أنوار الولاية الساطعة في شرح الزيارة الجامعة

السيّد محمّد الوحيدي

أنوار الولاية الساطعة في شرح الزيارة الجامعة

المؤلف:

السيّد محمّد الوحيدي


المحقق: الشيخ هاشم الصالحي
المترجم: الشيخ هاشم الصالحي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: انتشارات محمّد الوفائي
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6013-03-1
الصفحات: ٣٠٠

طال عليها ذلك ، قالت : ـ حزناً على ولدها ـ ما أقسى قلوبكم يا أهل بيت رسول الله؟.

أقبل الامام على صلاته ولم يخرج منها إلّا بعد إكمالها وإتمامها ، ثمّ أقبل وجلس على أرجاء البئر ومدّ يده الى قعرها ، وكانت لا تنال إلّا برساء (١) طويل فأخرج إبنه محمّداً عليهما‌السلام على يديه يناغي ويضحك ، لم يبتل له ثوب ولا جسدٌ بالماء.

فقال عليه‌السلام : هاك يا ضعيفة اليقين بالله ، فضحكت لسلامة ولدها ، وبكت لقوله عليه‌السلام يا ضعيفة اليقين بالله.

فقال عليه‌السلام : «لا تثريب عليك اليوم لو علمت أنّي كنت بين يدي جبّار لو ملت بوجهي عنه لمال بوجهه عنّي ، فمن يُرى راحماً بعده» (٢).

وهكذا الحال في عبادة وطاعة سائر الائمّة الاطهار عليهم‌السلام ، حيث لا تسعنا هذه الوجيزة ان نتطرق إليها ، ولو أردنا أن نكتب عن طاعهم عليهم‌السلام لكانت مجلدات.

(القَوَّامُونَ بأمْرِهِ)

الذين يقومون (٣) بأمر الله تعالى ، الذي هو اُمر الامامة ، أو المراد منها الاستقامة في طاعة الله تعالى ، أو المراد منها الذين يحثون الاخرين على طاعة امر الله تعالى.

__________________

(١) الرشاء : ككساء هو الحبل (القاموس).

(٢) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٤٦ ، ص ٣٤ ، مناقب آل أبي طالب : ج ٤ ، ص ١٣٥.

(٣) التّاريخ يشهد بأنّ أئمّتنا عليهم‌السلام : قاموا بأمر الله عزّ وجلّ على أكمل الوجه وأحسنها ، وإن كنت طالباً لذلك اُنظر الى سيرة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وحفظه للاسلام وسكوته عن حقّه ، والامام الحسن المجتبى عليه‌السلام وصلحه مع معاوية ومع كون معاوية من الشجرة الملعونة في القرآن الكريم ، الامام الشهيد بكربلاء وثورته التي علّم الاُباة طريق النّضال ، ثمّ واحداً تلو الآخر الى أن تأتي دولة قائمهم عليه‌السلام ـ إن شاء الله تعالى ـ فيملأ الارض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظُلماً وجوراً ، وهذا ما أخبر به الرّسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٢١

(العَامِلُونَ بِإرَادَتِهِ)

الذين تكون أعمالهم وفق إرادته تعالى ، فتأتى أعمالهم وأفعالهم مطابقةً لمشية الله تعالى لا يصدر منهم أمر خلافاً لارادته تعالى ، بل ليس لهم ارادة إلّا إرادته تعالى ، ولذا لا يعتبرون أنفسهم أصحاب إرادة في مقابل عظمة وجبروت الباري تعالى.

(الفَائِزُونَ بِكَرَامَتِهِ)

منحهم الله تعالى هذه الكرامة في الدّنيا بوجوب إطاعة الناس وانقيادهم اليهم ، وكونهم مخزن العلم ومعدن الحكمة ، وفي الاخرة اكرمهم بالشفاعة للعصاة والمتحيرين ، والرّضا والقرب من الله في جنات النّعيم ورضي عنهم ، فهذا كمال الفوز بالكرامة الالهية التي تختصُّ بهم دون غيرهم.

(إصْطَفَاكُمْ بِعِلْمِهِ)

الذين اختارهم الله لموضع علمه ، مع علمه بأنكم أهل لذلك الاصطفاء ، أو المراد اصطفاكم بأن جعلكم خزّان علمه ، ومحل أسراره ، ويؤيد هذا الاحتمال ما في بعض النسخ من وجود اللام بدل الياء.

(وَارتَضَاكُمْ لِغَيْبِهِ)

أي رضي أن يجعلكم مخازن غيبه ، سأل حمران بن أعين عن الامام الباقر عليه‌السلام في تفسير الآية الشّريفة : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن

١٢٢

رَّسُولٍ) (١). فقال عليه‌السلام :

«(إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ) وكان والله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ارتضاه ، وأمّا قوله : (عَالِمُ الْغَيْبِ) فانّ الله عزّ وجلّ عالم بما غاب عن خلقه فيما يقدر من شيء ويقتضيه في علمه قبل أن يخلقه وقبل أن يقضيه الى الملائكة ، فذلك يا حمران علم موقوف عنده إليه فيه المشية فيقضيه إذا أراد ويبدو له فيه فلا يمضيه ، فأمّا العلم الذي يقدره الله عزّ وجلّ ويقضيه ويمضيه فهو العلم الذي إنتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ الينا» (٢).

وقال علي بن ابراهيم في تفسير هذه الآية : (إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ).

يعني علياً المرتضى ثمّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...» (٣).

وورد عن معمر بن الخلاد قال : سأل أبا الحسن عليه‌السلام رجل من أهل فارس فقال له : أتعلمون الغيب؟

فقال الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام :

«يبسط عنّا العلم فنعلم ويقبض عنا فلا نعلم ، وقال : سسرّ الله عزّ وجلّ أسرّه الى جبرائيل وأسرّه جبرئيل عليه‌السلام الى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأسرّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى من يشاء الله» (٤).

والمراد الى من يشاء مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : قال : «أي امام لا يعلم ما يصيبه وإلى ما يصير فليس ذلك بحجّة الله على خلقه» (٥).

__________________

(١) الجن : ٢٦.

(٢) تفسير الثقلين : للحويزي رحمه الله ، ج ٥ ، ص ٤٤٣ ، عن اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٢٥٦.

(٣) تفسير البرهان : لعلي بن ابراهيم القمي ، ج ٢ ، ص ٣٩٠.

(٤) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٢٥٦ ، والانوار اللامعة : للعلّامة السيد شبر رحمه الله ، ص ١١٧.

(٥) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٢٥٨.

١٢٣

وأيضاً عن عمران بن أعين عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال :

«إنّ جبرئيل اتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برمانتين فأكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احداهما وكسر الاخرى بنصفين فأكل نصفاً وأطعم علياً عليه‌السلام نصفاً ، ثم قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يا أخي هل تدري ما هاتان الرمانتان؟»

قال الإمام علي عليه‌السلام : لا.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمّا الاولى فالنّبوة ليس لك فيها نصيب ، وأمّا الاُخرى فالعلم أنت شريكي فيه».

فقلت : اصلحك الله كيف يكون شريكه فيه؟.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «لم يعلم الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علماً إلّا وأمره أن يعلمه عليّاً» (١).

وورد في رواية محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال في ذيل هذه الرّواية :

«فلم يعلم والله رسول الله حرفاً ممّا علمه الله عزّ وجلّ إلّا وقد علمه عليّاً ثمّ إنتهى العلم إلينا ، ثمّ وضعه يده على صدره» (٢).

يقول المؤلف : وردت في مقابل هذه الاحاديث أحاديث كثيرة تؤكد أنّ علم الغيب لا يعلمه سوى الله تعالى ، فاذا أردنا أن نجمع بين هاتين الطائفتين من الاحاديث ونوفق بينهما فتكون بهذه الصورة :

المراد من الاحاديث التي تنفي علم الغيب عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام هو أن الله عزّ وجلّ اذا لم يرد لا يعلمون ، وتكون لسان الاحاديث التي أثبتت علم الغيب لهم عليهم‌السلام فانّه أراد الله عزّ وجلّ أن يعلمون ، كما وردت برواية عن الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام تؤيد

__________________

(١) تفسير نور الثقلين : ج ٥ ، ص ٤٤٣ ، نقلاً عن اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٣٦٣.

(٢) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٢٦٣.

١٢٤

هذا الجمع قال عليه‌السلام : «يبسط عنّا العلم فنعلم ويقبض عنّا فلا نعلم ...» (١).

وذكر المرحوم العلّامة الطّبرسي رحمه الله في تفسيره «مجمع البيان» في تفسير هذه الآية الشريفة : (وَلِلَّـهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (٢).

حاصل كلامه : ولا نعلم أحداً منهم ـ من الشيعه ـ إستجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق فانّما يستحق الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات لا بعلم يستفاد وهذه صفة القديم سبحانه العالم لذاته لا يشركه فيها أحد من المخلوقين ومن اعتقد أن غير الله سبحانه يشركه في هذه الصفة فهو خارج عن ملّة الإسلام ، فأمّا ما نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وما رواه عنه الخاص والعام من الاخبار بالغائبات في خطب الملاحم وغيرها مثل : قوله ، يومي به الى صاحب الزنج ... وغير ذلك ممّا روى عنهم عليهم‌السلام فان جميع ذلك مُتلقى عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا اطلعه عليه (٣).

إنتهى كلام العلّامة الطبرسي رحمه الله.

وقال العلّامة المجلسي رحمه الله بعد عرضه لما ذكره العلّامة الطّبرسي رحمه الله وبعض الرّوايات :

التّحقيق : قد عرفت مراراً أنّ نفي علم الغيب عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام معناه أنّهم لا يعلمون ذلك من أنفسهم بغير تعليمه تعالى بوحي أو إلهام ، وإلّا فالظّاهر أنّ عمدة معجزات الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام من هذا القبيل ، وأحد وجوه إعجاز القرآن أيضاً اشتماله على الاخبار بالمغيبات ، ونحن أيضاً نعلم كثيراً من المغيبات باخبار الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام كالقيامة وأحوالها والجنّة والنّار والرجعة وقيام القائم عليه‌السلام ونزول عيسى عليه‌السلام وغير ذلك من أشراط السّاعة ، والعرش والكرسي

__________________

(١) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٢٦٣.

(٢) هود : ١٢٣.

(٣) تفسير مجمع البيان : للعلّامة الطّبرسي رحمه الله ، ج ٣ ، ص ٢٠٥ ، في ذيل تفسير هذه الآية.

١٢٥

والملائكة ... الى آخر كلامه رحمه الله (١).

يعني أنّ نفي علم الغيب عنهم عليهم‌السلام بصورة مطلقة يستلزم نفي وإنكار المعجزات ، وهذا بديهي البطلان.

(وَاخْتَارَكُمْ لِسرِّهِ)

اختار الله سبحانه أئمّة الهدى عليهم‌السلام من بين خلقه لسرّه وجعلهم خزانة اسراره ، عن أبي الجارود عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال :

«إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا عليًاً في المرض الذي توفي فيه ، فقال : «يا علي أدن منّى حتى أسرّ إليك ما أسرَّ الله إلي وائتمنك على ما أتمنني الله عليه ، ففعل ذلك رسول الله بعلي وفعله علي بالحسن وفعله الحسن بالحسين وفعله الحسين بأبي وفعله أبي بي. (صلوات الله عليهم اجمعين)» (٢).

(واجتَبَاكُم بِقُدرَتِهِ)

هذه الفقرة المباركة من الزّيارة تشير الى علو مرتبه اجتبائهم حيث نسب ذلك الى قدرته تعالى مومياً الى أن مثل ذلك من غرائب قدرته تعالى ، أو يحتمل أن يكون المراد أعطاكم قدرته بكرمه وأظهر بأيديكم المباركة الاُمور التي هي فوق طاقة البشر ، وخارجة عن حدود قدرة الإنسان مثل قلع باب خيبر وسائل المعاجز العظيمة التي تحققت بوجودهم الشريف.

كما روى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه رؤي بيده كسرة خبز من شعير يابسة يريد أن يكسرها فلا تنكسر ، فقيل له يا أمير المؤمنين أين تلك القوّة التي قلعت بها باب خيبر فقال الإمام عليه‌السلام : «تلك قوة ربانيّة ، وهذه قوة جسمانية».

__________________

(١) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٣٦ ، ص ١٠٣.

(٢) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢ ، ص ١٧٤.

١٢٦

(وَأعَزَّكُمْ بِهُدَاهُ)

اي جعلكم أعزة أن منَّ الله عليكم هداية الناس ، دون غيركم ، كما روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام :

«محنة الناس علينا عظيمة ، إن دعوناهم لم يجيبونا ، وإن تركناهم لم يهتتدوا بغيرنا» (١).

أو أن يكون المراد منها أنّ الله عزّ وجلّ أكرمكم بقبولكم الهداية منه تعالى ، فهداكم إليه. وفي النتيجة أنّه بهدايته جلّ شأنه أصبحتم نجمة ساطعة في عالم الهداية وفي محفل الخلقة ، وهذه العزّة مختصّة بهم ، ولهذا وقعوا محل حسد الحاسدين ، وغضب الخائنين.

(وَخصَّكُمْ بِبُرْهانِهِ)

وبرهان الله هو القرآن الكريم وعلومه ، كما يتبين من كلمات الإمام الحسن عليه‌السلام للحسن البصري حيث قال : «فليذهب الحسن يميناً وشمالاً والله لا يوجد العلم إلا فينا أهل البيت» (٢).

أو أن المراد من البرهان ، الحجج والبراهين التي بها دحضوا تشكيكات أعداء الدين.

أو أن يكون المراد المعجزات الباهرات التي ظهرت منهم عليهم‌السلام ومن الكثرة ما ألف بها علماء الإمامية كتباً منصفات أو أن يكون المراد كل هذه الامور وأعم من ذلك ، لانّهم عليهم‌السلام البحر مواج المتلاطم لعلم الله وقدرته ومعرفته.

__________________

(١) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٣ ، ص ١٠١ ، ح ٧ ، عن الاحتجاج : للعلّامة الطّبرسي رحمه الله ، ص ١٨٠.

(٢) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٥١ ، بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢ ، ص ٦٤ و ٩٠ ، ج ٤٢ ، ص ١٤٢ ، وقد ورد هذا المعنى عن الامام الباقر عليه‌السلام أيضاً عن بحار الانوار : للعلّامة الملجسي رحمه الله ، ج ٢٣ ، ص ١٠١ ، ح ٧ ، الاحتجاج : للعلّامة الطبرسي رحمه الله ، ص ١٨٠ ..

١٢٧

(وَانْتَجَبَكُمْ بِنُورِهِ)

والنور هنا الهداية الرّبانية والعلوم القرآنية والكلمات القدسية ، فاهتدى النّاس بأنوارهم وعلومهم وكمالاتهم كما ذكرنا أنفاً أنّهم أنوار الله عزَّ وجلّ في الأرض ، ويمكن أن تكون الباء «بنوره» بمعنى «من» وعندها يتغير معنى الجملة ـ أي أجتباكم وأوجدكم من نوره ، كما روي محمّد بن مروان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال ، سمعته يقول :

«خلقنا الله من نور عظمته ، ثمّ صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش فأسكن ذلك النّور فيه فكنّا نحن خلقاً بشراً نورانيين لم يجعل لأحد في الذي خلقنا منه نصيباً ، وخلق أرواح شيعتنا من أبداننا (١) ، أبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطّينة ولم يجعل لأحد في مثل ذلك الذي خلقهم منه نصيباً إلّا الانبياء والمرسلين ، فلذلك صرنا نحن وهم النّاس (٢) وسائر الناس همجاً في النار وإلى النار» (٣).

(وَأيَدِكُمْ بِرُوحِهِ)

أي الروح الذي اختاره وهو روح القدس الذي هو معهم دائماً ويسددهم وذلك غير الارواح التي افاضها على المؤمنين وسائر النّاس ، وروي عن جابر الجعفي قال : قال لي الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام :

«يا جابر أنّ الله تبارك وتعالى خلق الخلق ثلاثة اصناف ، وهو قوله عزّ وجلّ :

__________________

(١) أي من فاضل طينة أبداننا.

(٢) في المصدر : وصار سائر الناس.

(٣) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٥ ، ص ١٣ ، عن بصائر الدرجات : ص ٧.

١٢٨

(وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١).

فالسابقون (٢) هم رسل الله عليه‌السلام ، وخاصّة الله من خلقه (وهم الأئمّة الاطهار عليهم‌السلام) ، جعل فيهم خمسة أرواح أيدهم بروح القدس فيه عرفوا الاشياء ، وأيدهم بروح الايمان فبه خافوا الله عزّ وجلّ ، وأيدهم بروح القوة فبه قدروا على طاعة الله ، وأيدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله عزّ وجلّ وكرهوا معصيته ، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب النّاس وبجيئون ، وجعل في المؤمنين واصحاب الميمنة روح الإيمان فبه خافوا الله وجعل فيهم روح القوة فبه قدروا على طاعة الله ، وجعل فيهم روح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون» (٣).

وفي رواية المفضل عن الإمام الصادق عليه‌السلام بعد ذكره الارواح الخمسة قال : «وروح القدس فبه حمل النّبوة ، فاذا قبض النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتقل روح القدس فصار الى الإمام ، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو (٤) والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو ، وروح القدس كان يرى به» (٥).

وروي عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تبارك وتعالى :

__________________

(١) الواقعة : ٧ الى ١١.

(٢) وروي عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : «السّابقون : ابن آدم المقتول (هابيل) وسابق أمّة موسى وهو مؤمن آل فرعون ، وسابق أمّة عيسى وهو حبيب ، والسّابق في أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام» تفسير مجمع البيان : للعلّامة الطّبرسي رحمه الله ، ج ٥ ، ص ٣١٥.

ورواه الشوكاني في تفسيره فتح القدير : ج ٥ ، ص ١٥١ ، بهذه الصورة ، إنّ الآية نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النّجار الذي ذكر في يس ، وعلي بن أبي طالب ، وكلّ رجل منهم سابق اُمّته ، وعلي أفضلهم.

(٣) تفسير نور الثقلين : ج ٥ ، ص ٢٠٥ ، نقلاً عن اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٢٧٢.

(٤) الزهو : الرجاء ، الباطل ، الكذب والاستحقاق ، مرآة العقول : للمجلسي رحمه الله.

(٥) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٢٧٢ ، ـ ويعني بـ (يرى به) ما غاب عنه في اقطار الارض وما في أعنان السماء وبالجملة ما دون العرش الى ما تحت الثرى ، الوافي : للفيض الكاشاني رحمه الله.

١٢٩

(وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) (١).

قال الإمام عليه‌السلام : «خلق من خلق الله عزّ وجلّ أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره ويسدده وهو مع الأئمّة عليهم‌السلام من بعده» (٢).

وغيرها من الاخبار التي وردت في كتب الاحاديث.

وفي خبر آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «أنَّه غير الملائكة» (٣).

ويدل على ذلك أيضاً مضافاً الى التصريح للحديث ، أنّه أعظم من جبرئيل وميكائيل ولم يثبت أنّ أحداً من الملائكة أعظم منهما ولأن الملائكة لم يعلموا جميع الاشياء كما اعترفوا به حيث قالوا : (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) (٤) وهذا الخلق عالم بجميعها ، ويقول العلّامة شبر رحمه الله بعد نقله هذا الحديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وذكره لبعض المؤيدات : «أن يكون نوراً إلهياً مجرداً عن الخلائق عارفاً بالله وصفاته ومعلولاته إلى آخرها ، متعلقاً بالنفوس البشرية إذا وصفت وتخلصت من الكدورات كلّها ، واتصفت بالقوة القدسية المذكورة تعلقاً تاماً يوجب اشراقها وانطباع ما فيه من العلوم الكلية الجزئية فيها والمراد بانزاله إليه وهو هذا التّعلق وبتسديده وهو هذا الاشراق أو ان يكون عبارة عن تنوير نفوسهم القدسية وعقولهم الملكوتية بالعوالم الالهية والأسرار الرّبانية والافاضات العلوية ، إلّا أنّه لا حاجة الى هذا الحمل ولا بُعد في إبقائه على ظاهره من كونه خلقاً من خلق الله متصفاً بتلك الصّفات والنّعوت» (٥).

__________________

(١) الشّورى : ٥٢.

(٢) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٢٧٣ ، نور الثقلين : للحويزي رحمه الله ، ج ٤ ، ص ٥٩٨.

(٣) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٥ ، ص ٦٤ ، عن بصائر الدرجات : ص ١٣٧ ، وردت بهذا المعنى روايات كثيرة في كتب التفسير في تفسير الآية (٤) من سورة القدر : (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ ...) فانظر الى تفسير نور الثقلين : ج ٥ ، ص ٦٣٣ الى ٦٤٢.

(٤) البقرة : ٣٢.

(٥) الانوار اللامعة : للعلّامة السيد شبر رحمه الله ، ص ١٢١ ـ ١٢٢.

١٣٠

انتهى كلام العلّامة شبر رحمه الله ، وبملاحظة الرّوايات التي ذكرنا بعضها ، يكون هذا الكلام من العلّامة أقرب الى الصّواب.

(وَرَضِيَكُمْ خُلَفَاءَ فِي أرْضِهِ)

كما قال الله تعالى في هذه الآية الشّريفة :

(وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (١).

وكمال الاستخلاف الذي وعد الله به يكون في زمن الإمام مولانا القائم عليه‌السلام.

روي عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد الله الصّادق عليه‌السلام عن قول الله تبارك وتعالى : (وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...) الآية.

قال الإمام عليه‌السلام : «هم الائمّة عليهم‌السلام» (٢).

وعن الجعفري قال سمعت أبا الحسن الرّضا عليه‌السلام يقول : «الائمّة خلفاء الله في أرضه» (٣).

وفي المناقب عن عبد الله بن مسعود قال : الخلفاء أربعة آدم عليه‌السلام (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٤) وداود عليه‌السلام (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (٥) وهارون قال موسى عليه‌السلام : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) (٦) وعلي عليه‌السلام (وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا

__________________

(١) النّور : ٥٥.

(٢) تفسير نور الثقلين : ج ٣ ، ص ٦١٦ ، عن اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ١٩٣.

(٣) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ١٩٣.

(٤) البقرة : ٣٠.

(٥) ص : ٢٦.

(٦) الاعراف : ١٤٢.

١٣١

الصَّالِحَاتِ ...) (١) (٢).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من لم يقل إنّي رابع الخلفاء فعليه لعنة الله» (٣).

وجاء في حديث آخر :

«إنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً ينفون عن هذا الدين تحريف الضّالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (٤).

(وَحُجَجَاً عَلَى بَرِيَّتِهِ)

نصبهم الله تعالى حججاً على خلقه ، والفرق بين الخلق والبرية عموم وخصوص ، حيث لا يستعمل لفظ البرية إلّا في ذي روح والحيوان ويقلُّ إستعماله في غير الحيوان ، مثلاً بَرَءَ اللهُ النَّسَمَةَ وَخَلَقَ السّماوَاتِ وَالأرْضَ.

وعلى أي حال أن أئمّة الهدى عليهم‌السلام حجج الله على الخلق كما ذكرنا ذلك آنفاً. ولانّهم عليهم‌السلام خير البريّة ولا يكون أحد حجّة الله على خلقه إلّا أن يكون أفضل خلق الله عزّ وجلّ.

عن يزيد بن شراحيل الانصاري كاتب علي عليه‌السلام قال : سمعت عليّاً عليه‌السلام يقول :

«قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا مسنده الى صدري فقال : «يا علي ألم تسمع قول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٥) هم شيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا اجتمعت الامم للحساب يدعون غراً

__________________

(١) المناقب : ج ٣ ، ص ٦٣.

(٢) النّور : ٥٥.

(٣) مناقب آل أبي طالب : ج ٣ ، ص ٦٣.

(٤) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢ ، ص ١٥١ ، وج ٢٣ ، ص ١١٨ ، المقتطفات : لابن رويش : ج ٢ ، ص ١١٨.

(٥) البيّنة : ٧.

١٣٢

محجلين» (١).

وورد عن ابن عباس : ان هذه الآية الشّريفة نزلت في عليّ عليه‌السلام وأهل بيته الطّاهرين عليهم‌السلام (٢).

(وَأنْصَارَاً لِدينِهِ)

لأن أئمّة الهدى عليهم‌السلام نصروا دين الله تعالى قولاً وعملاً حتى بذلوا مهجهم ونفوسهم وارواحهم في سبيل اعلاء حكمة التوحيد.

(وَحَفَظَةً لِسِرِّهِ)

إن الله تعالى جعل أئمّة الهدى عليهم‌السلام حفظة سرّه عزّ اسمه ، روى محمّد بن عبد الخالق قال : قال أبو عبد الله الصّادق عليه‌السلام :

«يا أبا محمّد إنّ عندنا والله سرّاً من سرِّ الله ، وعلماً من علم الله ، والله ما يحتمله ملك مقرّباً ولا نبيّ مُرسل ولا مؤمن إمتحن اللهُ قلبه للايمان ، والله ما كلّف الله ذلك أحداً غيرنا ولا إستعبد بذلك أحداً غيرنا ...» (٣).

وفي حديث آخر قال الإمام عليه‌السلام : «أنَّ أمرنا سرّ مستور في سرِّ مقنع

__________________

(١) تفسير نور الثقلين : للحويزي رحمه الله ، ج ٥ ، ص ٦٤٤ ، نقلاً عن تفسير مجمع البيان : للعلّامة الطّبرسي رحمه الله ، ج ٥ ، ص ٥٢٤ ، وكفاية الطالب : الكنجي الشافعي ، ص ١١٩.

وفي رواية الطبري في تفسيره ج ٣٠ ، ص ١٧١ ، أنت وشيعتك ، وأمّا في رواية ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ، ص ١٢٢ ، فعن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة ، أنت وهم راضين ومرضيين ، ويأتي أعداؤك غضباناً مقمحين. وكان أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أقبل علي قالوا : قد جاء خير البرية. وذكرها ابن حجر في الصواعق : ص ٩٢ ، والسيوطي في الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٧٩ ، وأمّا ما وقف عليه العلّامة الأميني رحمه الله في غديره ، ج ٢ ، ص ٥٨ ، وج ٣ ، ص ٤٩ الى ٥٨ ، عشرات المنابع.

(٢) تفسير مجمع البيان : للشّيخ الطّبرسي رحمه الله ، ج ٥ ، ص ٥٢٤.

(٣) اصول الكافي : لمحمّد بن يعقوب الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٤٠٣.

١٣٣

بالميثاق من هتكه أذله الله» (١).

يقول المؤلف : المراد من السرّ والأمر هو ولايتهم عليهم‌السلام حيث أخذ الله تعالى على ذلك ميثاقاً في عالم الذّر ، فالذين انصاعوا وقبلوا بذلك العهد والميثاق في عالم الذّر اصبحوا في الدّنيا من أهل الولاية وصدقوا بسرّهم.

والذين أبوا أن يبقوا في عالم الذّر بالعهد والميثاق تخلفوا في الدنيا عن ولايتهم عليهم‌السلام.

والمراد من كون أمر الولاية مستوراً هو أن الولاية ثبتت في قلوب فئة قليلة من الناس ، وامّا اكثر الناس فهم غافلون عنها ، بل إذا أظهر أحد حقيقة المراتب العالية للولاية عند من مخالفيهم فسوف يصاب بالذلة والاهانة كما أشار اليه الحديث الاخير.

بل مراد منه ما لو علمه أبو ذر رحمه الله من سلمان رحمه الله لرماه بالكفر ، فان عبارة كنه الولاية المطلقة سر مستتر ما يحتمله نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا مؤمن امتحن الله قلبه للايمان.

وروي في حديث : «وإنّما صار سلمان من العلماء لأنّه منّا أهل البيت» (٢).

وقد ورد هذا المنع كراراً في الاحاديث وان المراد من العلماء هم أئمّة الهدى عليهم‌السلام ، واعتبارهم سلمان رحمه الله منهم يدلّ على علمو مقامه.

(وَخَزَنَةَ عِلْمِهِ)

روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال :

__________________

(١) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، للعلّامة محمّد باقر المجلسي رحمه الله ، ج ٢ ، ص ٧١.

(٢) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٢ ، ص ٣٤٣ ، اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٤٠١ ، واُنظر الى بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٢ ، باب / ١٠ فضائل سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار «رضوان الله عليهم أجمعين».

١٣٤

«والله إنّا لخزان الله في سمائه وأرضه لا على ذهب ولا فضّة إلّا على علمه» (١).

(وَمُسْتَودَعَاً لِحِكْمَتِهِ)

فإنّهم عليهم‌السلام هم الذين اُوتوا الحكمة وفصل الخطاب ، وذكرنا آنفاً معنى كونهم حملة كلمة الله ، وهنا نتطرق الى تفسيرها وشرحها ببيان آخر. ونقول :

من الممكن أن يكون المراد من الحكمة في هذه الفققرة الشّريفة الخير الكثير كما قال الله تعالى في قرآنه المجيد : (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (٢).

حيث أن الحكمة ذلك الايمان الذي اشار إليه الله تعالى في هذه الآية الشريفة قال عزّ اسمه : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (٣).

وقد يكون المراد من الحكمة ما ذكره العلماء من التّعريف في أقوالهم وجاء في كتبهم مثل : «الحكمة صيرورة الإنسان علماً عقلياً مضاهياً للعالم العيني»

وتحقيق هذا الموضوع هو أن لكلّ شيء في الوجود مثل النّار والنملة وأمثال ذلك أطواراً من الوجود.

١ ـ الوجود العيني : الخارجي ، وبهذا يترتب آثار النار والنملة فيه ، مثل الاحراق والحركة وغير ذلك من الآثار.

٢ ـ الوجود الحسي : وبه يكون ذلك الشيء محسوساً ، وهذا نوع من التّحقيق والثبوت في الجلدية أو مورد تلاقي العصبين في العين أو في الحسّ المشترك.

٣ ـ الوجود الخيالي : وهو عالم المثال والخيال.

__________________

(١) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ١٩٢.

(٢) البقرة : ٢٦٩.

(٣) البقرة : ٢٨٥.

١٣٥

٤ ـ الوجود العقلي : فان الشيء يكون فيه كلياً ، والشيء في جميع هذه الموجودات هو ذلك الشيء بعينه وفي العقل شيء متحدّ مع الوجود الحقيقي للشيء المعقول ، وبهذا المعنى فان وجود المعقول بمنزلة ظل لوجود العاقل.

إذاً فان الإنسان عندما يتعقل الشيء ، فإنّه يرجع في الحقيقة الى حال يكون عين ذلك الشيء بنفسه موجوداً بوجود عقلي ، بل يرجع ذلك الشيء فيكون موجوداً بوجود الإنسان في مرتبة القوة العاقلة.

فيصح إذاً عند تعقل مهيات الاشياء أن نقول أن هذا العاقل عين هذه الأشياء في مرتبة التّعقل والحال أن العاقل يعقل تمام العالم ، فنقول أنّ هذا الانسان العاقل يصير عالماً عقلانياً ، مثل العالم العيني بعنوان الوحدة في الكثرة. الكثرة في الوحدة.

وقيل ان الحكمة أفضل العلوم بأفضل معلوم ، أمّا كونها أفضل العلوم فيرجع الى كونها علم يقيني لا يجوز فيها التّقليد ، بل خلافاً لسائر العلوم حيث تنتهي نتيجتها الى النقل الذي هو تقليد للمنقول عنه.

وأمّا لجهة أفضلية موضوعها ، أو لجهة وثاقة أدلتها ، حيث أن أدلتها جميعاً براهين يقينية تنتهي الى الشكل الأول في المنطق فهو بديهي الانتاج.

أو لجهة شرافة غايتها وهي عبارة عن صيرورة الإنسان عالم عقلاني بواسطة الحكمة كما ذكرنا.

وإمّا أن معلومها أفضل المعلومات ، فهو بسبب كون علومها تتعلق بالحق سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله بمعنى أن المعرفة الكاملة لله عزّ وجلّ وصفاته وأفعاله تنشأ من علم الحكمة وورد في كتاب الانوار اللامعة عن النّبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

١٣٦

«أنا مدينة الحكمة العلم وعليّ بابها» (١).

يقول المؤلف : ذكرت في هذا المقام ما حصلت عليه من كتب العلماء واقوال الحكماء ، وفهم هذه المفاهيم صعب لي ولأمثالي ، ولكن من الممكن أن يكون هناك رجال قد اتصلوا بمنابع الحكمة للعترة الطّاهرة عليهم‌السلام فسهل لهم هضم هذه المعاني وادراكها ، ولذا ورد عن الإمام الصّادق عليه‌السلام قال : قال عيسى بن مريم عليه‌السلام لبني اسرائيل :

«يا بني اسرائيل لا تحدّثوا الجهّال الحكمة فتظلموها ولا تمنعوا أهلها فتظلموهم» (٢).

وعلى أي حال فان أئمّة الهدى عليهم‌السلام أوتوا الحكمة وفصل الخطاب.

(وتَرَاجَمَةً لِوَحيهِ)

التّرجمان يقال لتفسير الكلام بلسان آخر ، والمراد من الوحي في هذه الفقرة المباركة إمّا القرآن الكريم أو سائر ما ، اُوحي الى النّبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو سائر ما أوحي الى سائر الانبياء عليهم‌السلام ولابدّ أن يكون الإمام عليه‌السلام على معرفة كاملة بجميع الالسن واللغات الموجودة في العالم حتى ألسنه الحيوانات ولغاتهم ، وبجميع الكتب السالفة التي نزلت على الانبياء الماضيين سواءً كانت بلسان عربي أو غيره ، ولذا قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل القرآن بالقرآن حتّى يزهو الى الله ، ولحكمت بين أهل التّوراة بالتوراة حتّى يزهو الى الله ، ولحكمت بين أهل

__________________

(١) الانوار اللامعة : للعلّامة السيد شبر رحمه الله ، ص ٧٧ ، بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٥ ، ص ٢٣٥ ، وكذلك ورد دار الحكمة في بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٤٠ ، ص ٢٠٣ ، عن كشف الغمّة : ص ٣٣ ، والامالي : للشّيخ الصّدوق رحمه الله : ص ٢٣٣.

(٢) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢ ، ص ٦٦ ، اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٤٢.

١٣٧

الانجيل بالإنجيل حتّى يزهو الى الله ، ولحكمت بين أهل الزبور بالزبور حتّى يزهو الى الله : ولولا آية في كتاب الله لأنبأتكم بما يكون حتّى تقوم السّاعة» (١).

وفي حديث آخر منقول عن الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام قال :

«إنّ لله مدينتين : إحداهما بالمشرق والاخرى بالمغرب ، عليهما سور من حديد ، وعلى كلّ مدينة ألف ألف باب مصراعين من ذهب وفيها سبعون ألف ألف لغة يتكلّم كلّ لغة بخلاف لغة صاحبتها وأنا أعرف جميع اللغات وما فيهما وما بينهما ، وما عليهما حجّة غيري وغير أخي الحسين» (٢).

ووردت أحاديث كثيرة تدلّ على أن الأئمّة الاطهار عليهم‌السلام كانوا يعرفون جميع اللّغات (٣).

(وأركَانَاً لِتَوحيدِهِ)

إنّهم عليهم‌السلام أساس التّوحيد وأركانه ، والمراد هنا انه لا يقبل الله تعالى التوحيد من أحد إلّا إذا كان مقروناً باعتقاد ولايتهم كما ورد في جملة من الاخبار وأن كلمة التوحيد في القيامة تسلب من غير شيعتهم ، فولايتهم بمنزلة الركن للبيت الذي لا قوام له إلّا به.

وإمّا المراد منها فهو أنّهم لو لم يكونوا لم يتبين توحيده تعالى ، اذن هم أركانه كما

__________________

(١) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٦ ، ص ٨٢ ، بصائر الدّرجات : ص ٦.

(٢) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٦ ، ص ١٩٣ ، الاختصاص : للشّيخ المفيد رحمه الله ، ص ٢٩١.

(٣) راجع بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢ ، ص ١٩٠ الى ١٩٣ ، باب ١٤ «أنّهم يعلمون جميع الالسن واللغات ويتكلمون بها» واصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٢٢٧ ، باب «إنّ الأئمّة عليهم‌السلام عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عزّ وجلّ وأنّهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها».

١٣٨

قالوا : «بِنَا وُحِدَ الله وبِنَا عُبِدَ الله» (١).

وإمّا أن يكون المراد أن الله تعالى جعلهم أركاناً للأرض لأجل أن الخلق يعرفوه ويوحدوه ، ويقومون بعبادته ، لأنه لولاهم لساخت الارض بأهلها كما ذكرنا ذلك أنفاً.

وسُئل الإمام الصّادق عليه‌السلام عن وصف الائمّة قال :

«جعلهم الله أركان الأرض ان تميد بأهلها وحجّته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثّرى» (٢).

(وَشُهَدَاء عَلَى خَلقِهِ)

الذين جعلهم الله تبارك وتعالى شهداء على الخلق في الدنيا لبيان احكام الدين ، فهم سبيل الهداية لما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأدّاه للعباد ، وفي الاخرة شهداء أيضاً على الخلق وسائر الانبياء عليهم‌السلام.

ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث طويل يذكر فيه أحوال أهل الموقف :

«فيقام الرسل فيسألون عن تادية الرّسالات التي حملوها الى اُممهم فأخبروا أنّهم أدّوا ذلك الى اُممهم ، وتسال الاُمم فجحدوا كما قال الله : (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٣). فيقولون : (مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ) (٤).

فيشهد الرّسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيشهد بصدق الرسل وبكذب من جحدها من الاُمم ...» (٥).

__________________

(١) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٣ ، ص ١٠٣ ، عن بصائر الدرجات ، ص ١٩.

(٢) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ١٩٧.

(٣) الاعراف : ٦.

(٤) المائدة : ١٩.

(٥) تفسير نور الثقلين : للحويزي رحمه الله ، ج ١ ، ص ٤٨٣ ، الاحتجاج : للعلّامة الطبرسي رحمه الله ، ج ١ ، ص ٣٦٠.

١٣٩

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «إن الله تعالى إيانا عنى بقول : (تَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ...) (١) فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهد علينا ، ونحن شهداء الله على خلقه ، وحجته في ارضه ، ونحن الذين قال الله تعالى : (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (٢)» (٣).

وورد في تفسير الآية عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (٤).

«نحن الامة الوسطى ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه ، ثم قال عليه‌السلام ، فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشهيد علينا بما بالغنا عن الله عزّ وجلّ ونحن الشهداء على الناس فمن صدّق صدّقناه يوم القيامة ، ومن كذّب كذّبناه يوم القيامة» (٥).

والاحاديث في هذا المقام بكثرة ، فنحن اكتفينا بهذا القليل تحاشياً عن الاطناب.

(وَأعْلامَاً لِعِبَادَه)

بوجودهم الشّريف عليهم‌السلام يعلم العباد اُمور دنياهم وآخرتهم ومعاشهم ومعادهم.

(وَمَنَارَاً فِي بِلادِه)

أي يهتدي بهم أهل البلاد ، ويخرجونهم من الظّلمات الى نور الهداية ، ولان

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

(٢) البقرة : ١٤٣.

(٣) تفسير نور الثقلين : ج ١ ، ص ١٣٣ ، تفسير مجمع البيان : للعلّامة الطبرسي رحمه الله ، ج ١ ، ص ٢٢٤.

(٤) البقرة : ١٤٣.

(٥) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ١٩٠ ـ تفسير نور الثقلين : ج ١ ، ص ١٣٣.

١٤٠