أنوار الولاية الساطعة في شرح الزيارة الجامعة

السيّد محمّد الوحيدي

أنوار الولاية الساطعة في شرح الزيارة الجامعة

المؤلف:

السيّد محمّد الوحيدي


المحقق: الشيخ هاشم الصالحي
المترجم: الشيخ هاشم الصالحي
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: انتشارات محمّد الوفائي
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6013-03-1
الصفحات: ٣٠٠

لَّعْنَتَ اللَّـهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (١).

ونقل في تفسير هذه الآية من السنة والشّيعة متواتراً : غدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذ بيد علي عليه‌السلام والحسن والحسين عليهما‌السلام بين يديه وفاطمة عليها‌السلام تتبعه جاء الى المباهلة.

فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بعد فلا تباهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الارض نصراني الى يوم القيامة ، فقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك ، وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا ، يكن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما عليهم فأبوا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فإنّي أناجزكم.

قالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ، ولا تخيفنا ، ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي اليك كلّ عام ألفي حلّة ، ألف في صفر ، وألف في رجب وثلاثين درعاً عادية من حددي فصالحهم على ذلك.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولا ضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولا ستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتى يهلكوا (٢).

في هذا الآية الشريفة دلالة واضحة على فضل أصحاب الكساء خصوصاً ،

__________________

(١) آل عمران : ٦١.

(٢) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢١ ، باب ٣٢ «المباهلة ...» وتفسير الميزان : للعلّامة الطّباطبائي رحمه الله ، ج ٣ ، ص ٢٣٣ ، والفصول المهمة : ص ٢١ ، المناقب : لابن المغازلي ، ص ٢٦٣ ، ح ٣١ ، تفسير الطّبري : ج ٣ ، ص ٢٢٩ و ٣٣٠ ، وتفسير الفخر الرازي : ج ٢ ، ص ٦٩٩ ، وعشرات المصادر الواردة من طرق الشيعة والسنة ، وقد رواه عشرات الرواة من الفريقين ، فراجع.

١٠١

وعلى علو درجات سائر الائمّة عليهم‌السلام عموماً بالنسبة الى سائر الناس ، لمن كان من أهل الحقّ والانصاف ولم يكن من أهل العناد والاعتساف.

(وَصِرَاطِهِ)

فانّهم عليهم‌السلام صراط الله (١) ، والصّراط لغة بمعنى الطريق ، ولذا يقال للدين الحقّ صراط لانّه الطريق الوصول الى الثّواب ، والطريق الى الله ينحصر بذلك ، وبهذه المناسبة سمّيت ولاية الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام واولاده بـ «الصّراط» وأيضاً بهذا المناسبة قال مولى المتقين عليّ عليه‌السلام :

«أنا صراط الله المستقيم وعرته الوثقى التي لا انفصام لها» (٢) (٣).

وتفسير هذا الكلام هو أن معرفتهم طريق الوصول الى الله عزّ وجلّ ، قال المفضّل بن عمر : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصراط فقال عليه‌السلام :

«هو الطريق الى معرفة الله عزّ وجلّ وهي صراطان صراط في الدنيا وصراط في الاخرة ، فأمّا الصراط في الدنيا فهو الامام المفروض الطاعة من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الاخرة

__________________

(١) وكما في قوله تعالى : (وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) ـ الاية الكريمة في سورة الانعام : ١٥٣ ـ قال العلّامة شرف الدين رحمه الله في مراجعاته : ص ٣٩ ، عن الامامين العظيمين الباقر والصادق عليهما‌السلام كانا يقولان : «الصراط المستقيم هنا هو الامام ، ولا تتبعوا السبل أي أئمّة الضلال ، فتفرق بكم عن سبيله ، ونحن سبيله».

(٢) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٨ ، ص ٧٠ ، ح ١٩.

(٣) قال الحميري يمدحه عليه‌السلام :

سمّاهُ جبّار السّما

صراط حقّ فسما

فقال في الذّكر وما

كان حديثاً يفترى

هذا صراطي فاتّبعوا

وعنهم لا تخدعوا

فخالفوا ما سمعوا

والخلف ممّن شرعا

واجتمعوا واتّفقوا

وعاهدوا ثمّ التفوا

أن مات عنهم وبقوا

أن يهدموا ما قد بنى

مناقب آل أبي طالب : لابن شهر آشوب ، ج ٣ ، ص ٧٣ ، المقتطفات : لابن رويش ، ج ٢ ، ص ٣١٨.

١٠٢

ومَن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الاخرة فتردّى في نار جهنم» (١).

وبهذا المضمون وردت روايات كثيرة عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم‌السلام وقد سطرت في الكتب الشيعة وبصورة مفصلة.

يقول العالم الجليل الشّيخ الصّدوق رحمه الله في كتابه الشريف «الاعتقادات» : إعتقادنا في الصراط أنّه الحقّ وأنّه جسر جهنم أنّه عليه ممر جميع الخلق قال الله عزّ وجلّ :

(وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا) (٢).

والصراط في وجه آخر اسم حجج الله تعالى مَن عرفهم في الدنيا واطاعهم اعطاه الله جوازاً على الصراط الذي هو جسر جهنم يوم القيامة ، قال النّبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام :

«يا علي إذا كان يوم القيامة أقعد أنا وأنت وجبرائيل على الصراط فلا يجوز على الصراط إلّا مَن كانت معه براءة بولايتك» (٣).

(وَنُورِهِ)

وقيل في تعريف النّور : «النّور ظاهر بنفسه ومظهر لغيره» (٤).

والضياء أقوى ما بلغ من النور ، ولذا يضاف الضّياء الى الشمس ، والنور الى

__________________

(١) تفسير الميزان : للعلّامة السّيد محمّد حسين الطباطبائي رحمه الله ، ج ١ ، ص ٤١ ، عن معاني الاخبار : ص ٣٢ ، بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٤ ، ص ١١.

(٢) مريم : ٧١.

(٣) اعتقادات الصّدوق رحمه الله ، وعنه الانوار اللامعة : ص ١٠٥ ، معاني الاخبار : ص ٣٦.

(٤) فراجع تفسير الميزان : للعلّامة الطّباطبائي رحمه الله ، ج ١ ، ص ١٢ ، في تفسير هذه الآية الشريفة : (اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...) سورة النّور.

١٠٣

القمر.

وقال بعضهم : الفرق بينهما هو أنّ الضياء ذاتي والنور عارض ومكتسب ، ولعل ذلك هو وجه التّعبير في الآية الشّريفة :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) (١).

ويحتمل أن يكون المعنيين صحيحاً في تفسير الآية الشريفة ، ولا يبعد أن يكون تأويلها ناظر الى أن المراد بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام فالشمس تعبير عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن القمر عن الائمّة الاخيار عليهم‌السلام (٢).

وعلى أية حال أن المراد من كونهم نور الله هو هداية العالم بنور علمهم أو بنور وجودهم المقدّس. لانهم العلل الغائية لوجود الاشياء ، أو المراد كلاهما الوجود والعلم.

أو يكون المراد أنّهم أدلة واضحة وأنوار طاهرة تنير بصيرة وقلوب المؤمنين ، وعلى أثر ذلك النور يتبعهم المؤمنون في أقوالهم وأفعالهم وبذلك ينالوا الفوز والسّعادة الأبدية.

عن أبي الجارود قال : قلت لابي جعفر الباقر عليه‌السلام : لقد أتى الله أهل الكتاب خيراً كثيراً.

قال الإمام عليه‌السلام : وما ذاك؟

قلت : قول الله عزّ وجلّ : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ).

الى قوله : (أُولَـٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) (٣).

فقال الإمام عليه‌السلام : «وقد آتاكم الله كما آتاهم ، ثمّ تلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا

__________________

(١) يونس : ٥.

(٢) ورد عن الامام الباقر عليه‌السلام في حديث طويل أثبتنا منه موضع الحاجة ، فقال : «... فضرب الله مثل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشمس ومثل الوصي بالقمر ...» روضة الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ٨ ، ص ٣٨٠ ، ح ٥٧٤.

(٣) القصص : ٢٨.

١٠٤

اللَّـهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) (١). يعني إماماً تأتمون به» (٢).

وعن أبي خالد الكابلي قال : سألت أبا جعفر الإمام الباقر عليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ : (فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا) (٣).

قال عليه‌السلام : «النّور والله ، الأئمّة من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى يوم القيامة ، وهم والله نور الله الذي أنزل ، وهم والله نور الله في السموات والارض ، والله النور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار. وهم والله ينورون قلوب المؤمنين ويحجب الله عزّ وجلّ نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم ... الى آخره» (٤).

فراجعوا الى ما أشرنا آنفاً من شرح آية النّور وتفسيرها نافع في هذا المقام ، ونقل محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله تبارك وتعالى : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّـهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) (٥).

قال عليه‌السلام : «يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام بأفواههم».

قلت : قوله تعالى : (وَاللَّـهُ مُتِمُّ نُورِهِ).

قال عليه‌السلام : «والله متمّ الامامة ، والامامة هي النور ولذلك قوله تعالى عزّ وجل : (فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا).

وقال : النّور هو الامام (٦).

__________________

(١) الحديد : ٢٨.

(٢) تفسير نور الثقلين : للحويزي رحمه الله ، ج ٥ ، ص ٢٥٢ ، عن اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ١٩٤.

(٣) التغابن : ٨.

(٤) تفسير نور الثقلين : ج ٥ ، ص ٣٥٠ ، عن اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ١٩٤.

(٥) الصف : ٨.

(٦) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ١٩٦.

١٠٥

(وَبُرْهانِهِ)

البرهان بمعنى الحجّة فان الائمّة الهدى عليهم‌السلام برهان الله وحجته ، لان البراهين والآيات تدل على كمال الذات والصفات والافعال الالهية ومن هنا ورد عن امير المؤمنين علي عليه‌السلام قال :

«مالله عزّ وجلّ آية أكبر منّي ، ولا لله من نباءٍ أعظم منّي» (١).

ويمكن أن يكون المراد من كونه النباء العظيم هو ان الدلائل التّوحيد وبراهينه تبين بواسطة الأئمّة عليهم‌السلام وبذلك يردّون أباطيل أهل الشرك والكفر.

(وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ)

* * *

(أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ)

أشهد أنه لا معبود بالحقّ غير ذاته المقدّس ربّ العالمين الذي يجمع جميع الصّفات الكمالية ، وكمال وجلال الاخرين مقتبسين منه عزّ اسمه.

__________________

(١) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٣٦ ، ص ١ ، تفسير فرات الكوفي : أبي القاسم فرات بن ابراهيم بن فرات الكوفي من أعلام الغيبة الصُغرى رحمه الله ، ص ٥٣٤.

وروى علقمة أنّه خرج يوم صفين رجل من عسكر الشّام وعليه سلاح ومصحف فوقه ، وهو يقول : عمّ يتساءلون ، فأرادتُ البراز ، فقال عليه‌السلام : مكانك ، وخرج بنفسه وقال : أتعرف النّبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون؟ قال : لا ، قال عليه‌السلام : والله إنّي أنا النّبأ العظيم ، الذي فيه اختلفتم ، وعلى ولايتي تنازعتم ، وعن ولايتي رجعتم بعدما قبلتم ، وببغيكم هلكتم بعدما بسيفي نجوتم ، ويوم غدير قد علمتم ويوم القيامة تعلمون ما علمتم ، ثمّ علاه بسيفه فرمى رأسه ويديه ثمّ قال :

أبى الله إلّا أنّ صفّين دارنا

وداركم مالاح في الاُفق كوكب

وحتّى تموتوا أو نموت وما لنا

وما لكم عن حومة الحرب مهرب

راجع مناقب آل أبي طالب : لابن شهر آشوب ، ج ٣ ، ص ٧٩ ـ ٨٠ ، والمقتطفات : للعلّامة ابن رويش ، ج ٢ ، ص ٣٢٥.

١٠٦

ويشعر بيان هذه الشهادة ان جميع الاوصاف الكمالية والجلاليّة التي ذكرت لأئمّة الهدى عليهم‌السلام مقتبسين من فيض الوجود المقدّس لذلك الواحد الأحد ، وكانوا عليهم‌السلام بهذه المقامات العالية والمراتب السّامية من عباد الله عزّ وجل ، فهم يحتاجون في جميع الشؤون الى ساحته المقدّسة ، فهو المعبود جلّ إسمه وهم العباد عليهم‌السلام فهو خالق عظيم وهم عباد خاضعين ، وهو ربّ كريم وهم مربوبون له ، كما اشاروا عليهم‌السلام الى ذلك وقالوا :

«نزّهونا عن الرّبوبية وقولوا فينا ما شئتم» (١).

(وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ)

فهو اله واحد وملك لا شريك له ، فهذه الجملة تأكيد على الجملة السالفة.

(كَمَا شَهِدَ اللهُ لِنَفْسِهِ وَشَهِدَتْ لَهُ مَلائِكَتُهُ وَاُولُوا العِلْمِ مِنْ خَلْقِهِ)

يعني كما شهدوا شهادةً حقيقية مخلصة بالاخلاص الواقعي لم تصل القدرة البشرية الى إدراك كنهه ، ولم تقف ادراكات الإنسان على حقيقته ، فعلى هذا نشهد على توحيد ذاته وصفاته كما شهد الله عزّ وجلّ على نفسه ، وكما ورد في حديث عن النّبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

__________________

(١) ورد هذا الحديث في بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٥ ، ص ٢٨٣ ، ح ٣٠ ، عن بصائر الدّرجات ، عن الامام الصّادق عليه‌السلام بهذه الصّورة «يا كامل اجعل لنا ربّاً نؤب إليه وقولوا فينا ما شئتم» وفي ج ٤٧ ، ص ٦٨ ، ح ١٥ ، عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : «... اجعلنا مخلوقين وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا ...» ، فتأمّل عزيزي القارئ ، أنّ الائمّة الاطهار عليهم‌السلام لم يدّعوا لأنفسهم الرّبوبيّة ولا الالوهيّة أبداً ، بل أن لهم مقام لا يدركه أحد ، لأنهم حقّاً كما هو موصُفون في هذه الزّيارة الشّريفة ، ولا تغريك أقلام الحاقدين الذين لا ديدن لهم إلّا إتهام الآخرين بالكفر والشّرك.

١٠٧

«سبحانك لا أصفك إلّا بما وصفت به نفسك» (١).

يعني سبحانك أنى يحيط فكر وقوة الإنسان أو عقله ووهمه وقياسه بذاتك وصفاتك المقدّسة ، وأنا لا أصفك إلّا بما وصفت به نفسك وفي جملة «كما شهد الله ...» إشارة الى الآية الشريفة (١٨) في سورة آل عمران :

(شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ) (٢).

بمعنى شهد الله عزّ وجلّ بوحدانيته ببدايع الحكمة وعجائبها والملائكة وأهل العلم من مخلوقاته من الانبياء والمرسلين والاولياء والصالحين والعلماء والعارفين.

وتتضمن هذه الآية بيان فضل العلم والعلماء ، لان الله عز وجل قرن ذكر العلماء بذكر الملائكة ، وشهادتهم بشهادتهم.

ومن الروايات الواردة في فضل العلم والعلماء رواية جابر بن عبد الله الانصاري رحمه الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«ساعة من عالم يتكي على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاماً» (٣).

(لا إلهَ إلّا العَزِيزُ الحَكِيمُ)

جاء تكرار هذه الجملة إمّا للتأكيد ، أو وصف الله تعالى بصفة العزّة والمراد منها غلبته وقهره ، أو بالحكمة ، والمراد منها فعله وإيجاده للاشياء بصورة متقنة ومحكمة على حسب المصالح ، يعني كل ما يرى في عالم الخلق جاء بأبدع صورة واتقنها وحكمها ، وكل ما يرى من الجزئيات والكليات في خلقته كانت لمصلحة

__________________

(١) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٤ ، ص ٤٠ ، ح ١٨ ، عن التّوحيد : للشيخ الصدوق رحمه الله ، ص ١١٣.

(٢) آل عمران : ١٨.

(٣) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢ ، ص ٢٣ ، نقلاً عن روضة الواعظين.

١٠٨

مودعة فيها ووفقاً لعدالة مقضية لها ، فإذا زاد على ذلك الموجود أو نقص منه شيئاً اختل نظام وجوده ، أذاً إن الله عزّ وجلّ يستوجب التّوحيد والتّمجيد لأن أفعاله جاءت وفقاً لحكمته ، ومظاهر قدرته مطابقة لشؤون المصلحة.

(وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمّدَاً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عَبْدُهُ)

ونشهد أنّ محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبده الذي أدى حق العبودية بالحق ، أو قام بواجبات العبودية الى الحدّ الذي تتحمله القدرة البشرية ، والاضافة هنا اختصاصية وتشريفية من جهة وصوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى حقيقة العبودية.

وتوضيح هذا المقام يتم بذكر هذا المقال : قال العالم الكبير المحقق القدير الشيخ الخواجة نصير الدين الطوسي رحمه الله في كتابه الشريف «الاخلاق الناصري» : «أن الحكماء قالوا أنّ العبادات ثلاثة أقسام :

الاوّل : العبادات الواجبة على الابدان كالصّلاة والصّوم والسّعي بين الصّفا والمروى وأمثال ذلك.

الثّاني : العبادات الواجبة على النفوس كالاعتقادات الصّحيحة كالتّوحيد وما يستحقه الله عزّ وجلّ من الثّناء والتّمجيد والتّفكر في مخلوقات الله تعالى ونعمه والرّفعة في الحكم في خلقه ثمّ التّوسع في هذه المعارف الالهية.

الثّالث : الواجبات على الانسان من حيث أنّه اجتماعي والمشاركة مع الناس في بناء الحضارة من المعاملات والمزارعة والنّكاع وأداء الامانة والنّصيحة وخدمة الآخرين وطلب الخير لهم والمعاونة على البرّ والتّقوى وجهاد الأعداء والدّفاع عن حريم الدّين وصلة الرّحم وأمثال ذلك من الواجبات (١).

__________________

(١) الاخلاق النّاصري : للشّيخ نصير الدين الطّوسي رحمه الله ، ص ٢٧٣.

١٠٩

تمّ كلام المحقق المذكور رحمه الله الذي اشار الى حقيقة العبودية وأقسامها.

وحقيقة العبودية كما وردت في حديث عنون البصري ثلاث اُمور :

الأوّل : أن لا يعرف الإنسان ممّا آتاه الله تعالى من الملك والثّروة مالكاً لها حقيقة ، لان العبد لا يملك شيئاً بل كل ما يملك فهو لله سبحانه ، ويصرفه حيث أمره الله سبحانه.

الثّاني : أن لا يرى التّدبير من عنده نفسه ، بل يعلم أن المدبر الحقيقي هو الله سبحانه.

الثّالث : أن تكون أعماله منحصرة في إطار الاوامر الالهية ونواهيه ، وعندما يعلم العبد أنّه لا يملك شيئاً يسهل عليه الانفاق ، وعندما يفوض العبد تدبير اُموره الى الله تعالى تهون عليه مصائب الدنيا وشدائدها ، وعندما يشغل العبد نفسه بطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه فلا يحصل له فرصة المباهات والجدال ومنافسة الناس على الدنيا ، إنتهى.

ولقد نال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صعيد العبادات والحقائق الثّلاثة في العبودية غاية مراتب العبودية ، بل سبق الملاء الأعلى وعوالم الملائكة في نيل وسام العبودية ، وهذا المقام لا يقل شرفاً ومكانة من الرّسالة ، ولذا تأتي الرسالة في مرتبة متأخرة من العبودية ، كي يفهم الناس أن نبيّ الإسلام العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفتخر ويتباهى بعبوديته لله سبحانه وتعالى قبل أن يفتخر ويتباهى برسالته.

(المُنْتَجَبُ)

يقال لكل شيء متميز الذي ينتخب على الآخرين ، ورد في الخبر : «الانعام من نجائب القرآن» ، أي سورة الانعام من السور المنتخبة في القرآن الكريم ، وبما أنّ الانبياء عليهم‌السلام وبالاخص الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متميزون عن الناس ، فنتجبهم الله

١١٠

عزّ وجلّ على الآخرين لحمل أعباء الرسالة وهداية البشرية (١).

(وَرَسُولُهُ المُرتَضَى)

فانّ الله سبحانه وتعالى رضي به رسولاً من عنده في حمل الرّسالة ، أو المراد أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتضى في شفاعة العصاة من أمّته ، واذا شفع لاحد يوم القيامة فإن الله سبحانه يقبل شفاعته ، وفي هذه الفقرة المباركة من الزّيارة إشارة الى الآية الشّريفة : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ) (٢).

يعني ، أن الله سبحانه يعطيك كرامة وساعة في شفاعة المذنبين من اُمّتك ما يرضيك.

(أرْسَلَهُ بِالهُدَى)

أرسله الله سبحانه لهداية النّاس بشيراً ونذيراً ، أي يُبشرهم بجنّة الخلد ، وينذرهم من العقوبة الخالدة.

وقد يراد من الهدى ، الكتاب والشريعة ، فجاء حاملاً شريعة غراء للبشرية.

وروي عن ابن عباس أنّه قال : ضمن الله سبحانه لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) (٣) (٤).

__________________

(١) قال أحمد لن زين الدّين الحسائي صاحب شرح زيارة الجامعة : إنّ قوله عبده المنتجب ورسوله المرتضى بجعل المنتجب صفة للعبد والمرتضى صفة للرسول فيه نكتة وهي : ان الانتجاب أخصّ من الارتضاء ، إذ قد يرتضي الشخص شيئاً لأمر خاص وان لم يكن ذلك المرتضى خيرة الموجود لصلاحه لذلك الأمر الخاص والمرتضى وان كان هو منتجباً ممن لا يرتضى لهذه الاامر لكنه لا يلزم أن يكون منتجباً مكلّفاً بخلاف المنتجب ، فإنه مرتضى ولا كلّ مرتضى منتجب ، فلمّا كان المنتجب أخصّ وصف به العبد الاخص من الرسول ، ص ٩٣.

(٢) الضحى : ٥.

(٣) طه : ١٢٣.

١١١

(وَدينِ الحَقِّ)

أرسل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدين الحقّ (٥) ، دينه الذي إرتضاه لعباده ، لانّه من جملة أسماء الله المقدّسة وهو الحقّ ، أو أن المراد من الدّين دين الحقّ القائم الى يوم القيامة الذي لا يطرأ عليه النسخ والتبديل كما ورد في الحديث الشريف :

«دين محمّد مستمر الى يوم القيامة» (٦).

(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلَّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ)

الدين الذي يظهر على جميع أديان البشرية ولو كره المشركون ، وهذا الوعد من الله سبحانه وتعالى والظهور لدين الحق بصورة كاملة يتحقق عند ظهور قائم آل محمّد «عجّل الله تعالى فرجه الشّريف».

(وَأشهَدُ أنّكُمْ الأئمّةُ الرّاشِدُونَ)

لأنهم عليهم‌السلام يرشدون (٧) النّاس الى طريق الحق والهداية وصراط الله المستقيم.

__________________

(٤) تفسير مجمع البيان : للشّيخ الطّبرسي رحمه الله ، ج ٤ ، ص ٣٤ ، في ذيل تفسير هذه الآية.

(٥) وقد وردت في رواية عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام قال : قلت : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ) قال عليه‌السلام : هو الذي أمر رسوله بالولاية لوصيّة ، والولاية هي دين الحق قلت : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ليظهره على جميع الاديان عند قيام القائم عليه‌السلام (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الآية في سورة التوبة : ٣٢ ، وسورة الصف : ٩.

(٦) كنز العمال : ج ١ ، ص ٢٢٥ ، ح ١١٥٣.

(٧) وردت تعبير الأئمّة الرّاشدون في رواية العامّة والخاصّة ، وفسّره كلُّ طائفة حسب ما يوافق مذهبها ، والحقّ ما ذهب اليه المذهب الحقّ الذين تولوا آل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتبعوهم ، وذلك عندما نتأمل في الاخبار الواردة عن الفريقين وبدقة كاملة نجدها جميعاً تنبع من عين واحدة ويكشف زلال مائها عن مكوث أسماء أئمّة الشيعة على الارض لأنّهم أنفع للبشرية في الهداية ، والزبد الذي يؤمن به غيرهم ، فيذهب جفاء لأنّه لم ينفع النّاس ، بل كان سبباً للشقاق والويلات طول التاريخ هذا من جانب وحرمان الاُمّة عن تلك العين الصّافية من جانب آخر.

١١٢

(الهادُونَ)

ويهدونهم أيضاً الى شريعة سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أشرنا إليها آنفاً ، والمراد من الهداية في الآية الشّريفة المذكورة (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (١) يعني الأئمّة الاطهار (٢).

(المَهْدِيُّونَ)

فانهم عليهم‌السلام مهتدون بهداية الهية ، لانّه الهداية الواقعية تأتي فقط من الله سبحانه الذي أعطى لكلّ شيءٍ هداه.

(المَعْصُومُونَ)

المحفوظون والممتنعون عن الذّنوب والمرتدعون عن الأرجاس والعيوب ، لان المصعوم يطلق على من يرتدع عن جميع المحارم الالهية ويجتنب عنها.

والعصمة : عبارة عن قوة العقل بحيث لا تتغلب عليه النّفس مع قدرته على إتيان المعاصي جميعاً ، فيتركها إختياراً وتطوعاً. وليس معنى العصمة أن الله سبحانه يجبره على العصمة ويزجره عن المعاصي ، بل يفيض على المعصوم ألطافاً بواسطتها يترك معها المعصوم المخالفة والعصيان باختياره مع قدرته عليها ولا يلوث نفسه بالارجاس كقوة العقل ، والكمال ، والذكاء والفطنة وصفاء النفس ، ويقضة الوجدان والضمير ، وكمال الاعتناء بطاعة الله جلّ جلاله ، فهذه العناصر هي الطاف الهية

__________________

(١) الرعد : ٧.

(٢) راجع الى تفسير نور الثقلين : ج ٢ ، ص ٤٨٢ ، في تفسير ذيل هذه الآية وتفاسير اُخرى من الفريقين.

وروى الحاكم الحسكاني في شواهد التّنزيل : ج ١ ، ص ٣٠١ ، فيما نزل من القرآن في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال أبو برزة : دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالطّهور وعنده علي بن أبي طالب : فأخذ بيد علي بعدما تطهّر فألصقها بصدره ، ثمّ قال : إنّما أنا منذر ، ثمّ ردّها الى صدر علي بن أبي طالب ، ثمّ قال : ولكلّ قوم هاد ، ثمّ قال : أنت منار الأنام ، وراية الهدى ، وأمين القرآن ، وأشهد على ذلك انّك كذلك.

١١٣

تفاض على المعصوم وبها يستطيع المعصوم ان يحفظ نفسه من المعاصي.

وإذا كان الإمام محفوظاً من المعاصي من جانب الله عزّ وجلّ وليس له قدرة على إتيان المعاصي لكان غير مكلف ، واللازم «وهوت عدم التّكليف» باطل ، فكذا الملزوم «وهو عدم القدرة على المعصية» باطل مثله.

وعلى أي حال إن هناك أدلة عقلية وبراهين نقلية كثيرة مذكورة في كتب الاصحاب تدل على عصمة الأئمة الاطهار عليهم‌السلام ونحن نحاول في هذه الوجيزة ان نذكر عدّة براهين عقلية مختصرة ورواية واحدة.

فمن جملة الادلة العقلية والبراهين النقلية أنّه :

منها : لو لم يكن النّبي أو الإمام معصوماً ، لانتفى الوثوق بقوله ووعده ووعيده فيأبى الناس اطاعته ، فيكون بعثه وإرساله لهم من قبل الباري تعالى عبثاً ولغواً.

ومنها : أنّه لو كان النّبي أو الوصي في الامور الشرعية مخطئاً لاحتاج الى من يسدده ويردعه عن أخطائه ، فإمّا أن يكون الرادع معصوماً فيثبت المطلوب أو غير معصوم فيلزم التسلسل. وبطلانه بديهي.

ومنها : أنه يقبح على الحكيم أن يكلّف النّاس بإتباع من يجوز عليه الخطأ.

ومنها : أنّه لو عصى وانحرف لأقيم عليه الحدّ ووجب إنكار الرعية هذا العمل المشين عليه فيسقط اعتباره وهيبته من القلوب.

وغير ذلك من الادلة.

وورد عن الإمام السّجاد عليه‌السلام أنّه قال :

«الامام منّا لا يكون إلّا معصوماً ، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها ، فلذلك لا يكون إلّا منصوصاً».

فقيل له : يا ابن رسول الله فما معنى المعصوم؟

فقال عليه‌السلام : «هو المعتصم بحبل الله ، وحبل الله هو القرآن لا يفترقان الى

١١٤

يوم القيامة والامام يهدي الى القرآن والقرآن يهدي الى الامام ، وذلك قول الله عزّ وجلّ : (إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (١) (٢).

وغيرها من الاحاديث المسطورة في الكتب المفصلة.

(المُكرَّمُونَ)

الذين كرّمهم (٣) الله تعالى وخلق جوهر ذاتهم من نوره ، وخلق طينتهم من عليين ، وجعلهم مظهر صفاته ، وجعلهم مقتدى الانام يقتدون بهم في الاقوال والافعال ، وأكرمهم بالكرامات الصّورية والمعنوية والدّنيوية والاخروية.

ولعل هذه الكلمة اشارة الى أن الله تعالى أكرم وجوههم وجباهم من السجود للاصنام ، وطهّر ذاتهم من الشّرك والنّفاق كما يعبر عن ذلك أهل السُّنة والجماعة عند ما يذكرون اسم امام المتقين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فيقولون (كرم الله وجهه) لأنّه «عليه أفضل صلاة المصلّين» لم يسجد طرفة عين للاصنام ولم يشرك بالله سبحانه. بل آمن بالله وبرسوله وهو في نعومة أطفاره لم يتجاوز العشر سنين ، وكان أول من أسلم بين يدي نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّهم عندما يذكرون أسماء بقيّة الصّحابة يقولون رضي الله عنه ، لانّهم تلوثوا بعبادة الاصنام والشّرك.

(المُقَرَّبُونَ)

لأنّ لهم عند الله تعالى قرباً معنوياً ، فان لهم المحل الأعلى عنده بحيث لا يدانيهم

__________________

(١) الاسراء : ٩.

(٢) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢٥ ، ص ١٩٤ ، ومعاني الاخبار : للشّيخ الصّدوق رحمه الله ، ص ٤٤.

(٣) ورد في علل الشّرايع عن النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم وأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسّجود تعظيماً لنا وإكراماً ، وكان سجودهم لله عزّ وجلّ عبودية ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه ...» علل الشرايع.

١١٥

ملك مقرب ولا نبي مرسل عدا جدّهم الاكرم خاتم الانبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانه أشرف المخلوقات وأقرب الموجودات الى الله عزّ اسمه من حيث الجلالة والفضيلة.

ويحصل القرب المعنوي ، بالاذكار الجميلة والاعمال الصالحة ، والاقوال الحسنة ، ولا يجوز القرب الذاتي والمكاني لذاته الاقدس ، لانّ ذلك من صفات الاجسام المادية ، والله عزّ وجلّ منزّه عن الجسم والمادة.

والمراد من قرب الله تعالى من العبد ، هو قرب النعم والالطاف ، ومن تقرّب الى الله عزّ وجلّ ، تقرّبه إليه بافاضة الاحسان والسنن والمواهب اليه ، وهذا هو المعنى الوارد في الحديث القدسي :

«من تقرب اليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً» (١).

يعني : أن العبد لو تقرب الى خالقه وربّه بالعمل الصالح القليل ، أفاض الله عزّ وجلّ عليه من الطافه واحسانه شيئاً كثيراً ، وكما ورد ذلك في فقراتٍ من الأدعية الرّجبية المباركة : «يَا مَنْ يُعطِي الكَثِيرَ بِالقَلِيلِ» (٢).

(المُتَّقُونَ)

التقوى في اللغة تأتي بمعني الحفظ والصّيانة ، وفي الاصطلاح بحفظ النفس وصيانتها من إصابتها بالأضرار الاُخروية ، وحملها على ما ينفعها ويسددها في الاخرة وللتّقوى مراتب ثلاث :

الأولى : حفظ نفس من العذاب الدّائمي ، بتصحيح العقائد الحقّة ، لانه من خرج من الدّنيا كافراً ، كان مخلداً في نار جهنم.

الثّانية : إجتناب المعاصي جميعاً سواءً كانت فعلاً مثل القمار والشراب

__________________

(١) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٢ ، ص ٣١٤ ، ح ٦ ، باب ١٤.

(٢) مفاتيح الجنان : للمحدّث الشّيخ عباس القمي رحمه الله ، أدعية الأيام الرّجبية.

١١٦

والكذب ، أو تركاً ، مثل : ترك الصلاة والصوم والحج وأمثالها.

الثالثة : حفظ النفس بما يشغلها عن الحق وذكر الله تعالى وإن كان مباحاً ، إلّا بمقدار الضرورة أو عند الاضطرار إليه ، وورد عن بعض النّاكسين عندما سئل عن التقوى فضرب مثال وقال : كيف تعمل لو دخلت أرضاً أو صحراءً ملئت بالاشواك.

فقال السّائل : أحفظ نفسي واحتاط في المشي بصورة كاملة كي لا تدخل الاشواك في قدمي.

قال الناسك : هكذا إعمل في الدّنيا ، وهذا هو التقوى.

وسئل عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن تفسير التّقوى قال : «أن لا يفقدك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك» (١).

ووردت حكمة التقوى في القرآن الكريم بمعنى الخوف والخشية والطاعة والعبادة أيضاً. وبأي معنىً كان لو فسّرنا التقوى فان أئمّة الهدى عليهم‌السلام أتقى المتقين ، وقد أخذ الاخرون مراتب وحقيقة التقوى منهم لأنّهم أئمّة المتقين حقّاً صلوات الله عليهم أجمعين.

(الصَّادِقُونَ)

فهم عليهم‌السلام الصادقون في جميع أقوالهم وأفعالهم وأموالهم الذين قال الله تعالى فيهم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (٢).

إذ ليس المراد بالصّادقين الصادقين في الجملة ، إذ ما من أحدٍ إلّا وهو صادق في الجملة حتى الكافر لأنّه قد يسرق مرّة واحدة ويعمل عملاً صحيحاً مرّةً اُخرى ،

__________________

(١) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٧٠ ، ص ١٨٥.

(٢) التوبة : ١١٩.

١١٧

فانّ الله سبحانه لا يأمر النّاس ان يكونوا معه ، وأن يتبعوا أقواله وأعماله ، بل المراد بهم الصادقون في إيمانهم وعهودهم ومقاصدهم وأقوالهم واخبارهم واعمالهم وشرائعهم ، بل وفي جميع أحوالهم وأزمانهم.

ولم تتحقق هذه الصّفات في غير الائمّة عليهم‌السلام إتفاقاً بين المسلمين كافة من السُّنة والشيعة الاثنى عشرية ، إذ كل من سواهم لا يخلو من الكذب في اجملة ، فيتعين أن تكون الآية الشريفة نزلت في شأنهم ، وتدل على عصمتهم ، إذ يقبح الامر بمتابعة غير المعصوم كما قررنا آنفاً ولا يصدر القبيح من الله تعالى.

روى بريد العجلي قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قوله عزّ وجلّ : (اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

قال الامام عليه‌السلام : «أيّانا عنى» (١).

وروى البزنطي عن الإمام الرضا عليه‌السلام قال سألته عن قول الله عزّ وجلّ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

قال الإمام عليه‌السلام : «الصّادقون هم الائمّة والصّديقون بطاعتهم» (٢).

اذاً المراد من الصّديقين هم أيضاً ، لانه لم يصل في درجة العبادة أحد الى هذه الدرجة إلّا هم والانبياء عليهم‌السلام.

(المُصطَفُونَ)

الذين اصطفاهم الله واجتباهم واختارهم على العالمين ، وهم مصطفى آل ابراهيم في قوله تعالى :

__________________

(١) تفسير نور الثّقلين : للحويزي رحمه الله ، ج ٢ ، ص ٢٨٠ ، اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٢٠٨.

(٢) اصول الكافي : للشّيخ الكليني رحمه الله ، ج ١ ، ص ٢٠٨ ، تفسير نور الثّقلين : ج ٢ ، ص ٢٨٠.

١١٨

(إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (١).

وفي تفسير الآية الشريفة : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) (٢).

وعن الصّادقين عليهما‌السلام : «هي لنا خاصّة وايّانا عنى» (٣).

وفي تفسير علي بن ابراهيم : ثمّ ذكر آل محمّد فقال : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ...).

قال : هم الأئمّة عليهم‌السلام ، (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ) من آل محمّد غير الأئمّة ، وهو الجاحد للامام (مِنْهُم مُّقْتَصِدٌ) وهو المقرُّ بالامام (وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّـهِ) وهو الامام» (٤).

(المُطِيعُونُ للهِ)

الذين يطيعون الله تعالى في جميع أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم الى حدٍّ يبذلون أنفسهم وأحوالهم وأرواحهم في سبيله ، يصبرون في جميع هذه الحالات طلباً لمرضاته.

ويكفي في عبادة علي بن أبي طالب عليه‌السلام قول الراوي : رأيت عليّاً عليه‌السلام ليلة في النخيلات وقد صلى ألف ركعة ، فكان يصلي عند كلّ نخلة ركعتين وهو يتمليل تململ السليم ويبكي بكاء الحزين حتى أغمي عليه ... الى آخر الحديث (٥).

__________________

(١) آل عمران : ٣٣.

(٢) فاطر : ٢٩.

(٣) تفسير نور الثقلين : للحويزي رحمه الله ، ج ٤ ، ص ٣٦٤.

(٤) تفسير القمي : لعلي بن ابراهيم القمي رحمه الله ، ص ٥٤٦.

(٥) اُنظر الى عبادته ٧ في بحار الانوار : ج ٤١ ، ص ١١ الى ٢٤ ، باب ١١ ، والامالي : للشّيخ الصّدوق رحمه الله : ص ٣٧١ ، الخصال : ج ١ ، ص ١٦٤ ، حلية الابرار ، ج ١ ، ص ١ ، باب ٢٠.

١١٩

وفي عبادة الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام ، قيل أنّه عليه‌السلام كان أعبد أهل زمانه وأزهد وأفضل أهل عصره فقد روي أنّ الإمام الحسن بن علي عليه‌السلام كان اذا توضأ ارتعدت مفاصله ، واصفرّ لونه فقيل له في ذلك فقال عليه‌السلام : «حقّ على من وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفر لونه ، وترتعد مفاصله».

وكان عليه‌السلام : إذا بلغ باب المسجد رفع راسه ويقول : «إلهي ضيفك ببابك ، يا محسن قد أتاك المسيء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم» (١).

وفي عبادة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه‌السلام قال الإمام السجاد عليه‌السلام لما قيل له : ما أقل ولد أبيك؟

فقال عليه‌السلام : «العجب كيف ولدت له كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة متى كان يتفرغ للنساء؟» (٢).

وفي عبادة الإمام علي بن الحسين السجاد عليه‌السلام ما لقب به من الالقاب الشريفة مثل سيد الساجدين ، وزين العابدين ، وذو الثفنات (٣).

وورد في بعض الرّوايات : كان في موضع سجوده آثار ناتئة وكان يقطعها في السنة مرّتين في كلّ مرّة خمس ثفنات ، فسمّي ذا الثفنات لذلك (٤).

وفي رواية اخرى : أنّه عليه‌السلام كان قائماً يصلّي حتى وقف إبنه محمّد عليهما‌السلام وهو طفل الى بئر في داره بالمدينة بعيدة القعر فسقط فيها فنظرت إليه اُمّه فصرخت وأقبلت نحو البئر تضرب بنفسها حذاء البئر وتستغيث وتقول : يا ابن رسول الله غرق ولدك محمّد ، هو لا ينثني عن صلاته ، وهو يسمع اضطراب ابنه في قعر البئر ، فلمّا

__________________

(١) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٤٣ ، ص ٣٣٩ ، المناقب : لابن شهر آشوب رحمه الله ، ج ٨ ، ص ١٤.

(٢) العقد الفريد : ج ٤ ، ص ١٧١ ، بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٤ ، ص ١٩٦.

(٣) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٤٦ ، ص ٢ الى ٦ ، باب ١ ، مناقب آل أبي طالب : ج ٤ ، ص ١٧٥ ، الفصول المهمة : لابن الصباغ المالكي ، ص ١٨٧.

(٤) بحار الانوار : للعلّامة المجلسي رحمه الله ، ج ٤٦ ، ص ٦ ، عن علل الشّرايع : الشّيخ الصّدوق رحمه الله ، ص ٨٨.

١٢٠