تراثنا ـ العدد [ 17 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٦

فقال : لا ونبيك الذي أرسلت».

أقول : هكذا جاء التقطيع والتنقيط لهذه الجملة ، ويلاحظ عليها أن وضع النقطتين الشارحتين للقول قبل كلمة «أستذكرهن» لا وجه له لأن هذه الكلمة ليست مقولة للقول ، بل ذكرها المتكلم لتدل على أنه أعاد ما بعدها وكرره من أجل أن يحفظه على خاطره ويستذكره ، فجملة «أستذكرهن» معترضة لا بد من وضعها بين شريطين ووضع الكلام بعدها بين الأقواس.

واللازم أيضا وضع فارزة بعد كلمة «لا» ، وجعل الكلام بعدها بين الأقواس ، لأنه نص الدعاء ، أعيد للتصحيح.

والصحيح ـ في نظرنا ـ تقطيع هذا الكلام وتنقيطه كما يلي :

فقلت ـ أستذكرهن ـ : «ورسولك الذي أرسلت ...»

فقال : لا «ونبيك الذي أرسلت ...».

١١ ـ في ص ١٨٨ س ٣ : «وليس الرأي في صدر واحدا».

ونقل المحقق في الهامش عن نسخة كلمة «هذا».

أقول : النص المثبت في المتن غير واضح المعنى ، وإن أراد أن هذا الرأي لم يكن متفقا عليه في «الصدور» فهذا معنى بعيد جدا.

وأما كلمة (هذا) فلم يعين المحقق في الهامش أنها في النسخة الأخرى بدل عن أية كلمة ، وإن كان الظاهر أنها بدل عن كلمة «صدر» ، فتكون العبارة على تلك النسخة هكذا : ليس الرأي في هذا واحدا.

والمعنى على ذلك يصير واضحا ، فالمراد أن الآراء لا تتفق على هذا.

فالملاحظ : أن على المحقق أن يختار للمتن الكلمة الأوضح ، والأليق ، التي لا تربك المعنى بعد اختيارها من بين الموجود في النسخ المختلفة.

١٢ ـ في ص ١٨٩ س ٦ : «ثم ما كانت من زيارة الأخرى».

الصواب : ثم ما كانت من زيادة الأخرى.

١٣ ـ في ص ١٩٠ س ١ : كتبته بالحمرة.

٢٠١

الصواب «كتبه بالحمرة» بقرينة قوله : حقق.

١٤ ـ وملاحظات هامشية :

مضلا : أن المحقق يذكر في التعليقات مصادر بعناوين غير مثبتة في فهرس المصادر ، من دون أن يشير إلى اختصارها عن أسمائها الأصلية ، مثل :

شرح الألفية للسخاوي ، والمراد : فتح المغيث شرح ألفية الحديث.

توضيح الأفكار للصنعاني ، والمراد : تنقيح الأفكار ، لاحظ : ص ١٢٠ و ١٤٧ و ١٤٩.

جذوة المقتبس ، ذكره في ص ٩٠ و ١٠٩ ، والموجود في فهرس المصادر جذوة الاقتباس.

التبصرة والتذكرة للعراقي ، ذكره في ص ٧٩ ، وباسم التبصرة في ص ٨٨ و ٩٩ و ١٠١ ، والمراد : شرح التبصرة والتذكرة للعراقي.

ومنها : أنه يضع أسماء الأعلام بين الأقواس الصغيرة ، وهذا ما لم نعرف له وجها ، ولا التزاما من مناهج المحققين ، وفيها تشويش كبير على القارئ ، مع أنه يتخلف ـ عمليا ـ عن ذلك أحيانا كثيرة.

وفي النهاية : لا يفوتنا أن نختم جولتنا في هذا الكتاب العذب التذكير بأن المحقق قد أبدع في إعداد الفهرست الأول الذي خصصه بالموضوعات المعروضة في الكتاب متنا وهامشا ، ونظمه بشكل دقيق وكامل بحيث يعتبر مختصرا جامعا لكل ما في الكتاب من فوائد علمية.

علوم الحديث

(المعروف باسم : مقدمة ابن الصلاح)

تأليف : الإمام أبي عمرو ، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري (٥٧٧ ـ ٦٤٣ ه).

تحقيق وشرح : الدكتور نور الدين عتر.

٢٠٢

الطبعة الثالثة ـ دار الفكر ـ دمشق ١٤٠٤.

تمهيد :

أمامي من هذا الكتاب طبعتان :

١ ـ طبعة الدكتور نور الدين عتر ، المعنونة آنفا.

٢ ـ طبعة الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) وهي مطبوعة دار الكتب المصرية سنة ١٩٧٤.

وقد وقع اختياري على طبعة الدكتور هذه ، للبحث ، لما يأتي :

١ ـ لأنها متأخرة عن تلك الطبعة ، وهذا يعني أخذ ما في تلك بنظر الاعتبار.

٢ ـ ولأنها ـ لحداثة طبعها في سنة ١٤٠٤ ـ متوفرة لدى الأكثرين ، فلا بد أن تكون أكثر تداولا من الأولى.

٣ ـ لما في عمل الدكتور من دقة فائقة تنبع من تخصص المحقق في فن الحديث ، كما تشهد به مؤلفاته العديدة والواسعة ، مما يجعل عمله محطا للأنظار.

ولا بد من الاعتراف ـ والحق يقال ـ بأن طبعة الدكتور من أجود ما أصدرته المطابع من الكتب المحققة ، سواء في الاخراج أم التحقيق ، بما يمنع كل المتعرضين له ـ فضلا عن المعترضين عليه ـ من الإقدام على تسجيل شئ ضده ، وبما يمليه الوجدان على المراجع من الاعتراف بقوته وفضله.

إلا أن الضمير يؤنبنا ـ بنفس المستوى ـ على التقصير في تكميل العمل إلى المستوى الأرفع ، بعرض ما وجدناه فيه من مفارقات ، وإن كانت قليلة وصغيرة بالنسبة إلى ذلك العمل الكبير الجليل.

وإليك ما وقفنا عليه من هفوات في هذه الطبعة :

١ ـ إن المحقق الدكتور لم يذكر طبعة دار الكتب إلا بقوله : وقد أخطأ بعض من أقحم نفسه على هذا العلم وحقق هذا الكتاب ـ ص ٤٠ ـ من المقدمة.

٢٠٣

وعلق على نفس الموضع في الهامش بقوله : وقع هذا الخطأ في تصدير طبعة الكتاب التي طبعتها دار الكتب المصرية بالقاهرة ، سنة ١٩٧٤ ، وقد تطاول محققو تلك الطبعة على طبعتنا السابقة بما يغني تأمل قارئه وفطنته عن تكلف الرد عليه. الكتاب ـ ص ٤٠ ـ.

وبما أنا نرى في عمل المحقق الدكتور منتهى ما يمكن من الجهد التحقيقي المتين ، ولم يعرف هو في طبعته هذه بطبعته السابقة ، ورغبة منا في معرفة عمل الدكتورة في طبعتها ، وواقع موقفها من عمل الدكتور فقد راجعنا طبعة دار الكتب أيضا.

والواقع أنا وجدنا في طبعة دار الكتب عملا علميا جيدا يضم إلى حسن الطبع دقة التحقيق وبذل الجهد الواسع ، مضافا إلى التعريف الغني المطلوب بنسخ الكتاب ـ المتوفرة لدى المحققة ـ مطبوعها ومخطوطها ومنها طبعة الدكتور الأولى ، التي عرفت بها في (ص ٤٥ ـ ٤٩) من طبعة دار الكتب بقولها : الطبعة الحلبية الثانية ١٩٦٦ وهي طبعة محققة نشرتها المكتبة العلمية بالمدينة المنورة ، تحقيق الدكتور نور الدين عتر ، وطبعت في مطبعة الأصيل بحلب سنة ١٩٦٦ بعنوان «علوم الحديث لابن الصلاح» ، وتقع في ٤٣٢ صفحة.

ثم بدأت بعرض نسخ الطبعة تلك وقالت : مع تقديرنا الصادق لما بذل السيد الدكتور من جهد سخي وعناية بالغة بتحري الدقة ومقابلة النسخ وإثبات كل خلاف بينها وتخريج الأحاديث ، نراه قد سلك منهجا في التوثيق وفي التحقيق ـ مقدمة ابن الصلاح ص ٤٧ ـ ثم بدأت بذكر بعض النقاط.

ونحن لم نجد في مجموع النقاط التي ذكرتها ما يعتبر تطاولا يؤدي بالدكتور إلى هذه الدرجة من الحدة ، بحيث يعتبر الدكتورة المحققة «ممن أقحم نفسه على هذا العلم».

مع العلم بأنها قد خدمت الكتاب خدمة تكشف عن خبرة ورغبة صادقة في العلم وفي التحقيق ، ويكفي أنها بعملها ـ أسدت إلى المكتبة الإسلامية خدمة

٢٠٤

جليلة بطبع كتاب «محاسن الاصطلاح» للحافظ البلقيني ، وهو ما لم ينشر من قبل.

وهل يحق أن يقال فيها ذلك وقد قدمت ذلك العمل الكبير ، ومجموع عملها في النص يقع في ٦٧٥ صفحة ، وألحقت به الفهارس في الصفحات من ٦٧٧ إلى ١٠٥٣ استدركت خلالها ما فاتتها من أخطاء معتذرة بقولها :

وأعتذر ـ كذلك للسادة الزملاء محققي الكتب التي رجعت إليها ـ فيما تعقبت من أوهام وتصحيفات بها ، لست بحيث أسلم من مثلها ، أو ينجو منها من يكابد تحقيق نصوص التراث ، ومشاق تصحيح تجاربه المطبعية وأستغفر الله لي ولهم [مقدمة ابن الصلاح ص ١٩٦].

وليس من يقول هذا الكلام مستحقا لكل ذلك العتاب اللاذع من الدكتور المحقق.

هذا مع الاعتراف بأن عمل الدكتور هو أفضل وأجود ، لأنه ذو خبرة أوسع بعلم الحديث لتخصصه في هذا الفن ، مضافا إلى عنايته بهذا الكتاب بالخصوص في فترة طويلة منذ سنة ١٩٦٦ وحتى ١٩٨٤ ، مع توفر النسخ النفيسة التي اعتمد عليها في طبعته الثالثة هذه ، وذلك ما لم يتوفر للدكتورة في عملها المطبوع بدار الكتب.

٢ ـ لفظة «روينا»

هكذا وردت هذه الكلمة مستعملة في الكتب ، وهي على صيغة المجهول من «رواه» وقد ضبطها كذلك اللغويون ، فلاحظ «المغرب» للمطرزي ، و «الرواشح السماوية» للسيد الداماد ، الراشحة ٢٨.

وقد ضبطت ـ كذلك ـ في طبعة دار الكتب المصرية في أول مورد ، ص ٨٤ ، وقالت الدكتورة المحققة : لم يضبط في النسخ ، والكلمة في الورقة الساقطة من الأصلين (ع ، ص) وإذ جرى ابن الصلاح على هذا الضبط ـ مبنيا للمجهول ـ في

٢٠٥

الرواية عن من لم يلقه ، ضبطناه هكذا ، مستأنسين بمألوف الضبط في النسخة الأصل.

وهكذا استمرت في إثبات هذا الضبط إلى آخر الكتاب ، عدا موارد يسيرة حيث أهملت ضبطها ، مثل : ص ٢٨٥ و ٣٦٣ و ٢٩٦ وغيرها.

لكن الدكتور عتر أوردها ـ في أول مورد ـ مضبوطة على خلاف ذلك ، ففي ص ١٥ ضبطها : (روينا) ، وكذلك ضبطه في ص ٣٦ و ١٧١ و ٢٠١. ولكنه عاد وضبطها على الوجه الصحيح (أي : روينا) في ص ٢٩ ونهاية ص ٧٤ وص ١٤٧ وص ١٠٠ وص ١٠١.

والغريب أنه ضبطها في صفحة واحدة بشكلين ، فني ص ٢٠٦ ضبطها في السطرين ١٢ و ١٦ هكذا : (روينا) ولكنه في السطر ١٠ ضبطها هكذا : (روينا).

وأهمل ضبطها ـ بالمرة ـ في موارد كثيرة خلال ذلك مثل : بداية ص ٧٤ ، وص ٩٤ و ١٠٢ و ١٤٢ و ١٤٤ و ١٤٥ و ١٤٨ و ١٦٣ و ١٧٠ و ١٨١ مرتين و ٢٤٦ و ٢٤٧ وغيرها.

وقد وردت في ص ١٠١ مضبوطة : (روينا) لكن كتبت فوقها بحروف صغيرة كلمة : (معا).

واعلم أنه قد استعملت كلمة (معا) في النسخة الخطية المضبوطة التي اعتمدها المحقق للدلالة على ضبط اللفظة تحتها بشكلين.

لكن ، هل المراد هنا قراءة لفظة (روينا) بشكل آخر؟ هذا لا يمكن إرادته ، وذلك :

١ ـ لأن هذا الضبط هو الصحيح المتعين ، والضبط الآخر غلط.

٢ ـ لأن الضبط الآخر لم يسجل في المطبوع حتى تكون كلمة معا دالة عليه.

وبمراجعتي لطبعة دار الكتب المصرية تبين لي وجه وضع كلمة (معا) هنا ،

٢٠٦

حيث أن الموجود في تلك الطبعة ـ في هذا الموضع ـ هو : (رويناه) بالهاء في نهاية الكلمة ، ظهر أن المراد بكلمة (معا) هو الدلالة على النسختين : مع الهاء ، وبدونها.

لكن طبعة الدكتور عتر أغفلت الهاء ، فبقيت كلمة (معا) سائبة ، لا يفهم معناها!

والملاحظة العامة هنا : أن على الدكتور المحقق ـ على أقل تقدير ـ توحيد ضبط الكلمة في الكتاب كله على ما صح عنده ، أما هذا التقليب السريع من الضبط بالمجهول ، إلى الاهمال ، إلى الضبط بالمعلوم ، إلى الجمع بينهما ، فأمر مرفوض قطعا.

هذا إذا لم يصح عنده ما التزمه الكل من الضبط بالمجهول كما قلنا.

٣ ـ في ص ١٠١ س ٩ : «فقبلوا متونها وأسانيدها».

أقول : هذا غلط ، وإنما هو «فقلبوا متونها وأسانيدها» كما جاء في طبعة دار الكتب المصرية ص ٢١٦ س ٥ ، والسياق دال عليه حيث أن البحث في الحديث (المقلوب) لا (المقبول).

٤ ـ في ص ١٣٥ س ٧. «على الشيخ ، ثم يتلو قول أخبرنا قول أنبأنا».

أقول : إن كلمة (الشيخ) ينتهي بها الكلام في الجملة السابقة ، والمراد بها استعمال كلمة (أخبرنا) فلا بد من وضع نقطة لا فارزة.

وأما ما بعدها فهو كلام مستأنف لا بد أن يوضع رأس سطر ، لأنه يبدأ في استعمال (أنبأنا) في مراتب ألفاظ الأداء ، وهذا واضح.

٥ ـ في ص ١٥١ س ٦ : «فهذا على أنواع الإجازة المجردة»

أقول : لا معنى لهذا الكلام ، إذ لا معنى أن تكون الإجازة على أنواع الإجازة ، لأنها هي إجازة مجردة بالفرض.

والصواب : «فهذا أعلى أنواع الإجازة المجردة» كما صرح جمع بأن هذا النوع هو أعلى أنواع الإجازة ، وقد جاء النص ـ كذلك ـ صحيحا في طبعة دار الكتب المصرية ص ٢٦٢.

٢٠٧

٦ ـ ضبط الدكتور كلمة (راهويه) هكذا ، بضم الهاء وسكون الواو باللغة الياء في الصفحات ١٥ و ٣٨ و ١٣٤ و ٣٠٨ ، وأهمل ضبطها في مواضع أخرى.

والملاحظة : أن هذا الضبط هو خلاف المألوف في ألسنة المتأدبين وفتح العربية ، بل هو مستعمل عند غيرهم يتداولونه.

قال أبو العباس ابن خلكان (٦٨١ ه) في «سيبويه» :

سيبويه ـ بكسر السين المهملة ، وسكون الياء المثناة من تحتها ، وفتح الباء الموحدة ، والواو ، وسكون الياء الثانية ، وبعدها هاء ساكنة ولا تقال بالتاء ، البتة.

هكذا يضبط أهل العربية هذا الاسم ونظائره مثل : نفطويه ، وعمرويه وغيرها.

والعجم يقولون : «سيبويه» : بضم الباء الموحدة ، وسكون الواو وفتح الياء المثناة بعدها ، لأنهم يكرهون أن تقع في آخر الكلمة «ويه» لأنها للندبة.

لاحظ : وفيات الأعيان ـ طبعة عباس إحسان ـ ٣ / ٤٦٥.

وقال المحقق السيد الداماد في شرحه على رجال الكشي في كلمة (حمدويه) : «بإهمال الحاء وفتحها ، وفتح الواو بين الدال المهملة المفتوحة ، والياء المثناة من تحت الساكنة» اختيار معرفة الرجال ، تعليق السيد الداماد ١ / ٣.

وفي الختام ، لو فرضنا وقوع هذه الهفوات النادرة خطأ مطبعيا ، أو سهوا زاغ عنه البصر ، فإنها لا تقلل من جلال هذا التحقيق الرائع ، بل يزيده روعة حيث تنحصر في هذا العدد القليل بين صفحاته الكثيرة.

وعلى كل حال فإيرادنا لها تفيد تنبيه المراجعين ..

والحمد لله رب العالمين.

٢٠٨

من ذخائر التراث

٢٠٩

٢١٠

«الدنيا مزرعة الآخرة»

للشهيد الثاني

أسامة آل جعفر

المقدمة :

الحمد لله كما هو أهله وبما يحب ربي ويرضى ، وصلى الله على نبيه المصطفى ، ووليه المرتضى ، وأهل بيته العروة الوثقى ، منائر الهدى وسفن النجاة.

وبعد :

فبدءا أقول : إني لست بصدد استعراض حياة صاحب الرسالة ، أو أضيف إلى ما كتب شيئا ، وعذري فيما أذهب إليه سببان : أولهما : العجز عن الإحاطة ، وثانيهما : إن ذا الأمر ليس بمحل بحث.

فما نحن فيه لا يعدو كونه أمرا لا مناص منه ، وعرفا أخذ الجميع به ، وتآلفوا عليه ، فلذا يبدو الإعراض عنه وتجاوزه أمرا شائنا يستقبحه القراء ، ويثير استغرابهم.

ولست أعني فيما ذهبت إليه أن كتب الرجال ، ومحطات السير قد أوفت الأمر حقه ، وأجزلت فيه ما ينبغي أن يكون له ، ويكتفى به.

نعم ـ ولا مجافاة للصدق ـ أقول : إن على هذه الطائفة لكثير من العلماء الأفذاذ عظيم فضل ، وسابغ عطاء ، هو بلا شك دين كبير لا سداد له سوى إحياء ما عفا عليه الزمن من علوم أفنوا عليها زهرات أعمارهم ، وفورة شبابهم ، وأعدوها بضاعة جاهزة ، وسفنا فارهة ، لمن أراد الرسو في شواطئ الأمان بين هذه البحور المتلاطمة

٢١١

بالفتن والبلايا.

ولعله من المسلم به أن لعلماء جبل عامل رضوان الله تعالى عليهم اليد الطولى ، والشطر الكبير من هذا العطاء السابغ ، ونحن إن كنا نعجز أن نفي الشيخ الطوسي والصدوق والشيخ المفيد بعضا من أفضالهم ، فبالنتيجة نحن أعجز من ذاك لذي الفضل من أولاء وبالتالي سيبقى الدين ينتظر الوفاء.

فبحق أقول : إن قرى تلك البلدة المباركة أتحفت الطائفة بسيل متدافع من العلماء الأفاضل بشكل يصعب حصره وعده ، حتى لقد قيل مثلا : «إنه اجتمع في جنازة قرية من قرى جبل عامل سبعون مجتهدا في عصر الشهيد وما قاربه» (١).

وذا الرقم كما يستطرد عين القائل لا يتجاوز خمس العلماء المتأخرين ، وبداهة أن لهذه الصفوف المباركة آثارا وبصمات خالدة ستبقى أبد الدهر.

ناهيك عن أن هناك الجم الوفير من تلك النجوم سطعت في سماء الطائفة وتعلقت دائما في ذاكرتها وبين شفتيها ، أمثال : الشيخ تقي الدين إبراهيم بن علي العاملي الكفعمي (٢) ، والشيخ عز الدين الحسين بن عبد الصمد العاملي الجبعي (٣) ، والشيخ علي بن عبد العالي العاملي (٤) ، والشيح محمد بن الحسن بن علي العاملي (٥) ، والسيد محمد بن علي بن الحسين العاملي (٦) ، والشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد

__________________

(١) مجالس المؤمنين : ٣١.

(٢) من الفضلاء والأعلام ، له كتاب المصباح ، «وهو جنة الأمان الواقية وجنة الإيمان الباقية» وكتاب البلد الأمين (٨٤٠ ـ ٩٠٥ ه).

(٣) والد الشيخ البهائي ، له كتاب الأربعين حديثا ، وحاشية الإرشاد ، وشرح الرسالة الألفية وغيرها.

(٤) من أعلام الطائفة ، له مصنفات كثيرة منها : شرح القواعد ، شرح الشرائع ، شرح الألفية ، حاشية الإرشاد ، وغيرها.

(٥) الشيخ الحر ، صاحب الوسائل ، غني عن التعريف (ت ١١٠٤ ه).

(٦) علم من أعلام الطائفة ، له كتاب مدارك الأحكام ، وحاشية الإستبصار وحاشية التهذيب ، وغيرها (ت ١٠٠٩ ه).

٢١٢

ابن مكي العاملي (٧).

ولعل شهيدنا الثاني رضوان الله تعالى عليه قد خلف خلال سنيه القصيرة (٩١١ ـ ٩٦٥ ه) تراثا ضخما ، ووجودا كبيرا ، تجده في مناحي الحياة المختلفة ، حيثما طرقت ، وأينما قصدت.

فقد جعل رحمه‌الله تعالى حياته برمتها عطاءا متواصلا ، وبحثا متصلا فأمسى وكما قيل فيه «.. وبالجملة ، فهو عالم الأوان ومصنفه ، ومعرض البيان ومشنفه ، بتآليف كأنها الخرائد ، وتصانيف أبهى من القلائد» (٨).

أعطاها ـ وما اقتصد ـ خلاصة جهده وعصارة فكره ، فأفاض فيها علما رغم شظف عيشه وقساوة حياته ، فلقد عرفه الناس بسيطا ، عائلا «يحرس الكرم ، ويحتطب لعياله ليلا ويطالع الدروس ، وفي الصباح يلقي الدروس على الطلبة» (٩).

بل كتب كل تلك الجواهر النضيدة تارة بين جدران بيوته الطينية البسيطة ، وأخرى بين أشجار الكروم ، فأبدع في ذلك غاية الابداع ، فكان منها :

١ ـ حاشية الإرشاد.

٢ ـ منية المريد في آداب المفيد والمستفيد.

٣ ـ شرح اللمعة الدمشقية.

٤ ـ حاشية القواعد.

٥ ـ شرح الشرائع.

٦ ـ مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد.

٧ ـ شرح الألفية (المختصر والمتوسط والمطول).

وغيرها كثير من الكتب والرسائل.

__________________

(٧) الشهيد الأول ، أجل من أن يعرف ، استشهد عام ٧٨٦ ه.

(٨) روضات الجنات ٣ : ٣٦١

(٩) لؤلؤة البحرين : ٣٠ ، أعيان الشيعة ٧ : ١٤٥.

٢١٣

وعود على بدء ، فإن كان من كلمة تقال فإن للأصل الطيب والنشأة الطاهرة والتربية السليمة عظيم أثر ـ وذا لا يخفى ـ على إعداده ذاك الإعداد الذي عرف به.

فقد درج رضوان الله تعالى عليه بين جدران بيت تفوح من جنباته عبقات عطر العلم والمعرفة ، والبحث والتأليف.

فأبوه رحمه‌الله من فضلاء عصره ، وكذا ما ذكر عن جديه وعن باقي إخوته ، ولذا فقد التصق بالعلم التصاقا والتزمه التزاما.

فقد أخذ على أبيه قراءة الفنون العربية والفقه حتى عام ٩٢٥ ه عندما ابتلي باليتم مبكرا ، فشد الرحال نحو ميس حيث أخذ هناك على الشيخ علي بن عبد العالي «شرائع الإسلام» و «الإرشاد» وأكثر القواعد ، ثم حدا نحو كرك عام ٩٣٣ ه وأخذ هناك على السيد حسن بن جعفر جملة من العلوم مثل «قواعد ميثم البحراني» في الكلام والتهذيب في أصول الفقه ، و «العمدة الجلية في الأصول الفقهية» وغيرها.

وبعدها قصد نحو دمشق وأخذ فيها على الشيخ شمس الدين محمد بن مكي ، والشيخ أحمد بن جابر ، فقرأ كتاب «شرح الموجز النفيسي» وكتاب «غاية القصد في معرفة الفصد» وهما من كتب الطب ، وكذا «فصول الفرغاني» وبعض «حكمة الاشراق» للسهروردي وغيرها.

وأما مصر فشهدته عام ٩٤٢ ه ، فأخذ فيها على جملة من فضلاء علمائها مثل الشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي ، والملا حسين الجرجاني ، والملا محمد الأسترآبادي وغيرهم.

وذكر أن «همته ارتفعت به إلى طلب التدريس في المدارس العامة ، فسافر إلى استانبول لذلك ، وقال قبولا تاما من أرباب الدولة ، وأعطي تدريس المدرسة النورية في بعلبك ـ ولم يحتج إلى شهادة قاضي صيدا ، كما هو معمول عليه في ذلك الوقت ، ولا يمكن أخذ التدريس بدونه وذلك بسبب تأليفه خلال (١٨) يوما رسالة في عشر مسائل من مشكلات العلوم ـ فأقام فيها خمس سنين يدرس في المذاهب الخمسة ، ويعاشر كل فرقة بمقتضى مذهبهم ، والحق أن ذلك اقتدار عظيم ، وعلو همة ما عليه

٢١٤

من مزيد ، لا سيما مع شدة الخوف في تلك الأعصار بسبب التعصبات المذهبية» (١٠).

وهكذا فقد كان رحمه‌الله تعالى له باعا طويلا في كل شئ ، فأتحف بعلمه الغزير طلاب العلم ومريدي البحث فتخرج منهم جملة من الفضلاء والعلماء ، أمثال :

١ ـ السيد نور الدين علي بن الحسين العاملي.

٢ ـ السيد علي بن الحسين بن محمد الحسيني العاملي.

٣ ـ الشيخ أبو القاسم نور الدين علي بن عبد الصمد العاملي.

٤ ـ السيد علي بن أبي الحسن الموسوي العاملي.

٥ ـ السيد محمد بن الحسن (الملقب بالحر العاملي المشغري).

وبقي رضوان الله تعالى عليه شعلة متقدة تلقي ببريقها اللامع نورا يضئ زوايا العتمة ، وينشر الخير في كل مكان ، حتى ضاق به حساده ، وذوي الأفكار المنحرفة ، فأقدموا على الوشاية به إلى السلطان فأرسل في طلبه ، حيث قبض عليه بالمسجد الحرام بعد فراغه من صلاة العصر ، وأخرجوه إلى بعض دور مكة ، وبقي محبوسا هناك شهرا وعشرة أيام ، ثم ساروا به على طريق البحر إلى القسطنطينية وقتلوه بها ، وبقي مطروحا ثلاثة أيام ، ثم ألقوا جسده الشريف في البحر ... وأخذ قاتله رأسه إلى السلطان فأنكر ذلك عليه .. وقتله (١١) (١٢).

* * *

والنسخة المعتمدة هي التي في مكتبة الإمام الرضا عليه‌السلام في مشهد ، برقم ٨٨٨٩ ع ، تاريخها سنة ٩٨٩ ه ، والحمد لله رب العالمين.

أسامة آل جعفر

__________________

(١٠) أعيان الشيعة ٧ : ١٤٥.

(١١) لؤلؤة البحرين : ٣٣.

(١٢) لم نذكر إلا شذرات متفرقة من ترجمته ، ولمزيد من البحث ، أنظر أمل الآمل : ٨٥ ، رياض العلماء ٣ : ٣٨٧ ، ريحانة الأدب ٣ : ٢٨٠ ، الأعلام ـ للزركلي ـ ٣ : ٦٤ ، الفوائد الرضوية : ١٨٦ ، مصفى المقال : ١٨٣ ، إيضاح المكنون ٤ : ٤٧٩ ، الذريعة في فتفرقا ضمن مؤلفاته ، أعيان الشيعة ٧ : ١٤٣ ، لؤلؤة البحرين : ٢٨.

٢١٥

٢١٦

٢١٧

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله حق حمده ، والصلاة على محمد نبيه وعبده ، وعلى آله وصحبه وجنده ، والتابعين لهم بإحسان من بعده وسلم تسليما.

وبعد :

فقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فيما رواه عن (١) الخاص والعام من جوامع الكلام وأبلغ العظات المنبهة للنيام ـ : «الدنيا مزرعة الآخرة» (١٢).

فنظرنا بعين الاعتبار وتأملنا بطريق الاستبصار ، فرأينا أن المزرعة تحتاج إلى بذر صاف من شوائب الأغيار خالص عن مخالطة ما يوجب التلاشي والبوار ، واقعا في وقته المعد لصلاحه ، مقدما عليه ما يحتاج إليه من الشرائط ورفع الموانع ، مراعيا حاله ، كذلك إلى أوان حصاده ، وإن أخل بشئ من ذلك أدى الاخلال إلى فساده.

ولا يخفى أن الزرع في هذه الدار للآخرة إنما هو الأعمال الصالحة ، ومتاجرها الرابحة ، وزمان ـ هذه المعاملة : العمر ، وكسبها وتحصيل غلتها : الجنة ، الدائم أكلها ، الخالية عن شوب (٣) الأكدار والنقائص ، والهم والغم ، والحر والبرد ، وغير ذلك من المنافيات ، فهي سرور لا غم معه ، وبقاء لا فناء معه ، ولذة لا ألم معها ، وغنى لا فقر معه ، وكمال لا نقصان معه ، وعز لا ذل معه.

وبالجملة ، كل ما يطلبه الطالب ، أو يتصور طلبه ، فهو حاصل فيها ، وكل ما يهرب عنه ويرد العبد عنه فهو منفي عنها ، وحيث كان البذر هو الطاعات والمعارف ، فمحل البذر وأرضه هو النفس الإنسانية ، وتكليفها بهذه العبادات بمنزلة تقليب الأرض وإعدادها للزراعة وسياقة الماء إليها.

__________________

(١) كذا في المخطوط ، والصواب : عنه.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٣٦٧ / ٦٦ ، كشف الخفاء ومزيل الالباس ١ : ٤٩٥ / ١٣٢٠.

(٣) الشوب : الخلط. وقد شبت الشئ أشوبه فهو مشوب.

٢١٨

والنفس المستغرقة بحب الدنيا والميل إليها كالأرض السبخة ، التي لا تقبل الزرع والإنبات بمخالطة الأجزاء الملحية ، ويوم القيامة يوم الحصاد ، ولا حصاد إلا من زرع ، ولا زرع إلا من بذر.

كما لا ينتفع البذر في أرض سبخة كذلك لا ينتفع إيمان ولا أعمال مع خبت النفس وسوء الأخلاق ، وينبغي للعاقل إذا أراد أن يرجو ثواب الله تعالى في الآخرة أن يقيس رجاءه لذلك برجاء صاحب الزرع ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل الدنيا مزرعة الآخرة بهذا المعنى.

فكما أن من طلب أرضا طيبة وبذرها في وقت الزراعة بذرا غير متعفن ولا متآكل ، تنم أخذه بالماء العذب وسائر ما يحتاج إليه في أوقاته ، ثم طهره عن مخالطة ما يمنع نباته من شوك ونحوه ، ثم انتظر من فضل الله رفع الصواعق والآفات المفسدة إلى تمام زرعه وبلوغ غايته ، كان ذلك رجاء في موضعه ، واستحق اسم الرجاء إذا كان في مظنة أن يفوز بمقاصده من ذلك الزرع ، ومن بذره في الأرض كذلك ، لا أنه بذر في آخر الوقت ، ولم يبادر إليه في وقته ، أو قصر في بعض أسبابه ، ثم أخذ ينتظر ثمرة ذلك الزرع ، ويرجو سلامته فهو في جملة الراجين أيضا ، ولكنه لا يصل إلى مقدار محصول الأول.

ومن لم يحصل على بذر صالح أو بذر في أرض سبخة ، أو ذات شاغل عن الانبات ، ثم أخذ ينتظر الحصاد فذلك الانتظار حمق ، والرجاء كاذب ، وهكذا حال العبد ، إن بذر المعارف والأعمال الصالحة في أرض نفسه في وقته وهو مقبل (٤) العمر ، وداوم على سقيه بالطاعات ، واجتهد في طهارة نفسه عن شوك الأخلاق الردية ، التي تمنع نماء ما زرع ، وانتظر من فضل الله أن ينته على ذلك إلى زمان وصوله وحصاد عمله ، فذلك الانتظار هو الرجاء المحمود ، وهو درجة السابقين.

وإن ألقى في نفسه لكنه قصر في بعض أسبابه ، أما بتقصيره في تنقية البذر ،

__________________

(٤) كذا في المخطوط ، والصواب : في مقتبل.

٢١٩

أو في السقي ، أو غير ذلك مما يوجب ضعفه ، ثم أخذ منتظرا وقت الحصاد ، ويتوقع من فضل الله أن يبارك له فيه ، ويعتمد على أنه الرزاق ذو القوة المتين ، فيصدق عليه أيضا أنه راج ، لكن مرتبته بعيدة عن مرتبة الأول ، ورجاءه أضعف.

وإذا لم يزرع في نفسه أصلا ، أو زرع ولم يسقه بماء الطاعة ، أو ترك نفسه مشغولة بشوك الأخلاق المذمومة الردية ، وانهمك في طلب آفات الدنيا ، ثم انتظر المغفرة والفضل من الله تعالى ، فذلك الرجاء غرور ، وليس برجاء في الحقيقة.

وهذا هو القائل يوم القيامة يوم الحسرة والندامة (يا ليتني قدمت لحياتي * فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد) (١٥).

وفي هذا المعنى قيل :

إذا أنت لم تزرع وعاينت حاصدا

ندمت على التفريط في زمن البذر (٦)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأحمق من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله» (٧).

وقال تعالى (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا) (٨).

وإلى المراتب الثلاث أشار علي عليه‌السلام في كلامه بقوله : «ساع سريع نجا ، وطالب بطئ رجا ، ومقصر في النار» (٩).

__________________

(٥) الفجر ٨٩ : ٢٤ ـ ٢٥.

(٦) العقد الفريد ٣ : ١٣٣ ، كشف الخفاء ومزيل الالباس ١ : ٤٩٦ ، وفيهما بدل ، «عاينت : أبصرت» ونسبه صاحب العقد إلى خالد بن معدان.

(٧) سنن ابن ماجة ٢ : ١٤٣٢ / ٤٢٦٠ ، مسند أحمد ٤ : ١٢٤ ، مستدرك الحاكم ١ / ٥٧ ، وكذا ٤ : ٢٥١ ، الجامع الصحيح ٤ : ٦٣٨ / ٢٤٥٩) وفيها جميعا بدلا عن «الأحمق» : «العاجز».

(٨) الأعراف ٧ : ١٦٩.

(٩) من خطبة له عليه‌السلام لما بويع في المدينة مطلعها : «ذمتي بما أقول رهينة ، وأنا به زعيم ...».

أنظر : نهج البلاغة ـ تنظيم الدكتور صبحي الصالح ـ ص ٥٨ ، ومثله في المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة : ١٦.

٢٢٠