أنوار الولاية الساطعة في شرح الزيارة الجامعة

السيّد محمّد الوحيدي

أنوار الولاية الساطعة في شرح الزيارة الجامعة

المؤلف:

السيّد محمّد الوحيدي


المحقق: الشيخ هاشم الصالحي
المترجم: الشيخ هاشم الصالحي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: انتشارات محمّد الوفائي
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6013-03-1
الصفحات: ٣٠٠

من الآثار والاخبار في بيان معنى التوحيد ، وبيان صفاته تعالى سواء كانت صفات الجلال أو الجمال ، الصفات الثبوتية والسلبية ، ووقد ورد في تفسير الفقرات الآنفة الذكر روايات تذكر في مضمونها أنّهم عليهم‌السلام عرفوا الله عزّ وجلّ ووحّدوه قبل جميع الكائنات ، وقد أخذت الملائكة وسائر الخلائق منهم مراتب المعرفة والتسبيح والتقديس والتهليل ، وقالوا في مقام المعرفة : «كيف أعبد رباً لم اره».

وعن الحسين بن علي عليه‌السلام قال : سُئل أمير المؤمنين عليه‌السلام فقيل : هل رأيت ربَّك يا أمير المؤمنين؟

قال الإمام علي عليه‌السلام : «وكيف أعبد من لم أره؟ لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان» (١).

فتراه القلوب بعين البصيرة ، وإلّا فإنّ الجسيمة والمخلوقية من لوازم الرؤية وسبحانه منزّه عن ذلك.

والمراد من الفقرة في دعاء عرفة لسيّد الشهداء عليه‌السلام ، حينما يقول : «عميت عين لا تراك ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً» (٢). وهي رؤية القلب ومعرفته واشارة الى كمال مرتبة المعرفة ، وهذه الميزة لم تتوفر في غيرهم عليهم‌السلام بالمعنى الحقيقي.

أو يكون المراد ان الأئمّة عليهم‌السلام مظاهر أسماء الله الحسنى ، وصفاته العليا ، ومن عرف فيهم عليهم‌السلام العلم والجود والكرم والقدرة والاحسان وغيرها من الصفات الحميدة فقد عرف الله سبحانه وتعالى ، ومن لم يعرفهم عليهم‌السلام عجز عن معرفة الله تعالى أيضاً.

ولو أخذنا كلمة «محال» مفرداً كما جاءت في بعض الروايات بلفظ مفرد ، فهو

__________________

(١) نهج البلاغة : خطبة ، ١٧٩.

(٢) مفاتيح الجنان : دعاء العرفة.

٦١

أشارة الى أنّ الأئمّة عليهم‌السلام كالنفس الواحدة في معرفة الله تعالى ، لأن هذه الصفة لا تقبل الاختلاف. خلافاً لبقية الصفات ، وورد هذا المعنى في الاخبار الشريفة ، أنهم عليهم‌السلام نور واحد ، ولا يخلو ذلك من تأييد ما قدمنا والله العالم.

(وَمَسَاكِنِ بَرَكَةِ اللهِ)

فإنّ أهل البيت عليهم‌السلام مواضع ومساكن خيرات وبركات الله عزّ وجلّ ، لانّهم عليهم‌السلام لهم اللياقة والقابلية لنزول البركات والخيرات عليهم وسرايتها الى النّاس بواسطتهم ، فترى في كثير من الموارد حصول البركة الكثيرة مع قلة الماء والزرع ببركة وجودهم الشريف ولا يمكن ان يتحقق ذلك إلّا بالاعجاز والامور الخارقة للعادة.

كما حلّت البركة في الطعام القليل ببركة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في موارد كثيرة منها : لما نزلت الآية الشّريفة : (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١) جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني عبد المطلب وهم يومئذ اربعون رجلاً ، الرجل منه يأكل المسنّة ويشرب العسن ، فأمر عليّاً عليه‌السلام برجل شاة فأدمها (٢) ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ادنو بِسم الله» فدنا القوم عشرة عشرة ، فأكلوا حتى صدروا ، ثمّ دعا بعقب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اشربوا بسم الله» فشربوا حتى رووا ، فبدرهم ابو لهب فقال : ما سحركم به الرجل ، فسكت صلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ ولم يتكلّم (٣).

ومنها : نزول البركة على مزرعة أبي الغيث ببركة دعاء الإمام موسى بن جعفر

__________________

(١) الشعراء : ٢١٤.

(٢) أي جعلها إداماً ، والادام طبخ اللحم بالماء.

(٣) ذكره العلّامة الطّباطبائي رحمه الله في تفسيره الميزان : ج ١٥ ، ص ٣٣٥ ، واليعقوبي في تاريخه : ج ٣ ، ص ٢٧ ، بألفاظ اُخرى.

٦٢

الكاظم عليه‌السلام (١).

وورد في معاجز الإمام الجواد عليه‌السلام أنّه لما توجه من بغداد منصرفاً من عند المأمون ومعه أُمّ الفضل قاصداً المدينة صار الى شارع باب الكوفة ومعه الناس يشيعونه ، فانتهى إلى دار المسيب عند مغيب الشمس فنزل ودخل المسجد وكان في صحنه نبقة (٢) لم تحمل بعد ، فدعا بكوز فيه ماء فتوضأ في أصل النبقة.

وقام عليه‌السلام وصلى بالناس صلاة المغرب ، فقرأ في الاُولى منها الحمد وإذا جاء نصر الله ، وقرأ في الثّانية الحمد وقل هو الله أحد ، وقنت قبل ركوعه فيها ، وصلّى الثّالثة وتشهّد وسلّم ، ثمّ جلس هُنيهة يذكر الله تعالى ، وقام من غير تعقيب فصلّى النّوافل أربع ركعات ، وعقّب بعدها وسجد سجدتي الشكر ثم خرج. فلمّا انتهى الى النّبقة رأها النّاس وقد حملت حملاً حسناً فتعجبوا من ذلك واكلوا منه فوجدوا نبقاً لا عجم له» (٣).

ونقل عن الشّيخ المفيد رحمه الله أنّه قال : وقد أكلت من ثمرها وكان لا عجم له أي لا نواه فيه (٤).

وقد يكون المراد من هذه الجملة «ومساكن بركة الله» أنّ الله عزّ وجلّ ينزل بركاته وارزاقه الدنيوية والمعارف والحقائق والعلوم الالهية على الناس والخلائق بواسطة الائمّة الطاهرين عليهم‌السلام.

يقول الإمام الباقر عليه‌السلام : «إن المؤمن بركة على المؤمن ، وأن المؤمن حجّة

__________________

(١) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٤٨ ، ص ٣٩ ، نقلاً عن كشف الغمّة ج ٣ ، ص ١١ ، أعلان الشيعة : للعلامة السيد محسن الامين رحمه الله ، ج ٢ ، ص ٧.

(٢) النّبقة : النبق ـ بفتح النون وكسر الباء ، وقد تسكّن : ثمر السّدر «النّهاية ـ نبق ـ ج ٥ ، ص ١٠».

(٣) الارشاد : للشّيخ المفيد رحمه الله ، ح ٢ ، ص ٢٨٨ ، بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٥٠ ، ص ٨٩ ، ومستدرك العوالم : للشّيخ عبد الله البحراني الاصفهاني رحمه الله ، ج ٢٣ ، ص ١٣٩.

(٤) الارشاد : للشّيخ المفيد رحمه الله ، ج ٢ ، ص ٢٨٩ ، مناقب آل أبي طالب عليهم‌السلام : لابن شهر اشوب ج ٤ ، ص ٣٩٠.

٦٣

الله» (١).

وأهل البيت عليهم‌السلام أكمل الخلق إيماناً.

(وَمَعَادِنِ حِكْمَةِ اللهِ)

وردت كلمة الحكمة بمعنى العلم والقرآن والفقه والموعظة وغيرها ، وقال بعض العلماء : المراد من الحكمة علم يردع الإنسان من إرتكاب الرذائل ، ويرفع مكانته عند نفسه وعند الناس من الإقدام على المعاصي وقال آخرون : المراد من الحكمة الفهم والعقل كما قال الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) (٢).

خلاصة الكلام : الحكمة بأي معنىً كانت ، فان الأئمّة الاطهار عليهم‌السلام هم أهل لها ولحملها ، لأن العلوم والحكم مأخوذة من الله عزّ وجلّ ، والائمّة الاطهار عليهم‌السلام معدن الحكم الالهية روي عن خيثمة قال : قال لي الإمام الصّادق عليه‌السلام :

«يا خيثمة نحن شجرة النّبوة ، وبيت الرّحمة ، ومفاتيح الحكمة ، ومعدن العلم ، وموضع الرّسالة ، ومختلف الملائكة ، وموضع سر الله ، نحن وديعة الله في عباده ، ونحن حرم الله الأكبر ، ونحن ذمّة الله ، ومن خفرها (٣) فقد خفر ذمّة الله وعهده» (٤).

(وَحفَظَةِ سِرِّ اللهِ)

حفظ الاسرار الالهية أمر يعجز عن حمله إلّا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن امتحن الله قلبه للايمان أمثال سلمان الفارسي (المحمّدي) ، وكميل بن زياد ،

__________________

(١) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢ ، ص ١٨٣.

(٢) لقمان : ١٢.

(٣) خفرها : أي خفر ذمتنا والخفر ، نقض العهد.

(٤) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٢٢١.

٦٤

وجابر الجعفي (عليهم رضوان الله جميعا).

روي عن جابر رحمه الله عن الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إنّ حديث آل محمّد صعب مستصعب لا يؤمن به إلّا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للايمان ، فما ورد عليكم من حديث آل محمّد صلوات الله عليهم فلانت له قلوبكم وعرفتموه فاقبلوه ، وما اشمأزت منه قلوبكم وأنكرتموه فردّوه إلى الله وإلى الرّسول وإلى العالم من آل محمّد وإنما الهالك ان يحدث أحدكم بشيء منه لا يحتمله ، فيقول : والله ما كان هذا والله ما كان هذا ، والانكار هو الكفر» (١).

ورد عن أبي الصامت قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ حديثنا صعب مستصعب ، شريف كريم ، ذكوان ذكيٌّ وعر ، لا يحتمله ملك مقرّبُ ، ولا نبيٌّ مرسل ، ولا مؤمن ممتحن».

قلت : فمن يحتمله فداك؟

قال عليه‌السلام : «من شئنا يا أبا الصامت».

قال أبو الصامت : فظننت أنّ لله عباداً هم أفضل من هؤلاء الثلاثة (٢).

توضيح ذلك : سبب عدم حمل الآخرين هذه الاحاديث سوى من اشارت إليهم الروايات ومنهم هؤلاء الثلاثة باستثناء نبيّنا الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يرجع إلى أن المراد من هذه الاحاديث هو الاسرار الغيبية ، والامور العجيبة التي لا طاقة لأحد على حملها سواهم.

ورد عن جابر رحمه الله قال : حدثني أبو جعفر ـ الإمام الباقر ـ عليه‌السلام تسعين الف

__________________

(١) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٤٠١ ، بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢ ، ص ١٨٩.

(٢) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ح ٢ ، ص ١٩٢.

٦٥

حديث لم احدث بها أحداً قط ولا اُحدث بها أحداً (١).

قال جابر رحمه الله : فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام جعلت فداك أنّك قد حملتني وقراً عظيماً بما حدثني به من سرّكم الذي لا احدث به أحداً ، فربّما جاش في صدري حتى يأخذني شبه الجنون ، قال الإمام عليه‌السلام :

«يا جابر فاذا كان ذلك فاخرج الى الجبال فاحفر حفيرة ودل رأسك فيها ثمّ قل حدثني محمّد بن عليّ بكذا وكذا» (٢).

يقول المؤلف : المراد من جابر في هذه الروايات هو جابر بن يزيد الجعفي رحمه الله ، لا الانصاري رحمه الله واعتبره ابن شهر اشوب في مناقبه والكفعمي في جنّته وأنّه باب الامام الباقر عليه‌السلام والمراد من الباب بابهم عليهم‌السلام في علومهم واسرارهم.

ونقل عن اجبر الجعفي رحمه الله كرامات كثيرة :

منها : أنّه سأله قوم أن يعينهم في بناء مسجدهم ، قال لهم جابر رحمه الله : ما كنت بالذي اعين في بناء شيء وقع منه رجل مؤمن فيموت.

فلمّا أراد البنّاء بناء المسجد زلّت قدمه فوقع فمات (٣).

ومنها : أنّه أخبر عن نعجةٍ أنّها دعت حملها فلم يجيء فقال له : تنح عن ذلك الموضع فإنّ الذئب اخذ أخاك معه.

فسألوا من أهل المنطقة فيما إدعاه جابر فصدّقوه على قوله (٤).

__________________

(١) سفينة البحار : للمحدّث القمي رحمه الله ، ج ١ ، ص ١٤١ ، عن رجال الكشي ، وقريب منه في روضة الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ٨ ، ص ١٥٧.

(٢) سفينة البحار : للمحدّث القمي رحمه الله ، ج ١ ، ص ١٤١ ، عن رجال الكشي ، وقريب منه في روضة الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ٨ ، ص ١٥٧.

(٣) سفينة البحار : للمحدّث القمي رحمه الله ، ج ١ ، ص ١٤١ ، عن رجال الكشي ، وقريب منه في روضة الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ٨ ، ص ١٥٧.

(٤) سفينة البحار : للمحدّث القمي رحمه الله ، ج ١ ، ص ١٤١ ، عن رجال الكشي ، وقريب منه في روضة الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ٨ ، ص ١٥٧.

٦٦

ومنها : أنّه أخذ خاتم رجل رمى به في الفرات ثم أقبل الماء يعلو بعضه على بعض حتى اذا قرب تناوله وأخذه (١).

ويظهر من بعض القرائن والاحوال أنّ من جملة الاسرار والعلوم التي كانت عند جابر رحمه الله عن الأئمّة عليهم‌السلام جانب من علم الطبيعة (الفيزياء ، والكيمياء) واسرار من عالم الطبيعة التي كانت غير مناسبة لدرك وفهم العصر الذي عاش فيه رحمه الله.

نقل أحد العلماء أنّه ذهب الى لندن عاصمة انكلترا وتفقد مكتبتها لندن فرأى فيها مجموعة من الكتب الخطية عن جابر الجعفي روى فيها المأثور من الاحاديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام في العلوم الغريبة والصّنائع العجيبة تفتخر الامم الحضارية اليوم بسبب وجود هذه الذخائر الثمينة عندها على سائر الامم.

(وَخَزَانَةِ عِلْمِ اللهِ)

ورد عن سورة بن كليب قال : قال لي أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «والله إنا لخزان الله في سمائه وأرضه ، لا على ذهب ولا على فضة إلّا على علمه» (٢).

وكذا عن سدير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : جعلت فداك ما أنتم؟

قال الامام عليه‌السلام : «نحن خُزّان علم الله ، ونحن تراجمة وحي الله ، ونحن الحجّة البالغة على من دون السّماء ومن فوق الارض» (٣).

وعن أبي بصير قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقلت له : جعلت فداك إنّي

__________________

(١) سفينة البحار : للمحدّث القمي رحمه الله ، ج ١ ، ص ١٤١ ، عن رجال الكشي ، وقريب منه في روضة الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ٨ ، ص ١٥٧. نفس المصدر.

(٢) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ٨ ، ص ١٥٧ ، ج ١ ، ص ١٩٢ ، بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٦ ، ص ١٥ ، بصائر الدّرجات : ص ٢٩.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليٌّ خازن علمي» شرح نهج البلاغة : لابن أبي الحديد ، ج ٢ ، ص ٤٤٨.

(٣) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ٨ ، ص ١٥٧ ، ج ١ ، ص ١٩٢ ، بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٦ ، ص ١٥ ، بصائر الدّرجات : ص ٢٩.

٦٧

أسألك عن مسألة ، ها هنا أحد يسمع كلامي؟ (١)

قال ابو بصير : فرفع الإمام الصادق عليه‌السلام ستراً بينه وبين بيت آخر فأطلع فيه ثم قال : «يا أبا محمّد سل عمّا بدا لك».

قلت : جعلت فداك إنَّ شيعتك يتحدثون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علّم عليّاً عليه‌السلام باباً يفتح له فيه ألف باب؟

فقال الإمام عليه‌السلام : «يا أبا محمّد علم رسول الله عليّاً عليه‌السلام ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب».

قلت : هذا والله العلم.

فنكت الإمام عليه‌السلام ساعة في الأرض ثم قال : «إنّه العلم وما هو بذاك» ثم قال عليه‌السلام : «يا أبا محمّد وإنّ عندنا الجامعة وما يدريهم مالجامعة».

قلت : جعلت فداك وما الجامعة؟

قال الإمام عليه‌السلام : «صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإملائه (٢) من فلق فيه (٣) وخط علي بيمينه ، فيها كلّ حلال وحرام وكل شيء يحتاج النّاس إليه حتى الأرش في الخدش وضرب بيده إليّ فقال : تأذن لي؟ (٤)

قلت : جعلت فداك إنّما أنا لك فافعل ما شئت.

قال أبو بصير : فعمزني بيده قال عليه‌السلام : «حتى أرش هذا» ، كأنّه مغضب.

قلت : هذا والله العلم.

قال الإمام عليه‌السلام : «إنّه العلم وليس بذاك».

ثم سكت ساعة ، ثم قال : «وإنّ عندنا الجفر وما يدريهم ما الجفر؟

__________________

(١) كأنه يريد أن يسأله عن أمرٍ ينبغي صونه عن الاجنبي.

(٢) إملائه : يعني كتبه الإمام علي عليه‌السلام بأملاء من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) من فلق فيه : الى شق فمه.

(٤) تأذن لي : أي في غمزي إياك بيدي حتى تجد الوجع في بدنك.

٦٨

قلت : وما الجفر؟

قال الإمام عليه‌السلام : «وعاء من أدم فيه علم النّبيّين والوصيين ، وعلم العلماء الذين مضوا من بني اسرائيل».

قلت : إن هذا هو العلم.

قال الإمام عليه‌السلام : «إنّه العلم وليس بذاك».

ثم سكت ساعة ثم قال : وإنّ عندنا لمصحف فاطمة عليها‌السلام وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليها‌السلام؟

قلت : وما مصحف فاطمة عليها‌السلام؟

قال الإمام عليه‌السلام : «مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد» (١).

قلت : هذا والله العلم.

ثم سكت ساعة ثم قال عليه‌السلام : «إنّ عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة».

قلت : فداك هذا والله العالم.

قال الإمام عليه‌السلام : إنّه العلم وليس بذاك.

قلت : جعلت فداك فأي شيّ العلم؟

قال الإمام عليه‌السلام : «ما يحدث بالليل والنهار الأمر من بعد الأمر ، والشيء بعد الشيء ، الى يوم القيامة» (٢).

__________________

(١) يعني فيه اسرار إلهية اخرى وعلوم عجيبة لا يعلمها أحد.

(٢) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٣٣٨ ـ ٣٤٠ ، الاختصاص : للشيخ المفيد رحمه الله ، ص ٢٨٣.

٦٩

(وَحَمَلَةِ كِتابِ اللهِ)

فانّ الأئمّة الهدى عليهم‌السلام هم الحملة الواقعيون للقرآن الكريم وما جاء فيه من علم الاولين والاخرين ، ولأنّهم حملة علوم القرآن وأسراره ، ويعلمون ظاهره وباطنه ، ويقفون على خفايا أسراره ، ويحفظون ألفاظه دون زيادة ولا نقيصة ولا تغيير وتبديل ، ورد في رواية عبد الله بن بشير سمعوا الإمام الصادق عليه‌السلام يقول :

«إنّي لأعلم ما في السّموات وما في الأرض ، وأعلم ما في الجنّة وأعلم ما في النّار ، وأعلم ما كان وما يكون».

قال ابن بشير ، ثم سكت هنية ، فرأى أن ذلك كبر عليَّ من سمعه منه. فقال : «علمت ذلك من كتاب الله عزّ وجلّ حيث يقول : (تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) (١) (٢).

وعن محمّد بن الفضل قال سألت الصادق عليه‌السلام عن قوله تعالى عزّ وجلّ : (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (٣).

قال الإمام عليه‌السلام : «هم الأئمّة عليهم‌السلام خاصّة» (٤).

وعن أبي ولّاد قال : سألت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام عن قوله الله عزّ وجلّ : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) (٥).

قال الإمام عليه‌السلام : «هم الائمّة عليهم‌السلام» (٦).

__________________

(١) النّحل : ٨٩.

(٢) تفسير نو الثقلين : للحويزي رحمه الله ، ج ٣ ، ص ٧٦ ، وبسند آخر في اصول الكافي وعيون اخبار الرضا عليه‌السلام.

وقد ورد عن علي عليه‌السلام أنه قال : «سلوني عن شيء يكون الى يوم القيامة إلّا أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلّا وأنا أعلم ، أبليل نزلت أم بنهار ، في سهل أم في جبل» الاتقان : ج ٢ ، ص ٣١٩ ، تهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٣٣٨ ، الباري ، ج ٨ ، ص ٤٨٥ ، كلاهما لابن حجر ، وعمدة القاري للعيني ، ج ٩ ، ص ١٦٧ ، ومفتاح السعادة : ج ١ ، ص ٤٠٠ ، وينابيع المودة : ص ٧٤ ، وابن سعد في الطبقات : ج ٢ ، ص ١٠١.

(٣) العنكبوت : ٤٩.

(٤) تفسير نور الثّقلين : للحويزي رحمه الله ، ج ٤ ، ص ١٩٥ ـ تفسير الصافي : للشّيخ الفيض الكاشاني رحمه الله : ج ٤ ، ص ٥. ٣١ ، اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ح ١ ، ص ٢١٤.

(٥) البقرة : ١٢١.

(٦) تفسير نور الثقلين : ج ١ ، ص ١٢٠ ، عن اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٣١٥.

٧٠

(وَأوْصِياءِ نَبِيَّ اللهِ)

أنّ أهل البيت عليهم‌السلام هم خلفاء واوصياء النّبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من بعده ، لما ظهرت على ايديهم من المعاجز والامور الخارقة للطبيعة ، ودلت عليه النصوص المتواترة التي رويت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من طرق العامّة والخاصّة ، وأهل السنة والجماعة والتي بلغت ستين حديثاً ، وقد صرّحت بعض هذه الروايات بالاسماء المقدّسة للأئمّة عليهم‌السلام الى قائم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله روى جابر بن سمرة عن النّبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال سمعت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : يكون بعدي اثنا عشر أميراً ، وقال كلمة لم اسمعها فقال القوم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كلّهم من قريش» (١).

وورد في صحيح البخاري مضمون هذا ال حديث عن جابر وطرق اُخرى ولكن ذكرت بدلاً عن اثنى عشر أميراً ، إثنى عشر خليفة (٢).

ونقل ابن عباس أنّه قال حين حضرته صلى‌الله‌عليه‌وآله الوفاة : إذا حدث ما نعوذ منه فالى من؟ فأشار صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليّ عليه‌السلام وقال :

«الى هذا فإنّه مع الحقّ والحقّ معه ، ثمّ يكون من بعده أحد عشر إماماً مفترضة طاعتهم كطاعته» (٣).

وروي عن المثنى أنّه سأل عائشة : كم خليفة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : أخبرني باثني عشر أسماؤهم عندي مكتوبة باملائه ، فقلت : اعرضيها عليَّ فأبت (٤).

ذكر المرحوم شبر رحمه الله في كتابه الشّريف «الانوار اللامعة» : ومن المعلوم أنّه لا يمكن حمل هذه الأخبار على خلفاء الجور لزيادة عددهم من قريش على ذلك

__________________

(١) الخصال : للشّيخ الصّدوق رحمه الله ، ج ٢ ، ص ٤٧ ، الجامع الصحيح المسمى بصحيح مسلم : ج ٦ ، ص ٣.

(٢) نفس المصدر : أخرجه البخاري : ج ٩ ، ص ٨١.

(٣) الصّراط المستقيم الى مستحقي التّقديم : للعلّامة المتكلم الشّيخ زين الدّين أبي محمّد علي بن يونس العاملي النّباطي البياضي رحمه الله ، ج ٢ ، ص ١٢١.

(٤) نفس المصدر : ج ٢ ، ص ١٢٢.

٧١

أضعافاً مضاعفة مع أن جملة منها صريحة في اتصال الاثني عشر بآخر الزّمان ، وفي بعضها أنّ آخرهم المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) (١).

وذكر صاحب كتاب مستطرفات الآثار ما يحكي عن بعض الأمراء أنّه لمّا عثر على هذه الاخبار من طرقهم سأل علمائهم مورداً عليهم أنّه إن عنى مطلق قريش فعدد سلاطينهم فوق ذلك أضعافاً مضاعفة ، وإن أراد غير ذلك فبيّنوه فاستمهلوه عشرة أيّام فأمهلهم ، فلمّا حلّ الوعد تقاضاهم الجواب ، فحاروا وافتقد منهم رجلاً مبرزاً فطلب الامان فأعطاه ، فقال : هذه الأخبار لا تنطبق إلّا على مذهب الشيعة الاثنى عشرية ولكنّها أخبار آحاد لا توجب العمل فرضي بقوله وأنعم عليه «وهكذا أنطقه الله بالحقّ» : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ) (٢).

ولعمري أنها أخبار متواترة قد إتفق عليها الفريقان وحفظتها كتبهم وصحاحهم مع اقتضاء الحال اخفائها واعدامها ، هذا أدل دليل واصدق شاهد على صدقها وصحتها ، وليتهم أتوا بخبر واحد يدل على حقيقة خلافة أئمّتهم وإن شهد الوجدان وقام البرهان على خلافه مع أنهم رووا بأسانيد عديدة عنه أنّه قال : «من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية» (٣).

وفيه أبين دلالة على بقاء الائمّة إلى إنقضاء التكليف وان الامامة من اصول الدين وهو لا ينطق إلا على مذهبنا وروي ان هذا الحديث صار سبباً لتشيع بعض

__________________

(١) علل الشرايع : للشّيخ الصّدوق رحمه الله ، ص ٦.

(٢) الملك : ١١.

(٣) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٣ ، ص ٨٩ ، وورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمتنا : أيضاً بهذا النص : «من مات وليس له امام مات ميتة الجاهلية». وراجع بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ح ٢٣ ، ص ٨٨ ، واصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ٢٧٦ ، المقتطفات : ابن رويش ، ج ٢ ، ص ١١٨.

وفي ذلك قال الحِميري :

فمن لم لكن يدري إمام زمانه

ومات فقد لاقى المنية بالجهل

٧٢

المخالفين» (١).

إنتهى كلام المرحوم العلّامة شبر رحمه الله.

(وَذُرِّيَةِ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)

وهل تشمل هذه الجملة أمير المؤمنين عليه‌السلام لجهة التّغليب أو هي مختصّة بغيره من الأئمّة عليهم‌السلام ، وعلى أيّ حال كون الأئمّة عليهم‌السلام من ذرّية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا شك فيه لانّهم أولاد فاطمة عليها‌السلام وفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأولاد البنت أيضاً كأولاد الولد دون فرق كما عدّ الله عزّ وجلّ عيسى عليه‌السلام من ذراري نوح عليه‌السلام حيث قال عزّ وجلّ قائلاً :

(وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ) (٢).

وكما عدّ الله عزّ وجلّ في آية المباهلة الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما‌السلام من ابناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : (قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ) (٣).

أجمع المفسرون في تفسير هذه الآية الشّريفة أن المراد من (ابناءنا) الامام الحسن والامام الحسين عليهما‌السلام ومن (نساءنا فاطمة) عليها‌السلام ومن أنفسنا (رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام).

ورد في ذيل رواية أبي الجارود عن الإمام الباقر عليه‌السلام في إستدلال أنّ الامام الحسن والإمام الحسين عليهما‌السلام من أولاد الرّسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه عليه‌السلام تلا هذه الآية

__________________

(١) الانوار اللامعة : للعلّامة السيد شبر رحمه الله ، ص ٨٥ ـ ٨٦.

(٢) الأنعام : ٨٤ ، ٨٥.

(٣) آل عمران : ٦١.

٧٣

الشريفة :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ...) الآية الى أن أنتهى الى قوله تبارك وتعالى : (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ...) (١). فسلهم يا أبا الجارود هل كان يحلُّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نكاح حليلتهما؟ فان قالوا : نعم كذبوا وفجروا ، وإن قالوا : لا فَهُما إبناه لصلبه ...» (٢).

وورد في كتاب الاحتجاج : قال هارون الرّشيد للامام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام : جوزتم للعامّة والخاصّة أنّ ينسبوكم الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقولوا لكم : يا بني رسول الله ، وأنتم بنو علي ، وإنّما ينسب المرء الى أبيه ، وفاطمة إنّما هي وعاء ، والنّبي جدّكم من قبل اُمَّكم.

قال الإمام عليه‌السلام : «لو أنّ النّبي نشر فخطب إليك كريمتك ، هل كنت تجيبه؟».

قال هارون : سبحان الله ولم لا أجبه ، بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك؟

قال الإمام عليه‌السلام : «لكنّه لا يخطب إليّ ولا اُزوجه».

فقال هارون : ولم؟

قال الامام عليه‌السلام : «لأنّه ولدني ولم يلدك».

فقال هارون : أحسنت يا موسى! (٣).

والشواهد على ما ذكرنا في هذا الباب عقلاً ونقلاً كثيرة أعرضنا عنها طلباً للاختصار.

__________________

(١) النّساء : ٢٣.

(٢) تفسير نور الثقلين : للحويزي رحمه الله ، ج ١ ، ص ٤٦١. روضة الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ٨ ، ص ٣١٨.

(٣) الاحتجاج : للشّيخ الطبرسي رحمه الله ، ج ٣ ، ص ١٦٣.

٧٤

(وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ)

ذكرنا ترجمتها وشرحها آنفاً.

* * *

(السَّلامُ عَلَى الدُّعَاةِ الى اللهِ)

فانّ الأئمّة الهدى عليهم‌السلام هم الدّعاة للناس الى معرفة الله وعبادته وطاعته ، لأنّ كل إمام منهم عليهم‌السلام لم يتوان لحظة واحدة في قيامه بهذه المهمّة الصعبة في دعوة الخلائق الى المعرفة ، والى آخر لحظة من عمره الشريف ، فقد قام بعضهم عليهم‌السلام بها بالجهاد في سبيل الله ، وقُتِلَ في سبيل الله. وقام الآخر ببيان مقامات توحيد الله عزّ وجلّ واسماء وصفاته ، وتبليغ الاحكام ، وتوسل البعض الآخر بالأدعية والمناجاة ، وغيّب بعضهم بالسّجون والمطامير المظلمة ، وبعضهم جعل إستتاره شعاراً لدعوة النّاس الى الله عزّ وجلّ ورسوله ودينه الخالد ، بل سعى كُلّهم عليهم‌السلام احياء هذا الامر بالاستقامة والصمود (١).

والى جانب الآخر. استعمل حكام الجور اعداء الله تعالى ودينه معهم أبشع الاساليب غير الانسانية ، فمضى منهم من مضى مقتولاً أو مسموماً قد تجرع كأس الشهادة لله تعالى ، إلّا صاحب الامر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) الذي غائب عن عيون حكام الجور ، وسيخرج يوماً ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً بعد جهاد مرير ينتقم من أعداء الله عزّ وجلّ وأعداء البشرية.

__________________

(١) كما ثبت سيّد الاوصياء عليه‌السلام في مواطن حساسة كان الامر يدور بين بقاء الاسلام أو غلبة الشّرك ، وكما ثبت عليه‌السلام وحده في بدر ، واُحد ، ويوم أحزاب ، ويوم حنين وقد فرّ الآخرين ، ويشهد بذلك التاريخ ، وكما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن ودٍ أفصل من عمل اُمّتي إلى يوم القيامة» رواه الواقدي ، والخطيب ، والخوارزمي.

٧٥

ورد في تفسير الآية الشريفة : (قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (١).

قال الإمام الباقر عليه‌السلام : «ذاك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام والاوصياء ، من بعده عليهم‌السلام» (٢).

وورد عن الإمام علي الرّضا عليه‌السلام في ضمن حديث يصف الإمام قائلاً : «الامام أمين الله في أرضه. حجّته على عباده وخليفته في بلاده الدّاعي الى الله والذاب عن حرم الله ... الحديث» (٣).

(وَالأدِلاءِ عَلَى مَرْضَاتِ اللهِ)

الحركات والسّكنات التي كانت تتجسد في أقوال وأفعال الائمّة عليهم‌السلام كلّها تدل أنها لاجل طلب مرضات الله عزّ وجلّ ، لانهم عليهم‌السلام يدلّون الناس الى المعارف الالهية والاحكام الشرعية والطاعات والاعمال الصالحة التي فيها ، وتكن مرضاة الله عزّ وجلّ بلا شك ورد في حديث عن النّبي موسى عليه‌السلام قال : يا ربّ أخبرني عن آية رضاك عن عبدك.

فأوحى الله تعالى إليه : إذا رأيتني اُهيىءُ عبدي لعبادتي وأصرفه عن معصيتي ، فذلك آية رضاي (٤).

وفي حديث عن الإمام الرضا عليه‌السلام في وصف الإمام قال : «الإمام الماء العذب على الظماء ، والدال على الهدى ، والمنجي من الرّدى» (٥).

__________________

(١) يوسف : ١٠٨.

(٢) تفسير نور الثلين : للحويزي رحمه الله ، ج ٢ ، ص ٤٧٦.

(٣) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٥ ، ص ١٢٤ ، تحف العقول : ص ٣٢٦ ، الاحتجاج ، ج ٢ ، ص ٢٢٨.

(٤) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٧٠ ، ص ٢٦ ، ح ٢٩.

(٥) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٥ ، ص ١٢٣ ، تحف العقول : لابن شعبة رحمه الله ، ٣٢٠ ، الاحتجاج : للعلّامة

٧٦

(وَالمُسْتَقِرِّينَ فِي أمْرِ اللهِ)

المراد من هذه الفقرة الشريفة ، إمّا كمال الاستقامة والثبات في اجراء أمر الله عزّ وجلّ والعمل به ، وهي من أصعب الاُمور ، وذلك لان أمتثال أي أمر مرّة واحدة أو مرّتين يسهل على الإنسان ولكن الاستمرار والاستقامة والثّبات عليه دائماً وأبداً ممّا يعسر على الإنسان ويجلب له تعباً كبيراً. ولذا جاءت الآية الشريفة في مدحهم والتجليل من شأنهم :

(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١).

وورد عن ابن عباس أنه ما نزلت على النّبي الاكرم آية كانت أشدّ من هذه الآية : (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (٢).

ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لاصحابه حين قالوا له : أسرع إليك الشّيب يا رسول الله : «شيبتْني هود والواقعة» (٣).

وأو يكون المراد استقرارهم عليهم‌السلام في امر الخلافة ، لان الخلافة فوّض إليهم عليهم‌السلام من قبل الله تعالى بعد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأثبتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام الخلافة ، فاذاً فالأئمّة عليهم‌السلام هم الذين استقروا في مقام الخلافة من جانب الله سبحانه ورسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل أن محلهم عليهم‌السلام من الخلافة محل القطب من الحى ، فيجب على جميع النّاس ان يبذلوا لهم السمع والطاعة ، فهم أعلى مرتبة ومقام وشأن من الآخرين ، بل إن سيل العلوم والاوامر تنحدر من مقامهم الشامخ الى سائر النّاس ولا يستطيع أحد من الناس أن يرقى الى مقامهم السّامي.

__________________

الطّبرسي رحمه الله ، ج ٢ ، ص ٢٢٧.

(١) الاحقاف : ١٣.

(٢) هود : ١١١.

(٣) تفسير مجمع البيان : للعلّامة الطّبرسي رحمه الله ، ج ٣ ، ص ١٩٩ ، تفسير الصّافي : للشّيخ الفيض الكاشاني رحمه الله ، ج ٢ ، ص ٤٧٥.

٧٧

كما اشار سيّد الاوصياء أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته الشّريفة الخطبة الشقيشقية الى هذا المقام وقال :

«لقد تقمّصها فلان وهو يعلم أن محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ينحدر عن السيل ولا يرقى إليّ الطّير ... الخ» (١).

يعني بدون وجوده المقدس لا تكون الخلافة صالحة لأحدٍ من النّاس لأن الرحى لا تعمل بدون القطب ، فكذلك العلوم تسيل من صدري الشامخ الذي هو صندوق أسرار العلوم الالهية ، فلا تستطيع حتى النسور التي تحلق في آفاق السَّماء أن تصل الى ما وصلت إليه.

ووردت في بعض النسخ كلمة «المستوفرين» بدلاً عن «المستقرين» فان كلمة المستوفرين مشتقة من الوفور بمعنى الكثرة والزيادة وعلى هذا ، يكون المعنى أن الأئمّة عليهم‌السلام بأمر من الله سبحانه يعلمون أكثر من سائر النّاس وذلك في كثرة عباداتهم وزهدهم وتهجدهم وسخائهم واحسانهم وحسناتهم ، وهذا ما لا طاقة لغيرهم من نيله والوصول إليه.

(وَالتّامِّينَ فِي مَحَبَّةِ اللهِ)

نال الأئمّة الاطهار عليهم‌السلام أعلى مراتب الكمال واسماه في محبة الله سبحانه يقول المرحوم العلّامة السّيد شبر رحمه الله : وهذه الفقرة صريحة في الرّد على قوم من البهايم أنكروا محبّة الله ، بل أحالوها وقالوا لا معنى لها إلّا المواظبة على الطاعة لله عزّ وجلّ ، وأمّا حقيقة المحبّة فمحال إلّا مع الجنس والمثل ، والله تعالى منزّه عن التجانس وليس له شبيه وليس كمثله شيء ويلزم من هذا الانكار انكار الأنس

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ، ٣.

٧٨

والشوق ولذّة والمناجاة وسائر لوازم الحب وتوابعه!!.

والتّحقيق : أنّ الحبّ عبارة عن الميل الى الشيء المستلذ وإنما يحصل بعد المعرفة بذلك الشيء وادراكه إمّا بالحواس «مثل ادراك العين للصّور المليحة ، والاذن للاصوات الجميلة ، والانف للرّوائح الطّيبة» أو بالقلب «كلذّة العلم والمناجاة الحقّة التي تعتبر غذاء الرّوح» ، وكلما كانت المعرفة به أقوى واللذة أشد وأكثر كانت المحبّة أشد والبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر إذ القلب أشد ادراكاً من العين ، وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة ، فتكون لا محالة لذة القلوب بما تدركه الامور الشريفة الالهية التي تجمل أن تدركها الحواس أتم وأبلغ فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح اليه أقوى ، فلا ينكر إذاً حبّ الله تعالى إلّا من قعد به القصور في درجة البهائم فلم يجاوز ادراكه الحواس ، وكما أن الانسان يحب نفسه وبقاء نفسه ، فكذلك قد يحبّ غيره لذاته لحظٍّ يناله منه وراء ذاته ، بل تكون ذاته عين حظه وهذا الحبّ الحقيقي البالغ الذي يوثق به ، فهذا مع ان الكتاب والسنة قد نصت على حقيقة المحبّة قال الله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (١) وقال الله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ) (٢) وقال الله تعالى : (إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ) الى قوله : (أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ) (٣).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحبّ اليه ممّا سواهم».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعائه : «اللّهُمّ اُرزقني حُبّك وحُبّ من يحبّك وحبّ ما يقربني الى حبّك واجعل حبّك أحبّ اليّ من الماء البارد» (٤).

__________________

(١) المائدة : ٥٤.

(٢) البقرة : ١٦٥.

(٣) التوبة : ٢٤.

(٤) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٨٦ ، ص ١٨٢ ، عن مصباح المتهجد : للشّيخ الطوسي رحمه الله ، ص ١٦٢ ـ ١٦٦.

٧٩

وفي الحديث القدسي : يا ابن عمران كذب من زعم أنّه يحبّني فاذا جنّه الليل نام عنّي أليس كلّ محبّ يحبّ خلوة حبيبه ها أنا ذا يا ابن عمران مطلع على أحبائي إذا جنّهم الليل حولت أبصارهم اليّ من قلوبهم وتمثلت عقوبتي بين أعينهم يخاطبوني عن المشاهدة ويكلّموني عن المشاهدة ويكلّموني عن الحضور» (١).

وروى الشّيخ الصدوق رحمه الله في علل الشرايع عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ شعيباً بكى من حبّ الله عزّ وجلّ حتى عمي فرد الله عليه بصره ثمّ بكى حتى عمي فرد الله بصره ، فلمّا كانت الرابعة أوحى الله إليه : «يا شعيب الى متى يكون هذا منك إن يكن هذا خوفاً من النار فقد أجرتك وإن يكن شوقاً الى الجنّة فقد أجبتك».

فقال شعيب عليه‌السلام : «الهي وسيّدي وأنت تعلم أنّي ما بكيت خوفاً من نارك ولا شوقاً الى جنّتك ، ولكن عقد حبّك على قلبي فلست أصبر أو أراك ، فاوحي الله إليه : أمّا إذا كان هكذا فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران» (٢).

والاخبار والاثار في ذلك أكثر من أن تحصى.

انتهى كلام العلّامة شبر رحمه الله. ويكفي في مقام شرح هذه الفقرة بهذا التفصيل المذكور الذي نقل عنه.

نفهم ممّا سلف أنّ الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام تامّون في محبّة الله تعالى أي لا يعملون إلّا بمحبّة الله تعالى وفي محبّة الله تعالى وأقوالهم وأفعالهم وما أضمروا وما أظهروا أو أوامرهم ونواهيهم ودعائهم في محبّة الله تعالى والاخلاص في العبودية.

__________________

(١) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ١٣ ، ص ٢١٩ ، ج ١٧ ، ص ١٤ ، ج ٨٧ ، ص ١٧٢.

(٢) علل الشرايع : للشّيخ الصّدوق رحمه الله ، ج ١ ، ص ٥٧ ، باب ٥١.

٨٠