الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة العارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠

يصلي عليها أحد منهم ، وأن يدفنها ليلاً ، إذا هدأت العيون ، ونامت الأبصار ، وأن يعفي قبرها ».

وتوفيت الزهراء غروباً ، فضجت المدينة ضجة واحدة ، واجتمع الناس إلى عليّ عليه‌السلام يريدون تشييعها ودفنها ، فخرج إليهم سلمان وقال : إن ابنة رسول الله قد أخر إخراجها هذه العشية. ولما انصرف القوم غسّلها عليّ عليه‌السلام ، وحنطها بفاضل حنوط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلى عليها ، وأخرجها بعد هزيع من الليل ، ودفنها ليلاً سراً ، وعفّى قبرها.

واختلف في موضع قبرها ؛ فقيل في البقيع ، وقيل في الروضة بين قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنبره ، وقيل إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو في القرب منه وهو الأقرب في أكبر الظن ، لأن عليا عمّى موضع القبر ، وصنع في البقيع عدة قبور للتغطية ، فأشكل عليهم موضع القبر وموقعه ، وهو نفسه يشير إلى أنها في جوار أبيها كما سيأتي.

ووقف عليّ عليه‌السلام على قبر الزهراء عليها‌السلام ، وهو يرمقه بطرفه ، ويحول وجهه إلى جهة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول ، وهو يغصّ بالشجا ، والدموع تترقرق بين عينيه ، والحسن والحسين بين يديه :

« السلام عليك يا رسول الله ، عني وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك ؛ قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري ، ورقّ عنها تجلدي ، إلا أن في التأسي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك موضع تعزّ ، فلقد وسدتك في ملحود قبرك ، وفاضت بيين نحري وصدري نفسك ، بلى وفي كتاب الله لي نعم القبول ، إنا لله وإنا إليه راجعون. قد أسترجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، واختلت الزهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله ، أما حزني فسرمد ،

١٤١

وأما ليلي فمسهّد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ... وستنبئك إبنتك بتضافر أمتك على هضمها ، فاحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثّه سبيلاً ، وستقول ويحكم الله ، والله خير الحاكمين. والسلام عليكما سلام مودّع لا قالٍ ولا سئم ، فإن انصرف فلا عن ملالة ، وإن اقم عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين ... فبعين الله تدفن ابنتك سراً ، ويهضم حقها ، وتمنع إرثها ، ولم يطل العهد ، ولم يخلق منك الذكر ، إلى الله يا رسول الله المشتكى ، وفيك يا رسول الله أحسن الغراء ، صلى الله عليك ، وعليك وعليها‌السلام والرضوان ».

قال الحاكم في المستدرك لما ماتت فاطمة قال علي بن أبي طالب :

لكلّ إجتماعٍ من خليلينِ فرقة

وكل الذي دون الفراق قليلُ

وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمد

دليل على أن لا يدوم خليلُ

وعاد عليّ عليه‌السلام إلى منزله يتجرع ألم فراق الزهراء ، ويعاني من ضروب الوحشة ما شاء أن يعاني ، فقد كانت الزهراء سلوته بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس رسول الله مما يسلى عنه ، وعطف إليه ولديه الحسن والحسين ، وثلة صغيرة من بني هاشم والأنصار ، ونظر في الأفق البعيد ، فرأى الأجدر به أن يبايع القوم ، فلقد قلّ ناصره بعد الزهراء ، وقد لاحت إمارات الأرتداد في الأفق ، وعليّ أولى الناس بالغيرة على جوهر الإيمان ، وهو أكثر الناس رفقاً ، وأمسهم رحماً بوشائج الناس ، وهو قد أبلغ في الإعذار إلى ربه وإلى المسلمين وإلى نفسه في كشف ظلامته ، وتناهت أخبار هذا العزم إلى أبي بكر ( رض ) فقصده إلى داره ، وأقبل مهرولاً إليه ، فاستقبله عليّ استقبال الصديق ، وهش إليه ابو بكر ، وكأن

١٤٢

شيئاً لم يكن ، فعليّ حريص كل الحرص على مظاهر الكمال والأدب واللياقة ، وهو أزهد الناس بالأثرة والنفع الخاص ، وهو أبعد الناس عن زبارج الدنيا وزخارف الحياة ، وما عليه إلاّ أن يري القوم آداب الإسلام ، وملامح العرفان ، ونقاء السريرة ، فالتفت إلى أبي بكر ، وقال : « إنه لم يمنعنا من أن نبايعك نفاسة عليك ، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقاً ، فاستبددتم به علينا ».

وحتى في هذا الموقف الدقيق الذي شرح فيه صدره للألفة ، وفتح قلبه ليتناسى الماضي القريب ، أكد حقّه في الأمر ، وأبان وجهة نظره في إيجاز واقتضاب.

ومهما يكن من أمر فقد دخل في بيعة الرجل ، ودخل معه من امتنع عن ذلك ، وكان هذا أول الهدوء الذي دخل على أبي بكر ، وأول العزوف لعلي عن قيادة الحكم ، وكان عليّ من خلال هذا وذاك عيبة نصح ، وخزانة أمانة ، وكنز معرفة ، يُسأل فيجيب ، ويُستشار فيشير ، ويُؤتمن فيوّفي كلما حزب بالمسلمين أمر ، وكلما فجأهم حدث ، وكلما تعثرت الخلافة في مسيرتها ، ولم يكن ذلك جديداً على عليّ عليه‌السلام ، فهو أول متخرج في مدرسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أول منظّر لها علمياً وعملياً ، وهو بعد وفيّ كل الوفاء لمبادئ هذه المدرسة روحاً وإنسانية ، وهو حدب على إعلاء كلمتها وإبقاء عطائها ، وانتشار مناهجها ، حتى ولو كان ذلك على حسابه الخاص.

يا لها من بصيرة نافذة ، ونية صادقة ، جعلته في مصاف الخالدين.

١٤٣

(٤)

الثورة المضادّة للإسلام وأعاصير الرِدّة

عصفت أعاصير الثورة المضادّة للإسلام عند بيعة أبي بكر ( رض ) وهبت رياح الردّة والإنتكاس لدى تسلمه السلطة ، فكان المرتّدون يغشون أطراف الجزيرة العربية بعامة ، ويحتلون غربيها وجنوبيها بخاصة.

وكان مصطلح الإرتداد ، يعني جماعة المتنبئين الكذبة من جهة ، ويشير إلى الممتنعين عن أداء الزكاة من جهة أخرى ، فكان الأسّود العنسي ، وطليحة الأسدي ، ومسيلمة الكذاب يدعّون النبوّة زوراً وبهتاناً ، وكان بنو حنيفة وطوائف من العرب يمتنعون عن دفع الزكاة. وكان الملحظ الأخير متأطراً بثلاثة مظاهر :

الأول : إلغاء فرض الزكاة فلا تدفع باعتبارها أثاوة لا تعرفها العرب.

الثاني : التوقف من دفع الزكاة حتى يتجلى أمر القائمين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثالث : دفع الزكاة ولكن لغير الخليفة الرسمي ، فهي موقوفة كما تشير إليه بعض النصوص ، حتى قال قائلهم : أين الذي بخبختم له في الغدير ، ومعنى هذا احتجاز الزكاة وتسليمها إلى الإمام علي عليه‌السلام.

وكان ادعاء النبوة حيناً ، ومنع الزكاة حيناً آخر ، يشكّلان خطراً لا

١٤٤

على البيعة فحسب بل على الإسلام والنظام الجديد كله.

وكان على أبي بكر وقيادته التهيؤ لذلك في مجابهة جدّية لا هوادة معها ، وإعداد القوة الكافية لهذا الخرق الكبير ، فيظمّت البعوث ، وسيرّت الجيوش ، وتناخى المسلمون لذلك ، وقامت المعارك على قدم وساق ، كان فيها النصر المحتم للإسلام دون شك.

وكان لا بد أن تحصل جملة من التجاوزات لطيش القادة ، وفتك المتسلطين ، كما حصل هذا المعنى لخالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة وعشيرته الأقربين ، دون مسوّغ شرعي ، فهم مسلمون صالحون ما بدلوا ولا غيروا ، مما أغضب عمر بن الخطاب غضباً شديداً ، وهم بخالد ومعاقبته ، ولكنه جوبه بعفو أبي بكر وصفحه.

وكان على علي عليه‌السلام ، وهو القائد المجرب والإمام المحنّك ، أن ينظر لما حوله من الأحداث الجديدة بعين اليقظة والحذر ، وأن يتدارك من الخطر ما عسى أن يحصل ، وهذا وذاك يقتضيان منه التريث في شأن حقوقه في قيادة الأمة ، فالإسلام الآن في محنة حقيقية ، والدعوات الضالة تريد إقتلاعه من الجذور ، فتجاوز عن كثير من الإساءات الأساسية التي وجهت إليه ، ونصح للإسلام بكل ما يستطيع ، إبقاءً للشهادة ، وتحوطاً للمسلمين ، وحرصاً على وحدة الكلمة.

كان على علي عليه‌السلام الانشغال بالأهم عن المهم ، والإلتفات إلى الحق العام دون حقه الخاص ، وهذا شأن الصديقين ودعاة الحق ، وهكذا كان ، إذ أن ما حدث للعرب من الإرتداد ، وما صاحب بعضهم من منع الزكاة ، حريّ بأن يجر على الإسلام من الوهن والضعف ، والله أعلم بحقيقته لو ترك دون مجابهة.

١٤٥

فما أراد عليّ بنفسيته المتألقة النقض والإبرام ، ولا حاول الأخذ والردّ ، وإنما أبقى الأمور على طبيعتها ، وترك السياسة على سجيتها ، ناصحاً حيناً ، وموجهاً حيناً آخر. وما يدرينا فلعله رمق الأفق ، وتطلع إلى ما فيه من تناقض ، وأدرك ما عليه الناس من الفوضى ، وما تهيأه الأقدار من الظروف الشاقة على الإسلام ، وما تفرزه النفوس القلقة من الأحقاد ، فألقى حبلها على غاربها في حدود أحقيّته بالأمر ، وإضطلاعه بالمسؤولية ، إذ لا يطاع لقصير أمر ، وقد سبق السيف العذل كما يقال.

وما علمنا مشاركة علي عليه‌السلام في هذه الأحداث الجسام قائداً أو محارباً ، إما اعتزالاً لها ، أو منعاً من التحرك باتجاهها كما هو الظاهر ، فقد كان هو وأمثاله من عليّة المهاجرين قد ضرب النطاق حولهم في عدم الغزو أو السفر أو الإرتياد ، فعليهم أن يحيط بهم سور المدينة وحده ، لا يختلفون إلى الناس ، ولا يختلف الناس إليهم ، فقد كفاهم من الجهاد ما جاهدوا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كانت هذه سياسة القوم ، وكان على عليّ عليه‌السلام أن ينفذها راغباً أو راهباً.

وقد قسم عليّ حياته على أنحاء في إدارة شؤون آخرته ودنياه :

١ ـ التفرغ لجمع القرآن تنزيلاً وتأويلاً.

٢ ـ الدعوة إلى الإسلام من خلال بيان تعليماته ، ونشر أحكامه.

٣ ـ الخروج إلى ينبع وأطراف المدينة للمزارعة والمساقاة.

٤ ـ التواري عن المناخ القيادي ، فهو أحد الناس له ما لهم وعليه ما عليهم.

١٤٦

لم يتجاوز عليّ عليه‌السلام هذه المحاور في أكبر الظن ، وما كان ليتجاوزها ولا أن يخرج عنها وهو الناقد البصير ، إذ وجد نفسه محاطاً بالعيون والأرصاد خشية كرّته في المطالبة بالأمر.

وما كان لعلي عليه‌السلام وهو الزاهد المجاهد أن يقوم بحركة ما يكون ضحيتها الإسلام في كيانه واستقراره ، ويكون وقودها الخيرة الصالحة من أتباعه ومؤيديه ، بل ذهب إلى ما هو خليق به في صيانة الإسلام ، والإبقاء على أعيان الصحابة من الإستئصال والفناء ، ولم يمنعه هذا من شرح قضيته ، وإعلان مظلوميته بالوسائل السلمية ، إيذاناً بالحق لا رغبة في متاع أو سلطان ، وترجماناً لمعالم الطريق في الهداية والتبصر لا حباً للمعارضة والتذمر.

ولم تكن تخفى هذه الحقائق على أعلام المهاجرين وأعيان الأنصار ، ولم يكن بمنأى عن ادراكها الحزب الحاكم بأقطابه الثلاثة ، فوقف بعضهم منه موقف المنتظر الراصد ، ووقف بعضهم الآخر موقف المترصد الرقيب ، وسلم من بين هذين الرجل الذي إستحب تولية المستضعفين في الأرض ، وتهيأة رائدي عدالة السماء في الأرض ، وإنعاش أصحاب الحقوق الضائعة في الأرض ، ليقيم حقاً ، ويدحض باطلاً ليس غير ، وسدر عنه من سار بركاب الحكم لا يلوي على شيء من تلك الموازين.

كانت شخصية أمير المؤمنين تتجلى كلمّا أدلهمّ الخطب ، ونفسيته تتألق كلما ازداد النكر والغدر ، وعقليته تتفوق كلما هبطت المطامع بالعقول ، فبدا مناراً شامخاً لا تهزّه العواصف ، وكوكباً هادياً لا تحجبه الأستار ، يتمتع بالهيبة من العدو والصديق ، ويتجلبب بالعزّة لدى القريب والبعيد ، يُلتجأ إليه في الشدائد فيشق غمارها بثاقب رأيه ،

١٤٧

ويلتمس عند المحن فيكشف ظلمتها بحديد نظره ، مرتفعاً بمستواه القيادي عن صغائر الأمور ، متواضعاً في نفسه عند مواضع الزهو والفخر ، تحسبه مطمئناً وهو يضطرب تحرقاً على الإسلام ، وتخاله مضطرباً وهو أثبت من الجبال الرواسي ، لم يألف الدنيا ولم تألفه الدنيا ، كان وكده كلمة التوحيد ، وكان شغله توحيد الكلمة ، وإن ظل جليس بيته حيناً ، ورهين مزرعته حيناً آخر.

وكانت ضخامة تضحيته في هذا الملحظ تتناسب وضخامة الأحداث ، فما كان المسلمون لينشغلوا بمنحى الردّة ، وحروب الردّة ، ونتائج الردّة ، وينشغل عليّ بطلب الحكم وإيثار السلطان ، فقد نشأت نفسه وترعرت في نصرة دين الله ، وقد صحت عزيمته وقويت شكيمته في الذود عن دين الله ، فليتناس عليّ حقه إذن ولو إلى حين ، وليضرب صفحاً عن هذا الحق المضيع فقد أباه قومه عليه دون مسوغ واع ، ولكنه نكير سيفه على المشركين ، وشدة وقعته على قريش ، وقد تألبت القلوب عليه ، ولا سبيل إلى صفائها ، وقد كرهت القبائل صولته وجولته في صدر الإسلام ، ولا أمل في التحبب إلى نفوسها ، وذو الفقار يقطر من دماء فتيانهم في بدر وأحد ، ورؤوس أبطالهم تندر بسيف علي في المشاهد كلها.

هذا هو السبب الحقيقي الأول في الإغماض عنه ، والتنكر له ، وتر القلوب ، وأوغر النفوس ، والجاهلية هي هي في أحقادها ، وأنى تنزع هذه الأحقاد ، وتنسى تلكم الأوغار ، وعليّ هو هو في صلابته ، وذلك السيف بيده ، وإن عادوا عاد.

وناحية ثانية ليست أقل أهمية من الأولى ، كونه امتداداً لنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يجدوا من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا النضال المستمر ، والحمل

١٤٨

على الطريق المستقيم ، وهذه الدنيا تلقي بزهرتها في أحضانهم ، وتزجر بنعيمها بين ظهرانيهم ، فليس لهم إذن مع علي إلا النضال نفسه ، والزهد نفسه ، والحمل على الجادّة نفسها ، والنفوس أميل إلى الترف والبذخ والدعة منها إلى القصد والاعتدال والمجاهدة.

وظاهرة ثالثة توازي ما تقدم إلا وهي حب الرئاسة والإنفراد بالأمر والإستيلاء على السلطة ، وتلك طبيعة قريش في أُرستقراطيتها ، وذلك منهجها في إثرتها ، وعليّ في مقتبل العمر وعنفوان الشباب ، وعسى أن تطول مدته ويتمهل الزمن ، وإذا حدث ذلك فقد رسخ حكمه ، واستقر نظامه ، ولا أمل في العودة إلى الوراء.

كل أولئك وسواء كان وراء إقصائه عن المرجعية في الدين.

فإذا أضفنا إلى ذلك قرب العهد بالجاهلية ، وضعف الوازع الديني ، وإنشقاق الأنصار فيما بينهم ، وإشفاق المهاجرين من ضياع الفرصة ، وقد فجأ الإسلام حدث الشقاق ، ودهم المسلمين خطر الإرتداد ، وجدنا الأمثل بأمير المؤمنين أن يسلّم للأمر الواقع راضياً وساخطاً ، راضياً بقدر الله وقضائه ، ساخطاً على تجاهل قدره وهوان منزلته ، ولكن هذا وذاك لم يمنعه من الإعتداد بنفسه إعتداداً شامخاً ، ولم يبخل من أجله بتسخير مواهبه ومعارفه ، فنصب ذاته علماً للدين ، فما استطاعوا أن يصرفوا الأنظار عنه ، فكانت معضلات المسائل وأمهات المشاكل تنتظر حلوله الدقيقة ، حتى قال ابو بكر في أكثر من موضع :

« بأبي يا أبا الحسن يا فرّاج الكروب ومزيل الهم ».

ولم تمنعه عزلته الظاهرية عن إقامة السنن وإبانة الفروض ، فكان

١٤٩

الشاخص لذلك ساء ولاة الأمر أم لم يُساؤوا ، بل وقد يذهبون إليه يلتمسون عنده المخرج فيما لا يجدون فيه مخرجاً ، وقد يلجؤون إليه أيضاً في بيان أحكام القرآن ، وكشف غوامض التنزيل ، وما أكثر ما حدث ذلك ، وكان إلى جانب هذا معنياً بجمع القرآن مرتباً حسب نزوله ، ومفسراً له حق تفسيره ، مشيراً إلى عامه وخاصه ، ومطلقه ومقيده ، ومفصله ومجمله ، ومبينه ومبهمه ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وعزائمه ورخصه ، وعبره وأمثاله ، وسننه وآدابه ، حتى أملى ستين نوعاً من أنواع علوم القرآن ، وكان أول من عني بذلك ، فإليه يرجع علم التفسير ، ومنه انطلقت علوم القرآن ، وبه قامت سنن الكتاب. وكان هذا الاتجاه مما تمليه عليه مصلحة الإسلام ، ومما يقتضيه تسيير العلم.

وكان القضاء والإفتاء من الظواهر الكبرى التي اختص بها في عهد الشيخين ، فكم من مبهمة قد أبانها ، وكم من معضلة قد حللها ، وكم من مسألة كان إستنباطه فيها هو القول الفصل.

ولم يغب عن بال جملة من المسلمين قول الرسول : « أقضاكم علي » فكان يوكل إليه القضاء فيما لا بد منه ، وفي القضاء والإفتاء فرض عليّ وجوده العلمي رغم الضباب الكثيف المهيأ لحجب مسيرته العلمية أيضاً ، وكتب التأريخ والأحاديث والصحاح مليئة بجزء كبير من هذا الملحظ في حياته أيام الشيخين ، حتى قال عمر محذراً ومعلناً بوقت واحد : « لا يفتينّ أحدُكم في المسجد وعليٌّ حاضر ».

وانتشر فقه عليّ في الحلال والحرام ، وبرز في الفروض والميراث ، وتميز بالحدود والديات ، وهناك مئات الجزئيات لهذا

١٥٠

الملاك متناثرة في آثار السنن والحديث ، تكشف ، عن مقدرة الرجل الفقهية مما أجمع عليه أهل الإسلام ، لم يشاركه أحد في ذلك ، فكانوا عيالاً عليه ، وتبعاً له ، فيما استجد من مسائل ، وفيما درس من أحكام ، وفيما احتاجوا إليه من علم.

١٥١

(٥)

أبو بكر يـقـدّس عـلـياً ... ويعهد إلى عمر

كان ابو بكر (رض) يطيل النظر في وجه عليّ عليه‌السلام ، فسئل عن سر ذلك ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « النظر إلى وجه عليّ عبادة ».

ليت شعري ؛ فهل استشف ابو بكر الغيب ليستقرئ مغزى ما يرويه ، فإذا كان النظر إلى وجه عليّ عبادة ، فالنظر في هديه وسيرته عبادة أيضاً ، والنظر في عدله واستقامته عبادة كذلك ، والتطلع إلى رأيه وفكره عبادة دون شك ، وما وجه علي إلا صورة من لحم ودم وعصب وشرائح وغضون ، فلماذا أضحى عبادة؟ وما السر في ذلك؟ النظر إلى هذا الوجه عبادة لما انطوى في أسراره من معرفة الله تعالى ، ولما ضم بين جنبتيه من أسارير تنقبض وتنبسط في ذات الله ؛ وعليٌّ نفس رسول الله ، فوجه علي وجه رسول الله ، ولا ريب أن النظر في وجه رسول الله عبادة وأية عبادة ، فهو علة الإيجاد ، وجمال الكون ، يتلألأ بنور الله ، ويشرق بجلال الله ، ويرضى لرضا الله ، ويغضب لغضب الله ، فعاد تكوينه مرتبطاً بالفيض الإلهي سروراً وحزناً ، ومستشعراً لإرادة الله حباً وإعراضاً ، والوجه الصالح على هذا يكشف عن الضمير الصالح ، والنظر إليه إمعان في زيادة الصلاح والإصلاح ، والتطلع لمعالمه تطلع في مناهج الحق ومراتب اليقين ، وهكذا كان النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهكذا ورثه علي في خصائصه الكبرى.

١٥٢

ليت شعري!! هل أفاد ابو بكر (رض) من هذا ، وجعله ميزاناً بينه وبين المسلمين ، أم هي العواطف الخالصة التي لا تتبع بالقول عملاً ، ولا تثني النظر بالاقتداء ، وأبو بكر الراوي : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الهجرة ونحن خارجان من الغار نريد المدينة : « كفي وكف علي في العدل سواء ».

فهل استجلى ابو بكر من ذلك في الأقل ضرورة مشاركته الحكم ، وأساسه العدل ، إن لم يُسلم إليه الحكم كله ؛ وَلِمَ إستأثر بقيادة الأمة دونه ، وبقي علي عليه‌السلام جليس الدار ، أو حليف المساقاة ، لا يضع ولا يرفع ، والمسلمون بمشهد وبمسمع.

أنكتفي من أبي بكر وهو الفطن الحاذق ، والرجل المجرّب الحصيف ، أن يروي هذا الحديث ونظراءه ، دون الاقتفاء لأثره وهو يقود الجماعة الإسلامية ، ويسوس الدولة العربية ، وعليّ دونه كل أمر وكل نهي ، وكأنه رجل من سواد الناس.

وليت ابا بكر (رض) إذ أطال النظر في وجه علي عليه‌السلام قد أطال النظر إلى قلب عليّ من وراء حجاب رقيق ، فاستشعر ذلك الألم الدفين في ذلك القلب الكبير ، وليته سبر أغوار هذا الجرح العميق فغير وبدل وجامل حاور وناظر عسى أن ينتزع هذا الحزن من ذلك القلب ، ولكنه أصر على تجاهل هذه الحقيقة الصارخة ، وغض النظر عن هذا الملحظ الدقيق طيلة خلافته ، فبقي الشجا في نفس علي ، وغص عليّ بريق الأسى ، ينظرون في وجهه ولا يترسمون خطاه ، ويطيلون النظر إليه ولا يستمعون لأنينه ، وهو في عزلة يرى تراثه نهباً ، وكفاءته لا يفاد منها ، وكأنه متاع رخيص في زوايا البيت الحافل بأغلى النفائس.

١٥٣

وكان ما لحقه من حيف وحرمان وتجاهل ، وما تجرعه من لوعة ومرارة وكمد ، حرياً بأن يؤلب الرجل ويثير مكامن حزازته ، أو يتجلى ذلك في ثورة عارمة في سيرته ، ولكنه أخلد إلى المسالمة ، واتسم بنقاء النفس وصفاء النية ، بل ذهب إلى أكثر من هذا فقد كان الناصح الأمين ، والمشير الورع ، وهذا لا ينافي كونه صابراً محتسباً ، أو مظلوماً مهتضماً.

حتى إذا تدهورت صحة أبي بكر ، وأشرف على الموت ، وإذا به يروغ عن علي عليه‌السلام وكأنه لم يكن ، ويتركه جانباً وكأنه لم يخلق ، ويصحر بسياسته دون مجاملة ، ويفصح عن رأيه دون ستار من عرفان المصالح العليا فتزاد آلام الرجل ويعبر عنها بقوله مستغرباً :

« فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشد ما تشطرا ضرعيها ، فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثر فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم ، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس ، وتلون وإعتراض ، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة ».

وإذا بأبي بكر يعهد إلى عمر مفصحاً :

« أيها الناس : أترضون بمن أستخلف عليكم؟ إني والله ما ألوت من جهد في الرأي ، ولا وليت ذا قرابة ، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب. فاسمعوا له وأطيعوا ».

وكانت بادرة تستدعي العجب ، ومفاجأة تستأهل التساؤل ، ليس على الطبقة الواعية لحقيقة المجريات ، ولكن لقول أبي بكر نفسه حينما

١٥٤

قال قبلها بقليل : « لوددت أني كنت سألت رسول الله ، عن هذا الأمر فلا يتنازعه أحد ».

فهلاّ استشار أحداً ، وهلا سأل علياً مثلاً ؛ نعم دعا إليه عبد الرحمن بن عوف فأدلى برأيه في عمر ، فقال : « هو والله أفضل من رأيك فيه ولكن فيه غلظة.

ودعا عثمان فسأله عن عمر فقال : « إن سريرته خير من علانيته » فقال أبو بكر : « لو كنت مستخلفاً أحداً غير عمر لاستخلفتك يا عثمان ». وهي إشارة ذكية أن سيأتيك الدور يا عثمان ، ومد عثمان لها عينيه ، وأصغى بأذنيه ، وصر عليها صراً ، فهي بارقة أمل عريض.

وعهد ابو بكر إلى عمر فيما كتبه عثمان وأقره عليه حينما غشيه الموت.

« أما بعد فإني قد استخلفت عليكم ابن الخطاب ».

ودخل على أبي بكر طلحة في تلك الحال فجبهه بقوله : « ما أنت قائل لربك غداً ، وقد وليت علينا فظاً غليظاً ، تفرق منه النفوس ، وتنفض عنه القلوب ».

فزجره ابو بكر زجراً عنيفاً. وتم استخلاف عمر ، وتناهى الخبر إلى علي ، وتجدد المصاب عليه ، وعاوده الحيف الجديد فما وهن عزمه في ذات الله ، ولا فوجئ بهذه النتيجة فهو يتوقعها ويدري خطتها في رؤية واضحة.

وكان الإجحاف الذي لحق بعليّ هذه المرة منظماً ، فما كان لأبي بكر ليعدو عمر في شأن الخلافة ، وما كان لعلي أن يطمع بها ـ وهو الزاهد ـ بوجود عمر ، فابو بكر وعمر فرسا رهان ، إن كبا أحدهما نهض

١٥٥

الآخر ، وقد مات ابو بكر فولي عمر ، فما كان من علي إلا أن سمع وأطاع ، ونصح للإسلام بكل ما استطاع ، وإن حجز في بيته ، واستسلم لوحدته ، فصبر على هذا كله ، بل على أكثر من هذا كله.

قام عمر بالأمر جريئاً شديداً قوياً ، ولكنه لم ينس فضل هذا الرجل المغلوب على أمره ، ولم يجهل مقامه وإن تجاهله ، فقد قال لابن عباس :

« ما أرى صاحبك إلا مظلوماً ».

فأجابه ابن عباس بذكاء : « فأردد إليه ظلامته ».

فعدل عمر عن الجواب ، ولجأ إلى التعليل القديم ، والسبب التافه :

« ما أظن القوم منعهم منه إلا أنهم استصغروه ».

وأصغى ابن عباس للعلة فما وجدها تنهض بشيء ، فأضاف إليها أخرى : « أتدري يا ابن عباس ما منع منكم الناس ».

وبقي ابن عباس صامتاً ينتظر ما يدلي به داهية العرب :

« كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتجحفوا الناس جحفاً ، فنظرت لأنفسها فاختارت ، ووفقت فأصابت ».

بهت ابن عباس لهذا التصريح ، فالمسألة إذن مسألة جاهلية ، والقضية على هذا الأساس قضية عنصرية قبلية ، فقريش تكره اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد ، والهاشميون يجحفون بالناس ، ومتى أجحف بنو هاشم بالنبوة ، ـ إن كان باستطاعتهم الإجحاف ـ حتى يجحفوا بالإمامة ، وهل هذا وذاك من المناصب التي تتحكم بها قريش

١٥٦

أو بنو هاشم ، حجج لا تقوم على أساس متين ، ومعاذير لا تستند إلى ركن وثيق. وهل لقريش أن تنظر لنفسها وتختار ، والقرآن يصرح :

( وَرَبُّكَ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَختَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ ) (١).

ولو انصاعت قريش لما اختاره الله لوفقت وأصابت ، ولكنها السياسة الدقيقة التي أحكمت الرتاج ، وأغلقت الأبواب ، وألقت من شاءت وما شاءت ومتى شاءت وراء الأسوار.

ولو أبصرت قريش رشدها يوماً لنظرت إلى علي عليه‌السلام نظرة فاحصة محققة لتجده ، أول القوم إسلاماً ، وأقدمهم إيماناً ، وأكثرهم غناء عن الإسلام ، وأعظمهم دفاعاً عن الدين ، وأثبتهم يقيناً بالله ، وأخشنهم نفساً في ذات الله ، وأحوطهم لنفسه وللمسلمين ، وأنصحهم لله ولرسوله ، وأفضلهم سابقة ، وأقومهم عوداً ، وأرفعهم منزلة ، أعلاهم درجة ، وأرسخهم شجرة ، وأينعهم ثمرة ، وأبلغهم منطقاً ، وأفصحهم كلاماً ، وأشدهم ساعداً ، وأثبتهم جناناً ، وأكفأهم مراساً في الحروب ، وأسبقهم حضوراً في المشاهد ، وأقلهم متاعاً في الدنيا ، وأكثرهم رغبة في الآخرة. فإذا أضفت لذلك العلم في الكتاب والسنة ، والحلم في السياسة والرعية ، والصبر على المكاره والشدائد ، والحزم في الملمات والنوازل ، والورع لدى الشبهات ، والمسارعة إلى الخير ، والإتباع لسنن العدل ، والإقتفاء لأثر الرسول ، والرفق بالضعفاء ، والعطف على الفقراء ، والشدة على أعداء الله ، والرحمة بأولياء الله ، والسبق لما يرضي الله ، لوجدت الإمامة بحاجة إليه ، والخلافة ينبغي أن تسعى إليه ، فبه تزان ، وعليه تنعقد ، وفيه تُشَرّفُ.

كل هذا لم ينظر إليه في علي عليه‌السلام ، بل ما شاؤوا أن ينظروا

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٦٨.

١٥٧

إليه ، ولو نظروا لما عدته القيادة إلى سواه ، ولكن هذا هو منطق الحق ، والحق شديد لا تسيغه الذائقة السياسية ، ولا يقره منطق الأثرة والإستبداد.

وليت ما حدث يكتفى به وحده ، بل تعداه إلى ما هو أدهى وأمر ، وأشق عنتاً ، وأمض عسراً ، فلم تطلق لعلي حريته ، يتصرف أنى شاء ، ويتحرك كما يريد ، بل فرضت عليه الإقامة الجبرية في المدينة لا يتجاوز رحابها ، ولا يتعدى حدودها ، كما فرضت على سواه من شيوخ المهاجرين والأنصار ، فما برحوا مدينة الرسول ، ولا تخطوا جدرانها عسى أن يطمع أحد بهم ، أو يرغب بهم راغب ، فهم أهل السابقة ، وهم أهل الطموح فيما أوصى به ابو بكر عمر :

« احذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله ، الذين انتفخت أوداجهم وطمحت أبصارهم » فكان المنفذ الصارم ، والقائم الرادع ، والآخذ بالحجز والحلاقيم إذ يقول :

« إني قائم دون شعب الحرة ، آخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار ». فاستماحه بعض المهاجرين والأنصار الجهاد في سبيل الله ، والإنسلال إلى الثغور ، وقد كثرت الفتوح ، وتدافعت البعوث ، إيذاناً بنصر الله وفتحه ، فقال جوابه التقليدي الرتيب لمن أراد ذلك : « أقعد ... قد كان في غزوك مع رسول الله ما يبلغك ، وخيرٌ لك من الغزو اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك ».

فكان الحجز المدني مواكباً للحجر العسكري ، وكلاهما سلاحان نافذان في صد طماح القوم في التحرر من الإقامة في المدينة ، والإبقاء عليهم تحت السيطرة الفعلية ، فكان لهم بالمخنق ـ كما يقال ـ ووقف بالمرصاد.

١٥٨

ولم يكن عليّ عليه‌السلام بمنأى عن هذا الإجراء ، بل هو أول من نُفِذّ بحقه هذا النظام الجديد ، وإذا منع علي عليه‌السلام من الحركة والحرية فمن يستطيع إذن بعده من البوح عما في نفسه ، ومن يقوى على التفكير في الخروج من هذه الدائرة المحكمة الأقفال.

القوة والصراحة تصاحبهما الدقة والمحاسبة ، من أوليات التعبير السياسي لدى الحاكم الجديد ، فكل شيء بقدر ، وكل خطوة بحذر ، شاء المقابل أم أبى.

هنالك أدرك بعض قريش أن قريشاً ما اختارت لنفسها ، ولكنها اختارت لهواها ، ولو اختارت لنفسها حقاً لوفقت وأصابت ، ولكنها اختارت لهواها ، فأوكلت إلى الهوى ، يتحكم بها أنى يشاء.

وما كان لعلي عليه‌السلام أن يقابل عمر بشيء من العصيان ، ولا يجدر به أن يشاركه بشيء من الحطام ، ولا كان مما يناسبه أن يشعره بشيء من المنافسة ، فهو أكبر من ذلك ، وكان الخليق به وبمقامه الرفيع ما صنعه من محايدة ومجاملة ومعاونة ، وما أبداه من ائتمان عند الاستشارة ، والصراحة عند السؤال ، والتجاوب المطلق لادارة الصالح من الشؤون ، فكان دوره في عصره دور الناصح الشفيق ، والمفتي الفقيه ، والقاضي العادل ، والمستشار المؤتمن فيما ستلمسه قريباً.

١٥٩

(٦)

سيرة عمر ... واتكاؤه على أمير المؤمنين

تسلّم عمر (رض) أزمة الحكم ، وسار بالأمة سيراً عنيفاً يتسم بالشدة والصرامة ، وقد يوسم بالقسوة وعدم المبالاة ، وكانت درّته تقوّم الأود ، وصيحته تهدّأ الهرج ، وغضبته تبدد الهوس ، وبشدته هذه ، ودفعته في التفكير إستقام له السلطان ، وانقادت له الرجال طائعة ومكرهة ، وما عليه أن لا يكون كذلك ، وهو الخبير بحقائق الأشياء ، ومن ذا يعترض مسيرته ، وقد اتكأ على عليّ عليه‌السلام حيناً في علمه وفقهه وقضائه ، وعلى ابن عباس حيناً آخر في تجربته وتأويله وأدبه ، وللناس ظاهر الحال ، منه الأمر وعليهم الطاعة.

ولم يكن للخليفة الجديد مندوحة يتخلى فيها عن علي في اللحظات الشائكة ، ولم يكن له منه بد في المشاهد الحرجة ، وهو أعلم بعواطف الناس تجاه علي عليه‌السلام تجلةً ومنزلة واحتراماً ، وهو أدرى بما تضم جوانح الإمام من علم فياض ، وفقه غزير ، ودراية متكاملة ؛ وهو زعيم بأن علياً لا يحيد عن الحق طرفة عين أبداً ؛ كان يعرف هذا كله ، ويعرف ما هو أكثر من هذا كله ، فليكن علي ـ إذن ـ المستشار الأول للخليفة ، وبصورة ظاهرية إن لم تكن واقعية ؛ وقد اتضح ميله الشديد لعلي ، وبدا تقريبه إليه واضحاً ، وحضوته السياسية عنده أثيرة ، وانجلت السحب الكثيفة في سماء العلاقات الجافة شيئاً فشيئاً ، واتصل بحبل من

١٦٠