الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة العارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٠

فصمت القوم ، وكأن على رؤوسهم الطير ، وارادوا امتصاص النقمة ، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

وقام أبوذر في صلابته المعهودة فقال :

« لقد علمتم وعلم خياركم أن رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الأمر بعدي لعلي ، ثم لابني الحسن والحسين ثم للطاهرين من ذريتي ، فأطعتم الدينا الفانية ، ونسيتم الآخرة الباقية ».

وقال المقداد : « يا ابا بكر : سلم الأمر لصاحبه الذي هو أولى به منك ».ثم قام بريدة الأسلمي فقال : « إنا لله وانا أليه راجعون ، ماذا لقي الحق من الباطل؟ يا ابا بكر :أنسيت أم تناسيت ، وخدعت أم خدعتك نفسك ، أولم تذكر ما أمرنا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تسمية علي بإمرة المؤمنين .... ».

وقال عمار بن ياسر : « يا معاشر قريش ، ويا معاشر المسلمين إن كنتم علمتم وإلا فاعلموا : إن أهل بيت نبيكم أولى به ، وأحق بإرثه ، وأقوم باُمور الدين .... وعليُّ أقرب منكم إلى نبيكم ، وهو بينهم وليكم بعهد الله ورسوله ».

ثم قال أبي بن كعب : « يا أبا بكر لا تجحد حقاُ جعله الله لغيرك ، ولا تكن أول من عصى رسول الله في وصيّه وصفيّه ، وصدف عن أمره ، أردد الحق الحق إلى أهله تسلم ».

ثم نهض خزيمة بن ثابت فقال : أيها الناس ألستم تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل شهادتي وحدي ولم يرد معي غيري ، قالوا بلى ، قال فاشهدوا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « أهل بيتي يفرقون بين

١٠١

الحق والباطل ، وهم الأئمة الذين يقتدى بهم ، وقد قلت ما علمت ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ».

وقام أبو الهيثم بن التهيان فقال : وأنا أشهد على نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أقام علياً يوم غدير خم ، فقالت الأنصار ما أقامه إلا للخلافة ، وقال بعضهم ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه مولى من كان رسول الله مولاه ، وكثر الخوض في ذلك ، فبعثا إلى رسول الله نسأله فقال : « عليُّ ولي المؤمنين بعدي ، وأنصح الناس لاُمتي ».

وقال سهل بن حنيف الأنصاري : « اشهدوا عليّ أني أشهد على رسول الله في هذا المكان » (الروضة ) وقد أخذ بيد علي بن أبي طالب وهو يقول :

« أيها الناس علي إمامكم من بعدي ، ووصيي في حياتي وبعد وفاتي ، وقاضي ديني ومنجز وعدي ، واول من يصافحني على حوضي ، فطوبى لمن تبعه ونصره ، والويل لمن تخلف عنه وخذله ».

وقال عثمان بن حنيف : سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :« أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدموهم ، فهم الولاة من بعدي ... » وقال أبو أيوب الانصاري : « اتقوا الله عباد الله في أهل بيت نبيكم ، وأرددوا إليهم حقهم الذي جعل الله لهم ... والنبي يقول :اهل بيتي أئمتكم من بعدي ، ويومي إلى علي ويقول : هذا أمير البررة ، وقاتل الكفرة ، مخذولٌ من خذله ، منصورٌ من نصره ... ».

ومرّ الاحتجاج على صرامته كأن لم يكن ، وذهب أدراج الرياح ، ويخطيء من يظن أن الامر كان مستوسقاً دون معارضة ، وإجماعياً دون نقض ، ومسلماً به دون اصطدام ، فهذه الأصوات كانت عالية ، وقد بقيت أصداوها إلى اليوم ، وكادت أن تطيح بالأمر لولا إمساكه بيد من

١٠٢

حديد ، ولم تكن هذه الاصوات وحدها تدوي في الميدان ، بل تطاول غيرها ، فقد كان إجتماع جماعة سراً في فضاء بني بياضة من المهاجرين والأنصار ذا أثر في سير الأحداث ، وفي أثناء ذلك كان بلال مؤذن النبي يقيت هذه الأحداث ناراً ملتهبة ، فقد دعي إلى البيعة وهو مولى أبي بكر من ذي قبل ، فامتنع عنها ، وأخذ عمر بتلابيبه ، وقال له : هذا جزاء أبي بكر منك أن أعتقك فلا تجيء تبايعه ، فقال : إن كان قد أعتقني أبو بكر لله فليدعني لله ، وإن كان أعتقني لغير ذلك فها أنا ذا ، واما بيعته : فما كنت أبايع من لم يستخلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي استخلفه بيعته في أعناقنا إلى يوم القيامة. فقال عمر : لا أبا لك ، لا تقم معنا ، فارتحل بلال ألى الشام.

وكان هذا الإنكار مشجعاً للمجتمعين في فضاء بني بياضة في أطراف المدينة ، وكان قد اجتمع هناك : البراء بن عازب ، وعمار بن ياسر ، وحذيفة بن اليمان ، والمقداد بن عمرو ، وأبو الهيثم بن التهيان ، وعبادة بن الصامت ، وسلمان الفارسي وسواهم ممن تخلف عن بيعة أبي بكر ، وهم يرون علياً لا سواه أهلاً للأمر.

وتكلم عمار بن ياسر في جراءة نادرة :

« ما لتيم وهذا الامر ، إنه قد كان لرسول الله ، وهو من بعده في خير الناس بعد رسول الله » يعني علياً عليه‌السلام.

فقال البراء بن عازب « إنّما انتزعه الرجل بخق قريش ، وعاونه صاحباه ، ولكن البيعة ولم يشهدها المهاجرون الأولون فليس لها صحة ».

وقال حذيفة بن اليمان : « إن الأنصار لتريد أن تنفض ما كان منها ».

١٠٣

فقال المقداد : « فهذا والله خير ، وليردّن الحق إلى صاحبه ».

وتساءل سلمان : « فان أبى الرجل ».

فقال أبوذر : « فدعوه إنه ليس ولا صاحباه إلا ثلاثة من المهاجرين. والله لا يراني أبدأً أبايع ابن أبي قحافة وفي الناس ابن أبي طالب ».

وقال عمار : « هذه الأنصار تهم أن تنقض الأمر أمر السقيفة ».

وكان طلحة بحيث يستمع ما دار بين القوم ، فتطوع بإبلاغه أبا بكر ، وأنذر به عمر ، وسارّ به أبا عبيدة.

وابتدر القوم إلى المسجد ، فبدأهم عمربقوله :

« أيها الناس : إن الله قد جمع أمركم على خيركم ، صاحب رسول الله ثاني اثنين إذ هما في الغار » ، فقوموا فبايعوا ، واسترسل أبو بكر في سياسته الوئيدة :

« أما بعد ، فاني قد وليت عليكم ، ولست بخيرّكم ».

وكان هذا إيماء أو تصريحاً بافضلية علي فهو نقطة الانطلاق وكان عليٌّ في هذه اللحظة يسوي قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمسحاة في يده ، فقال له رجل عندها :

إن القوم قد بايعوا أبا بكر ، ووقعت الخذلة للأنصار لا خذلة اختلافهم ، وبدر الطلقاء بالعقد للرجل خوفاً من إدراككم الأمر (١).

__________________

(١) ظ : في نصوص هذ الفصل كلاً من :

ابن الأثير / الكامل في التاريخ + ابن حجر / الصواعق المحرقة + ابن سعد / الطبقات الكبرى + الصدوق / الأمالي والخصال + ابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة +

١٠٤

فوضع عليٌّ عليه‌السلام المسحاة على الأرض ، ويده عليها ، وقال :

( الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ ). (١)

فما كان موقفه بعد هذا وهو يستقبل عهد الشيخين.

__________________

الخطيب البغدادي / تأريخ بغداد + الطبري / المعجم الكبير + الطبري / تأريخ الرسل والملوك + طه حسين / الفتنة الكبرى + ابن عبد البر / الأستيعاب + عبد الفتاح عبد المقصود / الإمام علي بن ابي طالب + عبد الحسين الأميني / الغدير + العقاد / عبقرية الإمام + ابن قتيبة / الإمامة والسيرة + القندوزي / ينابيع المودةّ + المسعودي / مروج الذهب + ابن هشام / السيرة النبوية + الواقدي / المغازي.

(١) سورة العنكبوت ، الآيات : ١ ـ ٤.

١٠٥
١٠٦

الفصل الثاني

علي بين الشيخين وعثمان

١ ـ الانصار تحتجُّ ... وعليٌّ يمسك عن البيعة

٢ ـ ظلامة الزهراء في إنعطاف تأريخيٌّ

٣ ـ شكوى الزهراء وخطبها يشقّان عنان السماء

٤ ـ الثورة المضادة للإسلام ... واعاصير الردّ َة

٥ ـ أبو بكر يقدّس علياً ... ويعهده إلى عمر

٦ ـ سيرةُ عمر ... واتكاؤُهُ على أمير المومنين

٧ ـ عمريتناسى علياً ... ويعين مجلس الشورى

٨ ـ المسلمون يستقبلون بيعة عثمان بالكراهية

٩ ـ سياسة عثمان من الصحابة والمعارضة

١٠ ـ المسلمون ينقمون على عثمان ... والأمصار تتجمع

١١ ـ تفاقم الأمر على عثمان ومصرعه

١٠٧
١٠٨

(١)

الانصار تحتج ... وعلي يمسك عن البيعة

تقول إحدى الروايات أن علياً عليه‌السلام قال :

« إن أول من جرّأ علينا الناس سعد بن عبادة ».

وهذه الرواية تضع سعداً موضع الإتّهام ، بل وتعدّه منحرفاً عن علي ، وسعد رجل من العرب ، رأى المهاجرين قد أبوا على علي عليه‌السلام البيعة ، وصرفوها عن بني هاشم ، فلم لا يطلبها لنفسه ، هذا هو التعليل في أكبر الظن. وقد يقال بأنه أرادها لنفسه ظاهراً ليستولي على الأمر فيسلمها إلى علي عليه اسلام وليس على ذلك دليل نصي أو تأريخي سوى حسن الظن في شيخ من شيوخ الأنصار ، وكانت الأنصار عيبة نصح علي ، وهواها مع علي ، أكثريتها وأغلبيتها ، فلما انتهى أمر السقيفة ندمت على ما فعلت ، وتلاومت فيما بينها ، وأرادت نقض بيعة أبي بكر.

وعلي يرقب الأحداث ويشاهدها عن كثب في فيض من المشاعر الملتهبة ، وغمرة من الشؤون النفسية الجيّاشة ، بين لهفةٍ على ضياع الحق ، وخشيةٍ من اضطراب الأمر ، وقلق من حدوث الفتنة ، فها هم الأنصار يرجعون إلى حلومهم بعد أن طاشت ، ويعودون إلى تعقلهم به دون جدوى ، ويندمون على تفريطهم لات ساعة مندم. فلينظر إلى أين

١٠٩

تنتهي هذا الرواية؟ وكيف تمثل فضول المأساة؟

على أن الندم لم يصنع شيئاً ، والا حتجاج لم يغيرّ حدثاًُ ، والتراجع لا ينقض أمراً ، فقد جوبه الأنصار مضافاً إلى القيادة القرشية العليا ، جوبهوا بمسلمة الفتح تذبّ عن مرشح قريش ، فأشغل الأنصار ـ بدهاء منقطع النظير ـ بمسلمة الفتح ، واندمج بنو اُميه في رحاب البيعة التي أبعدت بني هاشم أعداءْ هم التقليديين ، وعطفت بنو زهرة عنانها مع تيم ، فما ينفع نداء الأنصار في آخرة ، وما أعذروا من ذي قبل ... إنه صيحة في وادٍ ، ونفخة في رماد، فهذا سهيل بن عمرو صاحبهم في الحديبية يدعو في نخوة : « يا أهل مكة ... كنتم آخر من أسلم في الناس ، فلا تكونوا أول من ارتد من الناس؛ يا أهل مكة. والله ليتمن الله عليكم هذا الأمر كما قال رسول الله ، ومن رابنا ضربنا عنقه ».

قال ذلك لأهل مكة عامة ، والتفت لقريش وقال لها خاصة ، وقد شاهد الأنصار يحاولون التغيير ، وكان التفاته هذا مزدوجا في ردوده ، ففيه إحكام للأمر دون تردد ، وفيه وعيد للأنصار دون رحمة ، وفيه أمر بالقتال بلا هوادة :

« يا معشر قريش : إن هؤلاء الناس قد دعوا إلى أنفسهم ، وإلى علي بن أبي طالب ، وعليّ في بيته لو شاء لردّهم ، ألا فادعوهم إلى صاحبكم والى تجديد بيعته ، فإن أجابوكم وإلاّ فأقتلوهم ، فوالله إني لأرجو الله أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم ». وتبعه عكرمة بن أبي جهل « لولا قول رسول الله : الأئمة من قريش ما أنكرنا إمرة الأنصار ، إعذروا القوم فإن أبو فاقتلوهم ».

فالدعوتان تشيران إلى القتل والإبادة ، وكيف تكون الفتنة إذن؟

١١٠

وفصل القول الحارث بن هشام المخزومي :

« أيها الناس : إن يكن الأنصار قد تبوأوا الدار والإيمان من قبل ، ونقلوا رسول الله الى دورهم من دورنا فآووا ونصروا ، فإنهم قد لهجوا بأمر أن تبثوا عليه فإنهم قد خرجوا مما وسموا به ، وليس بيننا وبينهم معاتبة إلا السيف ».

واستيقظ الأنصار من غفوتهم ، وإذا في قبالهم هذا النفر من مسلمة الفتح ، لا أكفاؤهم من قريش ، فسقط في أيديهم ، وذهبت احتجاجاتهم هباء ، غضبوا حين لا ينفع العضب ، وتصرفوا ساعة لا يجدي التصرف. فألطف لهم القول ثابت بن قيس :

« يا معشر الأنصار ؛ إنما كان يكبر عليكم هذا القول لو قاله أهل الدين من قريش ».

ولكن أهل الدين من قريش قلة واية قلة ، فهذا خالد بن سعيد بن العاص ، أمير رسول الله على إلىمن ، وهو من هذه القلة النادرة التي توجهت الى علي فقالت : « يا بني عبد مناف ... طبتم نفسا عن أمركم يليه غيركم ».

قال له علي عليه‌السلام : « يا خالد : هذا أمرنا أبت قريش أن تؤتيناه ».

فأسترجع خالد قائلا :

« يا ويح قريش ... وهل في الناس أحد أولى بمقام محمد منك » وكان موقف خالد فريداً ومتميزاً ، ألقاه مرتين : مرة أمام أبي بكر في المسجد ، وأخرى بين يدي علي في بيت رسول الله ، وهل وجد علي أمثال خالد إلا بضعة نفر ن لو ضحّى فيهم لضحّى بالإسلام كله ، وها هو

١١١

يرى هذا التناقض العجيب ، وهذا التهافت البغيض على الأمر ، فما كان صانعاً؟

كان على أمير المؤمنين أن يحدد موقعه ثابتاً من عدة مواقف طرحها المناخ السياسي عليه :

١ ـ أن يبايع لأبي بكر دون قيد أو شرط ، وينفض يده من الأمر ، فيريح ويستريح.

٢ ـ أن يحتج على البيعة ، ويدعو إلى نفسه بما معه ومن معه من بني هاشم والعدد الضئيل من الأنصار ، وأصابع إلىد من المهاجرين ، وإن سفكت الدماء وارتدّ الناس.

٣ ـ أن يصبر ويتجرع مرارة الصبر ،ويقف موقفاً وسطاً بين ذلك، يحتّجُ ويناظر ، ويمسك عن البيعة ، مطالباً بحقه الذي يراه ، والمنصوص عليه ، متوسلاً إلى ذلك بالذرائع السلمية ، فإن فاز بشيء منها فبها ، وإلا فقد أعذر ، حفظا للإسلام ، وحقناً للدماء ، وتألفاً للقلوب ، وبقيا على الأمة.

وما كان علي ليقف في الموقع الأول من هذه الخيارات ، وهو يرى نفسه الأحق بالخلافة ، والأولى بالبيعة ، وما خلق ليريح الناس في مجالدة الباطل ، ولا ليسترح في ظل الأمن والدعة.

وما كان لعلي أن يدخل معركة خاسرة يفرّق فيها كلمة المسلمين، فيقوم بالسيف ، والردّة على الأبواب ، والناس حديثو عهد بالإسلام، والجاهلية ألصق بالنفوس وأقرب إلىها من حبل الوريد ، ولا أن يخاطر بهذه القلة الخيرة التي امتنعت عن البيعة تحرجاً وتأثماً ، فتذهب دولة الإسلام ، لا عن ضعف في النفس أو خور في الطبيعة ، ولكن إيقاءً

١١٢

للحال من الزوال ، وتريثاً في الأمر عن صلابة ، ولعله يشير إلى ذلك : « ويح الناس ... إن أقُلْ يقولوا حرص على الملك ، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت ، أما والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه ».

إذن لم يكن موقفه هذا عن تلكؤ وتردد بل عن روية ويقين.

بعد هذا نجد موقفه خليقاً بأن يتحدد بالإمساك عن البيعة ولو إلى حين ، وبيان مقامه وأحقيّته ، وعرض ظلامته ومظلوميته ، سليماً. وهذا ما حدث بالضبط ، إذ لم يجد ناصراً حقيقياً يضحّي ـ بما فيه الكفاية ـ من أجل القيم ، فلا أقل من أن يقف موقفاً صارماً حتى يعذر أمام ربه ونفسه وعارفي منزلته. وكان جديراً بعلي أن يقف هذا الموقف ، فهو مأمور بالصبر ، وهو مأمور بالعمل معاً. ويريد هذا الموقف أن المعارضة الأنصارية ذهبت إلى أمير المؤمنين تستشيره وتستثيره ، قالوا :

تركت أمراً أنت أحق به وأولى ، ولقد هممنا أن نصير إلى أبي بكر فننزله عن المنبر. فقال : لو فعلتم ذلك لما كنتم إلا حرباً ، ولو فعلتم ذلك لأتوني ؛ فقالوا : بايع وإلا قتلناك ، وإن رسول الله أوعز إلى قبل وفاته ، وقال : يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك من بعدي ، فقلت يا رسول الله : فما تعهد إلى إذا كان كذلك ، فقال : إذا وجدت أعواناً فجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فكفّ يدك ، واحقن دمك.

ولقد كفّ علي يده ، ولكنه لم يكفّ لسانه عن المحاججة ، ولا ضميره عن الرفض ، حتى أعذر ، فلقد بلغه احتجاج أبي بكر على الأنصار كون النبي من قريش ، فقال : « إِحتجوا بالشجرة ، وأضاعوا الثمرة ».

١١٣

وحجّه بهذا وسواه بما حج به خصومه ، وألزمه بما ألزمهم ، وقال : « أنا أحق منكم بهذا الأمر لا أبايعكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي نخن أولى برسول الله حياً وميتاً ».

كان هذا في مسجد رسول الله ، وعمر متأهب للوثوب عليه ، قائلا للإمام : لستَ متروكاً حتى تبايع ، فقال علي :

« إحلب حلبا لك شطره ، وشدّه إلىوم يرده عليك غدا ؛ والله يا عمر : لا أقبل قولك ولا أبايعه »

ووقف عمر باهتا أمام هذا الإصرار ؛ فبدر أبو بكر الى عمر قائلا ، وقد تأزم الموقف وازداد تحرجا « فإن لم تبايع فلا أكرهك ».

وانتهز الفرصة أبو عبيدة ؛ وهو يتطامن لعلي ، ويتواضع إلىه ، ليّن العريكة ، هادىء الطبع ، متناغم اللفظ : « يا ابن عم : إنك حديث السن ، وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ، وإنك إن تعش فأنت لهذا الأمر خليق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك ».

وقد أبلغ أبو عبيدة في مراده ، وبذل غاية جهده ، وبالغ في الثاني واختيار اللفظ المناسب للمعنى المناسب ، عسى أن يؤثر هذا الأ ُسلوب الجديد بعلي ، أو يثني من عزمه ، ولكن عليا أنقى فكراً ، وأصفى ذهناً من أن ينطلي عليه هذا الملحظ ، فغضب وسرد الحقيقة المرّة التي سمعها أبو عبيدة فانهارت أعصابه ، وتهاوت أحلامه ، فعلي يجبهه مصارحا :

« الله الله يا معشر المهاجرين ... تخرجون سلطان محمد في العرب من داره وقعر بيته ، وتدفعون أهله عن مقامه في الناس ، فوالله

١١٤

لنحن أحق الناس به لأنا أهل البيت ، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ؛ ما دام فينا القارىء لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعيه ، الدافع عنهم الاُمور السيئه ، القاسم بينهم بالسوّية ».

وكان علي بهذا يعني نفسه ويشير إلى ملحظين :

الاول : انه من اهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

الثاني : أنه المرشح للاضطلاع بالمسؤولية ، لما يحمله بين جنبيه من تتبع لكتاب الله قراءة ومعرفة وتأويلاً ، وما يتمتع به من علم وفقه وسنّة ، وما يضطلع به من أمر الرعيّة، في الذبّ عنها في الضرّاء، والسرّاء ، والعدل فيها عند الشدة والرخاء. ثم يؤكد هذا لأبي عبيدة محذرّاً :

« وإنه والله لفينا يا أبا عبيدة ، إنه لفينا فلا، تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله ، وتزدادوا عن الحق بعداً ».

لقد بلغ التأثر عند علي حداً لا يطاق معه السكوت ، فعاود الاحتجاج موكداً ، وأكده مردداً في هذه الإشارات الدقيقة التي استمعها أبو عبيدة ذاهلاً؛ ولكن بشير بن سعد الأنصاري استمعها متأثراً بها ، وهو الذي مهّد لأبي بكر من الخزج ، فما ملك نفسه أن يقول : لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلفت عليك ، وكلام بشير حجة عليه هو نفسه ، فهل يُجهل مقام علي لديه حتى يستظل بهذه المعاذير التي لا تخفى على من له ادنى دراية بشوؤن الناس ومقتضيات الأحوال.

١١٥

وتنهاهى هذا الإحتجاج إلى الأنصار في لحظته ، فكثر فيما بينها الأخذ والرد ، وهتفت لعلى من جديد : لا نبايع إلا علياً ، ولكن هذا كان بعد فوات الاوان ، وعند تفاقم الأمر ، وبدرهم عبد الرحمن بن عوف موارباً في كلامه ، متناسياً ما هتفوا به : « يا معشر الأنصار ....... إنكم وإن كنتم أولي فضل ونصر وسابقة ، ولكن ليس فيكم مثل أبي بكر ولا عمر ولا علي ولا أبي عبيدة ».

وهو بهذا يدير الكلام دوران الرحى على قطب سواه ؛ ولكن زيد بن ارقم يدريك هذا المنحى ، ويجرد القول على وجهه :

« اننا لا ننكر فضل من ذكرت ياعبد الرحمن ، وإن منا لسيد الأنصار سعد بن عبادة ، ومن أمر الله أن يقرأه السلام وأن يؤخذ عنه القرآن اُبيّ بن كعب ، ومن يجيء يوم القيامة أمام العلماء معاذبن جبل، ومن أمضي رسول الله شهادته بشهادة رجلين وهو خزيمة بن ثابث ، وإنا لنعلم إن من بين من ذكرت من قريش من لو طلب الخلافة لم ينازعه فيها أحد وهو علي بن أبي طالب ».

كان هذا كلّه ينتهي لأمير المومنين علي ويجيل الفكر فيه ، ولكنه يكره الخلاف ، ويرى الصبر على الضميم اجدى عائدية ، فهو لا يريد الخلافة لنفسها ، ولكنه يريدها للإسلام ، هي وسيلة لتطبيق قانون السماء في الأرض.

ويلجأ عليٌّ آخر الأمر إلى طريق اُخرى تنجلي مغلقةً أمامه تماماً ، ولكنه يسلكها إلقاءً للحجة ، فيستقبل الليل مستنصراً تلكم الفتية من الأنصار الذين تلمكهم الاسي ، واستطارت بهم اللهفة ، واستبدّ بهم الأسف ، وإلى جنبه ابنة محمد فاطمة الزهراء ، يطلب الحق ، ويستعدي

١١٦

على الباطل من عسى أن يستجيب ، ولم تكن الاستجابة إلا معاذير وآهات ، ولم تجد النصره إلا خذلاناً وإعضماضاً ، فكانت جموع الأنصار تجيب بلسان واحد ، متجهة إلى الزهراء :

« يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهاذا الرجل ، ولو أن ابن عمك سبق إلىنا ماعندلنا به ».

وتغصّ الزهراء بريقها ، ويجيبهم عليٌّ :

« أفكنت أدعُ رسول الله في بيته لم أدفنه ، ثم أخرج اُنازع الناس سلطانه ».

وتنتهي الزهراء إلى النتائج هذه لا تجد ناصراً ، ولا تلمس موازرأً ، بل تجد لائمة دون روّية ، فتصدع بالنهاية : « ما صنع والله ابو الحسن إلا ما كان ينبغي له ....... وقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه ».

وكان ماسبق من اختلاف بعض الأنصار إلى علي ، ومحاججة علي بحقه ، وتلاوم بعض الناس في شأن علي ، واجتماع بعض المهاجرين والأنصار في فضاء بني بياضة ، واحتجاج جملة من الصحابة على أبي بكر في مسجد رسول الله ، واستنصار علي بالزهراء للأنصار؛ كان كل ذلك مبرراً سياسياً لأن يشدد الشيخان القبضة على الحكم ، وأن يلجئا إلى القوة والعنف.

وكان عليٌّ في دار الزهراء ، وقد لجأ إليها سلمان وعمار والمقداد، أبوذر والزبير وسواهم من بني هاشم ، وطائفة من الأنصار تصابحهم وتماسيهم ، متألبة حيناً ، ونادمة حيناً آخر ، وكان الإحساس بشيء من الخطر يدبّ إلى نفس الشيخين ، فليحسما هذا الموضوع ، وأقبل عمر في شدته ، ومعه جملة من الاعوان في طليعتهم أسيد بن حضير زعيم

١١٧

الأوس ، وقنفد مولى عمر ، ولفيف من مسلمة الفتح ، واقتحموا دار فاطمة بنت محمد ، ولوحوا « بالنار » لا حراق البيت على من فيه ، إن لم يخرج عليٌّ فيبايع ، وعمر ينادي ـ فيما يزعم ابن قتيبة ـ :

« والله لتخرجن من الدار إلى البيعة أو لأخرقنها على من فيها ، فيقال له : إن في الدار فاطمة بنت رسول الله ، فيقول : وإن كانت فيها ».

ولا أستطيع بيان ما جرى في هذه اللحظات الثائرة ، ولكني أدعه للزهراء : « يا أبت يا رسول الله ....... ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ».

وتناهى صوتها إلى الجمع ، فبكوا لبكائها ، وتفرقوا عن بيتها ، إلا عمر بزعم ابن قتيبة ، فإنه أقم ، وأخرج علياً ، وذهب به وجماعة إلى المسجد بين يدي أبي بكر؛ وقال عمر : يا علي بايع ، فقال: وإن لم أفعل ، قالوا إذن تقتل ، قال : تقتلون عبد الله وأخاً لرسوله ، قال عمر : أما عبد الله فنعم ، وأما أخاً لرسول الله فلا ، وابو بكر ساكت؟ فقال له عمر : ألا تأمر فيه بامرك ، قال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمه إلى جنبه.

فلحق عليٌّ بقبر رسول الله قائلاً :

« يا ابن أم : إن القوم استضعفوني ، وكادوا يقتلونني ».

١١٨

(٢)

ظلامة الزهراء في انعطاف تاريخي

تثاءبت احتجات الأنصار باهتة ، وتبخرّت أحلام المعارضة السياسية لبيعة أبي بكر ذائبة ، ولكن الآهات لا تهدأ ، والزفرات لا ترقأ ، فقد انطلقت الشكوى الحزينة لابنة صاحب الرسالة ، تزمجر في الاُفق ، فتهتز المدينة لها رقةً حيناً ، وجزعاً حيناً اخر ؛ فالزهراء حبيبة محمد ، وديعته عند المسلمين ، ولهاحرمتها وقداستها ، وإذا بها ترسل ادلتها لمقالتها ، وتدلي بحججها لظلامتها ، تطالب ابا بكر ، بفدك نحلتها ، وبإرثها من أبيها ، وبسهم ذوي القربى ، تحاجج بمنطق القرآن ، وتناظر بلغة الوحي ، فاغمط عيناً دون ذلك ، ولجأ إلى المعاذير ، واخترع حديث : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة » كما يرى ذلك طه حسين (١).

وكان خبر واحد لا يفيد علماً ولا عملاً ، ولكنه أصر عليه ، فكذب دعواها في النحلة مع الشهود ، وتصرفها زمن أبيها ، ووضع إلىد عليها ، وكلها أمارات تصدق دعواها ، وحرمها الميراث ولم يحرم أزواج النبي من ذلك وانزل سهم ذوي القربى ـ وهو حق خاص منصوص عليه في التنزيل ـ في حساب المسلمين ببيت المال.

__________________

(١) ظ : محمد الدسوقي / أيام مع طه حسين / ١٢٨ + المؤلف / هكذا رأيتهم / ٦٢.

١١٩

نظرت الزهراء فإذا يدها صفر من كل شيء : فدك ، الميراث ، السهم المفروض. فلا هي ترث أباها كالمسلمين ، ولا وضع يدها على فدك يحول دون مصادرتها وفيها عمالها ورجالها ، ولا الحق الشرعي النازل من السماء يصل إلىها ، وإذا بها رعية لا تملك شيئاً ، ومغتصبه لا تقدر على شيء ، ومنتهبة لا فرصة لديها في استرداد حق أو استرجاع نصيب.

انتهت الحقوق المالية لديها الى زاوية حادة كما انتهت الحقوق القيادية لزوجها إلى درب مسدود ، فعاد الاثنان علي وفاطمة متساويين في الحرمان والاضطهاد ، ومتناظرين في المحنة والابتلاء.

واكبر الظن أن ابا بكر قد رد الزهراء في الميراث والنحلة وسهم ذوي القربى ، لا تشكيكاً في صدقها ، فهو أعلم الناس بصدقها في قرارة نفسه دون شك ، ولكنه احتاط لنفسه كثيراً ، ولمنصبه أكثر ، فما أراد أن يأخذ على نفسه أمام المهاجرين والأنصار أنها صادقة ، إذ لو أخذ على نفسه ذلك لكان في أشد الحرج وأعسر الضيق ، فما يدرينا ؛ فلعل الزهراء تأتيه غدا فتقول له إن أبي قد نصّ على عليّ بالخلافة ، سمعتُ هذا ووعيت هذا ، فما هو موقفه يا ترى؟ وقد حكم لها على نفسه بالأولى ، فما له لا يحكم لها في الآخرة ، إذن فليحسم الأمر منذ لحظاته الأولى ، فالنبي لا يورث ، ولم ينحل الزهراء فدكاً والشهاد ناقصة : زوجها يجرّ النار الى قرصه ، وأم أيمن أعجمية فيما يزعم عمر ، والحسن / والحسين صبيان لا شهاد لهما ، أما وضع إلىد على فدك من قبل الزهراء في حياة أبيها ، وتصرفها في ذلك جهاراً ، فأمر مغموض عليه ، أو أريد أن يغمض عليه ، وأما سهم ذوي القربى فيضعه ببيت المال فالمأمور بإعطائه رسول الله وقد مات ، وكأن الحكم قد نسخ وإلى

١٢٠