الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة العارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠

(٢)

استقبال خلافة الإمام بين المحرومين

والأُستقراطيين

استقبل الضعفاء والمحرومون خلافة الإمام بالغبطة والسرور ، وتلقتها الطبقة الأُرستقراطية من قريش بالحقد والكراهية ؛ وكان المناخ الاجتماعي في المدينة يضم أهل الورع والتقوى يعتضد بهم الإمام ، ويضم أيضاً أهل النفاق والشقاق فيضيق بهم الإمام ، وكان المسرح الإداري من ذي قبل يعجُّ ويضجُّ بأهل الطمع والأثرة ، فالولايات تحتجن ، والمناصب يستولي عليها المقربون والأصهار ، وكان المناخ السياسي مضطرباً أشد الإضطراب في واقعه ، وإن بدا أول الأمر متماسكاً بعض الشيء.

وتحشد الطامعون بالأمر يجمعون شتاتهم ويعلنون عصيانهم ، وكانت الحجاز والكوفة والبصرة واليمن في طاعة الإمام حينما بويع له ، وكان أمر الشام لا يريد أن يستقيم للإمام ، ففي الشام معاوية بن أبي سفيان ابن عم عثمان ، ومن الإمكان أن يتظاهر طالباً بدم عثمان ، وأن يأوى إليه المردة من أعداء الإمام ، وأصحاب الدنيا ممن فارق أو سيفارق الإمام ، وقد بدت علائم ذلك تظهر في الأفق تدريجياً وبانتظام ، فها هو يترصد في البيعة بل يتلكأ عنها ، وها هو يدير أمره بدقة وحذر شديدين ، ويحكم أمره بأناة وصبر طويلين ، وهو لا يتورع من الإغراء

٢٤١

والبهتان وتسخير المال ، وشراء الرجال إزاء السلطان كما سترى.

واستقبل الإمام تخطيطه في ضوء الإسلام وبهدي القرآن وأضواء السنة بكثير من التقوى والورع ، فأسند الولاية لأصحابها ، وكان جديراً بأن يختار الأمثل فالأمثل وقد فعل هذا بكل أمانة.

فما إن فرغ من البيعة حتى لبى نداء الضمير الإنساني في عزل ولاة عثمان ، واستبدلهم بغيرهم من الصالحين والمؤهلين من أصحابه ، وكان الأنصار في حرمان أيام الشيخين وعثمان ، فرّد إليهم الإعتبار السياسي من خلال كفاياتهم ، فاستعمل منهم ثلاثة أعلام لثلاثة أمصار ؛ فأرسل قيس بن سعد بن عبادة والياً إلى مصر ، واستعمل عثمان بن حنيف على البصرة ، وعيّن سهل بن حنيف والياً على الشام.

وعاد عليّ إلى قريش فأرسل خالد بن العاص بن المغيرة المخزومي إلى مكة والياً ، وعبيد الله بن العباس بن عبد المطلب عاملاً على اليمن.

وأقر بإشارة مالك الأشتر أبا موسى على الكوفة ، فبعث إليه بالبيعة ، وقيل أرسل عمارة بن شهاب إلى الكوفة ، فلقيه في الطريق من أشار عليه بالرجوع لأن أهل الكوفة لا يرضون بغير أبي موسى الأشعري أميراً ، وكان يتضاعف لهم ، ولا يهمه أمرهم.

وتوجه عمال الإمام إلى أقاليمهم ، فدخل عثمان بن حنيف البصرة ، فإرتحل عنها عامل عثمان عبد الله بن عامر بن كريز ، وحمل معه ما في بيت المال جميعاً وأتى مكة ، ودخل ابن عباس اليمن فرحل عنها عامل عثمان يعلى بن أمية ، واحتمل بيت المال وأتى مكة. وسار قيس بن سعد بن عبادة إلى مصر ، ودخلها في غير جهد ولا مشقة وأخذ

٢٤٢

البيعة لعلي عليه‌السلام من أهلها. وذهب خالد بن العاص المخزومي إلى مكة فأبى أهلها مبايعة علي وأخذوا عهده ورموه في زمزم. وتوجه سهل بن حنيف إلى الشام ، فلقيته في حدودها خيول معاوية ، فسألوه عن شأنه ، فأخبرهم بأنه أمير الشام ، فقالوا إن كنت أميراً من قبل عثمان قبل قتله فدونك إمرتك ، وإن كنت أميراً من قبل غيره فارجع إلى من أرسلك.

والبحث العلمي يشكك في تعيين ابن حنيف على الشام أميراً ، وفيها معاوية ، وليس كل ما روي يقطع بصحته كما سترى.

وكان الإمام قد أرسل إلى معاوية كتاباً يطلب فيه أن يبايع ، وأن يقبل إلى المدينة في أشراف أهل الشام ، ولم يذكر في الكتاب عزله أو إقراره في ولايته. فلما وصل الكتاب إلى معاوية لم يجب الإمام بشيء ، وأخذ يتربص بالأمر ، وأعجله الرسول على الجواب فتلكأ ثم أرسل طوماراً إلى الإمام ، وكتب في أعلاه : من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ، وقدم الرسول المدينة وأشهر نفسه فيها ، وأوصل الطومار إلى الإمام ، وفضّ الإمام الكتاب ولا شيء فيه إلا : « بسم الله الرحمن الرحيم ».

وأستأمن الرسول علياً فآمنه ، وكان من عبس ، فقال للإمام والناس تسمع : إني تركت أهل الشام وقد صمموا أن يثأروا لعثمان ، ونصبوا قميصه للناس ، وليس عندهم إلا السيف.

وكان المغيرة بن شعبة ـ فيما يزعم الرواة ـ قد أشار على عليّ عليه‌السلام إبقاء معاوية على الشام حتى تتم بيعته ومن ثم يعزله ، فأبى ذلك الإمام ، كما أبى إبقاء ولاة عثمان عموماً ، لأن دينه وورعه يمنعانه من ذلك ، وقال :

٢٤٣

« والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي ، ولا وليّتُ هؤلاء ، ولا مثلهم يُولى ... لا أدّهن في ديني ، ولا أعطي الدني من أمري ».

وكذلك أشار عبد الله بن عباس بمثل هذا « أبقه شهراً وأعزله دهراً ».

فأبى الإمام ذلك وقال بما معناه : عليك أن تشير وعليّ أن أرى ، فإذا عصيتك فأطعني. فقال ابن عباس : « إن أيسر حالك عندي الطاعة ».

وكان عليٌّ عليه‌السلام صاحب حق وصاحب دين ، فلا يداخل أحداً في دينه ، ولا يتنازل أبداً عن حقه ، فدعا إليه وجوه الناس وفيهم طلحة والزبير ، وجملة المهاجرين والأنصار ، فأخبرهم بما عليه معاوية ، من خلع الطاعة ومفارقة الجماعة ، وانبأهم أن الحل يتحدد بمقاومته عسكرياً قبل أن تستشري الفتنة ، وعلم الناس رأي الإمام ، وعلموا أيضاً أنها الحرب ، وآخر الدواء الكي.

وكان طلحة والزبير يقدّران أن الإمام سيوليهما على بعض الأقاليم ، وأنه محتاج إليهما ، أو يستدفع خطرهما ، لأنهما من أصحاب الشورى ، وهما قد أسلما عثمان وخذلاه ، بل أعانا عليه وألبا حتى قتل ، وهما قد أقبلا على بيعة الإمام طائعين ، وأول يد بايعته يد طلحة وكانت جذاء ، وتشاءم الناس من ذلك ، وكان الأمر كذلك.

صرح طلحة والزبير للإمام بطلب الولاية على المصرين : الكوفة والبصرة ، فأبى عليهما الإمام ، وتلطف بهما برفق ، وقال :

« أحب أن تكونا معي أتجمل بكما ، فإني أستوحش لفراقكما ».

٢٤٤

وأحسّ الشيخان أن لا مقام لهما مع عليّ ، وأنهما كبقية المسلمين وأن علياّ سيستأنف معهما ومع غيرهما سيرة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما كغيرهما من أعيان المهاجرين ، وأعلام الأنصار يسوسهم الإمام بالشدّة واليقين لا التسامح واللين ؛ فأعرضا عن البصرة والكوفة ، وأستأذنا بالعمرة ، فقال علي عليه‌السلام :

ما العمرة تريدان وإنما تريدان الغدرة ونكث البيعة ، فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولا نكث بيعته يريدان ، وما رأيهما غير العمرة ، قال لهما : فأعيدا البيعة لي ثانية ، فأعاداها بأشد ما يكون من الإيمان والمواثيق ، فأذن لهما ، فلما خرجا من عنده ، قال الإمام لمن كان حاضراً : والله لا ترونهما إلا في فتنة يقتلان فيها.

قالوا : يا أمير المؤمنين فمر بردهما عليك ، قال الإمام : ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وخرج طلحة والزبير في طريقهما إلى مكة ، فلم يلقيا أحداً إلا قالا له :

ليس لعلي في أعناقنا بيعة ، وإنما بايعناه مكرهين ، فبلغ قولهما علياً عليه‌السلام فقال :

« أبعدهما الله وأغرب دارهما ، أما والله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل ، ويأتيان من وردا عليه بأشأم يوم ، والله ما العمرة يريدان ، ولقد أتياني بوجهي فاجرين ، ورجعا بوجهي غادرين ناكثين ، والله لا يلقياني بعد اليوم إلا في كتيبة خشناء يقتلان فيها أنفسهما ، فبعداً لهما وسحقاً ».

وكان الإمام عليه‌السلام في هذا الحين يتجهز لحرب أهل الشام ،

٢٤٥

وإنه لفي ذلك ، إذ بلغه إجتماع عائشة وطلحة والزبير في مكة ، وهم يريدون البصرة بجمع ممن تخلف عن البيعة ، وولاة عثمان المعزولين ، وبني أمية ، وطواغيت قريش ، ورعاع الناس ، فثنى عزمه عن لقاء أهل الشام ، وصحّ عنده التوجه حيث توجه الناكثون.

٢٤٦

(٣)

المتمرّدون في مجابهة الإمام متظاهرين بالثأر لعثمان

لم تقعد بعليّ عليه‌السلام حنكته السياسية ، ولم تعجزه مقدرته الإدارية عن اتخاذ الاجراءات الكفيلة بخنق الأنفاس ، وكبت الحريات ، ومنع التصرف ، فقد كان بامكانه إحتجاز طلحة والزبير في المدينة وصرفهما عن وجههما إلى مكة ، وقد كان بمقدوره فرض الإقامة الجبرية عليهما ، ومتابعتهما أمنياً بالعيون ، ولكنه ذو سياسة يتمحض عنها الإيمان بأدق معانيه ، وذو إدارة يلقي بثقلها الإسلام بأصدق مفاهيمه ، فليس للضغط مستقر في منظوره ، ولا للإكراه سبيل إلى إدارته ، أراد أن يذيق الناس مفهوم الحرية بأوسع معاييرها الفذة ، وأن يحمل الناس على سنن الإسلام وإن أرهقته ، وأن يتجمل بالصبر تارة ، وبالأناة تارة أخرى في إمتصاص الأحداث وهو على بصيرة من أمره ، وسيأتي في سياسته مع الخوارج ما يدل على ذلك.

والمنطق الإسلامي يقضي على علي عليه‌السلام أن يحكم بالظاهر ، فليس له إلى القلوب سبيل وإن أدرك خفايا النيات ، واستقرأ الغيب المجهول ، وهو على صحة من عزيمته وصدق من نيته ، يعلم بما يضمر طلحة والزبير من الغدر والنكث والخلاف ، ولكنه تركهما ييممان شطر البيت الحرام لأنهما أظهرا العمرة وإن أرادا سواها.

وقد قصد مكة المكرمة ولاة عثمان المعزولون لأنها حرم آمن لا

٢٤٧

يزعج من فيه ، فكان هناك يعلى بن أمية وعبد الله بن عامر ، وسعيد بن أبي العاص ، وجملة من الأمويين بقيادة مروان بن الحكم ، وفر إلى هناك من أراد الإنحياز عن علي عليه‌السلام ، والابتعاد عن الأحداث كعبد الله بن عمر وأمثاله ، واستقر هناك أعداء عليّ من المقيمين بمكة ، والقادمين إليها من الآفاق ، وكان هناك من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عائشة وحفصة وأم سلمة في تأدية المناسك ، وقد أكملت عائشة أم المؤمنين حجها ، وإنها لفي طريقها إلى المدينة وإذا بالأنباء تنعى إليها عثمان ، وأخبرت ـ خطأ أو إختباراً ـ ببيعة طلحة ، فاهتزت لذلك طرباً وقالت : إيهاً ذا الأصبع ، إيهاً يا ابن العم. وطلحة تيمي من رهط أبي بكر ، وما اكتفت بهذه الفرحة بل أظهرت سروراً عظيماً بمقتل عثمان ، وقالت فيما قالت : أبعده الله.

ولكن الفرحة لم تتم لها إذا أنبأها بعض من في الطريق بحقيقة الأمر ، وأن علياً عليه‌السلام قد بويع له بالخلافة ، فضاقت عليها الأرض بما رحبت ، وقالت :

ليت السماء أطبقت على الأرض ، ردوني فقد قتل عثمان مظلوماً. والله لأطلبن بدمه ، وكان وليّ دم المقتول ، والقيم على امور المسلمين.

عادت السيدة عائشة إلى مكة ، وعمدت إلى حجر إسماعيل فاتخذت فيه ستراً ، وجعلت منه مقراً ، واختلف إليها الناس فأسمعتهم من عذر عثمان ما أعجبهم ، وأظهرت من المطالبة بالثأر له ما أحفظهم ، وكانت تقول :

« لقد غضبنا لكم من لسان عثمان وسوطه ، وعاتبناه حتى أعتب وتاب إلى الله ، وقبل المسلمون منه ، ثم ثار به جماعة من الغوغاء والأعراب فماصوه موص الثوب الرخيص حتى قتلوه ، واستحلوا بقتله

٢٤٨

الدم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام ».

سمع الناس من عائشة هذا وأكثر من هذا ، فتأثروا بها ، فبينا هي تنعى على عثمان أعماله ، وتنكر عليه أشد الإنكار ، وتدعوا إلى قتله ، وإذا بها تتظلم له ، وتتفجع عليه ، فكان الناس أسرع إليها من إسراع الفراش إلى النار ، ومن إسراع النار في الحطب الجزل.

واتخذت عائشة هيئة استشارية من عبد الله بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ، ومروان بن الحكم ، ويعلى بن أمية ، وعبد الله بن عامر ، وتوجهت بعلمين من أعلام الشورى هما طلحة والزبير ، فكانت مثابة للناس ، ومأوى للمتمردين على علي عليه‌السلام.

وحقد عائشة على عليّ قديم منذ حديث الإفك ، إذ يقال إنه أشار على النبي بطلاقها ، وأنه قال : إن النساء غيرها كثير. وكون علي عليه‌السلام أباً للذرية الطاهرة من الزهراء ، والزهراء ابنة ضرّتها خديجة ، وخديجة أحب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها ، وعليٌّ ذو المنهج الواضح بإلغاء الإمتيازات ، وعلي حبيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كان يضايقها ذلك ، وعليّ قد هتف باسمه المعارضون لإستخلاف أبيها. كل أولئك أسباب لموجدتها على عليّ عليه‌السلام ، ولا ذنب له في ذلك ، ولكنها إمرأة سبقت إلى عاطفتها وتركت عقلها ، وإذا جاشت العواطف وتحركت الأحاسيس الكامنة ، صمت منطق الرشد ، وتلاشى سلطان العقل.

قصدها والي عثمان على مكة وقال : ما ردّك يا أم المؤمنين؟ قالت : ردي أن عثمان قتل مظلوماً ، فاطلبوا بدم عثمان تعّزوا الإسلام.

إنها دعوة صريحة إلى النخوة ألفت آذاناً صاغية من رجال الحكم

٢٤٩

البائد ، وأسماعاً واعية من دعاة التمرد على حكم الإمام الجديد ، وكأن عائشة كانت تتكلم بتفويض من الشعب ، أو نيابة عن الأمة ، فانتشر حديث هذه الدعوة الجامحة في الأمصار ، وامتد إلى آفاق الدنيا ، ووصلت الأنباء إلى علي في المدينة يحدو بها الركبان ، وينقلها الحجيج بعد أن أدّوا مناسكهم.

وجهد المتمردون متظاهرين بالثأر لعثمان ، وتجمع حولهم الحاقدون على الإمام ، وكان أمامهم عدة خيارات أهونها الصعب في تنفيذ المخطط ، فرأى بعضهم الغارة على المدينة ، ورأى بعضهم الذهاب إلى الكوفة ، وقد أشفقوا من هذين الرأيين ، فعليّ عليه‌السلام لهم بالمرصاد في المدينة ومعه المهاجرون والأنصار ، والكوفة من الأقاليم الثائرة على عثمان ، ورجالها في قوتهم ضد عثمان ومن تكلم باسم عثمان ، فقرروا الاتجاه إلى البصرة إذ زعم لهم عبد الله بن عامر ، أن فيها رجاله وصنائعه ، وكان قد فرّ منها بعد عزله ، فاضطروا إلى الخيار الأخير إضطراراً فيه كثير من المغامرة ، وانتدبوا الناس لذلك ، فاستجاب كل حاقد وإنتهازي موتور ، وأمدهم يعلى بن أمية بالمال والسلاح ، وزودهم ابن عامر بالظهر والكراع ، وساروا في جحفل عدته ثلاثة آلاف مقاتل ، يتقدمهم الأقطاب الثلاثة : عائشة ، طلحة ، الزبير.

وتوجهت أم سلمة لعائشة تنهاها فما استمعت ، بل حاولت جر حفصة وحملها على الخروج ، فأجابت بادئ ذي بدء ، ولكن أخاها عبد الله ردّها ومنعها.

وبلغت الأنباء علياً عليه‌السلام ، فاستشار الناس ، فأشار عليه قوم بالخروج في أثرهم ، وأشار آخرون بأن لا يتبعهم ولا يرصد لهم القتال ، فعمل بالرأي الأول ، ورفض الأخير ، وقال :

٢٥٠

« والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم ، حتى يصل إليها طالبها ، ويختلها راصدها ، ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه ، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً ، حتى يأتي عليَّ يومي. فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي ، مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يوم الناس هذا ».

وصحت عزيمته باتباع آثارهم ، فتحول قصده عن قتال أهل الشام ريثما ينتهي ممن نكث البيعة ، وفارق الجمع ، فلم يكن له أن يبقى متأملاً وقد جدّ القوم ، ولا متردداً وقد حث المتمردون خطاهم بالمسير نحو البصرة ، فتنتقض عليه الأقطار واحدة بعد أخرى.

وكانت همّة المتمردين البصرة حتى إذا أدركوها وفتحوها ساروا إلى الكوفة وفيهما المال والفيء ، وبهما السلاح والرجال ، ومن حولهما الثغور والحدود ، فما ينتظر عليّ لو انتظر إلا أن تنتقض عليه الأطراف ، وتتجمع ضده الأشتات ، ومن وراءهم معاوية وأهل الشام ، فلو قعد لضاعت الخلافة وانتهى كيان الإسلام ، فما عليه إلا النهوض وهكذا فعل ، فاستنفر لذلك الناس في المدينة فنفروا خفافاً وثقالاً ، وسار فيهم سيراً حثيثاً عسى أن يدرك المتمردين قبل دخول البصرة ، فيحاججهم ويعظهم ويعذر إليهم ، عسى أن لا يكون قتال وسفك دماء.

وعلم المتمردون بذلك فساروا سيراً عنيفاً حتى سبقوا علياً إلى البصرة.

وسار موكب علي عليه‌السلام بالمهاجرين والأنصار حتى وصلوا إلى ذي قار آملاً تدارك الموقف ما استطاع ، وقال :

٢٥١

« سأمسك الأمر ما استمسك ، فإذا لم أجد بداً فآخر الدواء الكي ». وهكذا كان.

فقد كتب من هناك إلى أهل الكوفة : « أما بعد ، فإني قد خرجت من حيي هذا إما ظالماً وأما مظلوماً ، وإما باغياً وإما مبغياً عليه ، وإني أذّكر الله من بلغه كتابي هذا لما نفر إلي ، فإن كنتُ محسناً اعانتى وان كنت مسيئاً استعتبني ».

وكان حرياً بهذا الكتاب أن يستثير همم أهل الكوفة وأن يشحذ عزائمهم ، ووصل الكتاب ، وإذا بالوالي على الكوفة يثبطهم ، ويدعو إلى اعتزال الفتنة فيما يزعم ، ذلك أبو موسى الأشعري ؛ فواعجباً : ممثل الإمام يخذّل عن الإمام ، وكان واجبه الشرعي وموقعه الإداري والسياسي يدعوانه إلى نصرة الإمام بنفسه وبجنده ، أما أن يبقى والياً ولا ينفذ الأوامر ويتمرد عليها فشيء جديد لم يعرف من ذي قبل.

فأرسل عليٌّ عليه‌السلام من يؤنبه ويعنفه ويلومه ويزجره ، وكان الحسن بن علي عليهما‌السلام ، وعمار بن ياسر ، ومحمد بن أبي بكر أول من أرسل ، وأخيراً تم إرسال مالك الأشتر الذي توجه في الكوفة نحو قصر الإمارة وأغار عليه ، وأبو موسى يخطب في الناس مخذّلاً عن الإمام ، فاستولى على القصر ، واحتاز بيت المال ، وأعلن عزل أبي موسى بقرظة بن كعب الأنصاري ، فخرج أبو موسى مدحوراً معزولاً بعد خطوب يسيرة ، وقصد مكة فأقام بها.

ولم يكن أبو موسى مغفّلاً كما يصوره المؤرخون بل كان متغافلاً يظهر الورع والسذاجة ، ويدّبر ما يريد من أمر بتؤدة وإحكام ، ولم يكن محتاطاً لدينه ـ كما يريد أن يقال ذلك عنه ـ بل كان موغلاً في الإنحراف

٢٥٢

عن أمير المؤمنين ، وقد يكون أيضاً ضالعاً بالمؤامرة ، فقد يصح أن يراسله طلحة والزبير وعائشة يستنصرونه ، أو يطلبون إليه أن يخذل الناس عن الإمام ، وقد فعل هذا بأبشع صورة ، فقد خان الأمانة ، وغدر بالأمة ، وخذل الحق ، ونصر الباطل ، فأي إعتزال للفتنة هذا ، وأي مغفل من أعرق بالخلاف.

ومهما يكن من أمر ، فقد استجاب أهل الكوفة للإمام بتوجيه من الحسن بن علي عليهما‌السلام ، وعمار بن ياسر رضي‌الله‌عنه ، ومالك الأشتر رحمه‌الله ، وخرج إليه منهم جمع كثيف ، وهو بذي قار ، وكان حقاً ما قال لهم :

« إني اخترتكم والنزول بين أظهركم ، وفزعت إليكم لِما حدث ، فكونوا لدين الله أعواناً وأنصاراً ، وانهضوا إلينا ، فالإصلاح ما نريد ، لتعود الأمة إخواناً ».

وأضيف إلى جيش أمير المؤمنين من المهاجرين مثله من جيش الكوفة المقاتلين ، وما كان عليّ عليه‌السلام يريد القتال إلا أن يحمل عليه ، بل كان يريد الإقناع بالمحاججة ، ورد المتمردين بالتي هي أحسن ، قصداً إلى الإصلاح ، وتنفيذاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد صرح الإمام عن هذه الملاحظ في عدة مواقف ، فقد استوقفه بن رفاعة قائلاً : « أي شيء تريد؟ وإلى أين تسير يا أمير المؤمنين »؟

فقال الإمام : إن أريد إلا الإصلاح ، إن قبلوا منا ، وأجابونا إليه ».

قال ابن رفاعة : فإن لم يجيبونا ، قال الإمام : ندعهم بعذرهم ونصبر.

قال ابن رفاعة : فإن لم يرضوا ؛ قال الإمام : ندعهم ما تركونا.

٢٥٣

قال ابن رفاعة : فإن لم يتركونا ؛ قال الإمام : امتنعنا منهم.

واستمع الحديث ابن غزية الأنصاري فهب قائلاً :

« والله لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول ، ولأنصرن الله كما سمانا أنصاراً ».

وانتهت المحاورة بانتصار الإمام ، وسار جيشه يُرتَجز أمامه :

سِيروا أبابَيلَ ، وحثوا السَيرا

إذ عزمَ السيرُ وقُولُوا خَيرا

وقد أوضح علي عليه‌السلام نية أصحاب الجمل كما أوضح نيته ، وأبان فيهم ما استتر على الناس من علم تلقّاه من الصادق الأمين ، فقد خطب وقال :

« أيها الناس إن عائشة سارت إلى البصرة ، ومعها طلحة والزبير ، وكل منهما يرى الأمر له دون صاحبه ، أما طلحة فابن عمها ، وأما الزبير فختنها ، والله لو ظفروا بما أرادوا ـ ولن ينالوا ذلك أبداً ـ ليضربن أحدهم عنق صاحبه بعد تنازع شديد ، والله إن راكبة الجمل الأحمر ، ما تقطع عقبة ولا تحل عقدة إلا بمعصية الله وسخطه ، حتى تورد نفسها ومن معها موارد الهلكة ، أي والله ليقتلن ثلثهم ، وليهربن ثلثهم ، وليتوبن ثلثهم ، وإنها التي تنبحها كلاب الحوأب ، وإنهما ليعلمان أنهما مخطئان ، ورب عالم قتله جهله ، ومعه علمه لا ينفعه ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، فقد قامت الفتنة فيها الفئة الباغية ، أين المحتسبون؟ أين المؤمنون؟ ما لي ولقريش؟ أما والله لقد قتلتهم كافرين ، ولأقتلنهم مفتونين! وما لنا إلى عائشة من ذنب إلا أنا أدخلناها في حيّزنا ، والله لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته ، فقل لقريش فلتضج ضجيجها ». ثم نزل.

٢٥٤

فالإمام بهذا الخطاب الصريح ، قد أبان اختلاف القوم على القيادة ، وأظهر تردّي عائشة بالمعصية ، وأنبأ أنها صاحبة كلاب الحوأب بما أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأجمل علم طلحة والزبير بخطأهما ، ومعهما علمهما لا ينفعهما ، وصرح بقيام الفتنة ، ودعا لقمعها ، ونعى على قريش موجدتها عليه ، ولا ذنب له مع عائشة إلا أن أدخلها في بني هاشم.

وأعلن الإمام الحرب بعد أن أعذر ، وأخذلها أهبتها ، حتى لا يؤخذ على حين غرة ، ولا يبغت بمفاجأة ، وبهذا يكون قد أحكم أمره إحكاماً دقيقاً ، ومعه شيوخ المهاجرين والأنصار من هم بصحة عزيمته ، ونفاذ بصيرته ، وصدق النية ، وسلامة القصد ، وقوة الشكيمة.

عوامل غلابّة ، وبوادر ائتلاف وجماعة ، وهكذا كان علي وجيشه المتوجه إلى البصرة. وكان جيش عائشة وطلحة والزبير يفتقر إلى هذه الخصائص وهو لا يتمتع بها ، ولم يكن ليوسم تحركاته بالصدق والبصيرة ، ولا ليتوج أعماله بالقصد والإعتدال ، وإنما هي الفرقة بأبرز صورها منذ اللحظة الأولى لمسيرة القوم ، فالتنازع حول الصلاة والجماعة قائم ، والتنافس على إمارة الحرب وقيادة الجيش بلغ أشدّه ، والتظاهر بالسلطان كلٌّ يدعيه لنفسه ، الفرقة ظاهرة مستحكمة ، والاختلاف متمكن مستطير ، والنزاع يصل إلى حد الصراع.

وهنا يبدو فرق ما بين الحزبين : حزب متطامن مستقيم على بصيرة من الأمر يتمثل بالإمام وجيشه ، وحزب متناحر مستهين ، تحدو به الأطماع ، ويتطلع إلى المناصب ، لا تستقيم له الرؤية يتمثل بعائشة وطلحة والزبير وجيشهم ، وفرقٌ ما بين المعسكرين كما ترى ، فالأول يقود بالضرورة إلى النصر ، والثاني يدفع إلى الهزيمة دون شك.

٢٥٥

(٤)

قيادة الناكثين بين التردد واقتحام البصرة

سار جيش المتمردين والناكثين نحو البصرة ، وكانت قيادته مترددة حائرة ، تتنازع بينها الإمارة تارة ، وتتناوب بينها الصلاة تارة ، فعبد الله بن الزبير يدعو للسلام على أبيه بالإمارة ، ومحمد بن طلحة يدعو للسلام على أبيه بالإمارة أيضاً ، وعائشة قلقة بين هذا وذاك ، فتولى ابن أختها عبد الله بن الزبير أمر الصلاة ، وهو قرار فيه كثير من الإستبداد والتحدي لمكان أبيه ووجود طلحة. وعائشة نفسها تستولي عليها الذكريات المريرة فترجع ـ كالحالمة حيناً والمتيقظة حيناً آخر ـ إلى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى قوله لنسائه :

أيتكن صاحبة الجمل الأدبب ، تنبحها كلاب الحوأب؟ ».

وإذا بكلاب الحؤاب تنبحها بشراسة ، وتفجأها بعواء كالزئير ، وتجزع لذلك جزعاً متواصلاً ثقيلاً ، وتلهث لهاثاً متسارعاً ، وتصرخ بمن حولها : ردّوني ردّوني ، أنا والله صاحبة كلاب الحوأب ، فيجيئها عبد الله بن الزبير ملفقاً لها شهادة زور عريضة من خمسين أعرابياً من بني عامر يحلفون لها بالله أن هذا الماء ليس بماء الحوأب ، وأن الكلاب ليست بكلاب الحوأب ، فكانت أول شهادة زور في الإسلام كما يقول المؤرخون.

ويستمع طلحة والزبير وسواهما من المتمردين إلى هذه الشهادة ،

٢٥٦

ويتذكرون قول الرسول لبعض نسائه في هذا الشأن فلا ينكر ذلك منكر ، ويغمضون على الأمر ، وهم يشاهدون مصاديق قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذب شهادة الزور.

وتسير الأحداث سيراً متلاحقاً ، فيصل الجيش المتمرد أطراف البصرة ، ويصل علي عليه‌السلام وجيشه الطرف الآخر ، وكان الإمام قد أرسل إليهم القعقاع بن عمرو سفيراً ومستطلعاً ، يستقرىء له خبرهم ، ويعلم علمهم ، ويسألهم عما يريدون.

واستأذن القعقاع على عائشة ، وسألها عما أقدمها إلى البصرة؟ قالت : إصلاح بين الناس. فسألها أن تدعو له طلحة والزبير ليناظرهما وهي شاهدة ، فأستجابت وأرسلت إليهما فحضرا ، قال لهما القعقاع :

إني سألت أم المؤمنين عما أقدمها ، فقالت : إصلاح بين الناس ، أفأنتما متابعان لها أم مخالفان عنها؟ قالا : متابعان : فقال القعقاع : فأنبآني عن هذا الإصلاح الذي تريدون ، فإن كان خيراً وافقناكم عليه ، وإن كان شراً إجتنبناه ، قالا : قتل عثمان مظلوماً ، ولا يستقيم الأمر إذا لم يقم الحد على قاتليه. قال القعقاع فإنكم : قد قتلتم من قتلة عثمان ستمائة رجل في البصرة إلا رجلاً واحداً هو حرقوص بن زهير ، غضب له قومه فخالفوا عنكم ، وغضب لمن قُتل قومهم ، فتفرقت عنكم مضر وربيعة ، وفسد الأمر بينكم وبين كثير من الناس ، ولو مضيتم في الأمصار تفعلون فيها مثل ما فعلتم في البصرة يفسد الأمر فساداً لاصلاح بعده.

قالت عائشة : فأنت تقول ماذا؟ قال القعقاع : أقول إن هذا أمر دواؤه التسكين واجتماع الشمل حتى إذا صلح الأمر ، وهدأت النائرة ، وأمن الناس ، واطمأن بعضهم إلى بعض إلى بعض نظرنا في أمر الذين أحدثوا هذه

٢٥٧

الفتنة. فأظهر القوم استحسان كلامه ، وقالوا : إنا قد رضينا منك رأيك ، فأن قبل عليٌّ بمثل هذا الرأي صالحناه عليه.

ورجع القعقاع فيما يقول بعض المؤرخين إلى الإمام فأنبأه بحديث القوم ، فسرّ الإمام بذلك سروراً عظيماً.

وكان حديث القوم مع القعقاع ـ إن صح ـ لا يستقيم عملياً ، فقد تجاوز القوم الحدّ في سفك الدماء بالبصرة قبل سفارته ، وقد ينبغي أن نذكر أن جيش المتمردين قد إقتحم مشارف البصرة ، وأُقحمت البصرة بالحرب جهاراً ، وأهلكت طلائع الجيش الحرث والنسل ، وقد سمي ذلك بيوم الجمل الأصغر ، فقد بعثت عائشة بابن عامر إلى البصرة يتألف فيها صنائعه ، فاجتمع له جيش سرّي يضمن لجيش الناكثين النصرة والحماية ، ويكون له ظهرياً إن هو اقتحم البصرة ، ولم يكن عثمان بن حنيف والي البصرة لتخفى عليه هذه المكائد ، فقد كان متنبهاً لها ، ومتحصناً قدر المستطاع ، وتأهب للحرب حسب الإمكان ، وأراد أن يخبر أهل البصرة بحديث القوم ، فبعث من يخطب بالمسجد قائلاً :

« أيها الناس : إن هؤلاء القوم قد جاؤوكم ؛ إن كانوا جاؤوكم خائفين ، فقد جاؤوا من المكان الذي يأمن فيه الطير ، وإن كانوا جاؤوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلة عثمان ... أطيعوني فردّوهم ».

فكان اللغط كثيراً ، وكان الرد على هذا الخطاب : أن القوم إنما فزعوا إلينا ليستعينوا بنا على قتلة عثمان ، فعلم ابن حنيف أن هذا أمر دبر بليل ، فتوسل بالرسل والأسفار إلى القوم فأرسل عمران بن حصين ، وأبا الأسود الدؤلي يستطلعان ما عزم عليه النفير ، ووصل السفيران فاستئذنا على عائشة وقالا :

٢٥٨

« يا أم المؤمنين : إن أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك ، فهل أنت مخبرتنا؟ » فتعللت بالجواب بإرادة الإصلاح ، فقالا : « فهل معك عهد من رسول الله في هذا المسير ».

فأُرتج عليها الجواب. وقد يقال بأنها قالت : « إن عثمان قتل مظلوماً ، لقد غضبنا لكم من السوط والعصا ، أفلا نغضب لقتل عثمان ، فرد عليها أبو الأسود « وما أنتِ ومن عصانا وسوطنا ، وأنت حبيس رسول الله أمرك أن تقرّي في بيتك ، فجئت تضربين الناس بعضهم ببعض ، فقالت : وهل أحد يقاتلني؟ فقال أبو الأسود : أي والله لتقاتلين قتالاً أهونه لشديد ، أو قال : قتالاً أهونه أن تندر فيه الرؤوس ».

وكان أبو الأسود صادقاً فيما قال ـ كما سترى ـ وناصحاً غاية النصح ، ولئن نصح لها أبو الأسود في هذا الموقف ، فقد نصح لها جارية بن قدامة السعدي في موقف آخر ، وأبلغ في النصح ، وأعذر في القول ، وشدد في النكير ، وقال :

« يا أم المؤمنين ، والله لقتل عثمان أهون من خروجك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح ، لقد كان لك من الله ستر وحرمة ، فهتكت سترك وأبحت حرمك ، وإن من رأى قتالك فقد رأى قتلك ، فإن كنت قد أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك ، وإن كنت مستكرهة فاستعيني بالناس ».

ومهما يكن من أمر فقد ترك الرسولان عائشة وقصدا طلحة وسألاه :

ما أقدمك؟ فقال طلحة : الطلب بدم عثمان. فقال أبو الأسود :

« يا أبا محمد قتلتم عثمان غير مؤامرين لنا في قتله ، وبايعتم علياً

٢٥٩

غير مؤامرين لنا في بيعته ، ولم نغضب لعثمان إذ قتل ، ولم نغضب لعلي إذ بويع ، ثم بدا لكم فأردتم خلع علي ، ونحن على الأمر الأول ، فعليكم المخرج مما دخلتم فيه ».

وقال عمران بن حصين « يا طلحة : إنكم قتلتم عثمان ، ولم نغضب له إذ لم تغضبوا ، ثم بايعتم علياً وبايعنا من بايعتم ، فإن كان قتل عثمان صواباً فمسيركم لماذا؟ وإن كان خطأ فحظكم منه الأوفر ».

وبدرهما طلحة بقوله : « يا هذان : إن صاحبكما لا يرى أن معه في هذا الأمر غيره ، وليس على هذا بايعناه ». فخرجا منه وقال أبو الأسود لعمران :

« أما هذا فقد صرح أنه إنما غضب للملك يا عمران ».

وقصدا الزبير ، فسبقهما بقوله : « إن طلحة وإياي كروح في جسدين. وقد كانت منا في عثمان فلتات احتجنا فيها إلى المعاذير ، ولو إستقبلنا من أمرنا ما إستدبرناه نصرناه ».

ويروي ابن أبي الحديد أنهما قالا غير مواربين :

« بلغنا أن في مصركم دراهم ودنانير فأتينا لأستخلاصها » ورجع الرسولان إلى عثمان بن حنيف ، فقال أبو الأسود :

يا ابنَ حنيفٍ قد أُتيتَ فأنفرِ

وطاعن القوم وجالد وأصبرِ

وإبرُز لهم مستَلئماً فشمّرِ

فقال ابن حنيف : إنا لله وإنا إليه راجعون ، دارت رحى الإسلام ورب الكعبة.

ويرى الطبري أن عثمان بن حنيف عامل أمير المؤمنين على البصرة قد قصدهم بنفسه ، وقال لهم مجتمعين :

٢٦٠