الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة العارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠

من المؤمنين من أهل الكوفة فيهم مالك الأشتر ، وحجر بن عدي الكندي وسواهما ، تولى هؤلاء غسله وكفنه والصلاة عليه ودفنه في تلك المفازة ، وحملوا زوجته وابنته إلى المدينة ، فتذكر الناس قول الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« يا أبا ذر ؛ تعيش وحدك ، وتدفن وحدك ، وتحشر وحدك ، ويسعد فيك ناس من أهل العراق يتولون غسلك ، ومواراتك في قبرك ».

وكان نفي أبي ذر وموته وحيداً في غربته ، أول شرارة حقيقية كبرى اندلعت فيها الثورة على عثمان ، وإن لم تكن أول شرارة ، فهي أورى شرارة قدحاً.

وكان توديع الإمام علي عليه‌السلام لأبي ذر أول ما نجم بين علي وعثمان من نقمة وسخط وغضب ؛ فحينما عاد أمير المؤمنين من تشييع أبي ذر ، وزجره لمروان زجراً عنيفاً ، قيل له : إن عثمان عليك غضبان لتشييعك أبا ذر ، فأجاب علي بسخرية لاذعة : « غضب الخيل على اللجم ».

واستدعاه عثمان فقال له : « ما حملك على ما صنعت بمروان ، واجترأت عليّ ، ورددت رسولي وأمري ».

فقال عليّ : « أما مروان فاستقبلني يردّني فرددتّه عن ردّي ».

فقال عثمان : « أولم يبلغك أنني نهيت الناس عن أبي ذر وعن تشييعه؟ » فاستنكر الإمام عليه‌السلام هذا ، وقال مصرّحاً :

« أو كل ما أمرتنا به من شيء يرى طاعة الله ورسوله الحق بخلافه ، إتبعنا فيه أمرك ». فأبان علي عليه‌السلام : أن لا طاعة لمخلوق في معصية

٢٠١

الخالق ، وأن تشييع المؤمن أمر مندوب إليه في الشريعة ، وإن غضب لذلك السلطان.

وتطورت المحاورة فيما بينهما ، ولوّح عثمان بمشروعية شتم مروان للإمام ، فقال علي عليه‌السلام : « وأما أنا فوالله : لئن شتمني ، لأشتمنك أنت مثلها بما لا أكذب فيه ، ولا أقول إلا حقاً ».

وهنا بَدَهُ عليّ عثمان بالمجابهة له ، لأن مروان ليس في عداده ، فلو شتمه مروان لشتم عثمان بالحق لا يتزيد عليه ، فضاق صدر عثمان وقال :

« ولم لا يشتمك إذا شتمته فوالله ما أنت عندي بأفضل منه ». فنهره عليّ وزجره عن هذا التسرع في الرد ، وقال : « ألي تقول هذا القول ، وبمروان تعدلني ، فأنا والله أفضل منك ، وأبي أفضل من أبيك ، وأمي أفضل من أمك ».

فصعق عثمان ، وما حار جواباً ، وغص بريقه على مضض.

هذه الشرارة التي إنقدحت بين علي وعثمان ، كان بنو أمية وراء إذكائها ، يغذون الفرقة ، ويزدرعون الإحن والأحقاد ، حتى كادت الأمور تتعقد إلى غاية قصوى ، لولا أن يتداركها أبو الحسن بحلمه المعهود ، وقد أنكر المسلمون هذا وغيره على عثمان.

ثانياً : عبد الله بن مسعود :

وهو صحابي قديم من هذيل ، التقى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شعاب مكة ، وكان يرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط ، فاستسقاه النبي وصاحبه لبناً ، فأبى ذلك لأنه مؤتمن على مال غيره ، قال له النبي : فهل عندك شاة لم ينزُ عليها الفحل؟ فدفع إليه عبد الله شاة عجفاء ، فمسح النبي

٢٠٢

على ضرعها ، فاحتفل لبناً ، فاحتلب منه وشرب ، وشرب ابو بكر ، فأعجب النبي بأمانته ، وأعجب عبد الله بكرامته ، واستيقظ من غفوته ، وأسرع فيمن أسرع للإسلام ، ونزع إلى القرآن فحفظ منه الكثير ، وجهر به في مكة ، وأوذي في سبيل الله ، وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، وشهد المشاهد كلها مع النبي ، وهو الذي أجهز على أبي جهل فاحتز رأسه وأتى به النبي في بدر ، ولازم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملازمة جادّة ، وأخذ عنه القرآن ، واشتهر بتفسيره ، وورد عن النبي أنه قال : « من أحب أن يأخذ القرآن غضاً طرياً فليأخذه من ابن أم عبد ».

وتولى خدمة النبي في سفره وحضره ، وكانت منزلته لديه جليلة ، ورآه الصحابة يتسلق شجرة فضحكوا من دقة ساقيه ، فامتعظ النبي من ذلك ، وقال :

« إنهما لأثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد ».

واستعمل عمر عمار بن ياسر أميراً على الكوفة ، وبعث معه عبد الله معلماً ووزيراً ، وقال إنه آثرهم به على نفسه ، وتولى بيت المال في ولاية سعد وظل عليه حتى ولاية الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، فاستقرضه الوليد من بيت المال شيئاً فأقرضه ، وطالبه بالمال فمطل له ، وألح عليه ابن مسعود ، فشكاه الوليد إلى عثمان ، فكتب له عثمان :

« إنما أنت خازن لنا ، فلا تعرض للوليد فيما أخذ من بيت المال ».

فألقى ابن مسعود المفاتيح ، واعتزل في داره ، وبدأت معارضته لعثمان منكراً ما يشاهد من أحداث ، ومعرضاً بما رآه من بدع ، فقد كان يخطب كل خميس فيقول :

« إن أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢٠٣

وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ».

وكان الوليد يرى في قوله تعريضاً بعثمان ، فيزود عثمان بما يطعنه به ، ويستزيد من عنده ما يشاء ، لا يتحرج من ذلك ولا يتأثم ، حتى أوغر صدر عثمان منه ، فأشخصه إلى المدينة ، ودخلها وعثمان يخطب ، فقال عند دخوله المسجد : « ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقيء ويسلح ».

وكان هذا من عثمان استهزاء أي استهزاء ، وإهانة ما بعدها إهانة ، واستخفاف بمكانة الرجل ، فرّد عليه ابن مسعود : لست كذلك ، ولكني صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر ويوم بيعة الرضوان. وكان موقف عبد الله فيهما عظيماً ؛ وأنكرت عائشة تهجم عثمان على عبد الله وقالت : « أي عثمان : أتقول هذا لصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وأمر عثمان بإخراجه ، فأخرج من المسجد بعنف وقسوة ، وضربت به الأرض ، فانكسر بعض أضلاعه. فعظم ذلك على المسلمين ، واستنكر الإمام علي ذلك ، والتفت إلى عثمان قائلاً : « تفعل هذا بصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الوليد ». فقال عثمان : ما من قول الوليد فعلت هذا ، ولكن أرسلت زبيد بن كثير ، فسمعه يحل دمي. فقال علي عليه‌السلام : زبيد غير ثقة.

ثم أمر عليٌّ بحمل ابن مسعود إلى منزله ، وهو يعالج أضلاعه ، حتى إذا برئ ، رغب أن يخرج إلى الشام غازياً ، فمنعه عثمان بإشارة مروان قائلاً : إنه أفسد عليك الكوفة ، فلا تدعه يفسد عليك الشام.

وما اكتفى عثمان بهذا الحجز بل قطع عن الرجل عطاءه من بيت

٢٠٤

المال ، فعاش متكففاً فقيراً ، وازدادت الحال سوءاً بينه وبين عثمان ، فجاهر بالمعارضة حتى لزم فراش المرض الطويل ، فلما دنا أجله خفّ عثمان لعيادته متطلباً عفوه ورضاه ، ولكن الرجل ظل حانقاً محتجاً متبرماً حتى آخر لحظة من حياته ، وجرت بينهما المحاورة الآتية :

قال عثمان له : يا أبا عبد الرحمن ما تشتكي؟

قال ابن مسعود : ذنوبي.

قال عثمان : فما تشتهي؟

قال ابن مسعود : رحمة ربي.

قال عثمان : ألا أدعو لك طبيباً؟

فقال ابن مسعود : الطبيب أمرضني.

وحاول عثمان استرضاءه ، وقال له : أفلا آمر لك بعطائك؟

فقال ابن مسعود : منعتنيه وأنا محتاج له ، وتعطينيه وأنا مستغنٍ عنه.

قال عثمان : يكون لولدك.

فقال ابن مسعود : رزقهم على الله.

واستعطفه عثمان فقال : « فاستغفر لي يا أبا عبد الرحمن ».

فردّه ابن مسعود بداهة : أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي.

فظل عثمان باهتاً ، وتولى عنه مسرعاً.

وأوصى ابن مسعود أن لا يحضر جنازته عثمان ، ولا يصلي عليه ، ومات ابن مسعود فلم يؤذن أحد عثمان بموته ، وصلى عليه عمار بن

٢٠٥

ياسر ، ودفن في كثير من الكتمان ، ومرّ عثمان من الغد بقبر جديد ، فسأل عنه ، فقيل إنه قبر ابن مسعود ، فقال : سبقتموني به ، فقال عمار : إنه عهد إلي بذلك وأوصى أن لا تصلي عليه ، فحقدها عثمان على عمار ، والتفت إلى الحاضرين قائلاً : رفعتم والله أيديكم عن خير من بقي. فلذعه الزبير منشداً :

لا ألفينّكَ بعدَ الموتِ تندبُني

وفي حياتِي ما زودتَني زادا

ثالثاً : عمار بن ياسر

حليف بني مخزوم ، كان من أوائل المسلمين ، وهو أحد المستضعفين في الأرض مع أبويه : ياسر وسمية ، عذبوا جميعاً في ذات الله ، حرًقوا بالنار ، وعرضوا لشمس مكة المحرقة ، وضربوا بالسياط ، فمات أبوه تعذيباً ، ورميت أمه بحربة كانت فيها روحها الطاهرة ، وكان عذابهم يستدر عطف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويستنزل رحمته حتى قال : « اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت ». هاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلى الى القبلتين ، وله فضيلة كبرى ، فهو من القلائل الذين اتخذوا من بيوتهم في مكة مساجد ، فكان له مسجد في بيته يصلي فيه ، وهو الذي فاق أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بناء مسجده في المدينة ، فكان المسلمون يحمل كل منهم لبنة لبنة ، وكان عمار يحمل لبنتين لبنتين ، وشهد المشاهد كلها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبلى في اليمامة بلاءً حسناً ، وولاه عمر أميراً على الكوفة ، فكان مثال الوالي النزيه ، وكان من السابقين إلى أمير المؤمنين ، ينفّذ أمره ، ويتبع خطاه ، وقد نقم على عثمان فيمن نقم : تصرفه اللامحدود في بيت المال ، وأنكر عليه سياسة التولية لقرابته وأسرته ، بلا كفاية في الإدارة ، ولا أمانة على المال ، ولا وازع من تقوى الله تعالى ، وجاهر عمّار في معارضة عثمان بتغيير السنن ، ووضع الأمور

٢٠٦

في غير مواضعها ، وأنكر التصرف الكيفي في الأموال ؛ فقد أخذ عثمان عقد جوهر نفيساً من بيت المال وحلّى به ابنته ، فغضب المسلمون ونالوا من عثمان ، واستهجنوا استطالته لذلك حتى أحرج ، فخطب ثائراً وقال :

« لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف قوم ». فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إذن تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه ».

وقال عمّار : أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك. فقال عثمان : أعليّ يا ابن المتكاء تجترئ؟ خذوه ، فأخذ وأدخل على عثمان في داره ، فضربه ضرباً موجعاً حتى غشي عليه ، وحمل إلى منزل أم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مغشي عليه ، ففاتته صلاة الظهر والعصر والمغرب ، فلما أفاق صلى قضاءً وقال :

الحمد لله ليست هذه أول مرة أوذينا فيها في الله.

واحتجت عائشة على هذا العقاب العرفي ، وأنكرت هذا الإجراء التعسفي ، وأخرجت شيئاً من شعر رسول الله وثوباً من ثيابه ، ونعلاً من نعاله ، وقالت :

هذا شعر النبي وثوبه ونعله لم يبل ، وعثمان أبلى سنتّه.

فضج الناس بالبكاء ، وارتج على عثمان حتى لا يدري ما يقول.

وكتب المسلمون كتاباً لعثمان ، استعرضوا فيه أعمال عثمان ، وسوء حالة الرعية ، وظلم الولاة ، واحتجان بيت المال ، واختاروا عمّاراً أن يوصله لعثمان ، فأوصله إليه ، ففضّه وقرأ شطراً منه ، وقال له : أين أصحاب الكتاب؟ فقال عمار : تفرقوا خوفاً منك ، فقال عثمان : أعليّ تقدم من بينهم؟ فقال عمار :

لأني أنصحهم لك ، فجبهه عثمان : كذبت يا ابن سمية!!

٢٠٧

فقال عمّار : والله أنا ابن سمية وأبي ياسر ، فغضب عثمان ، وألبه عليه مروان ، وقال لعثمان : إن هذا العبد الأسود قد جرأ عليك الناس ، ولو قتلته هابك من وراءه ، فتناول عثمان عصا فضرب بها عماراً ، وأمر غلمانه فطرحوه أرضاً ، وقام عثمان فرفسه برجليه ، على مذاكيره ، وركله ركلاً شديداً ، فأصيب بفتق ورضوض وغشي عليه ، وأخرجوه من الدار وألقوه طريحاً في الطريق العام.

وأنكر المسلمون ذلك ، وعظم عليهم ، وثار هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي ، وقال لعثمان : أما والله لئن مات لأقتلن به رجلاً من بني أمية عظيم الشأن. وكأنه يقصد عثمان بذلك.

وأفاق عمّار ، فجاشت نفسه بذكرياتها المريرة ، فتذكر ما كان يلقاه على يد طواغيت قريش ، فصبر على ذلك ، ولكنه أذكى شرارة في نفوس المسلمين لم تخبُ حتى حين.

ولم يكن أبو ذر وابن مسعود وعمار زعماء للمعارضة وحدهم فلست بصددها ، ولكني بصدد موقف الإمام علي عليه‌السلام من عثمان وسنأتي علية ، بل أضف إليهم عائشة أم المؤمنين التي نادت : اقتلوا نعثلاً قتله الله ، اقتلوا نعثلاً فقد كفر ؛ وطلحة والزبير أيضاً كانا يترصدان به دائرة السوء ، وحتى البيت الأموي كان به من يمثل هذه المعارضة ، فهذا محمد بن أبي حذيفة ، جده لأبيه عتبة فارس المشركين ببدر ، وهو ابن خال معاوية ، وهو ربيب عثمان في بيته ، وقد وجد نفسه صفر الكف من ولايات عثمان ، وقد غضب لذلك وهاجر إلى مصر ، فكان يحرض الناس على عثمان تحريضاً مرّاً ، يلقى الرجل عائداً من غزو الروم فيسأله : أمن الجهاد قدمت؟ فيقول : نعم ، فيشير ابن أبي حذيفة إلى جهة الحجاز قائلاً : « أما والله لقد تركنا خلفنا الجهاد حقاً » ويتساءل

٢٠٨

المسؤول : فأي جهاد تعني؟ فيقول : جهاد عثمان.

وكان المصريون والكوفيون والبصريون أشد الناس معارضة لعثمان ، وكان جملة من المهاجرين والأنصار في المدينة يقعون بعثمان ، وتألب الجميع على عثمان ، فكانت النهاية المفجعة التي تنبأ بها عمر لعثمان.

ولقد بليّ عليّ محنة أية محنة ستراها بعد حين.

٢٠٩

(١٠)

المسلمون ينقمون على عثمان ... والأمصار تتجمع

ورأى المسلمون أن عثمان قد عطل حداً من حدود الله عند ما لم يقتص من عبيد الله بن عمر بن الخطاب للهرمزان ، وكان قد أسلم وقتله بأبيه فيما زعم ، ورأوه وقد حمى الحمى لإبل بني أمية ، ورأوه يستخلف أبناء الطلقاء الإمارات الضخمة ، ورأوه يسرف على نفسه وعلى أسرته من بيت المال ، ورأوه يشرّد من يشاء ويبعد من يشاء من صحابة الرسول ، ورأوه غيّر سنة الله في كثير من المواطن ، فقد أقبل السعاة بإبل للصدقة فوهبها عثمان لبعض أبناء الحكم بن العاص ، فسمع عبد الرحمن بن عوف بذلك فاسترّدها وقسمّها بين المسلمين ، فكان أول من اجترأ على عثمان ، وتلقى الأمر عثمان واجماً كاظماً غيظه لا يدري ما يفعل.

كان المسلمون يرون هذا كله ، فتزداد النقمة ، ويستولي الغضب ، ويتعالى الإحتجاج ، وعثمان ساهٍ لاهٍ لا يستجيب لأحد ، ولا يغيّر ما يجب تغييره ، نعم استجاب لأبناء عمومته فألقى الحبل على الغارب ، وفي ذلك إصرار على التجاوز ، وإستهانة بأقدار الناس.

وكان الطامعون في الخلافة يباركون هذا المنحنى في سرائرهم ، وينكرونه في علانيتهم ، وكلٌ يجرّ النار إلى قرصه.

٢١٠

وكان في طليعة هؤلاء طلحة والزبير فهما أشد الناس على عثمان ما في ذلك شك ؛ حتى قال عثمان في طلحة : ويلي على ابن الحضرمية لقد أعطيته كذا وكذا ذهباً ، وهو اليوم يروم دمي ، اللهم لا تمتعه بذلك. وأستتر طلحة بثوب صفيق عن أعين الناس حينما اشتد الحصار بعثمان ، وأخذ يرمي السهام على دار عثمان ، وحينما وقف الحسن والحسين عليهما‌السلام في باب الدار يمنعون الثوار عن عثمان ، ويحولون بينهم وبين دخول الدار عليه ، أخذ طلحة المهاجمين إلى دار بعض الأنصار فأصعدهم سطحها ، وتسوروا الدار على عثمان وقتلوه.

وكان الزبير يحرض على قتل عثمان مجاهراً فيقول : اقتلوا عثمان فقد بدل سنتكم ، فقيل له : إن ابنك يحامي عنه بالباب ، فقال : ما أكره أن يقتل عثمان ولو بُدئ بابني ؛ إن عثمان لجيفة على الصراط غداً. ولقد مهد الشيخان ـ طلحة والزبير ـ لقتل عثمان في كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة ، حتى أسقطا هيبة الخليفة ، فلقد استولى طلحة على بيت المال ، وعمل له مفاتيح وأمسك بها ، واشتد الناس على عثمان ، فذهب علىٌّ عليه‌السلام فكسر باب البيت المالي ، ووزع المال على المسلمين ، فتفرق كثير منهم عن شأن عثمان ، وبلغ ذلك عثمان فسّر به كثيراً.

وكان الزبير يمشي بين الناس في التأليب على عثمان ، ويأمر بقتله وهو أحد رجال الشورى ، فيستمع منه هذا ، ويستجيب له ذاك ، حتى أدرك ما يريد.

وكانت عائشة أم المؤمنين تمتلك قلوب الناس وعواطفهم ، وتروي لهم وتحدثهم ، وتجتمع إليهم فتألبهم ، وهم يسمعون منها ويستمعون إليها ، ويثقون بها ، ويعتمدون عليها ، فهي زوج رسول الله

٢١١

وهي ابنة خليفتهم الأول ، وكانت تقول محرضة على عثمان : اقتلوا نعثلاً فقد كفر. ونعثل هذا أحد يهود المدينة ، وقد كان مفسداً فاستعارت اسمه لعثمان.

وحينما اشتد الحصار على عثمان ، وعلمت مصيره تهيأت للخروج إلى الحج ، فأسفر عثمان لها مروان وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فقالا لها : لو أقمت فلعل الله يدفع بك عن هذا الرجل ، فقالت لهما : قد قرنت ، وأوجبت عليّ الحج ، والله لا أفعل ، فقام عنها مروان وصاحبه ، ومروان ينشد :

وحرَّقَ قيسٌ عليَّ البلادَ

فلمَّا أن أضطَرمَت أَحجمَا

ثم قالت عائشة : يا مروان إني في شك من صاحبك ، والله لوددت أنه في غرائري هذه وأني أطيق حمله حتى ألقيه في البحر.

والتقت عائشة بعبد الله بن عباس فقالت : يا ابن عباس إياك أن ترّد عن هذا الطاغية وأن تشكك الناس في أمره ، فقد بانت لهم مصائرهم ، وتحلبّوا من البلدان لأمر قد حمّ.

وعبد الرحمن بن عوف رئيس مجلس الشورى الذي صفق على يد عثمان وبايعه نيابة عن المسلمين ، يقاطع عثمان ، ويغضب عليه ، ولا يكلمه حتى الموت ، وينكر عليه ما أنكر المسلمون ، ويتزايد على ذلك شدة وصرامة ، وقد وضحت الرؤية لديه في عثمان ، فيأتي إلى الإمام علي حاملاً سيفه ، وهو يقول :

هلم يا علي أحمل سيفك لنجاهد عثمان فلا يلتفت إليه عليّ.

قال الطبري : كان عمرو بن العاص ممن يحرض على عثمان ويغري به ، ولقد خطب عثمان يوماً في أواخر خلافته ، فصاح به

٢١٢

عمرو بن العاص : اتق الله يا عثمان ، فإنك قد ركبت أموراً وركبناها معك ، فتب إلى الله نتب ؛ فناداه عثمان : وإنك ها هنا يا ابن النابغة ، قملَت والله جبتك منذ نزعتُكَ عن العمل.

ولم يكن عمرو بن العاص صاحب دين ، ولا رجل ورع وتقوى ، ولكنه ذو مآراب واطماع ورجل فتنة ، وقد أورد أبو جعفر الطبري ما يؤيد ذلك ؛ قال :

كان عمرو بن العاص شديد التحريض والتأليب على عثمان ، وكان يقول : والله إن كنت لإلقى الراعي فأحرضه على عثمان ، فضلاً عن الرؤساء والوجوه. فلما سُعّر الشر بالمدينة خرج إلى منزله بفلسطين ، فبينا هو بقصره ومعه ابناه : عبد الله ومحمد ، إذ مر بهم راكب من المدينة فسألوه عن عثمان ، فقال محصور ، فقال ابن العاص : أنا أبو عبد الله : قد يضرط العير والمكواة في النار ، ثم مر بهم راكب آخر ، فسألوه عن عثمان ، فقال : قتل عثمان ، فقال ابن العاص : أنا أبو عبد الله ، إذا نكأتُ قرحةً أدميتها.

وكان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المهاجرين والأنصار بمشهد وبمسمع من الأحداث ، فلم تمتد لعثمان منهم يد مساعدة تذكر ، فما ذبوّا عنه ولا رفعوا كما ينبغي لهم ، بل بقي الأكثر بين معارض كما رأيت ، وناقم كما شهدت ، ومتفرج على الخطوب وهي تندلع كما يندلع اللهيب ، باستثناء جماعة من المهاجرين ينصحون حيناً كالإمام علي عليه‌السلام ، ويذبون حيناً آخر كالحسن والحسين عليهما‌السلام وعبد الله بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ؛ وقلة من الأنصار كزيد بن ثابت وكعب بن مالك وحسان بن ثابت ، وأبي أسيد الساعدي وهم لم يغنوا شيئاً عن عثمان.

٢١٣

وكان الأدهى والأمر أن يكتب أصحاب النبي في المدينة إلى أصحاب النبي في الثغور يستقدمونهم لجهاد عثمان حتى ورد قولهم : إنكم خرجتم تطلبون الجهاد ، وإنما الجهاد وراءكم ، فارجعوا إلى المدينة لإقامة الدين والسنة.

ولم تكن الأمصار في منأى عن هذه المعارضة داخل المدينة ، فقد أسفروا إليها من يمثلهم ، وكانت المناظرات بين عثمان وبينهم شديدة.

فقد سمع جبلة بن عمر وبعض قومه يردون السلام على عثمان ، فقال : أتردون على رجل فعل كذا وكذ ، ثم أقبل نحو عثمان وفي يده جامعة من حديد فقال له « والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه » فقال عثمان : أي بطانة؟ فوالله إني لا أتخير الناس ، فقال جبلة : « مروان تخيرته ، ومعاوية تخيرته ، وابن عامر تخيرته ، وابن أبي سرح تخيرته ، منهم من نزل القرآن بذمّه ، وأباح رسول الله دمه ».

وكانت حجة جبلّة قوية ، وتشخيصه لإنكار الناس دقيقاً ، فسكت عثمان لا يدري ما يقول ، فأردف جبلّة قائلاً : « والله لأقتلنك يا نعثل ، ولأحملنك على قلوص جرباء ، ولأخرجنك إلى حرة الناس ».

وتسامع الناس بالحدث ، فلاقى هوى في نفوسهم ، فازدادوا سخطاً على عثمان ، وتجرأوا عليه ؛ وكان أهل البصرة قد اختاروا رجلاً زاهداً من بني العنبر اسمه عامر بن عبد القيس ، يمثلهم في النكير على عثمان ، فأدخل عليه ، وقال :

« يا أمير المؤمنين : إن أناساً من الصحابة اجتمعوا فنظروا في أعمالك ، فوجدوك قد ركبت أموراً عظاماً ، فاتقِ الله عز وجل ، وتب إليه ، وانزع عنها ».

٢١٤

فالتفت عثمان إلى من حوله وقال : انظروا إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ، ثم هو يجيء فيكلمني في المحقرات ، فوالله ما يدري أين الله.

وكانت هذه إستهانة بالرجل أيما إستهانة بالرجل؛ فقال العنبري : أنا لا أدري أين الله؟

فقال عثمان : نعم والله ما تدري أين الله. فقال الرجل : « بلى والله ؛ إني لأدري أن الله بالمرصاد لك يا عثمان » وخرج الرجل من عثمان ساخطاً متبرماً ، وانتشر حديثه في الآفاق.

ولم تكن البصرة وحدها قد أنكرت على عثمان أعماله ، فقد شاركتها الكوفة النكير لا سيما في عهد سعيد بن العاص القائل : إن السواد بستان لقريش ، والعامل بخلاف السنة ، والمنتهك لحرمة الإسلام ، فأنكر عليه أقواله وأعماله مالك الأشتر والنخع بعامة ، ومالك بن كعب الأرحبي ، والأسود بن يزيد النخعي ، وعلقمة بن قيس ، وصعصعة بن صوحان ، وزيد بن صوحان ، وثابت بن قيس الهمداني ، وكميل بن زياد النخعي ، وجندب بن زهير الغامدي ، وجندب بن كعب الأزدي ، وعروة بن الجعد ، وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم ، وهؤلاء شيوخ أهل الكوفة فقهاً ورواية وقراءة وزعامة وزهداً وتقشفاً ، فكتب سعيد بن العاص بهم إلى عثمان ، فأمره بتسييرهم إلى الشام ، وكتب إلى معاوية :

إن نفراً من أهل الكوفة قد هموا بإثارة الفتنة ، وقد سيرتهم إليك فانههم ، فإن أنست منهم رشداً فأحسن إليهم وارددهم إلى بلادهم.

فقدموا على معاوية ، وجرت بينه وبينهم أحداث وخطوب ، فكتب

٢١٥

لعثمان بإخراجهم من الشام خشية إفسادها ، فسيرهم عثمان إلى حمص ، وواليها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فأغلظ لهم ، وأذاقهم سوء العذاب ، وعنفهم ، حتى ظن أنهم قد أقلعوا عما هم عليه ، أو من أجل أن لا يتحمل جريرتهم ، فكتب إلى عثمان بردهم إلى الكوفة ففعل بعد هن وهن ، وعادوا إلى الكوفة ، فأطلقوا ألسنتهم على عثمان.

وكانت مصر من أشد المعارضين لحكم عثمان وبطانة عثمان ، يؤلبها محمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة ، وقد صحت عزيمتهما في منابذة عثمان ، فسار محمد بن أبي بكر فيمن سار إلى المدينة من المصريين ، وأقام محمد بن أبي حذيفة بمصر ، واستولى عليها ، وخلع ابن أبي سرح منها ، وكانت هذه الحركة منه فيها كثير من الجراءة على عثمان ، والإستهانة بسلطانه.

وكانت الأقطار الثلاثة : البصرة ، الكوفة ، مصر ، قد خلعت طاعة عثمان ، وتوافد فرسانها إلى المدينة ، فاختلطوا بالناقمين على عثمان من المدينة ، وكان هوى أهل البصرة في طلحة وقد توافدوا على المدينة بقيادة حكيم بن جبلة العبدي ، وعلى الجميع حرقوص بن زهير السعدي ، وكان هوى أهل الكوفة منقسماً بين علي والزبير ، وقد خرجوا بألفين من فرسانهم فيهم : مالك الأشتر وزيد بن صوحان ، وزياد بن النضر الحارثي ، وعبد الله بن الأصم الغامدي.

وكان هوى أهل مصر في علي ، وخرجوا بألفين بإمارة أبي حرب الغافقي ، وعبد الرحمن بن عديس البلوي ، وكنانة بن بشر الليثي ، وسودان بن حمران السكوني ، وقتيرة بن وهب السكسكي. فنزل أهل البصرة ذا خشب ، ونزل أهل الكوفة الأعوص ، ونزل أهل مصر المروة ؛ وكلها مواضع قرب المدينة ، فهم قد تجمعوا خارج المدينة ، وهم

٢١٦

يتطلعون أخبار المدينة ، وهم يتشاورون مع أهل المدينة.

ورأى جماعة من المهاجرين والأنصار الفتنة تقترب ، فأنكروا أعمال عثمان ، ولاموا عماله ، وقرروا أن ينتزعوا علياً عليه‌السلام من عزلته ، ليكون سفيرهم إلى عثمان ، عسى أن يجعل الله على يديه فرجاً مما نزل بالمسلمين ، وقد أحسنوا بذلك صنعاً ، فما امتنع علي عليه‌السلام عن ذلك ، بل سعى إليه راغباً بالإصلاح بين أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودخل عليّ عليه‌السلام على عثمان وبدأ معه الحديث رقيقاً ممتعاً يثير الإعجاب ، وقال لعثمان :

« إن الناس ورائي ، وقد استسفروني بينك وبينهم ، والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلك على أمر لا تعرفه ، إنك تعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وما خصصنا بأمر دونك. وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك ؛ ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك ، وإنك أقرب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحماً ، ولقد نلت من صهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم ينالا ، ولا سبقاك إلى شيء. فالله الله في نفسك ؛ فإنك والله ما تبصّر من عمى ، ولا تعلم من جهل ، وإن الطريق لواضح بيّن ، وإن أعلام الدين لقائمة.

تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هُدي وهدى. فأقام سنة معلومة ، وأمات بدعة متروكة. فوالله إن كلاً لبيّن ، وإن السنن القائمة لها أعلام ، وإن البدع القائمة لها أعلام ، وأن شر الناس عند الله إمام جائر ضَلَّ وضُلّ به ، فأمات سنة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة. وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

« يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى

٢١٧

في جهنم فيدور كما تدور الرحى ، ثم يرتطم في غمرة جهنم ».

وإني أحذرك الله ، وأحذرك سطوته ونقماته ، فإن عذابه شديد أليم. وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فإنه يقال : « يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويلبس أمورها عليها ، ويتركهم شيعاً فلا يبصرون الحق لعلو الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً ، فلا تكونن لمروان سيقة يسوقك حيث شاء ».

وسمع عثمان كلام علي ولم يستمع إلى نصحه ، فلفّ ودار في الجواب ، فكان حواراً كالآتي :

قال عثمان لعلي : قد والله علمت ليقولن الذي قلت ، أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك ولا عِبتُ عليك ، ولا جئت منكراً أن وصلتُ رحماً ، وسددت خلّة ، وأويتُ ضائعاً ، ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولي ، أنشدك الله يا علي : هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال : نعم. قال فتعلم أن عمر ولاه؟ قال : نعم. قال عثمان : فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته؟ قال علي سأخبرك إن عمر بن الخطاب كان كل من وليّ فإنما يطأ على صماخه ، إن بلغه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية ، وأنت لا تفعل ، ضعفت ورققت على أقربائك.

قال عثمان : هم أقرباؤك أيضاً. فقال علي : لعمري إن رحمهم مني لقريبة ، ولكن الفضل في غيرهم. قال عثمان : تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها فقد وليته ، فقال علي : انشدك الله هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟ قال : نعم. فقال علي : فإن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها ، فيقول للناس هذا

٢١٨

أمر عثمان ، فيبلغك ولا تغيّر على معاوية.

وكانت هذه السفارة جديرة أن يفيد منها عثمان درساً قيماً ، فقد صور له الإمام بإيجاز إنكار المعارضة في الفيء والتولية ، وكان الجواب أنهم رحم وأقرباء ، ولكنه ما أفاد منها شيئاً ، ولا التفت إليها بل وجد في نفسه على الإمام ، ووجد في نفسه ولسانه على الناس ، فخرج إلى المسجد ، وخطب خطبته النارية التي عنف بها كثيراً ، وتطرف كثيراً ، وخالف فيها سجيته في اللين والرّقة ، فاستمع إليها الثائرون ، وتفرقوا عنها مصممين على قتله دون شك ، فقد جلس على المنبر ، وقال بلهجة صارمة وحدة غير متوقعة :

« أما بعد فإن لكل شيء آفة ، ولكل أمر عاهة ، وإن آفة هذه الأمة ، وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون ، يرونكم ما تحبون ، ويسرون ما تكرهون ، يقولون لكم ويقولون ، أمثال النعام يتبعون أول ناعق ، أحب مواردها إليها البعيد ، لا يشربون إلا نغصاً ، ولا يردون إلا عكراً ، لا يقوم لهم رائد ، وقد أعيتهم الأمور ، وتعذرت عليهم المكاسب ، ألا فقد والله عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ، ولكنه وطأكم برجله ، وضربكم بيده ، وقمصكم بلسانه ، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم ، ولنت لكم وأوطأت لكم كنفي ، وكففت يدي ولساني عنكم ، فاجترأتم علي. أما والله لأنا أعز نفراً ، وأقرب ناصراً ، وأكثر عدداً ، وأقمن إن قلت هلم أُتي إلي ، ولقد أعددت لكم أقرانكم وأفضلت عليكم فضولاً ، وكشرت لكم عن نابي ، وأخرجتم مني خلقاً لم أكن أحسنه ، ومنطقاً لم أنطق به. فكفوا عليكم ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم ، فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا ، ألا فما تفقدون من حقكم ، والله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ

٢١٩

من كان قبلي ، ولم تكونوا تختلفون عليه ، فَضَل فضلٌ من مال ، فمالي لا أصنع في الفضل ما أريد؟ فَلِم كنت إماماً ».

وهم مروان بن الحكم أن يتكلم فنهره عثمان قائلاً :

« أسكت لاسَكّتَ ، دعني وأصحابي ، ما منطقك في هذا؟ ألم أتقدم إليك أن لا تنطق ».

فوجم الإمام علي والصحابة الذين معه من هذا المنطق ، وخرجوا آيسين من إصلاح عثمان وصلاحه ؛ واعتزل عليُّ الفتنة لو استطاع إلى ذلك سبيلاً.

٢٢٠