علوم العربيّة - ج ٢

السيد هاشم الحسيني الطهراني

علوم العربيّة - ج ٢

المؤلف:

السيد هاشم الحسيني الطهراني


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ـ ٦٧ / ٢٩ ،

الثالث : ان يكون المظروف امرا معنويا والظرف حسيا واتيان الكلام بهذا الاسلوب لافادة ان المظروف ثابت راسخ فيه ، نحو قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ـ ٢ / ١٦٤ ، (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ـ ٤٢ / ٢٣ ، (وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) ـ ٥٧ / ٢٠ ، (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) ـ ١٢ / ٧ ، (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ـ ٣٣ / ٢١.

وقول على عليه‌السلام : فى كل نفس موت ، وفى كل وقت فوت ، وفى الدنيا رغبة الاشقياء وفى الآخرة رغبة السعداء.

الرابع : ان يكون الظرف والمظروف كلاهما معنويين ، واتيان الكلام بهذا الاسلوب لما قلنا فى القسم الثالث ، نحو قول على عليه‌السلام : فى اخلاص الاعمال تنافس اولى النهى والالباب ، فى العدل الاقتداء بسنة الله وثبات الدول ، فى الصبر الظفر ، وقد يعتبر الزمان فى الظرف المعنوى من هذا القسم ، نحو قول على عليه‌السلام : فى الشدة يختبر الصديق ، وفى الضيق يتبين حسن مواساة الرفيق ، فى الضيق والشدة يظهر حسن المودة ، اى فى زمان الشدة والضيق ، وفى الموت غبطة او ندامة ، اى فى زمن الموت يحصل الغبطة او الندامة ، فى الرخاء تكون فضيلة الشكر وفى البلاء تحاز فصيلة الصبر.

الخامس : ان يكون الظرف علة لشئ ، واتيان الكلام بهذا الاسلوب تنزيلا للعلة منزلة الظرف لجامع الصيانة ، فان العلة تصون معلولها كما ان الظرف يصون مظروفه ، او بجامع الخروج والظهور فان العلة وعاء يخرج منه المعلول كخروج المظروف من الظرف نحو قوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ـ ٤٧ / ٣٠ ، (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي

٤٠١

فِيهِ) ـ ١٢ / ٣٢ ، اى فى حبه ، (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) ـ ٢٤ / ١٤ ، اى فى اعمالكم ، (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) ـ ٢ / ١٧٩ وقول على عليه‌السلام : فى الذكر حياة القلوب ، فى مجاهدة النفس كمال الصلاح ، فى العزوف عن الدنيا درك النجاح ، فى كل اعتبار استبصار ، فى كل حسنة مثوبة وفى كل سيئة عقوبة ، فى القناعة الغنى وفى الحرص العنى ، فى شكر النعم دوامها وفى كفر النعم زوالها ، فى العدل اصلاح البرية وفى الجور هلاك الرعية ، فى المواعظ جلاء الصدور.

وكقوله عليه‌السلام : والله لو شئت ان اخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شانه لفعلت ، ولكن اخاف ان تكفروا فىّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الا وانى مفضيه الى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه ، اى اخاف ان تكفروا فى اخبارى عن الغيب الخ ، وفى الحديث : ان امراة دخلت النار فى هرّة حبستها فلم تطعمها ولم تسقها ولم ترسلها فتاكل من خشاش الارض حتى ماتت.

والقوم قالوا : فى هذه الامثلة ان فى بمعنى لام التعليل ، ولكن الوجه ما ذكرنا ، والعلية تعلم من معنى الكلام ، وفى بمعناها من الظرفية المعنوية ، وهذا يظهر من قول الزمخشرى فى تفسير قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) ـ ٤٢ / ١١ ، اى يكثركم فى هذا التدبير الذى هو جعل الازواج ، قال الزمخشرى : فان قلت : ما معنى يذرؤكم فى هذا التدبير ، وهلا قيل يذرؤكم به بالباء السببية؟ قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبثّ والتكثير ، الاتراك تقول : فى خلق الازواج تكثير ، كما قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ـ ٢ / ١٧٩ ، فمدخولها الذى هو علة للمذكور قبلها ظرف باعتبار.

تنبيه

ان مجرور فى اما ذات او حدث ، ومظروف كل منهما اما ذات او حدث ، فهذه

٤٠٢

اربعة وجوه ، كما مر فى الامثلة ، فاذا كان المظروف حدثا صادرا من شىء واقعا فى شىء ذاتا كان او حدثا فلا باس ان يقال : ان فى للتعدية وان كانت للظرفية ايضا ، ولكنهم ما قالوا ، وذلك فى موارد.

١ ـ : قوله تعالى : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) ـ ٣٧ / ٨٨ ـ ٨٩ ، (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ ٧ / ١٨٥ ، والنظر اذا عدى بفى فمعناه التفكر والتعقل ، ومن ذلك ما فى هذين البيتين.

ولا يؤاتيك فيما ناب من حدث

٦٦١ الّا اخو ثقة فانظر بمن تثق

ويركب يوم الروع منّا فوارس

٦٦٢ بصيرون فى طعن الا باهر والكلى

٢ ـ : قول على عليه‌السلام : ايها الناس المجتمعة ابدانهم المختلفة اهواؤهم كلامكم يوهى الصم الصلاب وفعلكم يطمع فيكم الاعداء ، وقوله الآخر : ايها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق ولم تهنوا عن توهين الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ولم يقو من قوى عليكم.

٣ ـ : قول على عليه‌السلام : ثم ارسلت داعيا يدعو الى الدار الآخرة ولا الداعى اجابوا ولا فيما رغبت اليه رغبوا ، يتعدى رغب بمعنى مال بفى والى ، ولم يات فى القران بلفظة فى.

٤ ـ : قول على عليه‌السلام فى ثناء ربه : وعدل على عباده فى حكمه ، وعدل فى كل ما قضى وعلم ما يمضى وما مضى.

٥ ـ : قوله تعالى : (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) ـ ٣ / ١١٤ ، (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) ـ ٥ / ٦٢ ، وامثال هذه الافعال التى تتعدى بفى كثيرة.

تنبيه آخر

ذكروا لفى معانى اخرى وليست باخرى ، وهى.

٤٠٣

١ ـ : التعليل ، وقد مر بيانه وان الظرفية مرادة.

٢ ـ : المصاحبة ، اى بمعنى مع ، نحو قوله تعالى : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) ـ ٧ / ٣٨ ، اى مع امم ، وقوله تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) ـ ٢٨ / ٧٩ ، اى مع زينته ، اقول : ليس فى بمعنى مع ، بل ذلك من باب دخول الفرد فى الجمع ، كقوله تعالى : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) ـ ٨٩ / ٣٠ ، فان المراد من زينته اصحابه وخدمه وجواريه.

٣ ـ : الاستعلاء ، اى بمعنى على ، نحو قوله تعالى : (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) ـ ١١١ / ٥ ، (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ـ ٢٠ / ٧١ ، وكما فى البيتين.

هم صلبوا العبدىّ فى جذع نخلة

٦٦٣ فلا عطست شيبان الّا باجدعا

بطل كانّ ثيابه فى سرحة

٦٦٤ يحذى نعال السبت ليس بتوأم

اقول : ان فى بمعناها ، وليس يعتبر فى الظرفية الاحاطة كما ظن ، بل يكفى وقوع شىء فى سطح شىء يمسك به افقيا او عموديا ، نعم فى الاكثر كون سطح الظرف افقيا.

٤ ـ : الانتهاء ، اى بمعنى الى ، نحو قوله تعالى : (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) ـ ١٤ / ٩ ، اى الى افواههم لان الرد يتعدى بالى ، اقول : تقدير الكلام : فرد الكفار ايديهم فى افواه رسلهم ، والكلام كناية عن منعهم عن تبليغهم ، فليس فى الواقع رد يد الى فم او فى فم.

٥ ـ : مرادفة من ، كقول الشاعر.

الاعم صباحا ايّها الطلل البالى

٦٦٥ وهل يعمن من كان فى العصر الخالى

وهل يعمن من كان احدث عهده

٦٦٦ ثلاثين شهرا فى ثلاثة احوال

قال فى المغنى فى بمعنى من ، وقيل بمعنى مع ، اقول : هى بمعناها ، وبيانه مذكور فى شرح الشواهد الشعرية من علوم العربية.

٦ ـ : المقايسة ، قال فى المغنى : وهى الداخلة بين مفضول سابق وفاضل

٤٠٤

لاحق ، نحو (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) ـ ٩ / ٣٨.

اقول : هذا لا يخرج فى عن معناها ، لان التقدير : فما متاع الحياة الدنيا فى جنب الآخرة الا قليل ، ونحوه قول على عليه‌السلام : سبحانك ما اعظم ما نرى من خلقك وما اصغر عظمه فى جنب قدرتك ، وما اهول ما نرى من ملكوتك وما احقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك ، وما اسبغ نعمك فى الدنيا وما اصغرها فى نعيم الآخرة ، واجاز بعضهم وقوع فى زائدة فى الكلام ، وياتى ذكرها فى خاتمة الكتاب.

الفصل الثامن

فى معنى عن ، وهى للمجاوزة ، اى مدخولها متجاوز عنه ، والتجاوز اما بالمرور وهو ان ينتقل شىء عن مبدء ويصل الى شىء ويتجاوز عنه ، واما بالصدور ، وهو ان ينتقل شىء عن شىء ، والثانى هو المجاوزة الابتدائية التى يصح ان يوتى لها عن او من وكل من المعنيين اما حسى واما معنوى ، فهى اربعة اقسام.

القسم الاول

التجاوز الحسى بالمرور ، نحو قوله تعالى : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) ـ ٧٠ / ٣٧ ، لانهم ياتونه ويتجاوزون عن يمينه وشماله ، ثم يقعدون فى ناحية ، وعزين اى مجتمعين ، (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) ـ ٨٠ / ١٠ ، (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) ـ ٥٣ / ٢٩ ، فان التلهى والاعراض والتولى تجاوز النظر عن شىء بعد وقوعه عليه ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) ـ ٢١ / ١٠١ ، فان اهل الجنة ياتون الى النار ويتجاوزون عنها على جسر جهنم الى الجنة ، (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) ـ ٧ / ١٧ ، فان الشيطان ياتى الى الانسان ويتجاوز عن يمينه وشماله الى جانب آخر ، واما بين يديه وخلفه فله توقف ليوسوس فى صدره

٤٠٥

ويتبعه فى مسيره ، ومن ابتدائية ، اى ياتى اليه من بين يديه وياتى اليه من خلفه بلا تجاوز عنه ، بل يتوقف قبال وجهه او وراء ظهره ، ونحو رميت السهم عن القوس وتجاوزت عن النهر.

القسم الثانى

التجاوز الحسى بالصدور ، نحو قوله تعالى : (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) ـ ٨٢ / ١٦ ، ينفى انتقالهم وصدورهم عن جهنم ، ونحو قولك : طار الطائر عن الجدار ، وهذه يصح مكانها من.

القسم الثالث

التجاوز المعنوى بالمرور ، نحو قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) ـ ١٦ / ١٢٥ ، فان الضال يقع فى الطريق ثم يتجاوز عنه ، (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) ـ ٧٩ / ٤٠ ، فان النفس تتوجه اولا الى هواها ثم تنصرف عنه بنهى العقل ، (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) ـ ٧٢ / ١٧ ، فان المعرض يذكر ربه اولا ثم يتبعد عن ذكره ، (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) ـ ٦٥ / ٨ ، فانهم يتوجهون الى امر الله ثم ينصرفون عنه.

القسم الرابع

التجاوز المعنوى بالصدور ، نحو قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ـ ٥٣ / ٣ ـ ٤ ، اى ما يصدر نطقه عن هوى نفسه ، (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) ـ ٦٩ / ٢٩ ، اى زال عنى ، (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) ـ ٦٣ / ٩ ، اى لا تبعدكم عنه ، (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) ـ ٦٩ / ٤٧ ، اى دافعين عنه شيئا ، (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) ـ ٢ / ٣٦ ، اى نحاهما عن الجنة بازلاله اياهما ، (وَما فَعَلْتُهُ

٤٠٦

عَنْ أَمْرِي) ـ ١٨ / ٨٢ ، اى ليس فعلى صادرا عن شانى ، (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) ـ ١١ / ٥٣ ، اى لا نتركها بنهى صادر عنك ، وهذه يصح مكانها من ، وقد مر لها ذكر هناك.

فصل

ذكر فى المغنى لعن معانى اخرى ، نذكرها ونتكلم عليها ، وهى.

١ ـ : البدلية ، نحو قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) ـ ٢ / ١٢٣ ، اى بدل نفس : اقول : البدلية تفهم من تجزى ، والمعنى لا تدفع نفس عن نفس شيئا من العذاب بالجزاء اى بشئ بدل عذابه ، وفى الحديث : صومى عن امك ، اى صومى صوما بدل صوم امك : اقول : التقدير : صومى نيابة عن امك ، وهذان من القسم الرابع ، ونظير الحديث قول المؤمن للمؤمن : جزاك الله عنا خيرا ، اى نيابة عنا ، فان الله تعالى ينوب عن عبده ، كما ورد فى الدعاء : يا خليفة النبيين ، وقال الحسين عليه‌السلام عند وداع اهله يوم العاشور : الله خليفتى عليكم.

٢ ـ : الاستعلاء ، اى بمعنى على ، نحو قوله تعالى : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ،) ـ ٣٨ / ٣٢ ، اى قدمت حب الخير على ذكر ربى ، اقول : فى هذا ثلاثة اخطاء : تفسير احببت بقدمت ، واخذ حب الخير مفعولا به ، واخذ عن بمعنى على ، والحق ان احببت ضمن معنى شغلنى ، ومر بيان التضمين وتوجيه هذه الآية فى الفصل الرابع فى المبحث العشرين من المقصد الاول ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) ـ ٤٧ / ٣٨ ، اى على نفسه لان البخل يتعدى بالباء وعلى ، تقول زيد بخل على بماله ، اقول : فى الآية تضمين ، والمعنى ، ومن يبخل بماله على غيره من اهل الايمان فانما بعد الخير عن نفسه ببخله ، وهذا من القسم الثالث ، وكقول الشاعر.

لاه ابن عمّك لا افضلت فى حسب

٦٦٧ عنّى ولا انت ديّانى فتخزونى

٤٠٧

٣ ـ : التعليل ، نحو قوله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) ـ ٩ / ١١٤ ، اى الا لوعده اياه ، اقول : فى الآية تضمين ، اى ما لزمه الاستغفار لابيه الا عن وعد بينهما ، وهذا من القسم الرابع.

٤ ـ : معنى بعد ، نحو قوله تعالى : (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) ـ ٢٣ / ٤٠ ، اى بعد زمن قليل ، اقول : عما قليل حال لفاعل يصبحن ، اى ليصبحن نادمين متجاوزين عن زمن قليل ، وقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) ـ ٤ / ٤٦ ، اى بعد مواصغه ، بدليل قوله تعالى فى آية اخرى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) ـ ٥ / ٤١ ، اقول : مواضعه فى الآيتين اسم مكان ، والتحريف يستلزم عن وبعد وفى ، وتقدير الآية الاولى : ويحرفون الكلم عن مواضعه بعد وضع الله اياه فيها ، وتقدير الآية الثانية : يحرفون الكلم عن مواضعه من بعد وضع الله اياه فى مواضعه.

٥ ـ : الظرفية ، كقول الشاعر.

وآس سراة الحىّ حيث لقيتهم

٦٦٨ ولا تك عن حمل الرباعة وانيا

٦ ـ : معنى من ، نحو قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) ـ ٤٢ / ٢٥ ، (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) ـ ٤٦ / ١٦ ، بدليل قوله تعالى : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) ٢ / ١٢٧ ، (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) ـ ٥ / ٢٧ ، اقول : هذا من القسم الرابع ، وقد نبهنا على صحة كل من الحرفين ، ولا يخفى ان الحرفين ليسا متعلقين بمادة القبول فى هذه الآيات ، بل بمحذوف ، والتقدير : يقبل ما صدر عن عبده او من عبده من التوبة والاعمال.

٧ ـ : معنى الباء ، نحو قوله تعالى : (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) ـ ٥٣ / ٣ ، اى بالهوى ، قال ابن هشام هنا : والظاهران المعنى وما يصدر قوله عن الهوى ، اقول : ان وراء الظاهر الواقع ، تفطن للتجاوز الصدورى ، ومر ذكره.

٨ ـ : الاستعانة ، نحو قولهم : رميت عن القوس ، بدليل قولهم : رميت بالقوس ، وحكى عنهم : رميت على القوس ، اقول : هذا من باب اجتماع المعانى فيصح الاتيان

٤٠٨

بكل من الحروف الثلاثة ، لان الرامى يستعين بالقوس ويجاوز سهمه عن القوس ولسهمه استعلاء على القوس.

ثم ان عن يستعمل حرفا مصدريا فى لغة بنى تميم وياتى ذكره فى المبحث الحادى عشر من المقصد الثالث ويستعمل ظرفا ، وياتى ذكره فى مبحث الظروف.

الفصل التاسع

فى معنى الكاف : وهى للتشبيه ، وهو تشريك شىء لآخر فى شىء والكلام التشبيهى يتشكل من المشبه والمشبه به واداة التشبيه ووجه الشبه ، نحو زيد كالاسد فى الجراة ، والاكثر عدم ذكر وجه الشبه ، نحو قوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) ـ ١٠٥ / ٥ ، (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) ـ ١٠١ / ٤ ـ ٥ ، (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) ـ ٧٠ / ٨ ، (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) ـ ٦٨ / ٤٨ ، (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) ـ ٦٨ / ٣٥ ، ومر فى حرف كانّ فى المبحث الثانى من المقصد الاول بعض ما يتعلق بالتشبيه.

ثم قد تلحق بها ما الكافة فتدخل على الجمل ، نحو قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ـ ٥٨ / ٥ ، (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) ـ ٥٨ / ١٨ ، (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) ـ ٢٨ / ٧٧ ، (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) ـ ٢ / ١٩٨ ، (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ـ ٧ / ١٣٨ ، (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ـ ٢١ / ١٠٤ ، ومن ذلك قولهم : كن كما انت ، اى كن فى الظاهر كما انت كائن فى الباطن ، وكقول الشاعر :

اخ ماجد لم يخزنى يوم مشهد

٦٦٩ كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه

والظاهر ان ما فى هذا الاسلوب مصدرية ، والتشبيه بين الفعلين ، اى كبتوا كبتا ككبت الذين من قبلهم ، ويحلفون له حلفا كحلفهم لكم ، وكذا البواقى.

ومن كلامهم كخير فى جواب كيف اصبحت ، والتقدير : اصبحت حالى كخير ،

٤٠٩

اى ليس خيرا بل شبه خير ، ومثله : لا كما تريد فى جواب من يقول مثلا : هل عندك شىء اتغدى به؟ ، اى ليس عندى شىء كشئ تريده ، وقد تقع الكاف زائدة وتاتى فى خاتمة الكتاب.

الفصل العاشر

فى معنى رب : تستعمل لافادة التكثير ، ولا تدخل الا على النكرة ، ودخولها على المعرفة شاذ ، نحو قول على عليه‌السلام : رب عادل جائر ، رب رابح خاسر ، رب كلمة سلبت نعمة ، رب غنى اذل من فقير ، رب ساع فيما يضره ، وهذا خبره محذوف اى رب ساع يسعى فيما يضره ، رب عمل افسدته النية ، رب عالم قتله علمه ، رب كلام جوابه السكوت ، رب رجاء يؤدى الى حرمان ، وفى الحديث رب كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة ، وكقول الشاعر.

ان يقتلوك فانّ قتلك لم يكن

٦٧٠ عارا عليك وربّ قتل عار

وههنا امور

١ ـ. قد يلحق بهاما الكافة فتدخل على الجملة ، كقوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) ـ ١٥ / ٢ ، وقول على عليه‌السلام : ربما اخطا البصير رشده ، ربما كان الداء شفاء ، ربما كان الدواء داء ، وما فى هذه الابيات.

ربما اوفيت فى علم

٦٧١ ترفعن ثوبى شمالات

ربما الجامل المؤبّل فيهم

٦٧٢ وعناجيج بينهنّ المهار

ربما ضربة بسيف صقيل

٦٧٣ بين بصرى وطعنة نجلاء

٢ ـ : مجئ رب لافادة التقليل قليل ، كقول الشاعر فى عيسى وآدم عليهما‌السلام والقمر.

الا ربّ مولود وليس له اب

٦٧٤ وذى ولد لم يلده ابوان

٤١٠

وذى شامة غرّاء فى حرّ وجهه

٦٧٥ مجلّلة لا تنقضى لاوان

ويكمل فى تسع وخمس شبابه

٦٧٦ ويهرم فى سبع معا وثمان

٣ ـ : وقع الفصل بينها وبين مجرورها فى هذا البيت ، وهو للضرورة.

ويقذف شمّاس وعمرو ورهطه

٦٧٧ ويا ربّ منهم دارع وهو اشوس

٤ ـ : لرب صدر الكلام ، وهى مع مجرورها كاسم واحد يقع مبتدا وغيره ، ومحل مجرورها رفع على الابتداء فيما مضى من الامثلة ، ونصب على المفعولية فى نحو قولك : رب رجل صالح لقيت ، ورفع على الابتداء او نصب على الاشتغال فى نحو قولك : رب عصى كسرتها.

٥ ـ : قد يلحق بها ضمير مبهم يفسره اسم منصوب على التمييز كقول الشاعر :

ربّه فتية دعوت الى ما

٦٧٨ يورث المجد دائبا فاجابوا

٦ ـ : قد يحذف رب بعد الواو والفاء وبل بقرينة جر ما بعدها ، ويقال للواو فقط : واو رب لكثرة حذفها بعدها دون الفاء وبل كما فى هذه الابيات.

وليل كموج البحر ارخى سدوله

٦٧٩ علىّ بانواع الهموم ليبتلى

وقاتم الاعماق خاوى المخترق

٦٨٠ مشتبه الاعلام لمّاع الخفق

وبلدة ليس بها انيس

٦٨١ الّا اليعافير والّا العيس

وسنّ كسنّيق سناء وسنّم

٦٨٢ ذعرت بمدلاح الهجير نهوض

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

٦٨٣ فالهيتها عن ذى تمائم محول

بل بلد ملا الفجاج قتمه

٦٨٤ لا يشترى كتّانه وجهرمه

وابيض يستسقى الغمام بوجهه

٦٨٥ ثمال اليتامى عصمة للارامل

الفصل الحادى عشر

فى معنى مذ ومنذ : وهما تختصان بالزمان ، فالزمان ان كان ماضيا فهما بمعنى من ، نحو ما رايتك مذيوم الخميس ، اى من يوم الخميس الى الآن ، وان كان حاضرا

٤١١

فهما ، بمعنى فى ، والمراد بالزمان الحاضر جميع الزمان الذى دخلت عليه احديهما ، نحو ما رايتك مذ يومنا هذا ، اى فى هذا اليوم ، وكذا ان قلت : مذ اسبوع او مذ ايام ، اى فى هذه المدة ، وكما فى هذين البيتين.

قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان

٦٨٦ وربع عفت آثاره منذ ازمان

لمن الديار بقنّة الحجر

٦٨٧ اقوين مذ حجج ومذ دهر

وتضافان الى الجمل ، فهما حينئذ ظرفان ، وياتى بيان ذلك فى مبحث الظروف انشاء الله تعالى ، واذا حرك ذال مذ لالتقاء الساكنين نحو مذ اليوم حرك بالضم لمناسبة ضم الميم ، وجاز الكسر على القاعدة ، وليس من هذين اللفظين ذكر فى كتاب الله تعالى.

الفصل الثانى عشر

فى معانى سائر حروف الجر ، وهى ثمانية.

١ و ٢ : واو القسم وتاء القسم ، وياتى شرحهما فى مبحث كلمات القسم فى المقصد الثالث.

٣ و ٤ و ٥ : خلا وعدا وحاشا ، وياتى شرحها فى مبحث ادوات الاستثناء فى المقصد الثالث.

٦ ـ : كى ، وهى من الحروف الناصبة للمضارع ، وياتى ذكرها فى مبحث الحروف المصدرية فى المقصد الثالث وكونها جارة قليل ، وذلك اذا دخلت على ما الاستفهامية ، نحو كيم فعلت ، اى لم فعلت ، او على ما المصدرية ، كما فى هذا البيت.

اذا انت لم تنفع فضرّ فانّما

٦٨٨ يراد الفتى كيما يضرّ وينفع

٧ ـ : لعل ، وهذه من الحروف الناصبة للمبتدا ، وقد مر ذكرها فى المبحث الثانى فى المقصد الاول ، والجر بها لغة بنى عقيل ، يعاملونها معاملة رب كقول

٤١٢

شاعرهم.

فقلت ادع اخرى وارفع الصوت جهرة

٦٨٩ لعلّ ابى المغوار منك قريب

٨ ـ : متى ، وهى من الظروف ، وياتى ذكرها فى مبحثها ، وبنو هذيل يستعملونها جارة بمعنى من كقول شاعرهم.

اخيل برقا متى حاب له زجل

٦٩٠ اذا يفتّر من توماضه حلجا

شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت

٦٩١ متى لجج خضر لهنّ نئيج

ويستعملونها بمعنى فى ايضا ، يقولون : اخرج متى كمه ، اى منه ، وضع متى كمه ، اى فيه.

تذكرة

سبعة من هذه العشرين لا تدخل الاعلى الاسم الظاهر ، وهى مذ ومنذ ، وتختصان بما يفيد معنى الزمان ، ورب وتختص بالنكرة الا نادرا وتدخل على الضمير المبهم ايضا قليلا ، وتاء القسم ، وتختص باسم الله تعالى ، وواو القسم ، وتدخل على غيره ايضا ، وحتى والكاف ، وتدخلان على الضمير نادرا ، وغيرها تدخل على الظاهر والضمير على السواء ، وتلحق ما ببعض حروف الجر للتاكيد ، وياتى ذكرها فى الخاتمة ، والجار والمجرور كالظرف لا بد ان يتعلق بالحدث ، وياتى بيان ذلك فى المبحث الرابع.

ـ فى الكافى عن ابيعبد الله عليه‌السلام ، قال : انهاك يا مفضّل عن خصلتين فيهما هلاك الرجال. انهاك ان تدين الله بالباطل وتفتى الناس بما لا تعلم.

٤١٣

المبحث الثالث

فى الظروف واحكامها ، الظرف فى اللغة وعاء الشئ ، وهو ما يعى شيئا جسميا او معنويا ، ولا يعتبر الاحاطة كالكوز والماء ولا بعض الاحاطة كالكاس وما فيها ، بل المعتبر ان يكون شىء واعيا لشئ باى وجه كان ، نحو قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ـ ٢ / ٢٩ ، فان الارض ظرف لما فى سطحها كما هو ظرف لما فى جوفها ، وقوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) ـ ٣ / ١٩٠ ، فان الآيات هى الدلائل على علم خالقها وقدرته ، وهى لا تختص بما فى جوف السماوات والارض والليل والنهار ، نعم اذا اطلق الظرف عند الناس انصرف الى ما له الاحاطة او بعض الاحاطة لان ما يستعملونه فى معيشتهم كذلك.

والظرف فى الاصطلاح هو كل اسم معناه زمان او مكان ، وهذا الظرف بالمعنى الاعم ، ويطلق الظرف بالخصوص على المنصوب الذى سمى بالمفعول فيه ، وهذا الظرف بالمعنى الاحض ، وقد مر ذكره فى مبحثه فى المقصد الاول ، والذى نذكره هنا ما هو بالمعنى الاعم ، فنقول ان الظرف له تقسيمات متداخلة.

التقسيم الاول

الظرف اما متصرف او غير متصرف.

٤١٤

والمتصرف منه ما لا ينحصر وقوعه فى الكلام ظرفا متعلقا بحدث بل يقع مبتدا وخبرا وفاعلا ومفعولا ومجرورا بالاضافة وبالحرف وغير ذلك كسائر الاسماء.

نحو قوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) ـ ٥٠ / ٤٢ ، فانه خبر ، (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) ـ ٣٧ / ١٧٧ ، فان صباح فاعل ساء ، وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ـ ٩٣ / ٢ ، فان الضحى والليل مقسم بهما ، (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) ـ ٢٠ / ١٠٤ ، فان طريقة تمييز ويوما مستثنى ، وامثال ذلك كثيرة لا تعد ولا تحصى ، وكذا يقع ظرفا خاصا اى مفعولا فيه ، نحو قوله تعالى : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) ـ ٧ / ١٦ ، (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) ـ ٧٣ / ٢ ، (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ـ ٢١ / ٢٠ ، وتدخل عليه لفظة فى ، وان لم يسم حينئذ مفعولا فيه ، وغير المتصرف منه ما لا يستعمل فى الكلام الا منصوبا ظرفا لحدث او مجرورا بمن كقبل وبعد وعند ولدى ، ومنه الظروف التى لها معنى الاستفهام او الشرط ، ولا تدخل عليه لفظة فى ، وياتى امثلته فى التقسيمات الآتية.

التقسيم الثانى

الظرف اماله معنى الشرط او الاستفهام ، واما ليس له ذلك ، ونذكر ما له معنى الشرط او الاستفهام فى مبحث ادوات الشرط ومبحث ادوات الاستفهام فى المقصد الثالث ، وهو اما زمانى كاذا ومتى واما مكانى كاين وانى ، وما ليس له معناهما ايضا اما زمانى كمذ ومنذ واما مكانى كبين وثمّ.

التقسيم الثالث

الظرف اما مبهم ويقال له غير المختص ، واما معين ويقال له المختص ، و

٤١٥

المبهم ما لا يتحدد بحدود من الزمان او المكان نحو مدة ، حين ، وقت ، قبل ، بعد ، ونحو فوق ، تحت ، خلف ، وراء ، قدام ، يمين ، يسار ، جانب ، ناحية.

والمعين ما يتحدد بحدود من الزمان او المكان ، نحو يوم ، ليلة ، صباح ، مساء ، اسبوع ، شهر ، عام ، ونحو بيت ، دار ، مسجد ، مدرسة ، سوق ، بلد ، قرية ، خان ، بحر ، جبل ، ارض.

ثم قالوا : ان الزمانى مطلقا مبهما او معينا والمكانى مبهما يجوز انتصابهما على الظرفية اى المفعول فيه ، ودخول فى عليهما ، واما المكانى المعين فلا يجوز انتصابه ، بل يستعمل مع فى ، فلا يقال : ضربت زيدا الدار ، بل فى الدار ، ولاصليت المسجد ، بل فى المسجد ، ولا تعلمت المدرسة بل فى المدرسة ، ولا نمت البيت ، بل فى البيت ، وهكذا ، واستثنى منه مواضع قياسا ، فيجوز فيها الامران.

١ ـ : اسم الزمان او المكان المشتق اذا وافق عامله فى المادة ، نحو قوله تعالى : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) ـ ٧٢ / ٩ ، (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ـ ١٤ / ٤٥ ، وقول على عليه‌السلام لشريح القاضى : يا شريح انك جلست مجلسا لا يجلسه الانبى او وصى نبى او شقى ، ويجوز ان يقال : جلست فى مجلس ، واما ان لم يوافق عامله فى المادة وجب لفظ فى ، نحو رايت اخى فى مبارك الابل ، ولا يجوز رايته مبارك الابل ومثال اسم الزمان قولك : خرجت من البلد مخرج الطير من وكرها.

٢ ـ : المشتق اذا كان فيه معنى الاستقرار وان لم يوافق عامله فى المادة ، نحو المقام والمكان والموضع والمرصد ، نحو قوله تعالى : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) ـ ٩ / ٥ ، وقول على عليه‌السلام فى وصفه تعالى : فوضع كل شىء موضعه ، وهذا جامع للشرطين ، ويجوز فى المثالين اتيان فى.

٣ ـ : المقادير الممسوحة ، نحو فرسخ ، ميل ، تقول : سرت فرسخا وفى فرسخ ، وتماشيت ميلا وفى ميل.

٤ ـ : ما تعلق بمادة الدخول والسكون والنزول والولوج ومثلها فى المعنى ،

٤١٦

نحو قوله تعالى : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) ـ ١٢ / ٣٦ ، (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ـ ٧ / ١٩ ، وقولك : نزلت الخان وولجت الحوض ودخلت الدار ، والحق ان المنصوب بعدها مفعول فيه لا مفعول به كما قيل ، للزوم هذه الافعال ، ولانها تقع فيه ، ولجواز دخول فى عليها ، نحو قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) ـ ٣٤ / ٢ ، (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) ـ ٣٧ / ١٧٧ ، فان الباء بمعنى فى ، (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) ـ ٢٣ / ١٨ ، (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) ـ ٢٧ / ١٢ ، ولو كان مفعولا به لوجب نصبه مفعولا ثانيا فى باب الافعال.

ومنشا توهم كونه مفعولا به ان الدخول مثلا واقع على المكان ، وهذا علامة التعدية ، وهذا توهم باطل اذ ليس كل وقوع تعدية ، كما تقول : وقع المطر على الارض.

٥ ـ : جاء فى غير تلك المواضع القياسية منصوبا وهو سماع كما فى البيتين.

لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

٦٩٢ فيه كما عسل الطريق الثعلب

فلا بغينّكم قنا وعوارضا

٦٩٣ ولا قبلنّ الخيل لابة ضرغد

التقسيم الرابع

من الظروف ما يقطع عن الاضافة ويبنى على الضم مع انه فى الاصل معرب ، وهو قبل وبعد وتحت وفوق وامام وقدام ووراء وخلف واسفل ودون واول وعل وعلو ، وتسمى هذه الظروف بالغايات ، اى النهايات ، كانها بعد حذف المضاف اليه والتنوين والاعراب واقعة فى نهاية الكلام ، وعلة بنائها على الضم بعد حذف المضاف اليه استعمال العرب لا تعليلات ذكروها مع انها جاءت قليلا منصوبا منونا كما هو مقتضى القاعدة.

مثالها قوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) ـ ٣٠ / ٤ ، (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ) ـ ٥ / ١١٥ ، (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) ـ ١٠ / ٩١ ، وليس فى كتاب

٤١٧

الله تعالى غير هذين اللفظين من هذه الظروف بنى على الضم ، وفى غيره قول على عليه‌السلام : لشريح القاضى فى الكوفة : فلم ترغب فى شراء هذه الدار بدرهم فما فوق ، وكما فى هذه الابيات.

ولقد شددت عليك كلّ ثنيّة

٦٩٤ واتيت فوق بنى كليب من عل

انّى اتتنى لسان لا اسرّ بها

٦٩٥ من علو لا عجب منها ولا سخر

اذا انا لم اومن عليك ولم يكن

٦٩٦ لقاؤك الّا من وراء وراء

تذكرة

قد مر فى الفصل الثانى عشر من مبحث الاضافة ان المضاف المقطوع عن المضاف اليه له حالات ثلاث : البناء على الضم ، والاعراب مع التنوين ، والاعراب بلا تنوين ، وذلك يجرى فى هذه الظروف ايضا عند قطعها عنه بل البناء على الفتح ايضا ، والقول بلزوم البناء على الضم الا لضرورة الشعر يخالف ما شوهد فى كلام العرب ، ودونك بعض الامثلة.

١ ـ : قوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) بجر اللفظين وتنوينهما فى بعض القراءات.

٢ ـ علو فى البيت الثانى روى بالحركات الثلاث.

٣ ـ قولهم المحكى : ابدا به اولا ، وحكى الكسائى عنهم : افوق تنام ام اسفل بنصب اللفظين بدون التنوين ، وان شئت فقل : هو بناء على الفتح.

٤ ـ قول على عليه‌السلام فى دستوره لعماله فى اخذ حق الله : ثم اصنع مثل الذى صنعت اولا حتى تاخذ حق الله فى ماله.

٥ ـ ما فى هذين البيتين.

ونحن قتلنا الازد ازد شنوءة

٦٩٧ فما شربوا بعدا على لذّة خمرا

فساغ لى الشراب وكنت قبلا

٦٩٨ اكاد اغصّ بالماء الحميم

٤١٨

وليس من ذلك قوله تعالى : (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) ـ ٨ / ٤٢ ، (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) ـ ٣٣ / ١٠ ، لان اسفل لم يكن مضافا حتى يكون مقطوعا عن المضاف اليه ، والفتحة نصب فى الاول على الظرفية ، وجر فى الثانى ، وعدم تنوينه لكونه غير منصرف.

ثم الاكثر فى هذه الظروف عدم التصرف ، وكونها مع من الابتدائية ، وجاءت متصرفة ، نحو قول على عليه‌السلام فى وصفه تعالى : ولكان له وراء اذ وجد له امام ، اى ليس له وراء ولا امام ، والمراد بهما الزمان السابق واللاحق.

التقسيم الخامس

الظرف اما يضاف الى المفرد فقط واما الى الجملة فقط واما الى كليهما.

القسم الاول

ما يضاف من الظروف الى المفرد.

١ ـ عند

وهو اسم للحضور حسا او معنى وللقرب حسا او معنى ، وهذا كما يقال : من حرف للابتداء وفى حرف للظرفية ، والحسى والمعنوى باعتبار ما يضاف اليه ، فمظروفه مع كل من هذه الصور الاربع اما من الاعيان او من المعانى ، فهذه ثمان صور : والمراد بالحسى ما هو محسوس لنا ، وغيره معنوى وان كان محسوسا لغيرنا من الملائكة وغيرهم ، والمحسوس لنا اما محسوس فى الدنيا او الآخرة او فيهما ، فلا تغفل ولا تخلط.

١ ـ : مثاله للحضور الحسى ومظروفه من الاعيان قوله تعالى : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) ـ ٢٧ / ٤٠ ، (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) ـ ١٦

٤١٩

ـ ٩٦ ، (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) ـ ٣ / ١٥٦ ، (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) ـ ١٢ / ٧٩.

٢ ـ : مثاله للحضور الحسى ومظروفه من المعانى قوله تعالى : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) ـ ٦ / ١٤٨ ، (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) ـ ١٠ / ٦٨ ، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) ـ ٢ / ١٤٠.

٣ ـ : مثاله للحضور المعنوى ومظروفه من الاعيان قوله تعالى : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) ـ ٥١ / ٣٤ ، (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ـ ٣٢ / ١٢ ، (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) ـ ٩ / ٣٦.

٤ ـ : مثاله للحضور المعنوى ومظروفه من المعانى قوله تعالى : (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ) ـ ٢٠ / ٥٢ ، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) ـ ١٥ / ٢١ ، (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) ـ ١٣ / ٨.

٥ ـ : مثاله للقرب الحسى ومظروفه من الاعيان قوله تعالى : (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) ـ ١٨ / ٨٦ ، (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) ـ ١٧ / ٢٣.

٦ ـ : مثاله للقرب الحسى ومظروفه من المعانى قوله تعالى : (قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) ـ ٧ / ١٣٤ ، (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ـ ٤ / ١٣٩.

٧ ـ : مثاله للقرب المعنوى ومظروفه من الاعيان قوله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) ـ ٣٤ / ٣٧ ، (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) ـ ٣٨ / ٤٧ ، (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) ـ ٣ / ٩٥ ، اى الجنة.

٨ ـ : مثاله للقرب المعنوى ومظروفه من المعانى قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) ـ ٦ / ٥٩ ، (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها

٤٢٠