباء جيشه أولاً بأول ، له عيونه وأمناؤه ، وله كيده ووسيلته ، يشتري الضمائر ويؤلب الناس ، ويستهوي القادة ، حتى أطمأن لسياسته هذه ، فشحن أهل الشام شحناً مريعاً في مظلومية عثمان ، وجرّد من نفسه وليَّ دمه ، جمع

٢٧٨

شتات أمره في أناة وروية ، وتملك حياة الشاميين بتربص وانتظار ، فما استعجل مجابهة الإمام ، ولا لبّى نداء أهل الشام في الزحف على العراق دون الحيطة التامة ، فهم يتعجلونه وهو يستأني بهم ، وهم يستغيثون به وهو يهدئ نائرتهم ، حتى غلَى المرجل ، واحتدم الغيظ ، وتلبد الأفق ، وهو بهذا قد كسب الوقت بلإعداد ، وكسب الضمائر بالإستهواء.

فعليٌّ عليه‌السلام بإزاء خصم عنيد متربّص ، يعمل بحساب دقيق ، ويفكر بنظام رتيب ، وهذا الخصم آمن مطمئن لم يدخل حرباً ، ولم يبذّر طاقة ، وأصحابه في دعة وقوة ، لم يرزأوا مالاً ، ولم يفقدوا رجالاً ، وهو في هذا التأهب وذلك الاطمئنان وإذا بعلي عليه‌السلام يطلب منه البيعة ، وأن يأتيه بأشراف أهل الشام ، وكان رسوله إليه جرير بن عبد الله البجلي ، حمّله برسالة تدعوه إلى الطاعة ، والدخول فيما دخل به المسلمون ، فمبايعة الإمام بالخلافة في المدينة تلزم معاوية بالبيعة له وهو في الشام قياساً منطقياً في لغة القوم.

إستغفل معاوية جريراً وكان متهماً ، فلم يكلمه بشيء ، ولم يرد عليه بشيء ، واستمهله الجواب وأخذ يماطله ويطاوله ، ودعا أهل الشام للمشاورة ظاهراً ، ولتأكيد مطالبته بدم عثمان واقعاً ، سلاحاً قوياً في وجه علي يغري به الأغمار ، فهو محرّض لا مشاور ، وهو مقاتل لا مبايع ، حتى استطال الأمر شهوراً ، ثم دعا إليه جريراً وأبلغه أن ليس لعلي عنده إلا السيف ، فرجع جرير بخفي حنين ، وقدم على أمير المؤمنين ، وعظم أمر الشام ، وصوّر له اجتماعهم على الطلب بدم عثمان ، فما حمد له عليٌّ عليه‌السلام السفارة ، ولا رضي له مالك الأشتر التبليغ ، وأتهم بممالأة معاوية ، وبتشجيعه على الاستهتار بالجواب ، فما أخذه أخذ حكيم مناظِر ، ولا جابهه مجابهة الرسول الحصيف ، وكثرت

٢٧٩

الألسن في النيل منه ، فأظهر غضباً ، وارتحل عن الكوفة ، ولحق بمعاوية ، وقيل استقر بقرقيسيا معتزلاً ، فهدم عليّ عليه‌السلام داره في الكوفة.

أما معاوية فقد أسرّ حسواً بارتغاء ، وأسفر إلى علي كما أسفر إليه علي عليه‌السلام ، وكان أبو مسلم الخولاني ممن يدعي العقل والدين والورع ، ممن أرسله معاوية إلى الإمام ، ولكنه كان ناقص العقل رقيق الدين دون شك ، وكان فطير الرأي سفيه القرار دون ريب ، فقد اعترض على معاوية اعتراض العارف ، فقال : علام تقاتل علياً وليس لك فضله ولا سابقته في الإسلام ، ولكنه قبل من معاوية جوابه التقليدي المدخول قبول الجاهل ، إذ قال له معاوية :

ليس لي فضل علي وسابقته ، وإنما أطالبه بدفع قتلة عثمان ، قال أبو مسلم : فاكتب لي بذلك فإن أجابك فلا حرب ، وإن أبى قاتلناه على بصيرة ، فكان أبو مسلم عارفاً باعتراضه ، ولكنه عاد مغفّلاً بمناورة معاوية له ، حتى قال : وإن أبى قاتلناه على بصيرة ، وقد غاب عن ذهنه أن الإمام هو الذي يلي أمر الدماء ، وهو الذي يحقق في مقتل عثمان ، ولكن على أن يبايع معاوية ويطيع ، ثم يحتكم إلى الإمام في دم عثمان إن كان له ولياً حقاً.

ومهما يكن من أمر فقد كتب معاوية إلى الإمام كتاباً فيه من الصلف والغرور والتطاول والإدّعاء وزج الناس في الحرب ما فيه ، وتهجم على أمير المؤمنين فاتهمه ، ونصه في رواية البلاذري :

« من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ، أما بعد : فإن الله اصطفى محمداً بعلمه ، وجعله الأمين على وحيه ، والرسول إلى خلقه. ثم اجتبى له من المسلمين أعواناً أيدّه بهم ، فكانوا عنده على قدر

٢٨٠